أزمة القراءة .. البداية من أين؟ 2_2
فضيلة الفاروق
في تلك المقابلة الثرية التي دامت ساعتين حول ركوة قهوة حكى لي المرحوم سهيل إدريس أسرارا لم أتجرأ أبدا على نشرها، وبقيت في ذاكرتي حتى لا أسيء لأحد وتحسب اعترافاته عليّ.
والحقيقة تقال أني أول ما دخلت دار الآداب كنت أتوقع دارا فخمة ومكاتب جديدة وموظفين بعدد ما تحويه خلية نحل، فإذا بي في شقة صغيرة عادية في حي ساقية الجنزير القريب جدا من الشاطئ البيروتي وعدد قليل من الموظفين إضافة إلى زوجته الرائعة السيدة عايدة وأولاده. لقد صنع أسطورة في عالم النشر دوَّى صيتها في كل أصقاع العالم العربي، والغربي أيضا ممن اهتموا بترجمة أعمال عربية مهمة من تلك الشقة الصغيرة. وسر نجاحه ثقافته الأدبية العالية وحسه الذكي لإختيار النصوص المناسبة، إضافة إلى فضل السيدة عايدة ومستواها اللغوي العالي في تأليف القواميس، والتي أعتبرها شخصيا العنصر الأساسي لبناء سمعة تلك الدار لسبب جد دقيق وهي أنها عرفت كيف تجعل المرحوم يبقى في فلك تلك الدار ويعمل على تطويرها، لقد كانت القلب النابض للدار بامتياز ولا تزال. وزائر الدار اليوم سيجد نفسه في حديقة حميمة، دافئة ومليئة بالحكايات وتجارب إنسانية بديعة، وتاريخ أديب كبير تميز بالشجاعة والجرأة في زمن كان فيه الأدب في تلك المرحلة – ولا يزال - قناعا يخفي الكثير مما يجب قوله.
وإن تحدثت اليوم عن دار الآداب كنموذج فلكي أصل لنتيجة مهمة وهي أن الناشر اليوم لم يعد بذلك الزخم الثقافي، ولا يحيط نفسه بالنقاد كما كان يفعل إدريس، خاصة حين أصدر مجلته الشهيرة " النقاد"، ولا يتقبّل النقد كما كان يفعل أيامها صاحب "الحي اللاتيني" فقد كان يصغي إلى نقاده بتركيز غريب حتى لا يقع في الغلطة نفسها مرتين، وهذا ما جعل مستواه يتحسن في فترة قصيرة حتى تخطى أبناء الصنعة الذين سبقوه وتحوّل إلى سيد النشر على الإطلاق. بل أكثر من ذلك تحوّل إلى العلامة الأهم للنشر في بيروت.
غير ذلك على الناشر أن يكون صديقا للصحافة، سخيا في التعامل معها، نشيطا في ترتيب ندوات وتوقيعات لكتابه، وله علاقات مع المدارس والجامعات لفتح أبواب كبيرة لتسويق كتبه. والنشر اليوم يتطلب أكثر من ذلك، يتطلب نشاطا غير عادي على شبكات التواصل الإجتماعي، ومجاراة العالم في سباقه اليومي مع الزمن.
هذا وللموضوع تتمة لأننا نعيش أزمة قراءة كبيرة، والاتهامات المتبادلة بين القراء والكتاب والناشرين تحدث ضوضاء كبيرة دون فهم الموضوع جيدا. وحتى لا أضع القارئ في دائرة الاتهام كما يفعل الجميع أحببت أن أبدأ طرح الموضوع من باب "النشر" عسى أن نتبادل وجهات النظر ونناقش الموضوع فيما يخص أقطابه الأخرى. وفي انتظار ذلك أقترح عليكم مشاهدة فيلم "العبقري" The Genius لمايكل غراندج، ستدهشكم التفاصيل عن حياة حقيقية لناشر حقيقي.