وجود ميثاق إعلامي يحترم ثوابت الانتماء ضرورة في تفعيل الحوار

الدكتور مسفر علي القحطاني

حوار :حسين زين الدين

 

لم تعد مسألة الحوار مسألة ظرفية تحركها التحديات والأزمات كما يعتقد بها البعض، بل هي جزء من منظومة قيمية إسلامية تدفع باتجاه مأسسة مجتمع متقارب دعماً لفكرة التعايش والوحدة على الرغم من حالة الاختلاف والرؤى بين مكونات الأمة والوطن الواحد.وهو طريق لحلحلة ومعالجة لكثير من الإشكالات الشائكة في تاريخنا الإسلامي؛ إلا إذا استطعنا أن نرفع عن أفكارنا وقناعاتنا حالة العصمة والتقديس للمسلمات والمغالطات الدينية والفكرية، وأن نسمح لعقولنا أن تلتقي وتتشاور حتى ولو لم تتفق، هو مالا يتحقق دون أن تأخذ النخب السياسية والفكرية موقعيتها الحقيقية في ترشيد وتقويم مسيرة الأمة عبر مشروع موحد في ظل الحفاظ على خصوصية وثوابت الآخر.

 

يرى القحطاني أن من ضرورات تفعيل الحوار وجود ميثاق إعلامي يحترم ثوابت الانتماء الديني والوطني، داعيا أن تتولى النخب الفكرية مهمة نجاح هذا الحوار وتعي أهميته الواقعية دون التوظيف السياسي و الحزبي الذي يمنع نقاء الحوار نحو أجندة خفية توتر مصداقية التحاور وموضوعية التعايش، مؤكدا على أن الحوار ذاته مشروع وحدة يتسع للجميع، ومعتبرا سياسة تغليب المنطق العقلي والوطني أحد بواعث التشنج الطائفي والمذهبي، موضحاً أن البعد السياسي والتنازع السلطوي قاسم مشترك في بعث كل الطوائف نحو التمرد أو النزوع للمواجهة، معتبرا غياب العقول المدركة ورهبة القلوب المؤمنة وراء انتفاشة ذلك السخف السياسي باسم الدين والحق.

نص الحوار :

ماذا يعني مفهوم الحوار الإسلامي ؟

من وجهة نظري ؛ الحوار هو فتح الأبواب للأفكار أن تتلاقى وتتعارف حتى ولو لم تتفق ، إنه نوع من معرفة الرأي الآخر لك ، و محاولة تقليب الفكرة على عقول أخرى موافقة أو مخالفة ، يمكن أن نعتبره حرية تطلق الكثير من الموضوعات والآراء من قمقم العقل نحو أفق أرحب من النقد والتفاعل مع الآخرين .

الحوار دون التوظيف السياسي والحزبي

 من القضايا الحيوية والتي لازالت بحاجة إلى إضافات نوعية على مستوى الفكر والممارسة ، قضية الحوار الإسلامي - الإسلامي .. كيف تنظرون إلى هذه المسألة ، وفي نظركم من أين يبدأ الحوار الإسلامي ؟

الحوار الإسلامي الإسلامي ، يمكن أن يكون مذهبيا أو كلاميا حتى داخل المجتمع المعرفي الواحد ، وقد يكون طائفيا و سياسيا بين المجتمعات المعرفية أو الفكرية المختلفة داخل البلاد الإسلامية ، وهذا الحوار الداخلي مطلب ضروري للنقد والتقويم والمعالجة والترشيد مهما كانت جهات الحوار مقبولة داخل النسيج المجتمعي . هذا النوع من التلاقي والمشاورة والمقابلة على طاولة واحدة كان له أثره التجديدي و التطويري لفكر الأمة في مراحل من تاريخها ، خذ على سبيل المثال دور المدرسة النظامية في جمع المذاهب وعلمائها تحت سقف واحد ، و دور الإمام ابن رشد الحفيد في جمع المذاهب تحت مؤلف واحد هو بداية المجتهد وتحليل أوجه الاتفاق والخلاف و حجج كل فريق في الاستدلال ، مما يخفف حمى الخصومة بين الإتباع والمقلدة وأن كل فريق له دليله المعتبر وغيرها من محاولات ، في المقابل كانت هناك نماذج كالحة من التعصب وضيق الأفق وامتحان العلماء كما حصل في مواجهات المعتزلة مع خصومهم والشيعة مع خصومهم والمذاهب السنية مع خصومها حتى من ذات الطائفة .
والحوار حتى ينجح ينبغي أن تتولاه النخب الفكرية وتعي بأهميته الواقعية ، دون التوظيف السياسي و الحزبي الذي يمنع نقاء الحوار نحو أجندة خفية توتر مصداقية التحاور وموضوعية التعايش.

الاختلاف لايسوغ الخلاف

ماهي الأفاق والحقول المهمة ، التي ينبغي أن يطالها مشروع الحوار الإسلامي ؟

أهم الأفاق التي ينبغي للحوار أن يبدأها ؛ هي معالجة القضايا المشكلة ذات التأثير على المشترك العام بين المتحاوريين ، فنزع الفتيل الحارق المدمر للطرفين أولوية ،قبل التشاغل بقضايا يمكن تأخيرها حسب سلم الأولويات، فوجود متطرفين غلاة يجيشون المجتمع للمواجهة والاحتراب ، يقتضي أن يكون هذا الموضوع من أساسات الحوار الذي يجب أن يبدأ دون تأخير . 
س4/ كيف تتصورون علاقة المناهج الدراسية في المؤسسات والجامعات والمعاهد العلمية وعملية الحوار الإسلامي .. وكيف نواجه مسألة قصور المناهج في هذا الصدد ، وما هي متطلبات التطوير؟ 
لا شك أن تدريب الأفراد على الحوار والاستماع وفتح الأبواب للنقاش يعني نمو حالة من الثقة بين الأطراف وحسن توظيف للاختلاف وتطويره إلى تنوع يحقق الأمن والنماء للجميع ، والمناهج ينبغي أن تركز على الثوابت الدينية والوطنية التي تعتبر مقدس ومسلّم لدى المجتمع ، لترسخ في الأذهان أن ما سواها قابل للنقاش والحوار .اعتقد أن حدود الثوابت يجب أن يوضح فهناك الكثير من المغالطات و التقاطعات التي تجعل الفرد يحار في السائغ من الخلاف والذي لا يسوغ .

الحوار في ظل حرية مسؤولة

 في تقديركم ماهي أسس وقواعد الحوار الإسلامي - الإسلامي ، وما هي سبل أن تأخذ هذه الأسس والقواعد طريقها في الوسط الاجتماعي ؟

من أهم الأسس في وجهة نظري أن يؤسس الحوار في الهواء الطلق ويفتح مناخ حر للمناقشة بعيدا عن هتك الثوابت – كما في تجربة مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في جلساته الأخيرة- ، كما أن الحوار ينجح في ظل حرية مسؤولة يقدرها الفرد المتحاور وينظر إلى مآلاتها بحيث لا تخرج عن المصالح العليا لكلا الطرفين ، كما أن الحوار قد يقطف ثماره من البداية إذا كان هناك التزام أدبي بأخلاقياته السلوكية بحيث ينتقل هذا الأدب لكل الدوائر الأخرى ولو لم يحصل اتفاق على شي ، وإن كان الاتفاق ليس غاية الحوار بين الأطراف.
كذلك تنمية الوعي بالبناء والنهضة يختزل الكثير من الخلافات في مقابل جهود العمل المشترك للتنمية المجتمعية التي يضطر لها الجميع ويحافظ على وجودها الكل لما فيها من ضرورات البقاء والنماء ، والهند والصين وماليزيا وغيرها قد نجحت في تخفيف التباينات العرقية والدينية إلى مجتمع يسعى لتحقيق أهدافه التنموية التي لا يختلف عليها أحد ويخاف الجميع أن تضعف أو تزول .

على مستوى التجربة التاريخية والواقع المعاصر ، ماهي العقبات التي تحول دون الحوار الإسلامي -الإسلامي .. وما السبيل إلى تذليل هذه العقبات ؟

أهم العقبات في مسيرة الحوار أن تكون له أجندة خفية وسياسية -على وجه الخصوص -تفقد المصداقية والموضوعية بين أولئك الإطراف ، وتذلل بالشفافية و المشاريع الايجابية المشتركة تحت مظلة الوطن الواحد.

الحوار ذاته مشروع وحدة.

 ماذا نريد من الحوار الإسلامي - الإسلامي ، وما علاقة الحوار بمبدأ ومطلب الوحدة الإسلامية والأمة الواحدة ؟

أعتقد أن الوحدة مطلب تنظيري جميل من حيث التصور، ولكنه صعب و طريقه شائك وطويل ، بسبب مشاريع الوحدة التي تفصّل ثوبها على مقياس واحد لا يسع اختلافات الجميع وتعددياتهم، ثم يطلب أن يرتديها الكل ، وحتى لو حصل فهناك ضيق في بعضها وتوسع في الأخر يجعل من هذه الوحدة وحدات تزيد من الفرقة ولا تجمع الأمة .
الحوار الصحيح والسديد هو في ذاته مشروع وحدة يتعرف الجميع على القدر المشترك والمختلف بين طوائف الأمة وأحزابها وجماعاتها ، وتنمو هذه الوحدة إذا تحول المشترك على عمل تنموي جمعي وتحول المختلف إلى تعددية مسؤولة تتسع الآراء للاختلاف حولها دون قمع أو تشنج.

سياسة تغليب المنطق العقلي

 الطائفية واحدة من المشكلات المعقدة في المجتمع الإسلامي المعاصر ، كيف تنظرون إلى هذه المشكلة .. وما هي سبل الحل والمعالجة ؟

واقع التثوير الطائفي اليوم ينادي شعاراتياً بالإصلاح والتنمية المتكافئة، ولكن العقل يأبى أن يفهم ممارسات تلك المطالبات. والسبب أن تعدد البواعث لظهور الطائفية بالندية المتشنجة داخل مجتمعاتها يحمل الكثير من المبررات الحقوقية والوطنية، ولكن لا تصل إلى درجة المواجهة التفجيرية لكل مكتسبات الأطراف، إلا إذا كانت هناك أجندة توسعية وسياسية تغلب المنطق العقلي ومركزية الوطن للجميع.
هذه الحالة ليست بدعاً من واقعنا اليوم، بل هي أساس الافتراق الذي ظهر في الأمة الإسلامية منذ بداية عهودها، ولسبب رئيس تشظت من أجله فرقاً وطوائف توالدت مع نمو التأصيل الفكري لتلك النزاعات.
وقد أشار الشهرستاني إلى ذلك السبب في قوله: «وأعظم الخلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيفُ في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان» (الملل والنحل 1/31).
فالبعد السياسي والتنازع السلطوي قاسم مشترك في بعث كل الطوائف نحو التمرد أو النزوع للمواجهة، فكما أنها تُرضي أطماع المتغالبين على الحكم؛ إلا أنها تحمل معها تبريراتها الدينية ولبوسها الشرعي في إقناع الغوغاء والأتباع لخوض الحروب المقدسة والتنعم بالشهادة في سبيل الله، مناصرةً لحقوق آل البيت كما هو شعار العباسيين وعموم الطالبيين «الرضا من آل محمد»، وشعار الحاكمية لله تعالى كما رفعه الخوارج في وجه خصومهم «لا حكم إلا لله»، ورفع ابن الأشعث شعار «يا ثارات الصلاة» لاستمالة الفقهاء في عصره؛ لأن الحجاج كان يميت الصلاة ويؤخرها حتى يخرج وقتها. ولم تتوقف حركة الاستغلال السياسي من تثوير الناس نحو الإمامة والسلطة حتى في عصرنا الحاضر، الذي استبدل بعبارة الموت لأميركا والقضاء على الصهيونية، ورميهم في البحر، كما درج على ذلك خطباء الفرق والطوائف والأحزاب في تثوير عواطف السذج نحو المجهول الفاتن والمصير القاتم لتلك الدعوات.
لذا يتساءل المرء أين عقول الناس ومواقفهم من تلك الألاعيب، أين منطق الواقع من تلك الخطابات اللاهبة، والتصفيقات الصاخبة للجموع المستغفلة، أين محاسبة أصحاب الوعود في منابر الصمود عندما اكتشف الناس ما وراء الأكمة من الحظوظ؟!!. كل ذلك يتلاشى وينتهي وتختفي ملفات النقمة بعد النكبة، كسُنّة تاريخية تعاقبت عليها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وتؤكل دائماً كما أُكل الثور الأبيض. والمتابع لذلك المسلسل يرى أن غياب العقول المدركة ورهبة القلوب المؤمنة هي وراء انتفاشة ذلك السخف السياسي باسم الدين والحق. ولا أعني أن تلك الحركة الانتهازية لمتسلقي المناصب ستنتهي إلى العدم، فالواقع يشهد بحاجة الناس للانتفاض ضد الفساد، والصمود عند القتال، وطبيعة البشر عند الفتن تتجه نحو الصوت الأعلى الذي يلبي نقمة النفس، ولكن أن يختفي صوت المنطق وعقلانية الحكمة من كل الأحداث القبلية والبعدية، فهذا هو التقاعس المؤذن بانقلاب الموازين وتحكم الغوغاء في مصير البلاد والعباد. والمتأمل في هذه الظاهرة يجد من أولويات الخروج من مأزقها وتكرارها، تربية تلك المجتمعات على عقلانية التفكير ومنطقية التعامل مع الأحداث وتقوية الفكر الناقد في نفوس الأفراد، وربط المناهج التعليمية بتلك النظريات، ومحاورة الأطروحات وعرضها على قوانين الفكر ومستلزماته، وبالتأكيد ستبقى هناك شرائح مجتمعية تنبذ تلك الطريقة في التناول وتأنف من الحلول العقلية لأنها تراها انهزامية وتقاعساً عن الانفلات نحو التغيير، وربما يمثّل الشباب فيها نسبة غالبة، ومع ذلك فإن تأثير النخب المفكرة ونتائج العمل ولو كانت متأخرة، ذات جدوى في تغيير مسار كثير من الطوائف بل والشعوب نحو السلم والتعايش، ولعلي أبرهن على ذلك بنماذج تاريخية مرت بتلك الظروف والأحوال، فالمعتزلة كفرقة كان لها حضورها السياسي الكبير في القرن الثالث وحتى السابع الهجري في بعض المناطق من عالمنا الإسلامي، وقد مارسوا أيام المأمون والمعتصم والواثق العباسيين جنوحاً شديداً نحو الاستبداد كما في فتنة خلق القرآن ومحنة الإمام أحمد بن حنبل، وحصل لهم من التمكّن ما يدفعهم للقفز نحو السلطة وتجييش الأتباع، ومع ذلك فأدبياتهم العقلية ومنطقيتهم التي غلبت في أدبياتهم الفكرية، لا تتوافق مع غايةٍ سبيلها الرئيس الشحن العاطفي والتهويل النفسي وتضييع الحقائق بين تلك المغالبات والأصوات العالية، لذلك تلاشت المعتزلة واندمجت في المجتمع الإسلامي وأصبحت تاريخاً مضى إلا البعض من أفكارها ذات البعد الفلسفي وليس السياسي. (انظر: الجاحظ وكتابه الرسائل السياسية، تحقيق علي أبو ملحم، دار ومكتبة الهلال بيروت). أما الشاهد الآخر، فهي تلك التجربة الكبيرة التي حصلت لأوروبا بعد عصور الاستبداد الكنسي والسياسي، فالحروب الصليبية والصراعات الدينية والأثنية أنهكت تلك المجتمعات قروناً طويلة، جعلها تتجه نحو عصر العقلانية المحضة والتي خفّفت بعد زمن من الاستقرار غلواء التعصب الديني والتشنج العنصري، فالاطروحات الفلسفية للوك وبيكون وروسو وفولتير وهيغل وديكارت وكانط وغيرهم غالبت إلى حدٍ ما سطوة الكنيسة نحو تبريرات الحروب المقدسة وشرعنة الاستبداد السياسي، صحيح أن المجتمع الأوروبي عانى من عودة التثوير لعقله خلال الحروب العالمية، ولكن جاء ما يقابلها من وحدة متكاملة لتلك الدول طوت صفحة التنازع الأثني والعنصري نحو الاتحاد الأوروبي على رغم قرب الأحداث الدموية وشهود جيل واحد على تلك المتغيرات الكبيرة.
هذا المشروع المقترح أو وجهة النظر للحالة الطائفية في عالمنا الإسلامي، يمكن أن نتجاوز آثارها الوخيمة ولا تكون مبرراً أو معبراً لاختراقات دولية أو مشاريع استعمارية مقبلة، بتعميق الطرح العقلاني وليس العلماني في أدبيات تلك الطوائف واعتماد المنهج النقدي المنطقي في قراءة الواقع والتعامل مع الأحداث التاريخية والحالية، وهذا الخيار يقلب آلية التعامل مع تلك الطوائف نحو الميدان الفكري العقلاني بدلاً من السياسي والثوري؛ بل ويعمق الانتماء الفكري للطائفة وينقّي معتقداتها من الخرافة والأساطير والتسييس المتعمد للمذهب. ويكون مبرراً للعمل المشترك في قضايا التنمية ومسالك النهضة. وأتساءل في الختام: هل تلك التجربة لو حصلت وتبناها بعض عقلاء الطائفية المعاصرة؛ قادرةً على المحافظة على التعايش بين تلك المجتمعات وتحويل التعددية إلى مرفأ آمان من تقلبات السياسة وهياجها نحو الانتقام أو الاستقلال؟، وهل نستطيع أن نعيش في جزيرة واحدة بدلاً من الفوضى الجغرافية والتوظيف السلبي لمعتقدات الروح المطمئنة؟. أسئلة قد تبحث عن إجابة تختزل قروناً من التشتت والضعف.
( جزء من مقال نشر في جريدة الحياة)

ميثاق إعلام يعزز الانتماء

كيف تتصور علاقة الإعلام بوسائله المتعددة ، وقضية الحوار الإسلامي - الإسلامي ؟

الإعلام اليوم هو أهم خصم وصديق للحوار في آنٍ واحد ، ولهذا وجود ميثاق إعلامي يحترم ثوابت الانتماء الديني والنسيج الوطني ضروري في تفعيل الحوار والمحافظة على مكتسباته من الغلاة و الكائدين .

المصدر: http://aafaqcenter.com/index.php/post/360

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك