حوار الثقافات في ضوء التوازن العالمي
حوار الثقافات في ضوء التوازن العالمي
محمد وقيدي **
نرى أن الحوار بين الثقافات مطلب أساسي بالنسبة للإنسانية المعاصرة لكي تحيي حقيقتها من حيث هي إنسانية تتسم في كينونتها بالجدل بين الوحدة والاختلاف. ونرى أن هذا الحوار بين الثقافات أعمق، وأشمل أحياناً، من بعض أشكال الحوار الأخرى المتحدث عنها مثل حوار الأديان أو حوار الحضارات.
فالحوار الثقافي يمكن أن يكون هو الأساس والعماد لكل الأشكال الأخرى من الحوار، وهو ضرورة بالنسبة للإنسانية المعاصرة لعدة أسباب:
- هناك ثقافة سائدة اليوم هي التي بدأت مع الحضارة الأوروبية في عصرها الحديث، وامتدت آثارها إلى الجهات التي كانت موقعاً لحضارات سابقة. ولكن العالم يعيش اليوم، مع ذلك، تنوعاً ثقافياً ناتجاً عن استمرار مظاهر من ثقافات متعددة ترتبط بها حياة الشعوب التي تنتمي إليها. والحوار بين الثقافات ضروري لدفع الإنسانية المعاصرة إلى الاعتراف باختلاف ثقافاتها، وإلى العمل من أجل التعايش بين تلك الثقافات، حتى وإن كانت هناك صراعات في مستويات أخرى من الحياة المشتركة في العالم المعاصر.
- إن العمق الذي يمسه الحوار الثقافي من الإنسان يشكل المظهر الذي يمكن أن يخترق على الدوام كل أنواع الصراعات الأخرى ويدفع إلى السير في اتجاه تجاوزها. إنه يظل الخيط الرابط الذي يذكر الإنسانية، باستمرار، بمظاهر الوحدة فيها رغم الاختلاف.
- الحوار الثقافي هو الوسيلة الفعالة التي تستطيع الإنسانية بفضلها أن تعود إلى ثقافاتها المختلفة لكي تعتبرها تراثاً مشتركاً لا يعود إلى الحضارات التي أنتجتها فحسب، بل إلى الإنسانية بأكملها. والحوار بين الثقافات هو أيضاً السبيل لجعل الإنسانية المعاصرة تعيش تنوعها الثقافي بوصفه مظهر غنى لها لا مظهر اختلاف فحسب. وكل محاولة لفرض السيادة المطلقة لثقافة واحدة، حتى وإن ظهرت الأكثر تقدماً، توجه يحرم الإنسانية من غنى تنوعها.
- الحوار الثقافي، من جهة أخرى، هو ما سيسمح للإنسانية المعاصرة أن تدرك وحدتها والجدل الذي يربط هذه الوحدة بالاختلافات الناتجة عن التشكل التاريخي الذي كان متبايناً بين الشعوب والأمم، فالإنسانية واحدة رغم اختلافاتها الظاهرة التي لا يمكن نكرانها، ولكنها أيضاً مختلفة تظهر فيها مستويات الوحدة التي لا يمكن التغافل عنها.
لا ننكر الدور الذي لعبه الصراع، بل والعنف أحياناً، في حركة المجتمعات الإنسانية، ولا نتجاهل تبعاً لذلك، أن كثيراً من مظاهر التقدم في حياة المجتمعات ومظاهر الانتقال الكيفي فيها من مرحلة من تاريخها إلى مرحلة أخرى جاءت بعد مرحلة صراع ومجابهة قوى في المجتمع لأخرى مناقضة لها في تصوراتها حول الحياة الإنسانية وقيمتها ودلالتها بالنسبة للإنسان. يفيدنا تاريخ الإنسانية العام أن الظلم والمعاناة وامتهان الحياة الإنسانية لا ينتفي في جميع الأحوال إلا عبر الصراعات العنيفة. لكننا متشبثون، مع ذلك، بأفضلية السير في طريق الحوار ضد طريق العنف. وذلك لأن الحوار الذي تتبناه الأطراف المشاركة فيه بصدق قد يصل إلى الغايات المنشودة مع الحفاظ على الحياة الإنسانية التي هي أسمى الغايات التي يمكن أن تتجه إليها حركة كل مجتمع، أو حركة المجتمعات الإنسانية في علاقاتها. ونؤكد، مرة أخرى أن الحوار بين ثقافات هو الدعامة التي يمكن أن تنبني عليها أشكال الحوارات الأخرى، وهو كذلك الأساس الذي يمكن أن يساعد على النظر إلى الاختلافات من زاوية الوحدة ويبعد الإنسانية في كل حين الصراعات التي تنخرط فيها بفعل مستويات متعددة من اختلاف المصالح والتوجهات.
لا يعني ما سلف ذكره، وقد أكدنا فيه على الحوار بين الثقافات بوصفه ضرورة في عالم البوم، أننا أمام مطلب سهل التحقق تكفي نية التوجه نحوه وحدها لكي يتحقق. لا يغيب عنا أن نأخذ بعين الاعتبار أن مستوى الحوار المقصود لدينا يكون بين تشكلات ثقافية هي نتاج لتاريخ خاص بكل مجتمع ينتج ثقافة، علماً بما للثقافة من عمق في الوجود الإنساني وما ينتج عن ذلك من ارتباط للشعوب بثقافاتها التي تتمثل فيها جزءاً من تاريخها وكيانها. ويقود الارتباط التاريخي والوجداني الفردي والجماعي إلى الوعي بذلك الاختلاف بوصفه حقيقة لا يكون هناك مجال للتنازل عنها لصالح الغير. وقد دلت كثير من الصراعات العنيفة التي عرفها تاريخ الإنسانية على هذا المعنى، ولم يخل العصر الذي نعيشه من مثل هذه الصراعات التي دمرت حياة جزء من الإنسانية على الأقل.
يمكن الرجوع بصدد هذا الإشكال الذي انتهينا من عرضه إلى تصورات ومفاهيم فلسفة الهوية، من جهة، وفلسفة الاختلاف من جهة أخرى. لكننا نريد في الوقت ذاته أن نبرز الحدود التي تصبح فيها كل واحدة من الفلسفتين عائقاً للحوار بصفة عامة وللحوار الثقافي بصفة خاصة. الحوار لا يكون ممكناً لأن مفهوم الهوية حين يضفي عليه التفكير صفة الإطلاق يحجب عن المحلل الفروق الناتجة عن التشكل التاريخي، فلا تظهر له عندئذ إلا حقيقة واحدة مطلقة، ولا يتمثل صاحب هذه الهوية المطلقة الآخر إلا في صورة اختلال للحقيقة الإنسانية.
نعترف بمفهوم الهوية ونرى أن له إجرائية في التحليل نظراً لدلالته على واقع تشكل في التاريخ، إذ لو افترضنا أن الإنسانية واحدة بالإطلاق لا هويات خاصة بها لأنكرنا بذلك أي فعل للتاريخ في تشكل الإنسانية. تشير الهوية في معنى أول لها إلى التطابق بين شيء وذاته، أو بين شخص وذاته أو بين كيان مجتمعي أو حضاري وذاته. وتعني الهوية بالنسبة للكيانات المجتمعية والحضارية بصفة خاصة مجموع ما يعتبر في كل مجتمع ثوابت ثقافية واعتقادية وأنماط من الحياة تميزه رغم تبدل الأحوال. فهي نسق من الموروثات الحضارية ومن الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالحياة الإنسانية وبالكون وعلاقاتهما، ونسق من التصورات الأخلاقية والدينية وعناصر التراث الثقافي والعادات والأعراف والتقاليد والممارسات المجتمعية التي تكون قد أسهمت في التشكل الجماعي لجماعة بشرية ما على اختلاف مستوياتها. وهذا هو المعنى الذي يكون أرضية للحديث عن الخصوصية أو الحكم بالاغتراب على كيان ما حين الخروج عن حدودها وخصائصها. فحين نضفي صفة الإطلاق على الهوية بهذا المعنى تصبح أساساً للدعوة إلى الحفاظ عليها، إذ أنها توجه الفكر والسلوك نحو الحفاظ على ما هو ثابت. وتقدم الهوية بهذا المعنى ذاتاً فردية أو جماعية منغلقة يصعب عليها أن تمارس الحوار مع الغير والتواصل معه بصفة عامة.
نتعامل مع مفهوم الهوية الإجرائية من حيث دلالته على تشكل تاريخي قائم ولكننا ننتقل منه إلى الحديث كذلك انطلاقاً من مفاهيم أخرى تضفي عليه النسبية وتدفعنا إلى الاقتراب من مفاهيم أخرى تقربنا من فلسفات الاختلاف، ونقصد بذلك الحديث عن الهوية في ضوء وبمجاورة مفاهيم التاريخ والتطور والصيرورة، وهي المفاهيم التي من شأنها أن تضفي النسبية على الهوية وتوجه التفكير في هذا المفهوم بوصفه دالاً على واقع يكون موضوع تطورات وتحولات وتبدلات لا تعتبر اختلالاً للهوية بل مظاهر من الهوية ذاتها.
إذا أخذنا مفهوم الهوية تبعاً للاعتبارات التي ذكرناها والتي قلنا بأنها طريق لإضفاء النسبية عليه، وإذا كنا نريد إبعاد مفهوم الهوية المطلق الذي لا تكون الذات في ضوئه في طريق الحوار، فإننا نقترح بذلك مفهوم الهوية المنفتحة. ننتقل بفضل هذا الاقتراح من مفهوم مطلق للهوية من حيث هي معطى قبلي سابق على كل فعل إنساني، إلى هوية ننظر إليها بوصفها نتاجاً لتكون أساسه الفعل الإنساني بالنسبة للذات الفردية والجماعية على السواء. وهذا معناه أن الهوية تكون قبل الفعل الإنساني وبعده في الوقت ذاته. الهوية هي العماد التكويني الذي نفكر ونسلك في إطاره، ولكنها، من جهة أخرى، تكون نتاجاً لما ننجزه، ومن حيث هي إنجاز فإنها تكون منفتحة على المستقبل وعلى هويات أخرى في الوقت ذاته. هذه الهوية المنفتحة هي التي تمنح الذات شعوراً بأن التجدد ممكن في وجودها وفي تطورها وعلاقتها بالهويات الأخرى دون أن يكون في ذلك أي نوع من الاختلال أو الخروج عن حقيقتها كهوية. وهذا الوضع للهوية هو الذي يجعل الذات مهيأة للحوار مع هويات أخرى.
نرى أن هذا المعنى الذي قلنا به لهوية منفتحة هو القادر على تحرير الهوية من الرتابة من حيث إنه يجعل لها مستقبلاً مرتبطاً بالممارسة وعبر علاقتها بهويات مختلفة أخرى، فالرتابة تنتج عن القول بهوية مطلقة لا مكان فيها إلا لما هو ثابت، إلا أن يكون هناك اختلالات يكون من اللازم تجاوزها للعودة إلى التوازن السابق عليها.
الهوية المطلقة عن الهوية المنفتحة من حيث الصيغة التي تأخذها ضمنهما العلاقة بالغير، ففي الهوية المطلقة تركيز على مقولة الوحدة وعلى اعتبار الاختلاف خللاً في الوضع الإنساني، وهي لذلك غير مؤهلة للحوار مع هذا الغير، وأما الهوية المنفتحة، فإنها تنظر إلى الاختلاف بوصفه معطى طبيعياً في الإنسانية في الذات كما في الغير، فيصبح الحوار ممكناً بفضلها. ليست الهوية، بهذا المعنى الذي نتحدث عنه قائمة في الوعي بالمطابقة فحسب، بل إنها تقوم أيضاً في الوعي في الاختلاف بداخلها عبر الوعي بالمغايرة.
ميزة الهوية المنفتحة أنها تنطلق من علاقة جديدة بالغير، إذ تتصوره بوصفه هوية أخرى لها نفس الحق في الوجود مختلفة وفي التعبير والتواصل. لانتظر الهوية المنفتحة إلى الغير بوصفه ذلك المختلف عنها فحسب، بل تدركه أيضاً بوصفه شرطاً لوعيها بذاتها وتمايزها عنه. وكما يؤكد الفيلسوف الفرنسي سارتر، فإن الغير ذات أخرى لا تكون لوعينا فحسب، بل هي قادرة على أن تجعلنا موضوعاً لوعيها.
ما قلناه عن الهوية يصدق عليها في مستوييها الفردي والجماعي. وحيث إن حديثنا الآن متعلق بالحوار بين الثقافات، فإننا نقول إن الثقافات التي تعي بذاتها في إطار الشعور بالاكتمال وعدم الحاجة إلى الغير المختلف عنها تكون غير مهيأة للحوار المطلوب اليوم بين الثقافات. وأما الهوية المنفتحة، فإنها تكون ذاتاً ثقافية قادرة على إثراء الحوار المطلوب اليوم من أجل الحفاظ على غنى الإنسانية وتفاعل ثقافاتها.
وجدنا في سياقنا الفكري، والفلسفي منه بصفة خاصة، ما يدعم الأفكار التي عبرنا عنها، وإن كان ذلك بتعبيرات أخرى. ونعتبر هذا الأمر إيجابياً في إطار تطوير مساهمة ثقافتنا في تناول مشكلة فلسفية راهنة بالنسبة للعالم المعاصر. ونعتبر هذه المساهمات ذات قيمة إيجابية مزدوجة. نسجل هذا الأمر دون أن نغفل وجود وجهات نظر أخرى تعبر عن موقف مختلف من الهوية ومن الحوار بين الثقافات.
رأينا أنه لا يمكن تفهم شروط الحوار بالنسبة للهوية الثقافية إلا إذا تبنينا مفهوماً منفتحاً للهوية، وبينا مع ذلك كيف تضعنا الهوية المنغلقة في موقف مضاد للحوار الثقافي المطلوب في عالم اليوم. وقد وجدنا لدى محمد الدكالي تمييزاً آخر نجد أنه يذهب في نفس الاتجاه مع بعض الاختلاف النسبي. يتحدث الدكالي عن الهوية التي لا يمكن أن تكون منطلقاً للحوار ويدعوها بالهوية المشتعلة. قد نعود إلى نشأة هذه الهوية ونرى أنها جاءت رد فعل ضد مظاهر الهيمنة الثقافية والهيمنة الشاملة، ولكن هذا التفسير لا يمنع من القول بعدم قدرتها على أن تكون الإطار الفكري الملائم لحوار بين مكونات المجتمع الثقافية، أو مع ثقافات أخرى. فالهوية المشتعلة، كما نفهمها من خلال حديث الدكالي عنها، هي التي يقدم أصحابها أنفسهم بوصفهم أصحاب الحق الذي لا مرد له لأن أساسه هو الهوية التاريخية الخاصة. نفهم أن لهذه الهوية المشتعلة صيغاً مختلفة من مجتمع إلى آخر، بل وداخل نفس المجتمع. ولكن الخاصية المميزة لهذه الهوية المشتعلة هي أنها تقوم في المجتمع بدور التبشير وتقيم خطاً فاصلاً بين من يهتدون ويتطابقون معها ويتبنونها وبين الذين لا يقبلونها. وتقوم هذه الهوية في درجة قصوى من التعبير عن نفسها بعملية محو لما عداها تمهيداً لإنجاز المشروع المتخيل: مشروع التحول. هذه هوية لا يمكن أن تكون منطلقاً للحوار الثقافي.
في مواجهة الهوية السالفة الذكر هناك في نظر محمد الدكالي هوية أخرى يصبح الحوار معها ممكناً وهي التي تقبل الآخر كما هو مختلفاً عنها. فحين يقبل الناس بعضهم بالبعض الآخر كما هو يمكن أن يقيموا حواراً تتقلص خلاله المسافة التي تفصل الوعي الخاص بكل منهم بذاته ومعرفة الآخر التي لا تأتي بدورها إلا إذا كان الآخر بدوره محاوراً.
نجد لدى عبدالسلام بن عبدالعالي تعبيرات أخرى عن نقد الهوية التي تعني التطابق وتكون متسمة بالثبات، وهو الذي يستلهم باستمرار فكر الاختلاف. فهو، إذ يتفهم شروط نشأة الخطاب الذي يتحدث انطلاقاً من مفهوم الهوية باعتبار ذلك رد فعل للذات المتصدعة من الآخر يوقظها الفعل ورد الفعل وتلجأ الذات في هذه الحالة إلى البحث عن جذور متأصلة تقوي بها وحدتها وتؤسس هويتها، لا يقبل الوقوف عن لحظة ورد الفعل ولا يقبل مفهوم الهوية الذي يشيع في هذه اللحظة. لذلك يعود بن عبدالعالي إلى التحرر من هوس الهوية التي تعني الوحدة والتطابق التي يرى فيها علامة وقفة وتوقف وعلامة انفعال لا فعالية وعلامة سكون لا علامة حركة، ودليل على عدم الانخراط في البناء الفعلي للذات. ويرى بن عبدالعالي أن مسألة الهوية لا ينبغي أن تصبح مسألة نظرية بحتة، إذ سيصبح التفاعل مع الآخر عندئذ هو أن نقدم له أوراق تعريفنا مفتوحة وجاهزة، وهو ما يدل على خوف أو خجل وتدمير للذات لا بناء لها، ولن تكون هذه الذات المدمرة، طبعاً، هي ما يمكن أن ينخرط في حوار مطلوب في العالم المعاصر.
يتحدث بن عبدالعالي بديلاً عن الهوية التي تكون نتيجة للصدمة عن الهوية المشروع. ويأتي هذا المفهوم ضد الذين يكثرون من الحديث عن الهوية والأصالة والذاتية كما لو كانت معطيات خالدة، ومطلقات سرمدية لا تعرف نشأة ولا يلحقها تحول ولا يصيبها زوال. والهوية المشروع هي التي لا تكون في تعارض مطلق مع الآخر، ولا تؤول إلى التطابق. وهي، من جهة أخرى، هوية معلقة أو مشروع هوية.
يوضح بن عبدالعالي، مع ما سبق ذكره، أن فكر الاختلاف لا يقصد التخلص من الهوية ويستعيض عنها بالاختلاف، بل غايته، فحسب، هي نقد مفهوم الهوية الذي أصابه الجمود حتى في أكثر الفلسفات جدلية وأكثرها انفتاحاً على الآخر. إن الهدف هو إنعاش الهوية بجعلها منفتحة على الاختلاف. الهوية المشروع هي التي تكون منفتحة على الحوار لا من منظور رد الفعل، بل من موقع المساهمة الإيجابية في فعل الحوار نفسه.
نتبين من كل ما سلف ذكره عبر تعبيرنا، أو عبر تعبيرات آخرين ممن استعنا بفكرهم، أن الحوار المطلوب يقتضي هوية منفتحة على الآخر وعلى تطورات الواقع في الوقت ذاته، فرغم طلب الهوية المطلقة للمطابقة، فإن المطابقة لا تكون مع وجود المغايرة والاختلاف. ومن جهة أخرى، فإنه لم يعد هناك مكان لاعتبار العلاقة بالآخر خارجية لأن العالم المعاصر الذي أصبح يسمح عبر تطوراته المتنوعة بتواصل أكثر وأعمق بين الثقافات المختلفة لم يعد يسمح بالحديث عن هوية ثقافية منعزلة. لذلك يكون الحوار بين الثقافات منطبعاً بطابع العصر الذي يسمه التواصل.
غايتنا، كما بدا ذلك منذ البداية في عنوان بحثنا النظر إلى حوار الثقافات في ضوء التوازن العالمي. وقد بدت بعض ملامح هذا المقصود من خلال عرضنا السابق عن حوار الثقافات وعن الشروط التي يكون بها هذا الحوار ممكناً. وسنحاول الآن بيان المعنى الذي نستخدم به هنا مفهوم التوازن، وننظر في ضوئه في إمكانية حوار الثقافات في العالم المعاصر.
عندما فكرنا في السابق في معقولية العالم المعاصر رأينا أن هذا العالم ينبني على معقولية مقلوبة، واعتبرنا ذلك مظهراً على اختلال في التوازن. ولا نقصد هنا من التوازن الإشارة إلى حالة ثابتة مستقرة تعتبر مرجعية بالنسبة للملاحظ وتعتبر العودة إليها إعادة للتوازن. فحتى عندما يستخدم مفهوم التوازن في العلوم البيولوجية والنفسية للإشارة إلى التوازن في الجسم الحي أو في الحياة النفسية لا يأخذ التوازن معنى الحالة المستقرة الثابتة لأن كل مرحلة من التطور تكون توازناً بالقياس إلى ما سبقها، أو هي حالة استعادة للتوازن عبر تجاوز الاختلالات.
حين نستخدم مفهوم التوازن لوصف حالة العالم المعاصر، فإننا نقصد ذلك القلب في العلاقة بين العقل والقوة. فبينما كان العقل في البداية، ومنذ العصر الحديث هو الذي يبني القوة أصبح مع التطورات التي عرفها العالم منذ القرن التاسع عشر بصفة خاصة خاضعاً لنتائج القوة التي أصبح الوضع الناجم عنها في العالم هو الذب يوصف بالمعقولية، بل وأصبح الحديث بغير ذلك خروجاً عن المعقولية ومعاييرها. لقد أصبح الاختلال نتيجة لذلك يظهر بوصفه توازناً.
نرى، من جهة أخرى، أن اختلال التوازن لم يبدأ مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001، بل ننظر إلى هذه الأحداث بوصفها نتيجة لمظاهر الاختلال التي عرفها العالم قبل ذلك منذ القرن التاسع عشر والتي كان من مظاهرها الأساسية حربان عالميتان وعدد كبير من الحروب والصراعات الأخرى المدمرة للحضارة الإنسانية.
الاختلالات السالفة الذكر مانعة للحوار بين الأمم بصفة عامة وللحوار بين الثقافات بصفة خاصة. ونرى أن الإنسانية الموحدة بمشكلاتها قادرة على أن تبدأ الحوار الذي يبحث في شروط إعادة التوازن للعالم حتى يكون حوار الثقافات ممكناً في إطاره. وإن هذا الحوار الذي يكون للمثقفين بصفة عامة، وللفلاسفة بصفة خاصة، دور فيه هو الذي سيسمح للإنسانية أن تعيش وحدتها من حيث الإيمان بالقيمة السامية للإنسان، من جهة، وتنوعها الثقافي الذي فيه غنى للوجود الإنساني من جهة أخرى. الإنسانية واحدة ومتنوعة ثقافياً في الوقت ذاته، وحوار الثقافات إذا أصبح ممكناً سيكون وسيلة لإبراز جدل الوحدة والتنوع في الإنسان.
هناك سؤال نختم به حديثنا هذا عن حوار الثقافات، وهو المتعلق بالذوات الإنسانية المؤهلة أكثر من غيرها لمهمة الحوار بين الثقافات. ونرى أن الذوات المفكرة المبدعة للثقافة في مختلف أصناف الإبداع في هذا المجال هي التي يمكن أن تقوم بدور فعال في المهمة المطلوبة في عالم اليوم. الفلاسفة والمفكرون، بصفة عامة، ثم العلماء والمشتغلون بالعلوم الإنسانية، وبخاصة منها تلك التي تتعلق بمعرفة الذات والتعرف على الغير، وتلك التي تتعلق بتاريخ الحضارات والثقافات لدى شعوبها والشعوب الأخرى في الوقت ذاته، ثم المنشغلون بالتفكير القانوني والتحليل الاجتماعي، والأدباء والفنانون المبدعون في مختلف أصناف الإبداع الفني، يمكن لكل هذه الذوات المبدعة أن تسهم في حوار نراه ممكناً بين الثقافات التي تتعايش في العالم المعاصر، ولكن التي كان تشكلها التاريخي في أزمنة مختلفة وفي جهات متباينة من العالم.
لا ينفصل الحوار بين الثقافات عن السياسات المتبعة داخل كل بلد وعن العلاقات القائمة بين البلاد المختلفة، وهذا يعني أن للسياسيين دوراً في ذلك الحوار. غير أن هذا لا يقصي أولوية الدور الذي يكون للفئة المثقفة في ذلك الحوار، إذ أن مبدعي الثقافة وناقديها ومؤرخيها ودارسيها من الزوايا المختلفة باختلاف العلوم الإنسانية التي تهتم بها كنشاط إنساني هم المؤهلون لتقديم الحوار الثقافي وتوجيهه الوجهة التي يكون بها مثمراً.
وأما السياسيون، فإن دورهم يكون في رسم السياسات الثقافية التي تسمح ضمن السياسات العامة لبلدانهم، ثم في رسم صورة العلاقات العامة لبلدانهم ببلدان أخرى على جميع الأصعدة التي لا ينبغي أن يستثنى منها الجانب الثقافي. ونسجل إدراك بعض السياسيين لأهمية حوار الثقافات في سياق التطورات التي يعرفها العالم المعاصر، ووعيهم بالدور الذي تستطيع الفئة الثقافية أن تقوم به في هذا المستوى.
نرى من الملائم كذلك أن نشير إلى أن حوار الثقافات غاية تقتضي أن يتوفر لها داخل كل مجتمع توجه تربوي وعلمي يجعل ذلك الحوار ممكناً ومطلوباً. ونقصد بهذا الأمر التأكيد على ضرورة إدماج عنصر التعرف على الثقافات الأخرى وتاريخ الحضارات التي أبدعتها ضمن برامج التكوين بصفة عامة، وذلك لتهيئ الذات المتلقية للتكوين على تقبل الاختلاف وعلى معرفة القيم الثقافية التي أودعتها شعوب أجرى.
نعلم أن هذا الذي قلناه يقتضي عملاً على صعيد المنظمات الدولية التي تنشغل بالمشكلات العالمية العمل من أجل توازن سياسي جديد للعالم يقود نحو تجاوز ثقافة التدمير وبناء ثقافة السلام والحوار الساعي إلى جعل التاريخ الثقافي لكل الحضارات تراثاً عاماً للإنسانية. هذا توازن عالمي مطلوب لكي تنفتح الإنسانية على ما هو إبداع ثقافي فيها والاستفادة من تنوعه وغناه.
نعلم أن الوضع الذي أشرنا إليه مثالي لا توجد في الوضع العالمي الحالي مؤشرات تدل على قرب تغيره، خاصة وأنه يتطلب توازناً يبدو الآن بعيداً. غير أنه لا يمكن من زاوية التحليل الفلسفي الذي انطلقنا منه أن نجعل مهمتنا مقتصرة على وصف ما هو موجود دون الإشارة إلى الاتجاه الذي يمكن أن يسير فيه تغييره. فلا غنى عن تجاوز المعقولية المقلوبة التي يعيشها العالم اليوم بين العقل والقوة لكي يكون التوازن العالمي الناتج عن هذا القلب أرضية لوضع إنساني جديد يكون فيه حوار الثقافات ممكناً. نحن، إذن، أمام وضع مطلوب لا أمام حقيقة قائمة. ولكن هذا الوضع المطلوب هو الذي سيدفع الإنسانية في العالم المعاصر إلى الحياة في ظل تنوعها الغني الذي تحرمه منه الصراعات المدمرة.
** المصدر: المجلة العربية.
المصدر: http://www.wasatiaonline.net/news/details.php?data_id=1253