الكتــاب الأبيــض حـول حـوار الثقافـات ''من أجل العيش معاً متساوين في الكرامة''
الكتــاب الأبيــض حـول حـوار الثقافـات ''من أجل العيش معاً متساوين في الكرامة''
تقديم للكتاب الأبيض حول حوار الثقافات السيد تيري ديفيس الأمين العام لمجلس أوروبا
يعتبر الكتاب الأبيض حول حوار الثقافات ثمرة عمل مضن وعزيمة قوية وحوار متواصل ومشاورات طويلة بين الدول الأعضاء ومنظمات المجتمع المدني والجماعات الدينية والمهاجرين والسلطات المحلية والإقليمية وغيرها. لقد صار الحوار بين الثقافات ضرورة ملحة في وقتنا الراهن. ففي عالم تتضاءل فيه فرص الأمن والاستقرار وتتعاظم فيه مظاهر التنوع، أصبحنا مطالبين بتجاوز الاختلافات العرقية والدينية واللغوية والوطنية لضمان التماسك الاجتماعي وتفادي النزاعات.
إن الرسالة الرئيسة التي يحملها الكتاب الأبيض هي أن حوار الثقافات أمر مستحيل بدون الرجوع إلى القيم الإنسانية المشتركة كالديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون.
إن الترحيب الواسع الذي لقيه الكتاب الأبيض يحتم علينا تفعيل وتتبع الخلاصات والتوصيات الواردة فيه ومتابعتها من خلال إرساء حوار مع جميع المعنيين بالأمر. إن الحوار بين الثقافات ''عملية جارية ومستمرة'' وهو مرحلة جديدة على درب إرساء نموذج اجتماعي وثقافي جديد يواكب التحولات المتسارعة التي تشهدها القارة الأوروبية ويساير التغيرات المتلاحقة التي يعرفها عالمنا اليوم.
الحوار ــ عنصر جوهري لمستقبل أوروبا
بعدما ترسخ التنوع الثقافي في تاريخ قارتنا الأوروبية وتنامى حجمه مع العولمة، أصبح التدبير الديمقراطي لهذا التنوع من الأولويات في السنوات الأخيرة. فكيف يتعين التعامل مع هذا التنوع ؟ وما هي رؤيتنا لمجتمع الغد؟ هل يتعلق الأمر بمجتمع يعيش فيه الأفراد داخل مجموعات منفصلة، يطبعها في أحسن تقدير تعايش الأغلبيات والأقليات المختلفة من حيث الحقوق والواجبات وتربط بينها أواصر غير محكمة تتميز بجهل الواحدة للأخرى وبالأفكار النمطية المتبادلة ؟ أم على عكس ذلك سنشكل مجتمعاً ديناميكياً منفتحاً خال من كل تمييز، ننتفع به جميعا ويتميز بإدماج السكان كافة في إطار الاحترام التام لحقوقهم الأساسية ؟ ويعتقد مجلس أوروبا أن احترام التنوع الثقافي و تعزيزه على أساس القيم التي ترتكز عليها المنظمة يعتبران شرطين جوهريين لتطوير مجتمعات أساسها التضامن.
يؤكد ''الكتاب الأبيض حول حوار الثقافات'' المقدم هنا، باسم حكومات الدول السبعة والأربعين الأعضاء في مجلس أوروبا، أن مستقبلنا المشترك مرتبط بقدرتنا على حماية حقوق الإنسان وتطويرها، كما وردت في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والديمقراطية وسيادة القانون فضلاً عن تعزيز الارتقاء بالتفاهم المتبادل. ويبرهن الكتاب الأبيض على أن المقاربة التي تستند على تعدد الثقافات توفر نموذجاً استشرافياً لتدبير التنوع الثقافي. ويقترح الكتاب الأبيض تصوراً يرتكز على الكرامة الإنسانية لكل فرد )يشمل الإنسانية المشتركة والمصير المشترك(. وإذا أريد لهوية أوروبية أن تتحقق، فيتعين أن تنبني على قيم أساسية مشتركة واحترام الإرث المشترك والتنوع الثقافي فضلاً عن احترام كرامة كل فرد.
ويضطلع حوار الثقافات بدور مهم في هذا الإطار، حيث يمكننا من تفادي الانقسامات الإثنية والدينية واللغوية والثقافية من جهة، ويسمح لنا من جهة أخرى بالتقدم سوياً قصد التعامل مع هوياتنا المختلفة بشكل بناء وديمقراطي، على أساس قيم كونية مشتركة.
ولا يمكن لحوار الثقافات أن يتطور إلا إذا توفرت بعض الشروط المسبقة. ويرى الكتاب الأبيض أن تطوير حوار الثقافات يستدعي تكييف الحكامة الديمقراطية للتنوع الثقافي من عدة جوانب، وتعزيز المواطنة الديمقراطية والمشاركة، وتدريس وتعلم كفاءات التفاعل بين الثقافات بالإضافة إلى خلق فضاءات مخصصة لحوار الثقافات وتوسيع نطاقها، كما يجب إضفاء بعد دولي على حوار الثقافات.
يرتكز الكتاب الأبيض على الأسس القوية لتشريعات مجلس أوروبا ويأخذ بعين الاعتبار جل المعلومات التي تم تجميعها خلال استشارة العديد من الأطراف المتدخلة، بما فيها الشركاء غير الأوروبيين، في تشرين الأول / أكتوبر .2007 فهو يعتبر إذن، من نواح متعددة، نتاجاً للحوار الديمقراطي الذي يدخل في صميم حوار الثقافات نفسه.
ويستجيب الكتاب الأبيض للحاجة المتزايدة لتوضيح كيف يمكن لحوار الثقافات المساهمة في إبراز قيمة التنوع مع المحافظة على التماسك الاجتماعي. ويسعى الكتاب إلى توفير إطار نظري ودليل يستعين به أصحاب القرار السياسي والخبراء. إلا أنه لا يمكن لحوار الثقافات أن يفرض بحكم القانون، بل يجب أن يظل دعوة مفتوحة لتطبيق المبادئ الأساسية المنصوص عليها في هذه الوثيقة وتنفيذ مختلف توصياتها بمرونة فضلاً عن المشاركة في النقاش الدائر حول التنظيم المستقبلي للمجتمع.
إن مجلس أوروبا مقتنع تمام الاقتناع أن مسؤوليتنا المشتركة تتمثل في بناء مجتمع بوسعنا أن نعيش فيه معاً متساوين في الكرامة.
مقدمة
1. 1. مجلس أوروبا وحوار الثقافات
يساهم النهوض بحوار الثقافات في تنفيذ المهمة الأساسية لمجلس أوروبا ألا وهي حماية حقوق الإنسان والارتقاء بها وتكريس الديمقراطية وسيادة القانون. حيث إن القمة الأولى لرؤساء دول وحكومات الدول الأعضاء، المنعقدة سنة 1993، والتي أكدت أن التنوع الثقافي خاصية من خاصيات الإرث الأوروبي الغني وأن التسامح يضمن بناء مجتمع منفتح، أفضت إلى إعداد الاتفاقية الإطار لحماية الأقليات الوطنية وخلق اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب وإعطاء الانطلاقة للحملة الأوروبية للشباب ضد العنصرية ومعاداة السامية وكراهية الأجانب والتعصب تحت شعار ''كلنا مختلفون وكلنا متساوون''.
وعرّفت القمة الثالثة لرؤساء الدول والحكومات، )2005(، حوار الثقافات )بما في ذلك بعده الديني( بوصفه وسيلة للنهوض بالوعي والتفاهم والتصالح والتسامح ومنع وقوع النزاعات بالإضافة إلى ضمان اندماج المجتمع وانسجامه. وقد تم عرض هذا الموقف مفصلاً في ''إعلان فارو لاستراتيجية مجلس أوروبا بشأن تطوير حوار الثقافات''، الذي اعتمده وزراء الثقافة في وقت لاحق من نفس السنة، والذي اقترح إعداد كتاب أبيض حول حوار الثقافات.
1. 2. عملية إعداد الكتاب الأبيض
أوضحت لجنة الوزراء، خلال اجتماع عقد شهر أيار / مايو 2006، أن الكتاب الأبيض حول حوار الثقافات من شأنه أن يحدد الوسائل الكفيلة بتشجيع الحوار بين الثقافات بشكل مكثف داخل المجتمعات الأوروبية و فيما بينها، فضلاً عن الحوار بين أوروبا وجيرانها. كما يجب أن يقدم التوجيه حول أدوات التحليل والمنهجية، وحول المعايير الواجب تطبيقها. ويتوجه الكتاب الأبيض إلى المسؤولين السياسيين والإداريين، والقيمين على التربية ووسائل الإعلام، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني، لاسيما الجماعات الدينية والمهاجرين، ومنظمات الشباب والشركاء الاجتماعيين.
وانطلقت عملية الاستشارة على نطاق واسع حول حوار الثقافات ما بين شهري كانون الثاني / يناير وشباط / فبراير 2007 وفق قرار أصدرته لجنة الوزراء. وقد شملت هذه العملية، ضمن أمور أخرى، جميع اللجان التوجيهية المعنية، وأعضاء الجمعية البرلمانية ومجلس السلطات المحلية والإقليمية، فضلاً عن هيئات أخرى تابعة لمجلس أوروبا، ومن بينها اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب، واللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية، وفرقة العمل رفيعة المستوى المعنية بالتماسك الاجتماعي ومفوض حقوق الإنسان. وتم إرسال استمارات لكل الدول الأعضاء وأعضاء الجمعية البرلمانية ومجلس السلطات المحلية والإقليمية وممثلي الجماعات الدينية ومجموعات المهاجرين والمنظمات غير الحكومية والثقافية وغيرها. وعلاوة على ذلك، نظمت أمانة مجلس أوروبا )أو شاركت في تنظيم( عدداً من التظاهرات مع منظمات غير حكومية للمهاجرين والنساء والشباب والصحفيين ومنظمات تنشط في مجال الإعلام فضلاً عن منظمات دولية. وتم تسليم نسخ أولية للكتاب الأبيض للدراسة المدققة من قبل جهات متدخلة تم اختيارها خلال ''اجتماعات استقاء الآراء''(1). وتم تقديم هذه النسخة خلال الندوة الإقليمية غير الرسمية للوزراء المكلفين بالشؤون الثقافية(2).
أبانت هذه العملية عن اهتمام كبير. وفي نفس السياق، توجه مجلس أوروبا بالشكر لكل الأشخاص والمؤسسات التي ساهمت بسخاء في هذا النقاش. وأظهرت الاستشارة أنه بالنظر إلى أسسه المعيارية وتجربته الغنية، يتمتع مجلس أوروبا بموقع جيد للقيام بهذه المبادرة في الوقت الملائم. كما مكنت هذه الاستشارة من الحصول على كم هائل من الاقتراحات حول مضمون الكتاب الأبيض في حد ذاته.
يرتكز محتوى الصفحات التالية على الأسس القوية التي تمثلها تشريعات مجلس أوروبا، لاسيما الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ومعايير أخرى أساسية. ويأخذ بعين الاعتبار المعلومات العديدة التي تم استقاؤها خلال الاستشارة. ومن هذا المنظور، يعد هذا الكتاب نتاجاً لنقاش ديمقراطي يدخل في صلب حوار الثقافات في حد ذاته. ولضمان التحرير الجيد لم يتم نسب الأفكار التي وردت في هذا الكتاب الأبيض إلى أي من الجهات المشاركة التي تمت استشارتها، وذلك لأن العديد من هذه الأفكار سبق طرحها من قبل عدة منظمات أخرى.
يمكن الاطلاع على الوثائق التي تم الاعتماد عليها في عملية إعداد الكتاب الأبيض على الموقع الإلكتروني لمجلس أوروبا وفي المنشورات المرافقة، وخاصة تحليلات إجابات الدول الأعضاء والمنظمات غير الحكومية والجماعات الدينية عن الاستمارة حول حوار الثقافات وبمراجعة الدراسات التي أجريت حول حوار الثقافات والمخصصة لقضايا معينة )التربية والإعلام( أو لفاعلين محددين )الشباب والمهاجرين(. وتوجد بعض الوثائق الإضافية في نسخة مطبوعة وعلى الموقع الإلكتروني منها طائفة من ''الأسئلة المتكررة'' وبعض مقالات الصحف.
1. 3. الانشغالات الكبرى
خلال عملية الاستشارة، غالباً ما كانت تتكرر فكرة مفادها أن المقاربات التقليدية لتدبير التنوع الثقافي لم تعد ملائمة للمجتمعات التي تشهد درجة من التنوع غير مسبوقة وتنمية متواصلة. وكشفت الإجابات عن الاستمارات الموجهة للدول الأعضاء على الخصوص أن المقاربة المتبعة إلى عهد قريب في العمل العمومي في هذا المجال ــ والتي تتلخص في كلمة ''التعددية الثقافية'' ــ لم تكن ملائمة. ومن جهة أخرى، لم تكن هناك رغبة للعودة إلى الفترة التي كان يتم التركيز فيها على الإدماج. وكان بناء مجتمعات تشمل الجميع يستدعي مقاربة جديدة، فكان الطريق الذي يتعين اتباعه هو حوار الثقافات.
ومع ذلك، ظل معنى عبارة ''حوار الثقافات'' غير واضح إلى حد ما. ولهذا السبب، دعت وثيقة الاستشارة الجهات المعنية إلى تقديم تعريف، غير أن تلك الجهات ترددت في القيام بذلك لأن حوار الثقافات ليس معياراً جديداً ثابتاً، سهل التعريف ويمكن تطبيقه في كل المواقف الحقيقية دون تدخل أطراف أخرى. وكشف هذا التحفظ عن التباس حقيقي بخصوص المعنى المتداول لحوار الثقافات.
إلا أن الجهات التي أجابت عن الاستمارات وتلك التي شاركت في الاستشارة تتفق على أن المبادئ الكونية، كتلك التي يدعو إليها مجلس أوروبا، تشكل مرجعية معنوية. وتوفر هذه المبادئ الإطار الضروري لإرساء ثقافة التسامح وتبين حدودها بشكل واضح، خاصة فيما يتعلق بكل أشكال التمييز وعدم التسامح. ولا يجوز للتقاليد الثقافية، سواء كانت تشكل ''الأغلبية'' أو ''الأقلية''، أن تعلو على المبادئ والقيم، كما وردت في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان وفي صكوك مجلس أوروبا الأخرى المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وأشارت الجهات التي تمت استشارتها، على الخصوص، بأن المساواة بين الجنسين تشكل شرطاً لا يقبل التفاوض للحوار بين الثقافات الذي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار تجارب النساء والرجال على حد سواء. لقد تمت إثارة مسألة المساواة مرات عديدة. وهكذا شددت حكومات ومنظمات غير حكومية جمعيات المهاجرين باستمرار على انشغال مفاده أنه لا يمكن رفع تحدي العيش سوياً داخل مجتمع متنوع بدون مساواة في الكرامة.
وتبين أنه لا يجب استثناء أية جهة من مهمة الانخراط في حوار الثقافات، سواء تعلق الأمر بالأحياء أو بأماكن العمل أو بالنظام التربوي أو المؤسسات التابعة له أو المجتمع المدني وعلى الخصوص قطاع الشباب، أو وسائل الإعلام أو عالم الفن والسياسة. فكل الفاعلين ــ منظمات غير حكومية، وجماعات دينية، وشركاء اجتماعيين وأحزاب سياسية ــ معنيون على غرار الأفراد. وكل مستوى في الحكامة، محلي أو إقليمي أو وطني أو دولي، معني بالتدبير الديمقراطي للتنوع الثقافي.
وأخيراً، أظهرت الاستشارة بشكل ملموس الكم الهائل للممارسات الجيدة التي تم اكتسابها. ويتعين علينا حالياً تلخيصها ونشرها بهدف تجاوز التحفظات ونسخ التجارب الإيجابية. وإذا كان هناك درس يجب استخلاصه من هذه الاستشارة، فهو الأهمية التي تكتسيها ضرورة إرساء حوار الثقافات وذلك لعدة سنوات قادمة.
1. 4. المصطلحات الأساسية
يقدم الكتاب الأبيض حول حوار الثقافات، والذي يعتمد بشكل عام المصطلحات التي أعدها مجلس أوروبا ومؤسسات دولية أخرى، بعض المفاهيم التي ينبغي تعريفها. ففي الكتاب الأبيض :
* يفيد ''حوار الثقافات'' تبادل لوجهات النظر مبني على الانفتاح والاحترام والتفاهم المتبادل ما بين الأفراد والجماعات ذات الخلفيات العرقية والثقافية والدينية واللغوية المختلفة )انظر الجزء 3(. ويمارس في كل المستويات ــ داخل المجتمعات الأوروبية وفيما بينها وما بين أوروبا وبقية دول العالم.
* تحيل ''التعددية الثقافية'' )على غرار ''سياسة الإدماج''( على مقاربة سياسية معينة )انظر الجزء 3( في حين تشير كل من عبارتي ''التنوع الثقافي'' و''تعدد الثقافات'' إلى تواجد ثقافات مختلفة على أرض الواقع إمكانية تفاعلها في فضاء محدد وداخل تنظيم مجتمعي معين.
* يقصد بـ ''التماسك الاجتماعي''، وفق تصور مجلس أوروبا، قدرة مجتمع ما على ضمان الرخاء لكل أفراده وذلك بتقليص الفوارق قدر الإمكان وبتفادي تشكل الأقطاب. فالمجتمع المنسجم جماعة متضامنة مكونة من أفراد أحرار يسعون إلى تحقيق أهداف مشتركة عبر وسائل ديمقراطية.
* تحيل عبارة ''الأطراف المشاركة'' على كل الأفراد أو المجموعات سواء كانت تمثل الأغلبية أو الأقلية والمعنية بحوار الثقافات والتي تقوم بدور مهم في هذا الإطار. ويتعلق الأمر على الخصوص بمسؤولي السلطات المحلية والبرلمانات على كل المستويات والجماعات المحلية والجهوية ومنظمات المجتمع المدني وجاليات المهاجرين والجماعات الدينية والمنظمات الثقافية والإعلامية والصحفيين والشركاء الاجتماعيين.
* يقصد بـ ''السلطات العمومية'' حكومة البلد والأجهزة السياسية والإدارات على المستوى المحلي والإقليمي والمركزي. وتحيل هذه العبارة كذلك على المجالس البلدية والجماعات المحلية والأشخاص الذاتيين والمعنويين حسب القانون الخاص والذين يزاولون مهاماً عمومية أو يمارسون سلطة إدارية.
* تفيد عبارة ''الاندماج'' )الإدماج الاجتماعي( عملية ذات اتجاهين وقدرة الأشخاص على العيش سوياً في إطار الاحترام التام للكرامة الفردية والصالح العام والتعددية والتنوع وغياب العنف والتضامن، كما تحيل أيضاً على قدرتهم على المساهمة في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. وتشمل هذه الكلمة كل مظاهر التنمية الاجتماعية وجل السياسات. ويستدعي الاندماج حماية الضعفاء وضمان تمتعهم بحق الاختلاف والابتكار والتجديد(3). لذلك، يعد من الضروري تبني سياسات إدماجية ناجعة لتمكين المهاجرين من المساهمة مساهمة كاملة في حياة البلد المضيف. ويجب على المهاجرين، كأي شخص آخر، احترام القوانين والقيم الأساسية للمجتمعات الأوروبية وإرثها الثقافي. ومن الضروري أن تغطي الاستراتيجيات الإدماجية كل ميادين المجتمع وتستوعب كل المظاهر الاجتماعية والسياسية والثقافية. كما يجب أن تحترم هذه الاستراتيجيات كرامة المهاجرين وهويتهم المستقلة وأخذها بعين الاعتبار عند إعداد السياسات العامة.
* تهدف ''التدابير الإيجابية'' بشأن إزالة الفوارق المرتبطة بالعرق أو الجنس أو بمميزات خاصة يحميها القانون إلى إرساء مساواة تامة وفعلية وإلى التمتع بحقوق الإنسان وممارستها في إطار المساواة.
لا يوجد تعريف قانوني معتمد على المستوى الدولي لمفهوم ''الأقلية''. وفي سياق الكتاب الأبيض، يفهم من العبارة أنها تحيل على أشخاص، بما في ذلك المهاجرون، ينتمون إلى جماعات أقل عدداً من باقي الساكنة ويتميزون بهويتهم، وخاصة بعرقهم، أو ثقافتهم، أو دينهم أو لغتهم.
ـــــــــــــــ
(1) ستراسبورغ، ستوكهولم وموسكو )أيلول / سبتمبر / تشرين الأول / أكتوبر 2007(.
(2) بلغراد، 8 و9 تشرين الثاني / نوفمبر .2007
(3) برنامج عمل اعتمده المؤتمر العالمي للتنمية الاجتماعية سنة .1995
. فضاء يشمل التنوع الثقافي
2. 1. التعددية والتسامح وحوار الثقافات
ليس التنوع الثقافي ظاهرة جديدة في نسيج أوروبا، إذ نجد فيه الآثار المختلفة للهجرات داخل القارة وإعادة رسم الحدود والاستعمار والإمبراطوريات المتعددة الجنسيات. وبفضل مجتمعاتنا المبنية على مبادئ التعددية السياسية والتسامح، خلال القرون الماضية، تمكنا من العيش في إطار التنوع دون خلق أخطار غير مقبولة تهدد التماسك الاجتماعي.
وخلال العقود الماضية، تسارعت وتيرة التنوع الثقافي. واستقطبت أوروبا مهاجرين وطالبي اللجوء من العالم بأسره يسعون إلى حياة أفضل. ومع العولمة، تقلصت عوامل المكان والزمان إلى درجة غير مسبوقة. وساهمت الثورات التي عرفتها مجالات الاتصالات والإعلام، لاسيما بعد ظهور خدمات جديدة للتواصل كالإنترنيت، في جعل الأنظمة الثقافية الوطنية أكثر شفافية. وساهم كذلك تطور المواصلات والسياحة في الربط، وبشكل مباشر، بين عدد قياسي من الأشخاص، مضاعفاً بذلك إمكانيات حوار الثقافات.
وفي هذا السياق، اكتسب كل من التنوع والتسامح وروح الانفتاح أهمية غير مسبوقة(1). وأقرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأن ''التعددية ترتكز على الاعتراف والاحترام الفعليين لتنوع وديناميكية التقاليد الثقافية والهويات العرقية والثقافية والمعتقدات الدينية والأفكار والمفاهيم الفنية والأدبية والسوسيو ــ اقتصادية'' وبأن ''التفاعل المنسجم ما بين أفراد وجماعات ذات هويات مختلفة يعتبر ضرورياً للتماسك الاجتماعي''(2).
ولكن قد لا تكون التعددية والتسامح وروح الانفتاح كافية. لذلك يجب اتخاذ تدابير سابقة التأثير، ومحكمة البناء ومشتركة على نطاق واسع قصد تدبير التنوع الثقافي. وفي هذا الإطار، يعد حوار الثقافات وسيلة أساسية يصعب من دونها حماية حرية ورفاهية الأفراد الذين يعيشون في هذه القارة.
2. 2. المساواة في الكرامة الإنسانية
لا يساهم التنوع في إنعاش الحياة الثقافية فحسب، بل يساهم كذلك في تحسين القدرات الاجتماعية والاقتصادية. إذ يخلق التنوع والإبداع والتجديد حلقة مثمرة، في حين يمكن للفوارق أن تتقوى بشكل متبادل، مما يسبب نزاعات تهدد الكرامة الإنسانية والرعاية الاجتماعية. فما هي الأواصر التي يمكنها أن تجمع ما بين سكان هذه القارة ؟
تعتبر القيم الديمقراطية التي يدعو إليها مجلس أوروبا كونية، فهي ليست في حد ذاتها أوروبية محضة. غير أن أوروبا، ونظراً لما شهدته من فظاعات خلال القرن العشرين ، اقتنعت وبشكل خاص بالقيمة المؤسسة للكرامة الإنسانية لكل فرد. وهكذا وضعت الدول الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية نظاماً أكثر غنى لحماية حقوق الإنسان عبر الحدود الوطنية وفي متناول الجميع، وليس فقط مواطني البلدان. ويقر هذا المتن لحقوق الإنسان بكرامة كل إنسان فضلاً عن الحقوق التي يتمتع بها الأفراد بصفتهم مواطني دولة معينة.
وتقر ترسانة حقوق الإنسان بإنسانياتنا المشتركة وبالفردية الخاصة لكل واحد. ومن شأن الاندماج داخل وحدة بدون تنوع أن يؤدي إلى مجانسة قسرية وإلى فقدان الحيوية، في حين يمكن أن يصبح الاعتراف المتبادل والإدماج الاجتماعي أمراً مستحيلاً إذا لم يتم إخضاع التنوع إلى إطار شامل يتمثل في مبدأي الإنسانية المشتركة والتضامن. فإذا أردنا بناء هوية مشتركة، يجب أن ترتكز على أخلاقيات استضافة الآخر واحترام الكرامة المتساوية لكل فرد. ويعتبر الحوار والتواصل مع الآخرين عنصرين مرتبطين ارتباطاً جوهرياً بهذه القيم.
2. 3. المعايير والأدوات : إنجازات مجلس أوروبا خلال العقود الخمس الأخيرة(3)
تبرهن مختلف صكوك مجلس أوروبا، لاسيما الاتفاقيات والمواثيق التي تشرك كل الدول الأعضاء أو بعضها وكذلك التوصيات والإعلانات والبيانات، على الإجماع الأوروبي القوي حول القيم.
وجسدت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان )1950( التزام الدول بعد الحرب باحترام الكرامة الإنسانية. ونتج عن ذلك تأسيس المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والتي تفسر الاتفاقية في اجتهاداتها القضائية على ضوء الظروف الحالية. تضمن البروتوكول رقم 12 لاتفاقية حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية ) 2000( منعاً عاماً للتمييز. ويبين الميثاق الاجتماعي الأوروبي بوضوح )تم اعتماده سنة 1961 ومراجعته سنة 1996( أنه يجب أن يستفيد الكل وبدون تمييز من الحقوق الاجتماعية التي يحددها. وجاء في الإعلان حول المساواة ما بين النساء والرجال )1988( بأن التمييز على أساس الجنس في أي مجال يشكل حاجزاً أمام الاعتراف والتمتع بحقوق الإنسان والحريات الأساسية وممارستها. وأقرت الاتفاقية الأوروبية حول الوضع القانوني للعامل المهاجر )1977( بحق العمال المهاجرين في نفس المعاملة التي يحظى بها مواطنو الدول الأعضاء.
وتعترف الاتفاقية الثقافية الأوروبية )1954( ''بالإرث الثقافي المشترك'' من جهة، وبضرورة التعلم في مختلف الثقافات، في حين تشير الاتفاقية الأوروبية حول التلفزيون العابر للحدود إلى أهمية الإذاعة لتنمية الثقافة والتكوين الحر للآراء. ومن جانبها، توضح الاتفاقية الإطار حول قيمة الإرث الثقافي بالنسبة للمجتمع )2005( كيف أن معرفة هذا الإرث يمكن أن تشجع على إرساء الثقة والتفاهم.
ونجد مسألة تشجيع وحماية التنوع في إطار روح التسامح في صلب كل من الميثاق الأوروبي للغات المحلية أو لغات الأقليات )1992( والاتفاقية الإطار لحماية الأقليات الوطنية )1995(. وتتطرق كل من الاتفاقية الإطار الأوروبية حول التعاون العابر للحدود ما بين الجماعات والسلطات الترابية )1980( والاتفاقية حول مساهمة الأجانب في الحياة العامة المحلية )1992( والميثاق الأوروبي حول مساهمة الشباب في الشأن المحلي والإقليمي )2003، معدلة( إلى المساهمة في الحياة العامة على المستوى المحلي، بالإضافة إلى عمل جمعية السلطات المحلية والجهوية، لاسيما إعلان شتوتغارت الذي اعتمدته حول إدماج ''الأجانب'' )2003(. ويمنع بموجب الاتفاقية حول الاعتراف بالكفاءات المتعلقة بالتعليم الجامعي في المنطقة الأوروبية لمجلس أوروبا واليونسكو )1997( اعتبار عوامل خارجية، مثل المعتقدات والآراء ووضعية المرشحين، عند تقييم كفاءاتهم.
قبل إعلان فارو حول استراتيجية مجلس أوروبا لتنمية حوار الثقافات )2005(، وقع اختيار وزراء الثقافة على حوار الثقافات ليكون موضوع عمل في إعلان أوباتيجا )2003( في حين تدارس نظراؤهم في قطاع التربية مسألة التعليم المشترك بين الثقافات في إعلان أثينا )2003(. لقد أعطى الوزراء الأوروبيون المكلفون بقطاع الشباب، خلال اجتماعهم ببودابست سنة 2005، الأولوية للتربية على حقوق الإنسان والتضامن العالمي وتحويل الصراعات والتعاون ما بين الأديان. إضافة إلى ذلك، تبنت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، منذ الثمانينات، سلسلة واسعة من التوصيات والقرارات وعقدت مجموعة من الجلسات والحوارات حول مختلف مظاهر حوار الثقافات وبين الأديان(4). لقد مكن مخطط العمل، المعتمد خلال القمة الثالثة لرؤساء الدول والحكومات، من تطوير استراتيجيات لتدبير التنوع الثقافي والنهوض به، ضامناً في الآن نفسه انسجام مجتمعاتنا كما شجع حوار الثقافات بما في ذلك بعده الديني.
يعمل مجلس أوروبا بوصفه منظمة حكومية دولية وله نفوذ في باقي العالم من خلال آليات المتابعة وبرامج العمل وعبر تشجيع بعض السياسات والتعاون مع الشركاء الدوليين. وفي هذا الإطار، تعد اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح أداة مهمة حيث تقوم بمتابعة ظاهرة الميز العنصري وكل أشكال التعصب والتمييز التي تصاحبها في الدول الأعضاء، وتعد توصيات لسياسة عامة، بالإضافة إلى تعاونها مع منظمات المجتمع المدني لتحسيس المجتمع. وللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح اتصالات منتظمة مع كتابة لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري ومكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمن والتعاون بأوروبا ووكالة الحقوق الأساسية التابعة للاتحاد الأوروبي. وبشكل عام، يقوم مفوض حقوق الإنسان لمجلس أوروبا بدور مهم من خلال النهوض بالتربية والتحسيس بحقوق الإنسان واحترامها. كما كان للجنة الأوروبية من أجل الديمقراطية من خلال القانون )''لجنة البندقية''(، وهي عبارة عن جهاز استشاري تابع لمجلس أوروبا ينكب على القضايا الدستورية، دور رائد في تبني دساتير تتوافق ومعايير الإرث الدستوري الأوروبي، كما تحدثت في مناسبات عدة عن حقوق الأقليات. وأصبح ''المركز شمال ــ جنوب'' فضاء مهماً للحوار بين الثقافات وجسر يربط ما بين أوروبا والمناطق المجاورة.
2. 4. مخاطر اللا حوار
يجب تقدير مخاطر اللا حوار بما يكفي. فغياب الحوار يساهم بشكل كبير في تطوير صورة جاهزة عن الآخر وإرساء جو من الريبة المتبادلة والتوتر والقلق، وفي اعتبار الأقليات أكباش فداء ويساهم بشكل عام في تشجيع التعصب والتمييز. ويمكن لفشل الحوار داخل المجتمعات أو في ما بينها أن يشكل في بعض الأحيان أرضاً خصبة لظهور التطرف بل وحتى الإرهاب واستغلال البعض لذلك الوضع. وبالتالي يعتبر حوار الثقافات ضرورياً ما بين الجيران محلياً ودولياً.
إن إغلاق الباب أمام بيئة تتميز بتنوع كبير يمكن أن يوفر أماناً وهمياً كما يمكن للانطواء في الرفاهية المطمئنة ظاهرياً لجماعة حصرية أن يخلق أحادية في التفكير خانقة. يحرم غياب الحوار كل فرد من إمكانية الاستفادة من الانفتاح الثقافي الجديد الضروري للتنمية الشخصية والمجتمعية في ظل عالم العولمة. فالجماعات المنعزلة والمنطوية على نفسها تخلق جواً غالباً ما يكون معارضاً للاستقلالية الشخصية والممارسة الحرة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
لا يأخذ غياب الحوار بعين الاعتبار الدروس المستخلصة من خلال الإرث الثقافي والسياسي لأوروبا، فقد تميزت المراحل السلمية والمثمرة في تاريخ أوروبا دائماً بالإرادة القوية في التواصل مع الجيران والتعاون ما وراء الحدود. وغالباً ما تسبب ضعف الانفتاح على الآخر في كوارث إنسانية، فوحده الحوار يمكن الناس من العيش في إطار الوحدة والتنوع.
ـــــــــــــــ
(1) بشأن أهمية التعددية والتسامح والتفتح في المجتمعات الديمقراطية، راجع مثلاً قضية هانديسايد ضد المملكة المتحدة، الحكم الصادر بتاريخ 7 ديسمبر 1976، سلسلة أ رقم 24، 49.
(2) كورزيليك وآخرون ضد بولونيا )الغرفة الكبرى(، الحكم رقم 98/44158 بتاريخ 17 فبراير .2004
(3) انظر الملحق ــ جدول حول وضع المصادقات على الأدوات الاتفاقية الرئيسية.
(4) انظر مرجعيات التوصيات المهمة للجمعية البرلمانية في الملحق.
الإطار النظري
3. 1. مفهوم حوار الثقافات
يقصد بحوار الثقافات في الكتاب الأبيض عملية تبادل وجهات النظر بشكل متفتح ومحترم ما بين أشخاص ومجموعات ذات أصول وتقاليد إثنية وثقافية ودينية ولغوية مختلفة، في إطار روح التفاهم والاحترام المتبادلين. ومن بين العناصر الأساسية في هذه العملية، هناك الحرية والقدرة على التعبير فضلاً عن الإرادة وملكة الإنصات إلى الآخرين. ويساهم حوار الثقافات في الاندماج السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي وفي الانسجام ما بين مجتمعات مختلفة ثقافياً، كما يشجع الارتقاء بالمساواة والكرامة الإنسانية وإرساء الشعور بالأهداف المشتركة. ويسعى حوار الثقافات إلى التعريف بشكل أفضل بمختلف الممارسات والتصورات وكذلك إلى تقوية التعاون والمشاركة )أو حرية الاختيار( وتوفير الفرصة للأشخاص للتطور والتحول بالإضافة إلى تشجيع التسامح واحترام الآخر.
ويمكن للحوار بين الثقافات أن يخدم أهدافاً عدة في إطار الهدف الأصلي المتمثل في النهوض باحترام حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون. ويعد خاصية أساسية تميز المجتمعات الإدماجية حيث لا يهمش ولا يقصى أي فرد، بالإضافة إلى كونه يشكل أداة قوية للوساطة والمصالحة. فهو يجيب، بالتزام أساسي وبناء بعيد عن الانقسامات الثقافية، على الانشغالات المتعلقة بالتقسيم الاجتماعي واختلال الأمن مع تشجيع الاندماج والتماسك الاجتماعي. وفي هذا الإطار، تعد حرية الاختيار وحرية التعبير والمساواة والتسامح والاحترام المتبادل للكرامة الإنسانية مبادئ جوهرية. ويستدعي نجاح حوار الثقافات عدداً كبيراً من السلوكيات تهيئ لها ثقافة ديمقراطية ألا وهي رحابة الفكر وإرادة فتح الحوار وإفساح المجال للآخرين للتعبير عن آرائهم والقدرة على حل النزاعات بالطرق السلمية، فضلاً عن القدرة على الاعتراف بصحة حجة الآخر. ويساهم حوار الثقافات في تنمية الاستقرار الديمقراطي ومكافحة الأفكار الجاهزة والأحكام المسبقة في الحياة العامة والخطاب السياسي، بالإضافة إلى تسهيل تطوير تحالفات ما بين جماعات ثقافية ودينية وبهذا يمكن من تفادي النزاعات أو التخفيف من حدتها ــ بما في ذلك أوضاع ما بعد النزاعات و''النزاعات الجامدة''.
ولا يتعلق الأمر بحلول سهلة وجاهزة، فحوار الثقافات ليس الدواء الذي يشفي جميع الأمراض ولا بالحل لكل القضايا، لذلك يجب إدراك حدوده. وغالباً ما قيل، وهو قول صائب، بأن التحاور مع من يرفض الحوار يعد أمراً مستحيلاً، غير أن هذا لا يعفي المجتمعات المنفتحة والديمقراطية من واجبها في اقتراح إمكانيات للحوار باستمرار. في حين أن التحاور مع من هو مستعد لذلك ولا يشاطرنا ؟ أو لا يشاطرنا بشكل كامل ــ ''قيمنا'' يمكن أن يشكل نقطة انطلاقة لعملية تفاعل على المدى الطويل يمكن أن ينتج عنها تفاهم حول أهمية قيم حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون وتطبيقها على أرض الواقع.
3. 2. بناء الهوية في بيئة متعددة الثقافات
إن الكرامة الإنسانية للفرد هي أساس المجتمع إلا أن الفرد ليس في حد ذاته فاعلاً اجتماعياً متجانساً. ومن المتعارف عليه أن الهوية ليس ما يماثلنا بالآخر بل ما يميزنا في فرديتنا. فالهوية هي مجموعة عناصر مركبة تتأثر بسهولة بسياقها.
إن الاختيار الحر لكل فرد لثقافته أمر أساسي، فهو جانب أساسي من جوانب حقوق الإنسان. ويمكن لكل شخص، في آن واحد أو عبر مراحل مختلفة من حياته، اختيار الانخراط في عدة أنظمة مرجعية ثقافية مختلفة. ومع أن كل فرد، إلى حد ما، هو نتاج إرثه وأصوله الاجتماعية في الديمقراطيات المعاصرة، إلا أنه من حق كل واحد إغناء هويته باختياره لانتماءات ثقافية متعددة. فما من أحد يجب أن يظل حبيس مجموعة أو جماعة أو نظام فكر أو تصور، بل على العكس يجب أن يكون لكل فرد الحرية في التخلي عن خيارات الماضي وتبني خيارات جديدة ما دامت هذه الأخيرة تتوافق والقيم الكونية لحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون. ويشكل الانفتاح والتقاسم المتبادل مكونين للانتماء الثقافي المتعدد، فكلاهما يعدان قاعدتين للتعايش ما بين الأفراد والجماعات التي لها كامل الحرية في ممارسة ثقافات من اختيارها شريطة احترام الآخر.
وهكذا، فإن حوار الثقافات مهم في تدبير الانتماء الثقافي المتعدد في بيئة متعددة الثقافات، فهو يمثل آلية تمكن الشخص باستمرار من إيجاد توازن جديد للهوية يستجيب للتفتح والتجارب الجديدة ويضيف أبعاد جديدة للهوية دون فقدان جذوره. يساعدنا حوار الثقافات في تجاوز عقبات السياسات المبنية على الهوية وفي الانفتاح بشكل دائم على متطلبات المجتمعات العصرية.
3. 3. المقاربات السابقة للتنوع الثقافي
في أوج سياسة ''الدولة ــ الوطن'' التي كانت تنهجها أوروبا ما بين حوالي 1870 و1945، كانت هناك فكرة سائدة مفادها أن كل الأفراد الذين يعيشون داخل حدود دولة ما يجب عليهم اتباع نموذج الحياة السائد الذي كان يعمل كقاعدة للتكييف الاجتماعي للأجيال المتعاقبة لاسيما من خلال طقوس قومية بل وفي بعض الأحيان طقوس التعصب القومي، ضمن أمور أخرى. غيرأن أوروبا عرفت خلال القرون الماضية تجارب أخرى أكثر إيجابية، خلال بعض المراحل من تاريخ أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية على سبيل المثال، تساعدنا على فهم كيف كانت ثقافات وديانات مختلفة تتعايش بسلام في إطار التسامح والاحترام المتبادلين.
وفي ما سيصبح الجهة الغربية لأوروبا المنقسمة ما بعد الحرب، تم ربط تجربة الهجرة بتصور جديد للنظام الاجتماعي يعرف باسم التعددية الثقافية. وكان هذا النموذج يوصي بالاعتراف السياسي بما كان ينظر إليه على أنه نظام قيم مختلف )نظام الجماعات الأقلية( على غرار نظام الأغلبية ''المضيفة''. وإذا كان يبدو أنه يبتعد عن نموذج الإدماج إلا أن نموذج التضامن الطائفي غالباً ما كان يتقاسم معه نفس التصور المبسط لمجتمع حبيس تعارض ما بين الأغلبية والأقلية ولم يكن يختلف عنه إلا في دفاعه عن انفصال الأقلية وعدم مماثلتها بالأغلبية.
لقد استبعد إعلان أوباتيجا )2003( هذا التعارض ما بين الأغلبية والأقلية. وفي تعريفه ''للتنوع الثقافي''، أكد الإعلان بأنه »لا يمكن تطبيق هذا المبدإ حصرياً انطلاقاً من تعارض ''الأغلبية'' و''الأقلية''، لأن هذا التصور يشير بالأصابع إلى الثقافات والجماعات ويصنفها ويسمها إلى درجة أنه يتم ربط السلوكيات الاجتماعية والصور الثقافية الجاهزة بوضعية كل واحدة من تلك الجماعات المختلفة«. ولا يمكن اعتبار هويات تتقاطع في بعض المظاهر بأنها متناقضة بل على العكس هي مؤهلات من شأنها أن تكشف عن نقط توافق ممكنة.
رغم كل النوايا الحسنة التي كانت تحركه، فالعديد يعتبرون بأن التضامن الطائفي قد شجع على التمييز حيال الجماعات وانعدام التفاهم المتبادل كما ساهم في إضعاف حقوق الأفراد )لاسيما النساء( داخل الجماعات الأقلية التي ينظر إليها كفاعلة جماعية. يجب الإقرار بالتنوع الثقافي للمجتمعات الحالية كمسألة تجريبية. لكن، وخلال الاستشارة، ذكرت الدول التي تم استفسارها وفي مناسبات عدة بأن التضامن الطائفي لم يعد سياسة ملائمة.
لا يطبق أي من النموذجين، المماثلة والتضامن الطائفي، بشكل كامل في أي من هذه الدول. وتنضاف عناصر كلا النموذجين إلى بعض مظاهر النظام البين ثقافي الناشئ الذي يدمج أحسن عناصر كلا النموذجين. فهو يأخذ من المماثلة الأولوية التي تعطيها للفرد ومن التضامن الطائفي اعترافه بالتنوع الثقافي ليضيف إليهما عنصراً جديداً أساسياً للاندماج والتماسك الاجتماعي ألا وهو الحوار على أساس الكرامة المتساوية والقيم المشتركة.
3. 4. شروط حوار الثقافات
3. 4. 1. حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون
تعتبر القيم الكونية التي يدافع عنها مجلس أوروبا شرطاً أولياً للحوار بين الثقافات. بالفعل، يعد الحوار مستحيلاً في غياب احترام الكرامة المتساوية للأفراد وحقوق الإنسان وسيادة القانون والمبادئ الديمقراطية. إن هذه القيم، خاصة احترام حرية التعبير والحريات الأخرى الأساسية هي ما يضمن حواراً خالياً من كل هيمنة، تحكمه قوة الحجة وليس حجة القوة.
غالباً ما نتحدث، عندما يتعلق الأمر بالقضايا البين ثقافية، عن الحقوق الأساسية المتنافسة، لذلك يجب إيجاد توازن بينها. وتبين اجتهادات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وأنشطة أجهزة المتابعة، مثل لجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح أو اللجنة الاستشارية للاتفاقية الإطار لحماية الأقليات الوطنية، كيفية الوصول إلى هذا التوازن في التطبيق.
لا يمكن التحجج بالتقاليد الإثنية أو الثقافية أو الدينية أو اللغوية لمنع الأفراد من ممارسة حقوق الإنسان أو المساهمة بكل مسؤولية في الحياة المجتمعية. وينطبق هذا المبدأ لاسيما في ما يخص حرية عدم تكبد تمييز مبني على أساس الجنس أو عوامل أخرى وكذلك حقوق ومصالح الأطفال والشباب وحرية ممارسة أو عدم ممارسة دين أو عقيدة معينة. ولا يمكن في أي حال من الأحوال، وكيف ما كان السياق الثقافي، تبرير انتهاكات حقوق الإنسان مثل الزواج الإجباري أو ''جرائم الشرف'' أو عمليات تشويه الأعضاء التناسلية(1). كما أنه لا يمكن اتخاذ قواعد ''ثقافة سائدة'' حقيقية أو خيالية لتبرير التمييز أو خطابات الكراهية أو أي شكل من أشكال الميز المبني على أساس الدين أو العرق أو الإثنية أو هوية أخرى.
تعد الديمقراطية أساس نظامنا السياسي ويتم تقدير المواطنين ليس فقط بصفتهم أشخاصاً اجتماعيين ومساهمين ومستفيدين من رخاء الوطن بل كذلك بصفتهم فاعلين سياسيين. وتتقدم الديمقراطية لأنها تساعد الأفراد على إيجاد أنفسهم داخل المجتمع الذي يعيشون فيه ولأنها تضمن ممارسة شرعية للسلطة واتخاذ القرارات. ولعل التطور الذي عرفه مجلس أوروبا خلال العقدين الأخيرين يشهد بصفة خاصة على قوة الديمقراطية. ويجب أن يقر الحوار النقدي والبناء ــ وهو قاعدة في حد ذاتها ديمقراطية في العمق ــ بقيمة مبادئ ديمقراطية أخرى مثل التعددية والاندماج والمساواة. ومن المهم أن يأخذ الحوار بعين الاعتبار روح الثقافة الديمقراطية ومكوناتها الأساسية : الاحترام المتبادل ما بين المشاركين وإرادة كل واحد البحث عن نقط تفاهم والقبول بها.
وتوفر القواعد الأساسية لأولوية القانون في المجتمعات الديمقراطية إطاراً يمكن للحوار بين الثقافات أن يتطور فيه بحرية، كما تضمن الفصل الواضح ما بين السلطات والأمن القانوني ومساواة الكل أمام القانون. كما تحول دون اتخاذ السلطات العمومية لقرارات تعسفية وتمييزية بالإضافة إلى أنها تمكن الأشخاص الذين انتهكت حقوقهم من اللجوء إلى المحاكم لطلب جبر الضرر.
3. 4. 2. كرامة متساوية واحترام متبادل
يستدعي حوار الثقافات تبني منهج تأملي يمكن كل واحد من رؤية نفسه انطلاقاً من وجهة نظر الآخرين. ولهذا الغرض، من الضروري وضع نظام ديمقراطي، على أساس قيم مجلس أوروبا، يتميز باحترام الفرد كإنسان ويعتبر بأن الإنسانية محكومة بمعايير أخلاقية موحدة وبالاعتراف المتبادل )حيث وضع القيمة المتساوية معترف به من لدن الجميع( والمعالجة الحيادية )حيث تخضع كل الطلبات لقواعد يمكن أن يتقاسمها الجميع(.
وعند هذا المستوى، تتميز بوضوح المقاربة المبنية على تعدد الثقافات عن النماذج السابقة. فبعكس المماثلة، تؤكد المقاربة البين ثقافية بأن على السلطات المحلية الالتزام بالحياد ــ عوض اتخاذ نظام قيم الأغلبية كقاعدة وحيدة ــ وذلك لتفادي التوترات ما بين الجماعات. لكنها تدعو، وعلى عكس التضامن الطائفي، إلى تبني قواعد مشتركة، وتقصي النسبية الأخلاقية. وخلافاً للنموذجين السابقين، تقر المقاربة البين ثقافية بالدور الأساسي للقطاع الجمعوي داخل المجتمع المدني حيث يمكن للحوار بين الثقافات، على أن يتم الاعتراف المتبادل، أن يأتي بالحل لمشاكل الحياة اليومية التي ليس بإمكان الحكومات حلها وحدها.
تعد المساواة والاحترام المتبادل عناصر مهمة مؤسسة للحوار بين الثقافات وضرورية لتجاوز المشاكل التي تواجه عملية تطبيقه. يمكن للتوترات الاجتماعية أن تظهر في المجال الثقافي في غياب أي تقدم نحو المساواة مع أن أسبابها الرئيسية يمكن أن تتجلى في أشياء أخرى كما يمكن أن تستعمل الهويات الثقافية كأدوات وسم.
3. 4. 3. المساواة بين الجنسين
تعتبر المساواة ما بين النساء والرجال قضية جوهرية في المجتمعات النامية كما أوضح ذلك المؤتمر الوزاري الأوروبي الخامس حول المساواة ما بين النساء والرجال )2003(. ويتعلق الأمر بعنصر حاسم في الديمقراطية، فالمساواة بين الجنسين جزء من حقوق الإنسان. ويعتبر التمييز الجنسي عقبة أمام التمتع بحقوق الإنسان والحريات. ويعد احترام الحقوق الأساسية للمرأة قاعدة لا تفاوض فيها بخصوص النقاش حول التنوع الثقافي.
ولكن يجب أن لا تفضي مناهضة عدم المساواة بين الجنسين إلى صور جاهزة خادعة. فمن الضروري التوضيح بأنه ما من شيء يبرر الربط ما بين ''الجماعات الأقلية'' و''المساواة ما بين الجنسين'' كما لو أن كل شيء مثالي داخل جماعة ''الاستقبال'' وأن كل ما يتعلق بالأقليات وبأشخاص يمارسون بعض الديانات يطرح مشكلاً. فإذا كانت تجارب النساء تتشابه أحياناً من جماعة إلى أخرى، فبالضبط لأنه ما من جماعة تحتكر المساواة أو عدم المساواة ما بين الجنسين.
تضفي المساواة ما بين الجنسين بعداً إيجابياً على حوار الثقافات. فتعقيد الهوية الفردية يمكن من قيام أشكال من التضامن غير ممكنة من منظور مبني على القولبة النمطية. فانعدام المساواة ما بين الجنسين بوصفه قضية عامة يعني في حد ذاته أن المشاريع المشتركة بين الثقافات التي تساهم فيها نساء تنتمي إلى كل من ''الأقلية'' والأغلبية ''المضيفة'' بوسعها أن تستفيد من تجارب مشتركة.
وتشير بوضوح استراتيجية مجلس أوروبا للانسجام الاجتماعي المعدلة إلى كون المساواة بين النساء والرجال التزام جوهري ذو أهمية خاصة. وتدعو إلى ''إدماج منظور النوع'' في مجال التماسك الاجتماعي وفي كل مظاهر حوار الثقافات.
3. 4. 4. رفع الحواجز أمام حوار الثقافات
هناك عقبات عديدة تقف أمام حوار الثقافات، البعض منها يعود إلى صعوبة التواصل بلغات متعددة وأخرى مرتبطة بالسلطة والسياسة : فالتمييز، الفقر والاستغلال ــ التي تمس بكل قسوة على الخصوص أفراد جماعات مهمشة ومحرومة ــ كلها حواجز بنيوية تعوق الحوار. وفي العديد من المجتمعات الأوروبية، توجد أيضاً جماعات ومنظمات سياسية تدعو إلى كره ''الآخر''، أو ''الأجنبي'' أو بعض الهويات الدينية. ويرفض التمييز، وكره الأجانب والتعصب وكل أشكال التمييز فكرة الحوار نفسها ويستهدفها بشكل دائم.
3. 5. البعد الديني
يضم الإرث الثقافي الغني لأوروبا تشكيلة من التصورات الدينية والعلمانية حول الغاية من الحياة. وقد كان لكل من المسيحية واليهودية والإسلام ــ كل حسب نظام تأويلاته الخاص ــ تأثير عميق على قارتنا. لكن أوروبا عرفت، سواء في الماضي البعيد أو القريب، نزاعات قامت فيها العقيدة بدور القاسم المشترك.
وتعتبر حرية التفكير والوعي والدين إحدى أسس المجتمع الديمقراطي ويضمنها البند 9 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وتعد حرية الدين أحد أهم العناصر المرتبطة بهوية المؤمنين وتصورهم للحياة بل وكذلك هوية الملحدين واللاأدريين والارتيابيين واللا مبالين. وإلى جانب ضمانه لهذه الحرية، ينص البند 9 على أن طرق التعبير عن هذه الحرية يمكن أن تقيد بشروط محددة. وتدارست المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مسألة الرموز الدينية في المجال العام، خاصة في ميدان التربية(2). وفي غياب إجماع للدول الأعضاء حول القضايا المتعلقة بالدين، تترك المحكمة غالباً للدول ''هامش تقدير'' مهم في هذا المجال، رغم محدوديته.
وتتقارب في معظمها أولويات مجلس أوروبا وأولويات الجماعات الدينية : حقوق الإنسان، مواطنة ديمقراطية، النهوض بالقيم، السلم، الحوار، التربية والتضامن. وأبانت الاستشارة كذلك عن إجماع حول مسؤولية الجماعات الدينية في المساهمة، عن طريق الحوار بين الديانات، في تقوية التفاهم ما بين الثقافات.
ويفترض الدور المهم للجماعات الدينية في مجال الحوار بدل جهود ما بين الجماعات الدينية والسلطات العمومية. وقد سبق لمجلس أوروبا أن تدخل في هذا الإطار عبر مبادرات عدة للجمعية البرلمانية ولقاءات مفوض حقوق الإنسان الذي جمع منذ سنة 2000 ممثلي الجماعات الدينية بهدف إشراكهم في أنشطة مجلس أوروبا في مجال حقوق الإنسان. وتعتبر ممارسة الديانة مكوناً من الحياة المعاصرة. ومن هذا المنطلق، لا يمكن ولا يجب إقصاؤها من دائرة اهتمام السلطات العمومية، على الرغم من أنه على الدولة الحفاظ على دورها المحايد لضمان ممارسة مختلف الديانات والعقائد والمعتقدات(3). ودعا ''إعلان منتدى لا فولكا'' )2006((4) مجلس أوروبا إلى إجراء ''حوار مفتوح وشفاف ومنتظم'' مع المنظمات الدينية مع الإقرار بكون هذا الإجراء يجب أن يرتكز على قيم ومبادئ كونية. ويمكن لهذا المسلسل الذي سيباشر فيه لهذا الغرض أن يسترجع نموذج المائدة المستديرة المعتمد من طرف عدد من الدول الأعضاء لتيسير الحوار ما بين الجماعات الدينية. ويؤكد إعلان سان مارين )2007((5) حول البعد الديني للحوار بين الثقافات بأنه يمكن للديانات ترقية الحوار وإغناؤه. ويوافق سياق هذا الحوار طموحاً مشتركاً لحماية كرامة كل إنسان بالنهوض بحقوق الإنسان وإقرار المساواة ما بين النساء والرجال ودعم التماسك الاجتماعي وتشجيع التفاهم والاحترام المتبادلين. وفي إعلان سان مارين، رحب ممثلو الجماعات الدينية والمجتمع المدني الحاضرون باهتمام مجلس أوروبا في هذا المجال وأشاروا إلى أن مجلس أوروبا سيحافظ على حياده اتجاه الديانات مع الدفاع عن حرية الفكر والوعي والدين وعن حقوق وواجبات كل المواطنين وعن استقلالية الدولة والديانات. وارتأوا أنه من الضروري خلق منتديات ملائمة لدراسة أثر الممارسة الدينية على مجالات السياسة العامة الأخرى مثل التربية والصحة بدون تمييز وفي إطار احترام حقوق غير المؤمنين. إن لغير المؤمنين نفس الحق في المساهمة في النقاشات حول الأسس الأخلاقية للمجتمع، إلى جانب ممثلي الديانات والمشاركة في منتديات حول حوار الثقافات.
نظم مجلس أوروبا، في 8 أبريل 2008، على سبيل التجربة لقاءاً حول البعد الديني للحوار بين الثقافات تحت عنوان ''تعليم الشؤون الدينية والمتعلقة بالمعتقدات. وسيلة معرفة الشؤون الدينية والمتعلقة بالمعتقدات داخل نظام التربية، مساهمة في التربية على المواطنة الديمقراطية، وحقوق الإنسان وحوار الثقافات''. وشارك في هذا ''اللقاء'' الدول الأعضاء في مجلس أوروبا والدول الملاحظة وشركاء مؤسساتيون للمنظمة واللجنة الأوروبية وممثلو الديانات المتواجدة في أوروبا وممثلو عقائد أخرى وممثلو منظمات غير حكومية دولية ومنظمات غير حكومية وخبراء بالإضافة إلى ممثلين لوسائل الإعلام. وكان الهدف الأساسي من هذا الحدث المستجد والتجريبي هو النهوض بالقيم الأساسية لمجلس أوروبا التي تكمن في احترام حقوق الإنسان والنهوض بالديمقراطية وأولوية القانون وتقويتها، مساهماً بذلك في تشجيع الاحترام والمعرفة المتبادلة بالإضافة إلى التسامح والتفاهم المتبادل داخل المجتمع الأوروبي. وتم إشراك ممثلين عن الديانات وفاعلين آخرين في المجتمع المدني بما فيهم ممثلين لعقائد أخرى، مساهمين في حوار مفتوح وشفاف حول موضوع مرتبط بهذه القيم. ولم يكن الهدف هو فتح نقاش لاهوتي ولا وضع إطار للحوار بين الديانات.
وإلى جانب تشجيع الحوار ما بين السلطات العمومية والجماعات الدينية، يجب أن يتطور الحوار كذلك ما بين الجماعات الدينية نفسها )حوار الأديان(. وغالباً ما اعترف مجلس أوروبا بأهمية الحوار بين الأديان )الذي لا يدخل مباشرة في إطار اختصاصاته( في إطار حوار الثقافات، وشجع الجماعات الدينية على النهوض بحقوق الإنسان والديمقراطية وأولوية القانون في إطار أوروبا متعددة الثقافات. يمكن للحوار بين الأديان أن يساهم أيضاً في دعم الإجماع داخل المجتمع حول حلول للمشاكل الاجتماعية. يعتبر مجلس أوروبا كذلك بأن الحوار ضروري داخل الجماعات الدينية والتيارات الفكرية الفلسفية )حوار داخل الديانات ونفس العقيدة( لاسيما لتمكين السلطات العمومية من التواصل مع الممثلين المرخصين للديانات والعقائد التي ترغب في أن يعترف بها بموجب القانون الوطني.
ـــــــــــــــ
(1) فيما يخص عمليات تشويه الأعضاء التناسلية انظر كولينس وأكازيبي، السويد، قرار رقم 05/23944 بتاريخ 8 مارس .2007
(2) انظر مثلاً قضية كرتلمس ضد تركيا، قرار رقم 01/65500 بتاريخ 24 يناير .2006 ليلى شاهين ضد تركيا، قرار بتاريخ 10 نونبر 2005 )الغرفة الكبرى(. وقضية دهلب ضد سويسرا، قرار بتاريخ 15 فبراير .2001
(3) انظر مثلاً قضية ليلى شاهين ضد تركيا، قرار رقم 98/4474 بتاريخ 10 نونبر 2005، فقرة .107
(4) الوثيـقة النـهائية للـندوة الـدوليـة حـول ''حـوار الثـقافات والتعاون فيما بين الأديان'' )منتدى لا فولكا( نيجني موفكورود/فدرالية روسيا، 9-7 شتنبر 2006 )يمكن مراجعتها على العنوان التالي : .(www.coe.int/dialogue
(5) الإعلان النهائي للندوة الأوروبية حول ''البعد الديني للحوار بين الثقافات''، سان مارين، 23 و24 أبريل 2007 )متوفر على الموقع : .(www.coe.int/dialogue
خمس مقاربات للعمل السياسي من أجل النهوض بحوار الثقافات
يرتكز النهوض بحوار الثقافات على خمسة أبعاد منفصلة ولكن مرتبطة فيما بينها وتخص كل الأطراف المشاركة. وترتبط هذه المسألة بالحكامة الديمقراطية للتنوع الثقافي. ويمكن تحقيق النهوض بحوار الثقافات عبر المشاركة والمواطنة الديمقراطية، كما يتطلب اكتساب كفاءات بين ثقافية ويستدعي وجود فضاءات حوار مفتوحة. وأخيراً، يجب إنجاز هذا الأمر على المستوى الدولي. ولقد تم اختبار عدة مبادرات بنجاح في الأبعاد الخمس السابقة الذكر(1).
4. 1. حكامة ديمقراطية للتنوع الثقافي
4. 1. 1. ثقافة سياسية تبرز قيمة التنوع
تعد القيم المشتركة للديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية وأولوية القانون والتعددية والتسامح وعدم التمييز والاحترام المتبادل حجر الزاوية لثقافة سياسية تبرز قيمة التنوع.
ولا يمكن لثقافة التنوع أن تتطور إلا إذا وفقت الديمقراطية ما بين قاعدة الأغلبية وحقوق الأفراد المنتمين إلى الأقليات. وتعتبر مسألة فرض إرادة الأغلبية على الأقلية دون ضمان الحماية الفعلية لحقوق الجميع متعارضة مع مبادئ الإرث الدستوري المشترك لدول أوروبا. ولا يمكن لمجتمع أوروبي مصمم على التوفيق ما بين الوحدة والتنوع أن يكون مجتمعاً »يحظى فيه الفائز بكل شيء« بل يجب أن يسعى إلى نشر قيم المساواة والاحترام المتبادل في الميدان السياسي. ولا يقصد بالديمقراطية بكل بساطة بأن وجهة نظر الأغلبية هي التي يجب أن تطغى : لذلك يجب إيجاد توازن يضمن تعاملاً ملائماً ومنصفاً لكل الأفراد المنتمين للأقليات ويمنع أي تعسف من موقع الهيمنة(2).
إن إعداد ثقافة سياسية تشجع على التعددية الثقافية مهمة موجبة، حيث يستدعي ذلك وجود نظام تربوي يشجع على تطوير كفاءات التفكير النقدي والتجديد بالإضافة إلى فضاءات يمكن للأشخاص المشاركة والتعبير بداخلها.
يجب تكوين عناصر حفظ الأمن والمسؤولين السياسيين والأساتذة والمجموعات المهنية الأخرى بالإضافة إلى زعماء المجتمع المدني بطريقة تمكنهم من أداء مهامهم داخل جماعات تتميز بتنوعها الثقافي. يجب أن تكون الثقافة فعالة وتتميز بالتجريب. ووسائل الإعلام مدعوة لنشر معلومات موضوعية وأفكار جديدة وإعادة النظر في الأفكار الجاهزة. فمن الضروري وجود مبادرات وفاعلين متعددين ويتعين تدخل المجتمع المدني بقوة.
4. 1. 2. حقوق الإنسان والحريات الأساسية
تحدد حقوق الإنسان إطاراً أساسياً لممارسة حوار الثقافات. ويعد حق حرية التفكير والتعبير وحرية الدين وحرية الاجتماع والتجمع وكذلك حق احترام الحياة الخاصة والحياة العائلية، من أهم مقتضيات الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. يجب أن يكون من الممكن ممارسة كل الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقية السابقة الذكر وبدون أي شكل من أشكال التمييز. ويحتوي البروتوكول 12 من الاتفاقية على بند عام حول عدم التمييز. وتتضمن مجموعة الحقوق، بالإضافة إلى الحقوق المدنية والسياسية، الحقوق السوسيو ــ اقتصادية التي يضمنها الميثاق الاجتماعي الأوروبي والذي يتطرق لعدد من القضايا يمكن أن تمس خاصة أشخاص منتمين لمجموعات مهمشة )الولوج لسوق الشغل، التربية، الحماية الاجتماعية، الصحة والسكن((3)، بالإضافة إلى الحقوق الثقافية المنصوص عليها في عدد من المواثيق والاتفاقيات مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية )1966(.
وتعد حرية التعبير، المنصوص عليها في البند 10 فقرة 1 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، شرطاً أساسياً للمشاركة في حوار الثقافات. ويمكن لممارسة هذه الحرية، التي تتكون من واجبات ومسؤوليات، أن تقيد ببعض الشروط المحددة في البند 10 فقرة 2 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. لقد أصبح تعدد ''خطابات الكراهية'' موضوع اهتمام متزايد من قبل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والتي عرفت، في اجتهادها، حالة بحالة الحد الذي لا يمكن عنده ممارسة حرية التعبير.
وتعتبر بعض أشكال التعبير، اعتباطياً، مهينة وجارحة إلى درجة أنها يمكن أن تهدد وجود ثقافة التسامح نفسها. فمن شأنها ليس فقط أن تمس بكرامة أفراد الجماعات الأقلية وبشكل غير مقبول بل أيضاً يمكن أن تعرضهم للتخويف والتهديد. ويتعارض التحريض على الكراهية المبنية على التعصب مع احترام الحقوق والحريات الأساسية التي تضمنها اتفاقية واجتهاد المحكمة الأوروبية.
ولكن المحكمة رفعت المستوى في ما يخص القيود المفروضة على حرية التعبير، حيث دعت إلى حماية حتى الأقوال ''الصادمة أو المزعجة''(4)، وهو ما يترك مثلاً بعض الحرية لانتقاد دين الآخر )كنظام أفكار يمكن أن نختار الانخراط فيه(. وتأخذ المحكمة بعين الاعتبار تأثير هذه الأقوال والسياق الذي قيلت فيه، مع تحديد لاسيما إذا ما كانت تساهم في خلق نقاش عمومي متعدد حول مواضيع ذات أهمية عامة.
وبالنسبة لوسائل الإعلام، تعتبر حرية التعبير مبدأً أساسياً، رغم أنه للصحفيين كذلك مسؤوليات وواجبات معينة. بالفعل، هم أحرار في التعبير عن أرائهم، بما في ذلك أحكام القيمة، حول مواضيع ذات أهمية عامة ولكن من واجبهم كذلك استقاء ونشر أخبار موضوعية. ويجب تحسيس مهنيي الإعلام بضرورة إرساء أسس حوار وتعاون بين ثقافي يتعدى الحواجز الإثنية والثقافية والدينية واللغوية من أجل النهوض بثقافة التسامح والتفاهم المتبادل، مع إبقاء دورهم في إخبار العموم نصب أعينهم.
4. 1. 3. من المساواة في الفرص إلى المساواة في التمتع بالحقوق
يهدف ''النموذج الاجتماعي الأوروبي'' المذكور في استراتيجية التماسك الاجتماعي المعدلة، إلى ضمان مساواة حقيقية في الفرص. إن أكثر الأشخاص حاجة لحماية حقوقهم هم غالباً أقل الناس قدرة على فرضها. لذلك يجب مرافقة الحماية القانونية للحقوق بتدابير محددة لسياسة اجتماعية تهدف إلى ضمان ولوج كل فرد، وبشكل عملي، إلى حقوقه. وينص الميثاق الاجتماعي الأوروبي والاتفاقية الأوروبية حول الوضع القانوني للعامل المهاجر مثلاً على ضرورة التزام الدول الأطراف بضمان معاملة العمال المهاجرين وذويهم المتواجدين بشكل قانوني فوق أراضيهم بنفس الطريقة التي يعامل بها المواطنون في مختلف السياقات الاقتصادية والاجتماعية.
وفضلاً عن مبدإ عدم التمييز، فالدول مدعوة كذلك إلى اتخاذ تدابير إيجابية لإلغاء الفوارق المرتبطة بالتمييز الذي يمارس على أفراد مجموعات مهمشة. وفي المجال العام، يجب على سلطات الدولة فرض منع التمييز وبشكل صارم، يترجم حياد الدولة فيما يخص القضايا الثقافية والدينية. ولكن المساواة الشكلية ليست دائماً كافية ويستدعي النهوض بالمساواة الحقيقية، عند اللزوم، تبني تدابير خاصة تتوافق مع مبدإ عدم التمييز. وفي بعض الحالات، يمكن أن يؤدي غياب تعامل مميز لإزالة فارق ما، بدون مبرر موضوعي ومعقول، إلى التمييز(5).
ويمكن أن يكون ضرورياً، إلى حد ما، اتخاذ إجراءات عملية من أجل أخذ التنوع بعين الاعتبار(6). ولا يجب أن تلحق مثل هذه التدابير التوفيقية الضرر بحقوق الآخرين أو خلق صعوبات تنظيمية غير متناسقة أو التسبب في نفقات مفرطة.
4. 2. مواطنة ديمقراطية ومشاركة
تفيد المواطنة، في مفهومها الواسع، حق بل مسؤولية المشاركة، إلى جانب الآخرين، في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والشؤون العامة(7) للجماعة. وتعتبر أساسية للحوار بين الثقافات، فهي تدعونا إلى اعتبار الآخرين، ليس بطريقة جامدة ــ على أنه ''الآخر'' ــ، بل كمواطنين وأنداد لنا. وتتطلب عملية تيسير الوصول إلى المواطنة اتخاذ تدابير قانونية وتشريعية بالإضافة إلى أخرى تربوية. وتيسر المواطنة المشاركة المدنية كما تساهم في إبراز قيمة إسهام الوافدين الجدد الذين يدعمون بدورهم التماسك الاجتماعي.
تساهم المشاركة الفعالة لكل القاطنين في حياة الطائفة المحلية في ازدهار هذه الأخيرة وتيسر اندماجها. ويعتبر الحق المخول للأجانب القاطنين بصفة قانونية في بلدة أو إقليم ما بالمشاركة في الانتخابات المحلية والإقليمية وسيلة للنهوض بالمشاركة.
وفي إطار الاتفاقية الأوروبية حول الجنسية )1997(، تلتزم الدول الموقعة بتوفير إمكانية للتجنيس بالنسبة للأشخاص القاطنين بصفة قانونية واعتيادية على أراضيها، وتحديد مدة عشر سنوات كمدة إقامة قصوى قبل تقديم طلب التجنيس. وليس من الضروري، لهذا الغرض، أن يكون التجنيس مشروطاً بالتخلي عن جنسية البلد الأصل. ومن شأن حق الأطفال الأجانب في الحصول على جنسية بلد المولد والإقامة في تيسير اندماجهم بشكل قوي.
أعربت لجنة الوزراء عن قلقها إزاء عدم الالتزام السياسي والمدني المتزايد وضعف الثقة في المؤسسات الديمقراطية وتزايد عدد السلوكيات العنصرية والمعادية للأجانب. ولكن تبدو التوجهات التي تصب في نفس السياق محدودة في أوروبا. وتقترن المستويات العليا للثقة الاجتماعية والالتزام داخل منظمات المجتمع المدني، التي تم تسجيلها في بعض الدول الأعضاء، بنظام حكم ديمقراطي، تميزه سلطة عمومية محايدة ترتكز على أولوية القانون، وتيسر المشاركة. ويمكن للحوار بين الثقافات أن يقرب فكرة الديمقراطية من المواطنين، بالمساهمة في تقوية الثقة الاجتماعية وبتيسير مشاركة أفراد الجماعات الأقلية التي تعتبر مهمشة.
وتقوم السلطات المحلية والجهوية بدور حاسم في هذا السياق. وتؤكد اتفاقية مجلس أوروبا حول مشاركة الأجانب في الحياة العامة المحلية على ضرورة دعم المشاركة. ومن الجدير مقاومة إغراء تعيين مسؤولين ذكور عن الأقليات من الجيل الأول من المهاجرين كمخاطبين وحيدين، بل يجب أخذ التنوع بعين الاعتبار بالإضافة إلى العلاقات الاجتماعية الموجودة داخل الجماعات الأقلية وإشراك الشباب بصفة خاصة.
4. 3. تعلم وتدريس الكفاءات البين ثقافية
لا يمكن التمكن بصفة تلقائية من الكفاءات الضرورية للحوار بين الثقافات، بل يجب أن تكتسب وتمارس ويحافظ عليها طيلة الحياة. ويمكن للسلطات العمومية ومهنيي قطاع التربية ومنظمات المجتمع المدني والجماعات الدينية ووسائل الإعلام وباقي المتدخلين في القطاع التربوي، العاملين في مختلف السياقات المؤسساتية وفي كل المستويات أن تقوم بدور حاسم في هذا الإطار لمواصلة الأهداف والقيم الأساسية التي يدافع عنها مجلس أوروبا وكذلك لدعم حوار الثقافات. ويعتبر التعاون البين مؤسساتي حاسماً لاسيما مع الاتحاد الأوروبي واليونسكو والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم )ألكسو( والشركاء الآخرين النشيطين في هذا الميدان.
4. 3. 1. مجالات الكفاءات الرئيسية : المواطنة الديمقراطية وتعلم اللغات والتاريخ
تعتبر التربية على المواطنة الديمقراطية أساسية ليس فقط لسير مجتمع حر ومتسامح ومنفتح وإدماجي، بل كذلك للانسجام الاجتماعي والتفاهم المتبادل والتضامن وحوار الثقافات وبين الأديان ولإرساء المساواة ما بين النساء والرجال. وتشمل كل الأعمال التربوية النظامية وغير النظامية، بما في ذلك التعليم المهني والأسرة والجماعات المرجعية، التي تمكن الفرد من التصرف كمواطن نشيط ومسؤول محترم للآخرين. وتغطي التربية على المواطنة الديمقراطية التربية المدنية والتاريخية والسياسية والتربية على حقوق الإنسان، بالإضافة إلى التربية للتأقلم مع السياق العالمي للمجتمعات وعلى الإرث الثقافي. وتشجع المقاربات المتعددة الفروع كما تجمع ما بين اكتساب المعارف والكفاءات والسلوكيات، لاسيما القدرة على التفكير وقابلية النقد الشخصي الضروريان للعيش داخل مجتمعات مختلفة ثقافياً.
وغالباً ما تشكل اللغة عائقاً في التفاعلات البين ثقافية. بالفعل، تقر المقاربة البين ثقافية بقيمة اللغات المستعملة ما بين أفراد الجماعات الأقلية، إلا أنها تعتبر من الضروري أن يتعلم هؤلاء اللغة السائدة في الدولة التي يعيشون فيها لكي يصبحوا مواطنين بشكل كامل. يتوافق هذا المبدأ مع الميثاق الأوروبي للغات المحلية أو لغات الأقلية الذي ينص على ضرورة حماية اللغات الأقل استعمالاً من خطر الاندثار، لأنها تساهم في الغنى الثقافي لأوروبا وتضيف بأن استعمال هذه اللغات حق لا يجوز المس به. ويبرز الميثاق الأوروبي قيمة التعدد اللغوي، مؤكداً بأنه لا يجب أن تكون حماية لغات الأقلية في بلد معين على حساب اللغات الرسمية ومقراً بضرورة تعلم هذه اللغات. إن تعلم اللغات يساعد المتعلمين على عدم تكوين صورة جامدة عن الآخرين ويساعدهم على تطوير الفضول والانفتاح على الآخر واكتشاف ثقافات أخرى. ويساعدهم كذلك على إدراك مدى غنى التبادلات مع أشخاص ذوي هوية اجتماعية وثقافة مختلفتين.
وتشير توصية لجنة الوزراء حول تدريس التاريخ في القرن الحادي والعشرين )2001((8) إلى ضرورة تطوير القدرة على تحليل وتفسير المعلومة عند التلاميذ بطريقة نقدية ومسؤولة من خلال الحوار والبحث في الأحداث التاريخية والنقاش المفتوح المبني على النظرة التعددية خاصة في ما يتعلق بالقضايا الحساسة وموضوع جدل. ويساهم تدريس التاريخ في تفادي تكرار المحرقة أو نفي حدوثها أو تكرار الإبادات الجماعية وجرائم أخرى ضد البشرية والتصفيات العرقية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتضميد جراح الماضي والنهوض بالقيم الأساسية التي يدافع عنها مجلس أوروبا. ويعتبر تدريس التاريخ عاملاً حاسماً للمصالحة والاعتراف والتفاهم والثقة المتبادلة ما بين الشعوب. يجب أن يشغل تدريس التاريخ مكانة أساسية في تكوين مواطن مسؤول ونشيط ولتطوير احترام كل أشكال الاختلافات، بمعنى احترام مبني على فهم الهوية الوطنية ومبادئ التسامح. ولا يمكن لتدريس التاريخ أن يكون وسيلة لمناورة إيديولوجية أو دعاية أو لإشاعة قيم قومية متشددة أو معادية للأجانب أو عنصرية أو معادية للسامية أو متعصبة. ولا يمكن للأبحاث التاريخية والتاريخ بالطريقة التي يدرس بها في المدرسة أن تكون بأي شكل من الأشكال متلائمة مع القيم الأساسية والنظام الأساسي لمجلس أوروبا إذا كانت تنشر تصورات مغلوطة للتاريخ أو تساعد على القيام بذلك. يجب أن يشمل تدريس التاريخ إلغاء كل الأفكار والصور الجاهزة وإبراز التأثيرات الإيجابية المتبادلة، في البرامج، ما بين البلدان والديانات ومدارس التنمية التاريخية لأوروبا بالإضافة إلى الدراسة النقدية للتحريفات التي طرأت على التاريخ سواء تعلق الأمر بتحريف بسبب نفي حقيقية تاريخية أو تزوير أو حذف أو جهل أو استعادة إيديولوجية.
4. 3. 2. التعليم الابتدائي والثانوي
في أوروبا متعددة الثقافات، لا تهيئ التربية فقط الشباب لولوج سوق الشغل بل تشجع كذلك تطويرهم الشخصي وتقدم لهم قاعدة واسعة من المعارف. وتشكل المدارس محركات مهمة لتهيئ الشباب لحياتهم كمواطنين نشيطين حيث يجب، من جهة، أن توجههم وتساعدهم على اكتساب الوسائل وتطوير سلوكيات ضرورية للحياة داخل المجتمع، بكل مظاهرها، أو اقتراح استراتيجيات عليهم لاكتساب هذه الوسائل ومن جهة أخرى مساعدتهم على فهم القيم التي ترتكز عليها الحياة الديمقراطية والتمكن منها، وذلك عبر إدراج احترام حقوق الإنسان كأساس لتدبير التنوع وتشجيع الانفتاح على الثقافات الأخرى.
في المنهج النظامي، تحتوي كل المواد على بعد بين ثقافي. وربما أكثر المواد المعنية في هذا الإطار هي التاريخ وتدريس اللغات والأحداث الدينية وتلك المتعلقة بالمعتقدات(9). يمكن تدريس الأحداث الدينية وتلك المتعلقة بالمعتقدات في سياق بين ثقافي من نشر معارف حول كل الديانات والمعتقدات وتاريخها. وهكذا يوفر للمتعلمين إمكانية فهم الديانات والمعتقدات وإلغاء الأفكار الجاهزة. لقد تبنت كل من الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان واللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب هذا المنهج(10). وفي سنة 2007، أشار وزراء التربية الأوروبيون إلى أهمية اتخاذ إجراءات من شأنها أن تحسن التفاهم المتبادل ما بين الجماعات الثقافية و/أو الدينية عن طريق التربية المدرسية، بموجب مبادئ مشتركة للأخلاق والمواطنة الديمقراطية. ويجب أن يأخذ التعليم بعين الاعتبار التنوع الديني وذلك المتعلق بالمعتقدات، كيفما كان نظام التعليم الديني المعتمد(11).
4. 3. 3. التعليم العالي والبحث
تلعب مؤسسات التعليم العالي، كفاعلة في المجتمع وكفضائات لممارسة حوار الثقافات، دوراً مهماً في دعم حوار الثقافات عن طريق برامجها التعليمية. وتبرز الجامعة أحسن من خلال كونيتها ــ تشبثها برحابة الفكر وبالانفتاح على العالم ــ التي ترتكز على قيم موروثة من عصر الأنوار. وهكذا تعتبر الجامعة في وضع جيد لتكوين ''مثقفين بين ثقافيين'' يمكنهم لعب دور فعال في الحياة العامة.
يجب أن ترتكز هذه الصيرورة على البحث الجامعي حول التعلم البين ثقافي، من أجل أخذ ''التعلم على العيش سوياً'' والتنوع الثقافي بعين الاعتبار في كل الأنشطة التعليمية.
4. 3. 4. التعلم غير النظامي
يضطلع التعلم غير النظامي خارج المدارس والجامعات، لاسيما في إطار أنشطة الشباب وكل أشكال الخدمة التطوعية والمدنية، بدور لا يقل أهمية. وشجع مجلس أوروبا الدول الأعضاء على النهوض بالتربية غير النظامية والحث على تشبث الشباب ومساهمتهم في القيم المؤسسة للحوار بين الثقافات.
وتعتبر منظمات الشباب والجمعيات الرياضية والجماعات الدينية بشكل خاص في موقع جيد للمضي قدماً بحوار الثقافات في سياق التربية غير النظامية. وبالإضافة إلى الأسرة والمدرسة ومكان العمل، يمكن لمجموعات الشباب والمراكز الجماعية أن تكون دعامات للانسجام الاجتماعي. وغالباً ما تنجح هذه المنظمات أكثر من غيرها في إشراك أشخاص منحدرين من الأقليات وبشكل فعال وفي منحهم إمكانيات حقيقية للحوار، وذلك بفضل تنوع برامجها الكبير وطبيعة أنشطتها المتفتحة والحرة وكذلك بفضل التزام أعضائها. وتعتبر منظمات المجتمع المدني وغير الحكومية النشيطة مكوناً أساسياً للديمقراطيات التعددية التي تشجع على المشاركة النشيطة في الشؤون العامة وعلى المواطنة الديمقراطية المسؤولة، في إطار احترام حقوق الإنسان والمساواة بين النساء والرجال. لذلك يمكن التفكير في تخويل منظمات المهاجرين الإمكانية والأموال اللازمة لتطوير الخدمات التطوعية لفائدة الأشخاص المنحدرين من الأقليات، لاسيما الشباب، بهدف تقوية حظوظهم في سوق الشغل وفي المجتمع.
وتساهم وسائل الإعلام كذلك وخدمات التواصل الجديدة في تسهيل التعليم غير النظامي، كما توفر إمكانيات متعددة لاكتشاف الممارسات الثقافية الأخرى.
4. 3. 5. دور المدرسين
يقوم المدرسون، في كل المستويات، بدور أساسي في دعم حوار الثقافات وفي تحضير الأجيال القادمة للحوار. ويجعل من التزامهم وسعيهم إلى تطبيق ما يدرسونه مع تلاميذهم وطلبتهم نماذج هامة يحتدى بها.
يجب على برامج تكوين المدرسين وضع استراتيجيات تربوية ومناهج عمل لتهيئهم لتدبير الأوضاع الجديدة الناتجة عن التنوع والتمييز والعنصرية والمعاداة للأجانب والتمييز الجنسي والتهميش، والعمل على فض النزاعات بطريقة سلمية. كما ينبغي أن تشجع هذه البرامج على نهج مقاربة شاملة للحياة المؤسساتية، وذلك بالاعتماد على أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان، وخلق جماعة من المتعلمين، مع الأخذ بعين الاعتبار التصورات الفردية غير المعلنة، وكذا الجو المدرسي والمظاهر غير النظامية للتربية.
ويجب أيضاً على مؤسسات تكوين المدرسين تصور آليات لضمان الجودة، تكون مستوحاة من التربية على المواطنة الديمقراطية، وإيلاء أهمية قصوى لأبعاد التداخلات الثقافية مع المساهمة في تطوير مؤشرات ووسائل للتقييم الذاتي قائمة بذاتها خدمة للمؤسسات التربوية. كما أنه من واجب مؤسسات تكوين المدرسين أيضاً دعم التربية على تقبل واحترام التداخلات الثقافية في إطار التكوين الجاري.
إن هدف المركز الأوروبي للموارد من أجل التربية على المواطنة وتلقين مبادئ الاندماج المشترك للثقافات، الموجود مقره بأوسلو، والذي يشتغل بتنسيق مع مجلس أوروبا، يتجلى في الارتقاء بالتفاهم وتنمية سبل المعرفة المتبادلة من أجل إرساء الثقة وتفادي النزاعات عبر برامج تروم تكوين المدرسين.
4. 3. 6. المحيط الأسري
للآباء، والبيئة الأسرية بشكل أوسع، دور مهم في إعداد الشباب وتحضيرهم للعيش في مجتمع يتميز بتنوعه الثقافي الكبير. لذا يجب على الآباء، بصفتهم نماذج يقتدي بها أطفالهم ويحتدون، المساهمة بشكل فعال بغية تطوير العقليات والتصورات. ومن شأن بعض البرامج التربوية الموجهة للكبار وللأسر، والمخصصة للتنوع الثقافي، أن تساعد الأسرة على النهوض بهذا الدور.
4. 4. فضاءات حوار الثقافات
تلح الضرورة على خلق فضاءات حوار مفتوحة في وجه الجميع. ويتوقف نجاح الحكامة التي تخص العلاقات الثقافية المتداخلة، توقفاً بيّناً وبشكل كبير، على تعدد هذه الفضاءات التي تأوي الناس من قبيل الأزقة، والأسواق والمحلات التجارية، والمنازل وروض الأطفال، والمدارس والجامعات، والمراكز الاجتماعية الثقافية وأندية الشباب، والكنائس والبيّع )المعابد اليهودية( والمساجد، وقاعات الندوات داخل الشركات، وأماكن العمل، والمتاحف والمكتبات، ومحلات الترفيه والفضاءات الافتراضية مثل وسائل الإعلام.
ولعلّ التخطيط للفضاءات الموجودة في المناطق الحضرية يشكل في هذا المجال مثالاً معبّراً، حيث يمكن تنظيم هذا الفضاء إن بطريقة ''أحادية'' الوظيفة أو بصيغة الوظائف ''المتعددة''. ففي الحالة الأولى، يكون الفضاء الحضري مكوناً، على الطريقة التقليدية المعهودة، من تجزئات سكنية ومناطق صناعية ومواقف للسيارات وطرق محورية. وأما الحالة الثانية فتخطيطها يضع تصوراً لساحات تدب فيها الحياة، ومنتزهات وأزقة نشيطة، وأرصفة مقاهي وأسواق. والفرق يكمن في أن المناطق ذات التصور الوظيفي الأحادي تنحو نحو تفرقة الأفراد وتشتيتهم، بينما تساهم الفضاءات التي يتم التخطيط لها بتصور وظائف متعددة على خلق احتكاك بين مختلف طبقات المجتمع، وبذلك فهي تنمي عقلية التسامح. لذا يبدو من المهم جداً ألا يتم إسكان فئة المهاجرين بكثافة، كما هو عليه الحال في أغلب الأحيان، في مناطق إقامة تنعدم فيها بهجة الحياة ويصمها العار والعزلة والإقصاء من المشاركة في الحياة المدنية الحضرية.
بدورها تساعد الأنشطة الثقافية على اكتشاف وسائل تعبير ثقافية متعددة، وتساهم بذلك في نشر التسامح والتفاهم المتبادل والاحترام. ويبقى الإبداع الثقافي قادراً على المساهمة بشكل واسع في الحث على احترام الآخر. وفي هذا الإطار، تعتبر الفنون مجالاً للتباين والمواجهة في بعدها الرمزي الإيجابي، وحقلاً يتيح التعبير الفردي والتفكير النقدي في الذات والقدرة على القيام بدور الوسيط. فالفنون بطبيعتها تتخطى الحواجز، وتنسج وشائج وتخاطب بشكل مباشر أحاسيس وعواطف الأشخاص. ويقوم المواطنون المبدعون، من خلال مشاركتهم في الأنشطة الثقافية، بخلق فضاءات وفرص أخرى جديدة للحوار.
وبالنظر إلى الخصائص الإنسانية المشتركة التي تجمع الأفراد كافة، تغدو المتاحف والمواقع التاريخية قمينة بإعادة النظر في الروايات التي تكرس مفهوم الانتقاء وتعكس الهيمنة التاريخية لمجموعة إثنية أو وطنية معينة، وهي قمينة أيضاً بتوفير فضاءات للتعارف المتبادل ما بين أفراد من أصول مختلفة. ويمكن في هذا المضمار لدراسة الإرث الثقافي الأوروبي أن تشكل لوحة خلفية لمواطنة أوروبية متعددة تتماشى ومتطلبات عصرنا. فمن المعروف أن الطرق القارية منها والعابرة للحدود، والتي تمت إعادة اكتشافها بمساعدة مجلس أوروبا ضمن إطار شبكة ''الطرق الثقافية''، أثّرت أيما تأثير في تاريخ العلاقات الثقافية ويسّرت، طيلة قرون عديدة، التبادلات بين الثقافات المختلفة. وفضلاً عن ذلك، فإنها تمكن من الاطلاع على الإرث الثقافي الأوروبي المتعدد كما أنها تجسد القدرة على العيش سوياً في سلام وفي إطار احترام التنوع والاختلاف.
ويمكن، بصفة عامة، اعتبار روض الأطفال والمدرسة ونوادي وجمعيات الشباب أماكن بالغة الأهمية في التعلم وفي الحوار بين الثقافات. بيد أنه لتصبح فعلاً كذلك، يستلزم الأمر أن تسمح هذه الفضاءات للأطفال وللشباب من أصول مختلفة باللقاء بهدف التواصل وإعداد أنشطة مشتركة. وكلما كانت هذه الأمكنة مندمجة كلما ترسّخ تعلم التبادل الثقافي المشترك وأصبح تعلماً فعّالاً.
بدورها توفر وسائل الإعلام والاتصال فضاءات مهمة للحوار غير المباشر. فهي شاهد على التنوع الثقافي للمجتمع، لأنها تضع الثقافات ضمن سياقها وتقترح أرضيات للتعبير عن وجهات نظر مختلفة قد لا تتاح بالضرورة للقراء أو المستمعين أو المشاهدين في حياتهم اليومية. ولهذا الغرض، ينبغي على وسائل الإعلام السهر على تشغيل موظفين قادمين من آفاق شتىّ، وتكوينهم في ما يخص قضية التنوع. فالخدمات الحديثة التي توفرها وسائل التواصل للجمهور، الذي تعود على التلقي ليس إلا، أصبحت تتيح للناس إمكانية المشاركة في الحوار بين الثقافات بطريقة إعلامية مباشرة، خاصة عبر الشبكات الاجتماعية والمنتديات الموجودة على شبكة الإنترنيت أو عبر المشاركة في مواقع مفتوحة مثل موقع ''ويكي'' )Wiki(.
وبالإضافة إلى ذلك، تقدم وسائل الإعلام العالمية تنوعاً مذهلاً من نماذج من الأدوار التي يجد المرء فيه ذاته. ويمكن، بالنظر لمثل هذا التعقيد، أن يتم الانغراء، من باب الانخداع، في التفكير في حيلة لإلصاق صورة نمطية جاهزة على ''الآخر'' وإسقاط كل مشاكل العالم وعلله عليه. وهنا تبدو مسألة التدبير الديمقراطي للتنوع قضية حساسة حيث يجب الحرص على عدم توجيه الحوار بشكل مفرط، كما يجب الحيول دون تحوله إلى خطابات تدعو إلى الكراهية وعدم التسامح.
ويمكن للرياضة هي أيضاً أن تساهم بشكل كبير في الحوار بين الثقافات، بربطها للحوار مباشرة بالحياة اليومية. فقد استفادت كرة القدم في السنوات الأخيرة، خاصة وأنها أمست رياضة كونية، من عدة أعمال مناهضة للعنصرية يدعمها في أوروبا الاتحاد الأوروبي لكرة القدم الذي وضع ''مخطط عمل من 10 نقاط'' وأعد توجيهات تستجيب لطموحات الأندية. ذلك أنه يمكن اللعب سوياً مع احترام قواعد محايدة وكونية، وهذا المبدأ السائد للروح الرياضية يمكن أن يشكل تجربة بين الثقافات المختلفة.
وينبغي كذلك عدم تجاهل الدور الذي تضطلع به أماكن العمل في الحوار بين الثقافات. فالتنوع عامل للتجديد كما تشهد على ذلك ما تقوم به في هذا الشأن أهم مراكز إنتاج سبل المعرفة. وباستطاعة قوة عمل متنوعة أن تخلق مقاربات جديدة بفضل الاعتماد فيها على مزايا العمل الجماعي ومشاركة المستخدمين. وهنا يبدو أن للتسامح دوراً مهماً في استقطاب المواهب الضرورية للتطور التكنولوجي اللازم بغية تحقيق النجاح. بيد أنه يلاحظ أن العديد من أفراد الأقليات الإثنية يشغلون مناصب مؤقتة ويتقاضون أجوراً ضعيفة. وفي هذا الإطار، يتوجب على النقابات أن تقوم بدور مهم ليس فقط من خلال تحسين أوضاع العمل ولكن أيضاً من خلال توفير أماكن للتضامن بين الأفراد ذوو ثقافات مختلفة بهدف مكافحة الآثار الضارة لتشتت قوة سوق العمل، وهو الأمر الذي يمكن للمنظمات العنصرية أن تستغله.
من جهة أخرى، يوفر نمط التسيير اليومي للمرافق العمومية والمنظمات غير الحكومية والطوائف الدينية فرصاً عدة للحوار بين الثقافات تتجاوز حدود اللقاءات العادية. فمرافق الخدمات الصحية ومراكز تجمع الشباب وفضاءات التربية على اتصال يومي بأفراد الأقليات الإثنية والعرقية. لذلك يجب أن تتوفر هذه الأماكن على مستخدمين يتميزون بالكفاءة وبالتكوين الجيد والقدرة على اللجوء إلى الترجمة عند الضرورة، حتى يجعلوا من هذه الاتصالات اليومية لقاءات مثمرة. ففي قطاع الصحة، على سبيل المثال، يمكن لمجالي الولادة والصحة العقلية أن يكونا في غاية الحساسية. ولعل توظيف أفراد من الجماعات الأقلية في المرافق العمومية، يرجع أصلهم إلى أوساط إثنية ودينية وثقافية ولغوية مختلفة، قمين بتوسيع قاعدة كفاءة الجماعات المتعددة الثقافات. وهذا التبادل المبني على الاحترام والكرامة أمر مفيد في العلاقات مع مختلف مستعملي هذه المرافق. وتعد برامج التوأمة بين المدن فرصة رائعة للنهوض بالخبرة في هذا المجال.
4. 5. حوار الثقافات في بعده الدولي
يجب أن يشكل التزام أوروبا بالعمل متعدد الأطراف، المبني على القانون الدولي والنهوض بحقوق الإنسان والديمقراطية وأولوية القانون، مثالاً للحوار بين الثقافات على المستوى الدولي. فتطبيق هذه المبادئ على الحوار بين الثقافات على المستوى الدولي مهمة أساسية لتسهيل التفاهم المتبادل. وقد جاءت توصيات المؤتمر الثالث لمجلس أوروبا، الذي انعقد في فرسوفيا سنة 2005، لتدعيم الإجماع الأوروبي حول هذه المهمة، وهو الإجماع الذي أعيد التأكيد عليه أكثر في وثائق لاحقة.
والواقع أنه غالباً ما يتم وصف الوضع الجيوسياسي الراهن على أنه مجموعة حضارات تقصي بعضها البعض وتسعى وراء امتيازات سياسية واقتصادية نسبية على حساب بعضها البعض. ويمكن هنا لمفهوم الحوار بين الثقافات أن يمحي الصور الجاهزة والتشبيهات العقيمة التي يمكن أن تنتج عن مثل هذا التصور للعالم لأنه يوضح بأننا نعيش في بيئة عالمية تتميز بالهجرات وبالترابط المتزايد والولوج السهل لوسائل الإعلام الدولية ولخدمات التواصل الجديدة كالإنترنيت، ومن ثم، فقد أصبحت الهويات الثقافية أشد تعقيداً وتداخلاً وجمعاً لعناصر عدة من مصادر شتى. ويمكن مواجهة هذا الوضع الجديد بشكل فعال إذا ما تم إضفاء روح الحوار بين الثقافات على العلاقات الدولية. وهكذا يمكن للحوار بين الثقافات أن يساهم في تفادي النزاعات حل الخلافات وتسهيل المصالحات وإعادة بناء الثقة الاجتماعية.
يظل مجلس أوروبا منفتحاً على التعاون مع المناطق المجاورة لأوروبا وبقية العالم. وتسعى المنظمة، التي تعتبر استكمال وتنسيق عملها مع عمل باقي المؤسسات الدولية، لاسيما على المستوى الأوروبي، أمراً بالغ الأهمية، إلى المساهمة في الحوار بين الثقافات على المستوى الدولي. وبالفعل، فإن عملها يساهم بشكل كبير على المستوى الدولي، خصوصاً على الساحة الأوروبية، في الحوار بين الثقافات. والأخص ذكره أن ''القيمة المضافة'' لعملها تكتسي طابعاً دولياً لأن فائدة هذا الجهد يتم وضعه رهن إشارة مؤسسات دولية أخرى والدول الأعضاء والمجتمع المدني وكل الأطراف الأخرى المعنية، وفي مقدمة ذلك خبرة مجلس أوروبا في ما يخص معايير وآليات المتابعة في مجالات حقوق الإنسان والديمقراطية وأولوية القانون. ويمكن لمجلس أوروبا أيضاً أن يساهم بخبرته لرفع رهانات التحدي التي يفرضها التنوع الثقافي في الميادين الاجتماعية والتربوية والصحية والثقافية. وتتواصل المنظمة بشكل دائم ومنسق مع أطراف متدخلة رئيسية، مثل أعضاء البرلمانات الوطنية والجماعات المحلية والإقليمية ومنظمات المجتمع المدني، في الدول الأعضاء السبعة والأربعين. ويمكن لمجلس أوروبا، أخيراً، المساهمة عبر هيئات مثل المركز الأوروبي للترابط والتضامن الدوليين )مركز شمال ــ جنوب، لشبونة( والمركز الأوروبي للغات الحية )المعروف اختصارا بـ ''كراز''( والمركزين الأوروبيين للشباب )''ستراسبورغ''، ''بودابيست''(، وأيضاً من خلال تعاونه مع المركز الأوروبي للموارد من أجل التربية على المواطنة الديمقراطية وعلى احترام التعدد الثقافي )أوسلو( أو مؤسسات أخرى مثل المركز الثقافي الأوروبي الموجود بـ ''ديلف''.
يقر مجلس أوروبا بأهمية المبادرات التي يقوم بها فاعلون دوليون آخرون ويقدر حق قدرها شراكاته مع مؤسسات مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون بأوروبا ومنظمة اليونسكو والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم )ألكسو( ومؤسسة آ''نا ليند'' الأورو متوسطية للحوار ما بين الثقافات. كما يشارك مجلس أوروبا في منتدى ''تحالف الحضارات''، الذي أعطى انطلاقته الأمين العام للأمم المتحدة وترعاه كل من اسبانيا وتركيا، ويدرس المجلس إمكانية عقد مذكرة اتفاق مع ''التحالف'' لدعم علاقات التعاون(12). ويدرس كذلك وسيلة النهوض بالحوار بين الثقافات في إطار مكسب المجلس المذكور في مجال حقوق الإنسان وأولوية القانون والديمقراطية في تبادلاته مع فاعلين آخرين مثل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة )الإيسيسكو( ومركز البحوث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية )المعروف اختصاراً بالـ ''إرسيكا''(.
ويمكن كذلك لمنظمة مثل مجلس أوروبا أن تستغل أيضاً علاقات التقارب وبرامج التعاون التي تربط بعض أعضاء المنظمة بجهات معينة من العالم. وهنا وجبت الإشارة إلى أن العلاقات العابرة للحدود، المدعومة تاريخياً من لدن مجلس أوروبا، تكتسي بعداً مهماً في مجال العلاقات الثقافية المختلطة.
يقوم الفاعلون غير الحكوميين، المنضوون دولياً في منظمات غير حكومية وفي طوائف دينية، بدور حاسم في الحوار بين الثقافات التي تتخطى الحدود والبلدان، حيث بإمكان هؤلاء الأفراد النشيطين أن يضطلعوا بدور المجددين. وقد كان على هذه المنظمات أن ترفع رهان التحدي الذي يمثله التنوع الثقافي المختلف منذ وقت طويل بفضل قدرتها على خلق صلات وصل وشبكات اتصال لا تنجح الاتفاقيات المبرمة بين الحكومات في وضعها بسهولة.
وللأفراد كذلك دور في هذا السياق، حيث يمكن لمن تعودوا على العيش والعمل في وسط ثقافي يتسم بالتعدد والاختلاف، خاصة الأشخاص المنحدرين من الهجرة، ربط علاقات تتجاوز وتتخطى الحدود الوطنية. وبإمكانهم كذلك أن يصبحوا قطب حركة تنموية تحث على التجديد والإغناء المتبادل للأفكار. فهم يمثلون الطابع الثقافي الشديد التنوع ويجسدون سياق هوية الاختلاف المفعم بالغنى والإثراء، ومن ثم يمكنهم أن يكونوا رائدين في ميدان الحوار بين الثقافات.
ـــــــــــــــ
(1) سيتم نشر كل أمثلة السلوكيات الحسنة المستقاة خلال الاستشارة على العنوان التالي : .www.coe.int/dialogue
(2) انظر ليلى شاهين ضد تركيا، قرار رقم 98/44774 بتاريخ 10 نونبر 2005، فقرة .108 انظر أيضاً البند 6 من الاتفاقية الإطار لحماية الأقليات الوطنية والتي تلزم الأطراف المتعاقدة بـ ''تشجيع روح التسامح وحوار الثقافات وباتخاذ التدابير الناجعة لتشجيع الاحترام والتفاهم المتبادلين وكذلك التعاون ما بين أفراد يعيشون فوق أرض واحدة بغض النظر عن هويتهم الإثنية أو الثقافية أو اللغوية أو الدينية لاسيما في مجالات التربية والثقافة والإعلام''.
(3) طالبت اللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية، المكلفة بدراسة التقارير الوطنية وبتحديد ما إذا كانت الوضعية في الدول المشاركة تتوافق والميثاق الاجتماعي الأوروبي، مرات عديدة من الدول منح اهتمام خاص لوضعية العمال الأجانب والمهاجرين والأقليات الوطنية. مراجعة الميثاق الاجتماعي الأوروبي. اللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية : خلاصات 1-18، مجلد 1. ستراسبورغ 2006. صفحات 59، 102، 212، 261، 293.
(4) هانديسايد س. ضد المملكة المتحدة، قرار بتاريخ 7 ديسمبر 1976، سلسلة أ، رقم 24، فقرة .49
(5) حقوق الإنسان وغيرها، جمهورية التشيك، قرار بتاريخ 13 نوفمبر 2007 )الغرفة الكبرى( : ''أقرت المحكمة كذلك بأن كل إجراء أو سياسة عامة لها أضرار متفاوتة على مجموعة معينة يمكن اعتبارها تمييز ولو لم تكن تستهدف بشكل خاص تلك المجموعة وبأن أي تمييز مخالف لمضمون الاتفاقية يمكن أن ينتج عن سياسة واقعة'' )فقرة 175(.
(6) انظر الاتفاقية الإطار لحماية الأقليات الوطنية )1995(، بند 4، فقرات 2 و3 وكذلك الفقرات الموافقة في التقرير التفسيري.... وآخرون، جمهورية تشيك، قرار بتاريخ 13 نوفمبر 2007 )الغرفة الكبرى(. أوضحت اللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية بأنه ''لا يجب فقط النظر إلى الاختلاف بطريقة إيجابية بل أيضاً أخذه بعين الاعتبار وببصيرة لضمان مساواة حقيقية وفعلية'' (Autism Franc)، فرنسا، التماس رقم 2002/13، قرار حول صحة الطلب بتاريخ 4 نوفمبر 2003، فقرة .52
(7) انظر الاتفاقية الإطار حول حماية الأقليات الوطنية )1995(، بند .15
(8) توصية )2001( 51.
(9) أوضحت اللجنة الاستشارية للاتفاقية الإطار لحماية الأقليات الوطنية في ''تعليق حديث حول التربية على مقتضيات الاتفاقية الإطار لحماية الأقليات الوطنية'' )المعتمدة في مارس 2006( أنه يجب أخذ المقتضيات الخاصة بالتربية بعين الاعتبار في ''كل المشاريع والأنشطة في مجال التربية البين ثقافية الهادفة إلى تيسير التفاهم المتبادل والاتصالات والتبادلات ما بين مختلف الجماعات بداخل مجتمع معين''.
(10) توصية 1720 للجمعية البرلمانية حول التربية والدين )2005(. يلدسن، بوسك مادسن وبيدرسن ضد الدانمارك 71/5095؛ 72/5920؛ 72/5926 بتاريخ 7 ديسمبر 1976، فقرة 53؛ فولكيرو وآخرون ضد النورويج، قرار رقم 02/15472 بتاريخ 29 يونيو 2007، فقرة 84، توصية السياسة العامة رقم 10 للجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب حول مكافحة العنصرية والتمييز العنصري في ومن خلال التربية المدرسية، 2006، فقرة 22 ــ ب.
(11) البيان الختامي للدورة 22 للندوة الدائمة لوزراء التربية الأوروبيون، اسطنبول، تركيا، 4 و5 مايو 2007 )''بناء قارة أوروبية أكثر إنسانية وإدماجية : مساهمة السياسات التربوية''(.
(12) وقع كل من الأمين العام لمجلس أوروبا والممثل السامي للأمم المتحدة من أجل تحالف الحضارات رسالة نوايا بشأن التعاون المستقبلي، ووضعا مذكرة تفاهم.
توصيات وتوجيهات السياسة العامة للعمل المستقبلي : المسؤولية المشتركة لأهم الفاعلين
يُعدّ تعزيز الحوار بين الثقافات بغاية تشجيع قيمنا المشتركة المتعلقة باحترام حقوق الإنسان، والديمقراطية وسيادة القانون، وتشجيع قيام وحدة أوروبية أكبر، مسؤولية تتقاسمها كل الأطراف المشاركة. وسيمكن الالتزام الفعال بالمجالات السياسية الخمس التي تم تعريفها في الجزء السابق الجميع من الاستفادة من غنى إرثنا الثقافي ووضعنا الحالي. وبإمكان مجلس أوروبا أن يصدر، استناداً إلى تجربته الطويلة وإلى مفهومه عن التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات، توصيات عامة إلى جانب الخطوط الرئيسية التي تليها. ومن ثم يمكن تطوير التوجهات السياسية العامة الخاصة بالإجراءات المزمع اتباعها في المستقبل.
5. 1. حكامة ديمقراطية للتنوع الثقافي
حتى يتم الارتقاء بالتنوع الثقافي، وجب تطوير الحكامة الديمقراطية المرتبطة بهذا الشأن على جميع الأصعدة. ويمكن، في هذا الإطار، توجيه عدة توصيات عامة، بشكل خاص لأصحاب القرار الوطنيين ولهيئات عمومية أخرى.
والواقع أن الحوار بين الثقافات يحتاج إلى إطار مؤسساتي وقانوني محايد، على الصعيدين المحلي والوطني، يكون مطابقاً لما أقره مجلس أوروبا من معايير مرتبطة بحقوق الإنسان، ومرتكزاً على مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون. ومن المهم كذلك وضع تقنين ورسم سياسات واضحة بهدف مناهضة الميز المبني على أساس الجنس، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الدين، أو الآراء السياسية أو غيرها، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الانتماء إلى أقلية قومية معينة، أو بسبب الثروة، أو المولد أو أية وضعية أخرى مثل التوجه الجنسي، حسب اجتهاد المحكمة(1)، أو السن أو الإعاقة الجسدية أو العقلية، حسب التقرير التفسيري للبروتوكول رقم 12 الوارد في الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان(2). وقد قدمت اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح، من جهتها، إشارات موجهة إلى التقنين الوطني ترمي إلى مناهضة العنصرية والميز العنصري(3). ويجب أن تنظم العلاقات بين الدين والدولة بشكل يضمن نفس الحقوق والمسؤوليات لجميع الأشخاص، مهما كانت آراؤهم، وقناعاتهم ودينهم، وأن تحترم، فعلياً، حرية المعتقد والدين احتراماً فعلياً.
وينبغي أيضاً تأمين تناغم وانسجام داخلي بين مختلف السياسات التي تشجع أو التي، على العكس من ذلك، يمكن أن تعيق الحوار بين الثقافات. ولهذا الغرض، ينصح بتبني مقاربة متفق عليها، تتجاوز الحدود المعتادة بين الإدارات العمومية. فيمكن، على سبيل المثال، إنشاء لجنة تنوب عن الوزارات أو وزارة خاصة بالإدماج أو وحدة تابعة لديوان الوزير الأول. وفضلاً عن ذلك، فإن تحضير وتنفيذ ''مخططات عمل وطنية''، تعتمد على معايير حقوق الإنسان الدولية، بما في ذلك تلك المعتمدة على توصيات مجلس أوروبا، والمطابقة لتوصيات هذا الكتاب الأبيض، من شأنها المساهمة حقيقياً في تعزيز رؤية مجتمع مندمج يحمي اختلاف رؤى أعضائه. كما أنه يتوجب على هذه ''المخططات الوطنية'' أن تترجم إلى برامج خاضعة للمراقبة العمومية. والحال أن مجلس أوروبا مستعد للمساهمة في إعداد برامج العمل الوطنية هذه وتقييم تنفيذها. ويعتبر وجود قيادة سياسية على أعلى مستوى مسألة ضرورية لضمان نجاح هذه الخطة.
وفضلاً عن ذلك، فإن المجتمع المدني، لاسيما الجمعيات المهتمة بالأقليات وبالمهاجرين، لديها هي كذلك دور مهم يجب أن تؤديه. وبموازاة مع هذا، يمكن خلق مؤسسات استشارية تجمع ممثلين عن مختلف الشركاء المعنيين بهدف تشجيع الأشخاص المنحدرين من الهجرة أو المنتمين لفئات الأقليات على الاندماج في محيطهم، على أن تتضمن برامج العمل الوطنية في نفس الوقت المهاجرين حديثي العهد والمجموعات الأقلية المتواجدة منذ وقت طويل.
بإمكان مجلس أوروبا إطلاق مبادرة متابعة تفضي إلى إنجاز أبحاث وعقد مؤتمرات تتولى استكشاف مقاربة التداخل الثقافي في معناها الواسع بغية تدبير التنوع الثقافي، وهو المجال الذي يشكل فيه الحوار بين الثقافات مكوناً ذا أهمية. وسيكون القصد من هذا العمل على الخصوص استكشاف الروابط وصيغ التكامل بين المقاربة المعتمدة في مجال الثقافات المشتركة وكيفية تدبير التنوع الثقافي من جهة، وسياسة الإدماج المعتمدة من جهة أخرى. وسوف تؤدي هذه المبادرة في ما بعد إلى مجموعة من الأنشطة يتولى مجلس أوروبا القيام بها للتعريف أكثر بمفهوم المقاربة المرتبطة بالثقافات المتعددة التداخل وصيغ تدبير التنوع الثقافي، بما في ذلك الإدماج.
ويتعين على السلطات العمومية أن تتنبّه جيداً لتطلعات ساكنة ذات جذور ثقافية متنوعة، وأن تسهر على احترام الخدمات العمومية المقترحة استجابة للمطالب المشروعة لجميع المجموعات الاجتماعية، وأن تثبت قدرتها على الاستجابة للرغبات التي تعبر عنها الفئات الاجتماعية المذكورة. ويكتسي هذا الشرط، المترتب عن مبادئ المساواة وعدم الميز، أهمية خاصة في مجالات حفظ النظام، والصحة، والشباب، والتعليم، والثقافة والإرث، والسكن، والخدمات الاجتماعية، إضافة إلى التمتع بالعدالة والحق في الشغل. كما تعتبر المراحل التي يساهم فيها ممثلون عن الأشخاص المنتمين إلى الأقليات العرقية أو الإثنية المهمشة في أشغال وضع سياسات إسداء الخدمات وتحضير القرارات المتعلقة بتخصيص الموارد، فضلاً عن التوظيف في قطاع الخدمات، مراحل مهمة.
وينبغي أن تجري النقاشات العمومية في جو من الاحترام للتنوع الثقافي، لأنه من المفترض، لا بل من البديهي أن ترفض وتدان جميع مظاهر التعبير العنصرية، وكراهية الأجانب وأي شكل آخر من عدم التسامح(4)، أكانت صادرة عن أشخاص يشغلون وظائف عمومية أو عن أفراد المجتمع المدني، وذلك وفقاً للمقتضيات الواضحة الواردة في المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان. وينبغي أيضاً في المسار نفسه إقصاء كل شكل من أشكال الوصم عاراً تجاه الأشخاص المنتمين للأقليات المهمشة. ويبقى بإمكان وسائل الإعلام أن تقوم بدور إيجابي في مناهضة عدم التسامح، لاسيما عبر تشجيع ثقافة التفاهم بين أعضاء مختلف المجموعات الإثنية، والثقافية، واللغوية والدينية. كما يتعين على مهنيي قطاع الإعلام التفكير في مشكل عدم التسامح في المحيط الذي ما فتئت تتزايد فيه التعددية الإثنية والثقافية للدول الأعضاء، وفي الإجراءات التي من الممكن اتخاذها لتشجيع التسامح، والتفاهم والاحترام.
ويجب كذلك على الدول أن تتبنى قوانين صارمة يحرّم بمقتضاها ''خطاب الكراهية'' وكذلك مظاهر العنصرية، وكراهية الأجانب والمثليين الجنسيين والإسلام وعدم التسامح مع الأقليات المعروفة تحت اسم ''الروم'' المنتشرة في عدة دول والمعروفة بترحالها مثل الغجر، والرحل، أو مظاهر أخرى تحرض على الكراهية أو العنف. كما يتعين تكوين الأطر المنتمية لهيئة القضاء الجنائي بشكل ملائم حتى تستطيع تطبيق وفرض احترام هذه القوانين. ويتعين أيضاً إنشاء هيئات وطنية مستقلة لمناهضة الميز أو هياكل مشابهة للقيام بنفس المهمة، والتحكم في فعالية هذا النوع من القوانين، فضلاً عن تنظيم الدورات التكوينية اللازمة ودعم الأشخاص المستهدفين بمظاهر التعبير العنصرية.
ويقع على عاتق الشخصيات السياسية في هذا الباب مسؤولية خاصة. فالمواقف التي يتخذونها تؤثر في وجهات نظر الرأي العام إزاء قضايا التعدد الثقافي، وهي بالتالي مواقف تستطيع إما تخفيف أو، على النقيض من ذلك، إثارة التوترات. وقد انكبت اللجنة الأوربية لمناهضة العنصرية والتعصب على دراسة هذه الأخطار ومظاهر تعبيرها الملموسة، وحددت مجموعة من الإجراءات التي يمكن اتخاذها من أجل مناهضة استعمال العناصر التمييزية، والعنصرية، والمعادية للسامية وللأجانب في الخطاب السياسي(5). ويمكن للمسؤولين المحليين، عبر ممارستهم لسلطتهم المدنية، المساهمة بشكل واسع في استتباب السلام بين مختلف المجموعات العرقية. كما توصي اللجنة الأوربية لمناهضة العنصرية والتعصب برفض كل تمويل عمومي للأحزاب السياسية التي تدعو إلى العنصرية، ولاسيما تلك الأحزاب التي تعتمد ''خطاب الكراهية''.
وتظل السلطات العمومية مدعوة، عند الاقتضاء، إلى اتخاذ إجراءات إيجابية بهدف تيسير وصول أفراد منتمين لهذه المجموعات المهمشة، والممثلة بشكل محدود، إلى مناصب المسؤولية في الحياة المهنية، والجمعيات، والحياة السياسية وكذلك في الجماعات المحلية والإقليمية، مع مراعاة الكفاءات المهنية المطلوبة. ويتوجب على جميع الدول الأعضاء أن تعترف بالمبدإ الذي تصبح بموجبه، في بعض الظروف، الإجراءات الملائمة الهادفة إلى تشجيع مساواة كاملة وفعلية بين الأشخاص المنتمين إلى أقليات وطنية وأعضاء الأغلبية، إجراءات ضرورية، شريطة أن لا تكون هذه الإجراءات تمييزية. وعند اتخاذ هذه التدابير، فإنه من المهم جداً الأخذ بعين الاعتبار، وبشكل تام، الظروف الخاصة بالأشخاص المنتمين لأقليات وطنية(6).
سوف يقوم الاتحاد الأوروبي بالسهر على نشر معاييره القانونية والخطوط الرئيسية لهذه القوانين، يتم تقديمها في حلة جديدة وجذابة، وسط المجموعات المستهدفة، ومنها مثلاً السلطات المحلية وأصحاب القرار، ومسؤولي منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، علاوة على فئة الشباب. ولإنجاح ذلك، يمكن للمنظمة أن تقترح، على سبيل المثال، وثائق تتناول حقوق الإنسان في مجتمع يتميز بالتنوع الثقافي تم تحضيرها وفقاً لمقتضيات الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، يتم توزيعها بشكل واسع، إضافة إلى كتب تعالج ''خطابات الكراهية'' ومسألة حمل رموز دينية في الأماكن العمومية.
يعمل مجلس أوروبا على تيسير الوصول إلى قرارات الاجتهاد القضائي الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن الحوار بين الثقافات
وسوف ينشر المجلس المذكور تحليلاً معمقاً لأحكام وقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمرتبطة بمواد الاتفاقية الممكن تطبيقها على الحوار بين الثقافات.
وسوف تدرس اللجنة المسيرة المكلفة بحقوق الإنسان سلسلة من القضايا المتعلقة باحترام حقوق الإنسان في مجتمع متعدد الثقافات. وهو العمل الذي قد يؤدي إلى تبني نص سياسي من قبل مجلس أوروبا. وسوف يتم أيضاً متابعة التطورات التي يعرفها مجال الحقوق الثقافية.
وبصفة عامة، ينبغي أن يتم تكثيف النقاش وتبادل أوجه النظر بخصوص الحوار بين الثقافات حتى يستطيع مجلس أوروبا أن يقوم بشكل فعال بمختلف الأدوار المسطرة في هذه الوثيقة. ويوفر برنامج أنشطة مجلس أوروبا فرصاً عدة تم دعمها وتكثيفها بهدف إتاحة حوار في الموضوع. ويمكن أن نذكر في هذا المجال، على سبيل المثال، المؤتمرات الوزارية، والنقاشات البرلمانية، والدورات التكوينية مع المنظمات الشبابية ولقاءات الخبراء، على غرار ''منتديات الثقافات المشتركة'' السابقة والمنظمة من قبل مجلس أوروبا(7)، هي المنتديات التي مكنت من استقاء عدة معلومات مهمة، استخدم العديد منها في هذا الكتاب الأبيض. وسوف يتم في المستقبل بحث وسائل تنظيم منتديات أخرى تجمع الثقافات المختلفة.
مجلس أوروبا : منتدى منتظم للحوار بين الثقافات
يواصل مجلس أوروبا، عبر برنامج أنشطته، إدراج خبرته في مجال حقوق الإنسان، والديمقراطية وسيادة القانون بغية وضعهما في خدمة الحوار بين الثقافات. والمجلس يحضر، عبر الحوار القائم بين الدول الأعضاء في المجلس، وبين المجتمع المدني والأطراف المتدخلة الأخرى، لوضع إجراءات على المستوى المحلي، والوطني والدولي.
والحالة هذه، يمكن أن نذكر على سبيل المثال، المؤتمر المزمع تنظيمه بالاشتراك مع خبراء الحكومات وعدة فاعلين في المجتمع المدني، مثل الصحافيين وأعضاء الطوائف الدينية. وهو لقاء يهدف إلى فك بعض القضايا الصعبة المرتبطة بحقوق الإنسان، خصوصاً تلك المتعلقة بحرية التعبير والدين.
ويتم أيضاً التحضير لحملة جديدة تخص مناهضة العنصرية. وتعتبر هذه الحملة امتداداً للحملة التي استهدفت الشباب، وكان شعارها ''كلنا مختلفون، وكلنا متساوون''، لكنها هذه المرة سوف تخاطب جمهوراً أوسع، وتركز على شتى صيغ الميز والعنصرية، بما في ذلك المعاداة للسامية، وللإسلام ولفئة الغجر.
حملة على الصعيد الأوروبي ضد الميز العنصري
يطلق مجلس أوروبا، بشراكة مع مهنيي قطاع الإعلام ومؤسسات التكوين الصحفي، سنة 2008، حملة ضد الميز العنصري ، تتركز حول دور وسائل الإعلام في أوروبا كقارة متعددة الثقافات.
أما في ما يخص السياسات المتبعة على الصعيد الثقافي، فسوف يعمل مجلس أوروبا على تطوير أنظمته الخاصة بنشر المعلومات المتعلقة بالسياسات المتبعة وبالمعايير الثقافية، وسوف يواصل توثيق نماذج الممارسات الجيدة، وذلك من أجل تشجيع سياسات ذات بعد ثقافي تسهل ولوج الجميع إلى المشاركة وتشجيعهم على ذلك. كما سيستمر تحيين وتطوير ''مختبر السياسات الثقافية''(8). وسوف يتعاون مجلس أوروبا كذلك مع مؤسسات أوروبية ودولية أخرى بهدف جمع وتحليل المعطيات، ونشر معلومات حول الحوار بين الثقافات على الدول الأعضاء.
5. 2. المواطنة الديمقراطية والمشاركة
يتم تشجيع السلطات العمومية ومجموع القوى الاجتماعية على وضع الإطار الملائم للحوار، وذلك عبر مبادرات تربوية ومقتضيات عملية تحث على مساهمة كل من الأغلبية والأقليات. وتتطلب الديمقراطية المساهمة الفعالة للفرد في الشؤون العامة، إذ أن إقصاء أي كان من حياة الجماعة أمر غير مبرر، وقد يشكل حاجزاً خطيراً يقف حجرة عثرة أمام حوار الثقافات.
كما أنه من الأجدر وضع أشكال دائمة للحوار، كأن تكون مثلاً على شكل هيئات استشارية مكلفة بتمثيل المقيمين الأجانب لدى السلطات العمومية، و''لجان محلية للإدماج''، كما أوصى بذلك مؤتمر السلطات المحلية والإقليمية(9)، فقد تكون لهذه اللجان منفعة خاصة.
ولا ينبغي أن تخضع ممارسة حقوق الإنسان، بما في ذلك تلك التي يمارسها أفراد أجانب ، لأي استثناء غير مناسب. فبالنظر للطبيعة الكونية لحقوق الإنسان، والتي تعتبر حقوق الأقليات جزءاً لا يتجزأ منها، بما في ذلك الحقوق الثقافية، واللغوية والحق في المشاركة، يبقي من الضروري أن يتم ضمان حق تمتع جميع الأفراد تمتعاً كاملاً بها. وقد أولت لجنة البندقية أهمية خاصة لهذه النقطة(10).
ويتعين على السلطات العمومية أن تشجع كل المقيمين بصفة شرعية فوق أراضيها، على المشاركة الفاعلة في الحياة العمومية المحلية، بما في ذلك اللجوء إلى إمكانية تخويلهم حق التصويت في الانتخابات المحلية والإقليمية على أساس المبادئ التي وضعتها الاتفاقية الخاصة بمساهمة الأجانب في الحياة العامة محلياً. وبما أن الوصول إلى المواطنة الديمقراطية يتبع وضع المواطن القومي، فإنه يتعين على السلطات العمومية أن تتخذ بعض الإجراءات كي يحصل الشخص الأجنبي على المواطنة الشرعية وفقاً للمبادئ المذكورة في الاتفاقية الدولية حول الجنسية.
ويتعين على السلطات العمومية أن تساند بشكل فعال عمل منظمات المجتمع المدني التي تشجع المشاركة والمواطنة الديمقراطية، وعلى الأخص منها تلك التي تمثل الشباب والأشخاص المنتمين للأقليات، بما في ذلك تلك الخاصة بالمهاجرين، أو بالفئات التي تشتغل معهم. وبما أن ممارسة المواطنة الديمقراطية والمشاركة تمر غالباً عبر منظمات المجتمع المدني، فإنه يتعين أن تتوفر هذه الأخيرة على إمكانية القيام بدور ذي أهمية خاصة في المجتمعات ذات التنوع الثقافي، سواء كموفرة للخدمات استجابة لاحتياجات الأشخاص المنتمين لمجموعة معينة، أو كمدافعين عن التنوع وعن حقوق الأشخاص المنتمين للأقليات، أو كوسائل مساعدة على الانسجام والاندماج الاجتماعيين، ناهيك عن كون ممثلي الأقليات الخاصة والجمعيات التي تنشط في ميدان الثقافات المختلفة تعد محاوراً أساسياً في مجال الحوار بين الثقافات.
ويتعين أن يكون هذا النوع من الجمعيات من المساهمين بشكل نشيط في وضع مخططات إدماج وطنية، وفي تصميم وتنفيذ مشاريع وبرامج، فضلاً عن المساهمة في تقييم هذه الأنشطة لاحقاً. ويجب أن تشجع هذه الجمعيات بشكل منهجي ومدروس مساهمة أشخاص منتمين للأقليات في أنشطة منظمات المجتمع المدني.
والسلطات المحلية مدعوة بشكل كبير إلى الإقدام على اتخاذ الإجراءات الرامية إلى تعزيز الالتزام بالحس المدني وثقافة المشاركة الديمقراطية. وفي هذا الإطار، تشكل البرامج البلدية التي تشجع الاندماج وأيضاً ''مجالس الأجانب''، التي تمكن الأشخاص المنتمين لأقليات ولفئة المهاجرين من المشاركة في الحياة السياسية المحلية، أمثلة جيدة للممارسات المحمودة في هذا المجال. وقد حدد المؤتمر المنعقد بخصوص دورالسلطات المحلية والإقليمية خطوطاً رئيسةً مفصلةً في هذا الموضوع.
تتوفر لدى مجلس أوروبا إرادة تعزيز المواطنة الديمقراطية والمساهمة في إعداد نسبة كبيرة من برامجه، ومن بينها برنامج ''مدن تتعدد فيها الثقافات'' الذي يُعنى بتوطيد القدرات والمساعدة على وضع سياسات الاندماج. وسوف تعمل المدن المشاركة على وضع استراتيجيات ثقافية مشتركة لتدبير التنوع بوصفه مصدر غنى وإشعاع. وسوف تتم بلورة البرنامج بتعاون مع عدة شركاء يعملون بتنسق بين عدة حكومات وشركاء آخرين غير حكوميين.
دعم برنامج ''مدن تتعدد فيها الثقافات''
سوف يطلق مجلس أوروبا سنة 2008 برنامجاً لمساعدة المدن على أن تصبح أماكن خاصة بامتياز للحوار بين الثقافات، لاسيما عبر تقييمات لنظراء ومبادلات للممارسات الجيدة المتعلقة بالحكامة، والإعلام، وأنشطة الوساطة والسياسات الثقافية.
سوف تشكل قضية التنوع الثقافي في المناطق الحضرية موضوعاً ذا أولوية خاصة. فلكي تزدهر هذه المدن في السنوات القادمة، يجب عليها أن تكون مدناً تزخر بتعدد الثقافات واختلاطها. وسيكون عليها إذن أن تكون قادرة على تدبير هذا التنوع الثقافي وإبراز قيمتة بهدف حث جميع الأفراد على الخلق والإبداع، وبالتالي تأمين ازدهارها الاقتصادي، وتوطيد تناغمها وتحسين جودة العيش فيها.
5. 3. تعلم وتلقين الكفاءات في بيئة ثقافية مختلطة
يكتسي تعلم وتلقين الكفاءات المرتبطة بالتعددية الثقافية أهمية رئيسة بالنسبة للثقافة الديمقراطية والانسجام الاجتماعي. إن توفير تعليم للجميع يستجيب لمعايير بالجودة ويشجع الإدماج، تعليم قمين بالحث على المشاركة الفعلية وعلى الالتزام بالحس المدني، وقادر على استشعار المعوقات التربوية. ويمكن ترجمة هذه المقاربة عبر توصيات أساسية وخطوط رئيسة، يمكن بلورتها بهدف توجيهها إلى السلطات العمومية ومؤسسات التربية النظامية، وكذلك إلى المجتمع المدني، لاسيما منظمات الأقليات والشباب والإعلام، والشركاء الاجتماعيين والثقافيين، وإلى المجموعات الدينية التي تقترح أنشطة تربوية غير رسمية أو غير نظامية.
ويتعين على السلطات العمومية، ومنظمات المجتمع المدني والمتدخلين في القطاع التربوي أن يجعلوا من تطوير الحوار بين مختلف الثقافات ومن التعليم الإدماجي مكوناً رئيسياً على جميع المستويات. ويجب أن تشكل الكفاءات المتوفرة في بيئة ثقافية متنوعة جزءاً من التربية على المواطنة وعلى حقوق الإنسان. ويتعين على السلطات المحلية والمؤسسات التربوية أن تستعمل، قدر الإمكان، تعريفات الكفاءات الضرورية للتواصل بين الثقافات من أجل بلورة وتنفيذ البرامج التعليمية وشعب الدراسات على جميع مستويات النظام التعليمي، بما في ذلك تكوين الأساتذة والبرامج التربوية الموجهة إلى البالغين. كما يجب تطوير وسائل تعليمية تكميلية بهدف تشجيع التلاميذ على ممارسة حكم نقدي ومستقل. بما في ذلك تطوير نظرة نقدية تجاه ردود أفعالهم الخاصة وتصرفاتهم تجاه ثقافات أخرى. ويتوجب إتاحة الفرصة لجميع التلاميذ حتى يتمكنوا من تحسين كفاءاتهم المتعددة في تعلم اللغات. فالممارسة والتعلم على العيش في بيئة ثقافية متنوعة ومختلطة يجب أن يكونا مدمجين في التكوين الأولي والمستمر للأساتذة. ويجب أن تصبح المبادلات المبنية على المدرسة والأسرة مكوناً منتظماً من برنامج المؤسسات الثانوية. ويمكن للتربية على حقوق الإنسان، وتعلم المواطنة الفاعلة والحوار بين الثقافات أن تستفيد بشكل واسع من الوسائل المتعددة الكائنة، من بينها ''REPERES'' و''COMPASITO''، وهما كتابان نشرهما مجلس أوروبا من أجل ممارسة التربية على حقوق الإنسان مع الشباب والأطفال.
ويطلب من المؤسسات التربوية وجميع الفاعلين التربويين الآخرين السهر على أن يتبع التعليم والتعلم توصيات لجنة الوزراء حول التعليم والتاريخ وأن لا تقتصر المناهج فقط على تاريخ البلاد، بل يجب أن تشمل كذلك تاريخ وثقافات بلدان أخرى، وأن تأخذ بعين الاعتبار الطريقة التي كانت تنظر بها مجتمعات أخرى إلى مجتمعنا (تعدد الآفاق)، مع ضرورة الحرص على احترام القيم الأساسية المنبثقة عن مجلس أوروبا، فضلاً عن تضمن المناهج البعد التربوي المرتبط بحقوق الإنسان(11).
إن معرفة الماضي أمر مهم لفهم مجتمع اليوم وتفادي تكرار الأحداث التاريخية الأليمة. وفي هذا الصدد، فإن السلطات العمومية المختصة والمؤسسات التربوية مدعوة بقوة لتحضير وتنظيم يوم تسميه ''يوم ذكرى المحرقة ويوم الوقاية من الجرائم ضد الإنسانية'' كل سنة، وهو اليوم الذي يصادف تاريخاً يتم اختياره على ضوء تاريخ كل بلد. ويمكن أن يستلهم هذا المشروع من مشروع مجلس أوروبا تحت شعار ''تعليم الذاكرة، التربية على تفادي الجرائم المرتكبة في حق الإنسانية''، والذي كان يهدف إلى مساعدة التلاميذ على اكتشاف وفهم الفترات الحالكة للتاريخ الأوروبي والعالمي، وإلى التعرف على الطبيعة الخاصة للمحرقة، بوصفها أول محاولة مقصودة للقضاء على شعب على الصعيد العالمي ؛ وتحسيس الرأي العام بخصوص محاولات الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي طبعت القرن العشرين؛ وتربية التلاميذ على طريقة تفادي الجرائم ضد الإنسانية ؛ وتشجيع التفاهم، والتسامح والصداقة بين الأمم، والمجموعات الإثنية والطوائف الدينية، مع الوفاء للقيم الأساسية الصادرة عن مجلس أوروبا.
يجب أن يرتكز تقييمنا لتنوعنا الثقافي على معرفة وفهم الديانات الرئيسية والمعتقدات غير الدينية للعالم، ودورها في المجتمع. كما أن هناك هدفاً آخر يتمثل في جعل الشباب يثمنون ويقدرون عالياً التنوع الاجتماعي والثقافي لأوروبا، ويضمون في نفس الآن إلى هذا التنوع المجموعات الجديدة للمهاجرين وتلك المجموعات التي تعتبر جذورها الأوروبية أعرق بكثير.
إن تثمين مختلف أشكال التعبير الإبداعي )مظاهر الفنون المبتكرة، والرموز، والنصوص، و''الأشياء''، وعادات وتقاليد اللباس وفنون الطبخ( يجب أن ينظر إليها كمحاولة لفهم الآخر واكتشافه. كما يمكن أن تكون الموسيقى، والفن والرقص وسائل تعليم فعالة بين الثقافات المختلفة.
كما يدعو مجلس أوروبا السلطات العمومية المختصة أن تأخذ بعين الاعتبار وقع القوانين والسياسات، خاصة تلك المتعلقة بالتأشيرات أو رخص العمل أو الإقامة بالنسبة للجامعيين، والطلبة والفنانين، المطبقة في مجال المبادلات التربوية والثقافية. ويمكن أن تساهم قوانين وسياسات ملائمة بشكل كبير في الحوار بين الثقافات.
يلتزم مجلس أوروبا التزاماً تاماً لصالح تمرير الكفاءات ذات الصلة بالثقافات المختلفة عبر التربية. ففيما يتعلق بالتربية النظامية، سوف يصدر دليلاً يعرف بالممارسات الجيدة على جميع المستويات وسوف يعمل على إحداث إطار مرجعي يصف الكفاءات المرتبطة بالثقافات المختلفة الضرورية للتواصل ما بين كل الثقافات. وسوف تعمل المنظمة على أن يكون تشجيع الثقافة الديمقراطية والحوار بين الثقافات مكوناً من مكونات الفضاء الأوروبي للتعليم العالي بعد سنة .2010 وسوف يوجه المركز الأوروبي للموارد حول التربية على المواطنة الديمقراطية، والذي هو في طور الإنشاء في أوسلو، أنشطته بقوة على تمرير الكفاءات ذات الصلة بالثقافات المختلفة إلى المربين.
يرغب مجلس أوروبا في أن يبقى المؤسسة المرجعية في ما يخص تعليم وتعلم الكفاءات المرتبطة بتعدد الثقافات و اختلافها وسوف يواصل إيلاء أهمية لهذه المواضيع.
سيواصل مجلس أوروبا، بتعاون مع السلطات المحلية المختصة، ومهنيي التعليم والخبراء، عمله المجدد حول تحديد، وتطوير، ونشر ونقل الكفاءات ذات الصلة بالثقافات المختلفة، وسوف يقود مبادرات مناسبة في ميدان السياسات اللغوية.
وسوف يواصل مجلس أوروبا تطوير أدوات تهدف إلى تعزيز الحوار بين الثقافات عبر طرق تهدف إلى تلقين دروس التاريخ، تكون معتمدة على الموضوعية، وعلى التحليل النقدي والنظرة التعددية، والاحترام المتبادل والتسامح وتراعي المبادئ الأساسية للمجلس الأوروبي. وسوف يدعم المجلس كل الإجراءات المتخذة في القطاع التربوي بهدف تفادي إنكار المحرقة أو تكرارها، أو تكرار محاولات الإبادة الجماعية والجرائم الأخرى ضد الإنسانية، والتصفيات العرقية إضافة إلى الخروقات الكثيرة لحقوق الإنسان وللقيم الأساسية التي يتشبث بها بشكل خاص مجلس أوروبا. وسوف يواصل المجلس كذلك إمكانية تمديد مشروع ''تلقين الذاكرة، التربية على تفادي الجرائم ضد الإنسانية''.
وبخصوص السياسات اللغوية المشجعة على الحوار بين الثقافات، سوف يقدم مجلس أوروبا مساعدة وتوصيات للسلطات المختصة، بهدف إعادة دراسة سياساتها التربوية بالنسبة لجميع اللغات المدرسة في أنظمتها التعليمية. وسوف يعلن كذلك، الخطوط العريضة والوسائل ذات الطابع الاستشاري التي تحدد المعايير الأوروبية المشتركة في ما يخص الكفاءة اللغوية.
كما سيتم اتخاذ مبادرات في مجالات التربية الفنية وتعليم الشأن الديني والشأن المتعلق بالمعتقدات، في إطار برنامج يهدف تشجيع التربية والحوار بين الثقافات عبر بلورة مراجع مشتركة لتدبير الفصول الدراسية المتعددة الثقافات، وتفضيل إدماج التربية على احترام التعدد الثقافي في البرامج التربوية.
وبخصوص التعليم غير الرسمي وغير النظامي، سوف يواصل مجلس أوروبا جهوده الرامية إلى دعم أنشطة منظمات المجتمع المدني، لاسيما منظمات الشباب، التي تهدف إلى الاستجابة للتنوع الثقافي بشكل إيجابي ومبتكر. كما ستضاعف الدروس التكوينية الملقنة لروح المواطنة الأوروبية وحقوق الإنسان، المقترحة على جموع المتدخلين والفاعلين في إطار ''شراكة الشباب'' بتعاون مع اللجنة الأوروبية. كما سيتم اقتراح دورات تكوينية جديدة تخص الكفاءات المؤهلة في التواصل الثقافي المختلط، لاسيما على منظمات المجتمع المدني، والطوائف الدينية والصحافيين. وسيواصل مجلس أوروبا عمله الرامي إلى دعم عملية ''تحسيس وسائل الإعلام''.
وهناك، إلى جانب هذه الأنشطة، مبادرات في ميدان السياسات الثقافية والإرث، الموجهة إلى تعزيز التفاهم بين مختلف الثقافات وتوسيع التعرف والتفتح على الإرث الثقافي، والذي يقوم بدور مهم في الحوار بين الثقافات. وفي هذا الإطار، سوف يتم التركيز، عبر برامج ملائمة، على معرفة واحترام الإرث الثقافي للآخر باعتباره مصدراً للتنوع والغنى الثقافي.
سوف يتم تطوير ومتابعة المشروع الحالي و المعروف بـ ''صورة الآخر كما هي ملقنة في دروس التاريخ''
يعتزم مجلس أوروبا مواصلة المشروع وبحث توسيع مجال تطبيقه، لاسيما بتعاون مع اليونسكو، والألكسو، ومركز البحوث للتاريخ، والفنون والثقافة الإسلامية.
5. 4. فضاءات حوار الثقافات
يعتبر خلق فضاءات للحوار بين الثقافات مهمة جماعية. فبدون فضاءات ملائمة، ومفتوحة وجذابة، لا يمكن أن يكون هناك حوار بين الثقافات، فبالأحرى أن يزدهر. وقد أصدر مجلس أوروبا عدة توصيات في هذا الصدد.
وتوجه الدعوة للسلطات العمومية وجميع الفاعلين المجتمعيين لتطوير الحوار بين الثقافات في فضاءات حياة يومية وفي إطار احترام الحريات الأساسية. ولعل فرص خلق مثل هذه الفضاءات كبيرة جداً.
ومن واجب السلطات المحلية تنظيم الحياة المدنية في المجال الحضري بشكل يمكن من مضاعفة إمكانيات الحوار، مع احترام حرية التعبير والمبادئ الديمقراطية. وتشكل الفضاءات المادية والمحيط المشيد عناصر استراتيجية للحياة الاجتماعية. ويجب منح اهتمام خاص لتصميم وتدبير الأماكن العمومية، مثل الحدائق، والمنتزهات العمومية، والمطارات ومحطات القطار. ويشجع المهندسون الحضريون على خلق ''مدن مفتوحة''، تتضمن ما يكفي من المجالات العمومية المخصصة للقاءات. ويمكن أن تساهم هذه الفضاءات التي يجب أن تصمم، بفكر منفتح وبالتالي بتصور يروم الاستعمال المتعدد الوظائف، في خلق نظرة مدنية مشتركة للمجال والتزام بين مختلف الثقافات.
والدعوة موجهة إلى منظمات المجتمع المدني، ومنها بشكل خاص المجموعات الدينية، إلى توفير محيط يشجع اللقاءات بين الأفراد ذوي ثقافات مختلفة وبين الأديان. كما يتعين على القطاع الخاص والشركاء الاجتماعيين أن يسهروا على أن لا يصبح التنوع الثقافي في عالم الشغل مدعاة للنزاعات، بل على العكس من ذلك، مصدراً للعمل الإبداعي الموحد وعامل تكامل.
وبإمكان الصحافة، إذا تم تشجيعها بطريقة مسؤولة من خلال تحديد أخلاقيات المهنة من قبل قطاع الإعلام وعبر تحسيس الصحافيين بالاختلافات الثقافية خلال تكوينهم، أن تساهم في تطوير منتديات للحوار بين الثقافات. وحتى يمكن عكسُ تنوع تكوين المجتمع في هياكله الداخلية، على منظمات الإعلام أن تتبنى سياسة تطوعية، مصحوبة ببرامج تكوين ملائمة، موجهة إلى الارتقاء بالأفراد المنتمين لمجموعات مهمشة والأقليات غير ممثلة بما يكفي على كل مستويات الإنتاج والتدبير، مع الأخذ بعين الاعتبار الكفاءات المهنية المطلوبة كما يجب.
ويعتبر مجلس أوروبا أن الأمر يتعلق بتطبيق مهم لحرية التعبير، الذي لا ترجع مسؤوليته فقط إلى مهنيي القطاع العموميين. بل ينبغي على جميع وسائل الإعلام أن تبحث عن وسائل تشجيع أصوات الأقليات، وتدعو إلى الحوار بين الثقافات والاحترام المتبادل.
وهكذا تصبح السلطات العمومية والفاعلون غير الحكوميين مدعوين إلى تطوير الثقافة، والفن والإرث الثقافي، وهذه القطاعات هي التي توفر مجالات حوار ذات أهمية خاصة. فالإرث الثقافي، والأنشطة الثقافية ''الكلاسيكية''، و''المسارات الثقافية''، والفنون المعاصرة، والثقافة الشعبية أو ثقافة الشارع، والثقافة التي يوصلها الإعلام والإنترنت، تخترق الحدود بشكل طبيعي وتقيم روابط بين الثقافات. كما تخلق الفنون والثقافة فضاء للتعبير الفردي خارج إطار المؤسسات، ويمكنها أن تقوم بدور وسائطي. لذا يتعين على جميع الأطراف المشاركة أن تشجع على مشاركة مكثفة في الأنشطة الثقافية والفنية. ويمكن للأنشطة الثقافية أن تساهم بشكل واسع في تحويل مكان ما إلى فضاء عمومي مشترك.
بفضل ''لقاء 2008 المنعقد حول البعد الديني في الحوار بين الثقافات''، والذي نظم على سبيل التجربة يوم 8 أبريل 2008، وفر مجلس أوروبا لممثلي الطوائف الدينية وباقي الفاعلين من المجتمع المدني، إضافة إلى الخبراء الحاضرين، إمكانية المشاركة في نقاش معمق حول المبادئ التي يجب تطبيقها في السياسة التربوية بخصوص ''تلقين الشأن الديني وباقي المفاهيم الملقنة بخصوص المعتقدات الأخرى'' وكذا الإجراءات العملية لتنظيم هذا التلقين. وقد ساهم هذا اللقاء كذلك، بالنسبة لهذه القضايا، في تحديد التوجهات والأفكار التي سيكون بإمكان المشاركين تطبيقها في مجالات عملهم، إلى جانب عدة توصيات تدخل في إطار سياسة العمل التي يتبعها مجلس أوروبا. وسوف يتم بحث كل المتابعات الممكن اعطاؤها لـ ''لقاء 2008'' بمناسبة تقييم هذه المبادرة، والتي سوف تنجز خلال سنة .2008
جائزة مجلس أوروبا بخصوص مساهمة الإعلام في الحوار بين الثقافات
ينوي مجلس أوروبا تقديم جائزة سنوية لوسائل الإعلام التي تساهم بشكل مثالي في تفادي أو حل النزاعات، وفي التفاهم والحوار. كما ينوي إنشاء شبكة معلومات إلكترونية حول مساهمة وسائل الإعلام في الحوار بين الثقافات.
سوف يدير مجلس أوروبا مبادرات رائدة مع وسائل الإعلام. فإلى جانب الجائزة المذكورة آنفاً سوف تقدم إلى وسائل الإعلام، تثميناً لمساهمتها في الحوار بين الثقافات. وتنوي المنظمة، بعد القيام بمشاورات مع مؤسسات دولية أخرى وبتعاون مع الشركاء المناسبين، إنشاء شبكة إلكترونية غير رسمية، تمكن المهنيين والمنظمات العاملة في القطاع من القيام بتبادل حول الحقوق، والمسؤوليات وظروف عمل الصحافيين خلال الأزمات.
5. 5. حوار الثقافات في بعده الدولي
يتعين على السلطات المحلية والإقليمية أن تدرس إمكانية إطلاق مشاريع تعاون بين المؤسسات الشريكة في مناطق أخرى من أوروبا. وتساهم الإجراءات المتخذة على هذا المستوى بقوة في حسن الجوار بين الدول، وهي بذلك تقدم إطاراً مثالياً لتطور العلاقات بين مختلف الثقافات. ويمكن للسلطات المحلية والإقليمية أن تحضر بانتظام وبشكل مؤسساتي مشاورات مع جماعات أو سلطات إقليمية تابعة للدول المجاورة حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، وذلك بهدف تحديد حلول، بشكل مشترك، وتعريف الحواجز القانونية والعملية للتعاون عبر الحدود وبين الأقاليم واتخاذ الإجراءات الضرورية لحلها. فبإمكانهم تنظيم دورات تدريبية، لاسيما في الجانب اللغوي، بالنسبة للأشخاص المشاركين في هذا النوع من التعاون المحلي.
وبإمكان منظمات المجتمع المدني ومهنيي التربية أن يساهموا في الحوار بين الثقافات على المستويين الأوروبي والدولي، وذلك بالانخراط، على سبيل المثال، في هياكل أوروبية غير حكومية أو عبر المساهمة في شراكات وبرامج عابرة للحدود، وخصوصاً منها تلك الموجهة للشباب. وتعود مسؤولية دعم المجتمع المدني ومهنيي التربية في هذه المهمة على المؤسسات الدولية مثل مجلس أوروبا.
وتظل وسائل الإعلام مدعوة إلى وضع آليات، إقليمياً ووطنياً وأوروبياً، بهدف تبادل وإنتاج مشترك لبرامج ساهمت بشكل واسع في تعبئة الرأي العام ضد عدم التسامح وتحسين العلاقات بين الجماعات.
وسوف يشجع ويطور مجلس أوروبا التعاون مع منظمات نشيطة في مجال الحوار بين الثقافات، مثل اليونسكو ومبادرة ''تحالف الحضارات''، والمنظمة الأوربية للأمن والتعاون، والاتحاد الأوروبي والمؤسسة الأورو ــ متوسطية ''أنّا ليند'' من أجل الحوار بين الحضارات، وكذلك مع المنظمات الإقليمية الأخرى، مثل جامعة الدول العربية ومنظمتها التي تعنى للتربية والثقافة والعلوم )الألكسو(، التي تمثل منطقة تتوفر على عدة روابط مع أوروبا، لكن لديها تقاليد ثقافية مختلفة. كما سيشجع مجلس أوروبا الحوار بين الثقافات على أساس معاييره وقيمه في سياق مشاريع معينة ينتج عنها تعاون مع مؤسسات مثل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة )الإيسيسكو( ومركز البحوث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية. وسوف تتركز نشاطات التعاون، على المستوى الإقليمي، حول العلاقات بين أوروبا والمناطق المجاورة لها، وبالخصوص، الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، والشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
توسيع وتنشيط ''أرضية فارو المفتوحة''
سوف يطور مجلس أوروبا، بتشاور مع اليونسكو، إمكانيات ''أرضية فارو المفتوحة'' للتنسيق الدولي بين الأعمال المنفذة في ميدان الحوار بين الثقافات.
سوف يطلق مجلس أوروبا، خلال الأشهر القادمة، مبادرات جديدة لإعادة توطيد علاقات التعاون مع شركائه الحاليين والارتباط بشركاء جدد. وفي هذا الصدد، يجدر ذكر ''أرضية فارو المفتوحة'' والتي أنشئت بشراكة بين مجلس أوروبا واليونسكو سنة 2005، بهدف تشجيع التعاون ما بين المؤسسات في ميدان الحوار بين الثقافات.
وفيما يلي أمثلة أخرى للأنشطة التي تكتسي الأولوية في هذا المجال :
* أعلن الاتحاد الأوروبي 2008 سنة أوروبية للحوار بين الثقافات. كما يشكل كل من ''الكتاب الأبيض حول الحوار بين الثقافات'' و''لقاء 2008 حول البعد الديني للحوار بين الثقافات''، والذي نظم على سبيل التجربة، مساهمتين مهمتين للمجلس الأوروبي في السنة الأوروبية للحوار بين الثقافات(12). ويساهم مجلس أوروبا بشكل خاص في برنامج الأنشطة وفي النقاش الحيوي حول إمكانيات عمل على المدى الطويل، إضافة إلى نشاطات أخرى، مثل حملة مناهضة الميز لسنة 2008، ومبادرة ''المدن ذات الثقافات المتعددة''، ونشر حصيلة الإجتهادات القضائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حول الحوار بين الثقافات والمركز الأوروبي للموارد حول التربية على المواطنة الديمقراطية والتربية البين ثقافية )أوسلو(.
* يقر مجلس أوروبا بمساهمة ''مركز شمال جنوب'' ودوره الأساسي. وهو لا يجمع حكومات فحسب، بل كذلك برلمانيين، وجماعات محلية وإقليمية، وممثلين عن المجتمع المدني. وتتركز أولوياته حول التربية على المواطنة العالمية، والشباب، وحقوق الإنسان، والحكامة الديمقراطية والحوار بين الثقافات. ويضيف المركز بعداً مهماً للجهود الدولية الرامية إلى تشجيع التعلم الثقافي المتنوع، والتفاهم والحوار السياسي داخل وبين مختلف القارات.
* ''الفنانون من أجل الحوار'' هو عنوان برنامج جديد حول الثقافة والإرث، الذي أطلق سنة 2008 ويضم المنطقة المتوسطية، وهو يهدف إلى تعميق الحوار بين الثقافات في صفوف الفنانين والفاعلين الثقافيين.
* سوف تواصل لجنة البندقية تعاونها مع المحاكم الدستورية والهيئات الموازية في أفريقيا، وآسيا والأمريكتين، إلى جانب البلدان العربية. ويشكل هذا التعاون مثالاً جيداً للحوار بين الثقافات، المرتكز على عمل ملموس وعلى مبادئ الإرث الدستوري.
* يصر المؤتمر المعني بمشاركة السلطات المحلية والإقليمية على مواصلة عمله مع شركائه في المنطقة المتوسطية، لاسيما في إطار التعاون الفلسطيني ــ الإسرائيلي والتعاون مع المدن العربية حول مواضيع مثل الحكامة الجيدة على المستوى المحلي إضافة إلى القضايا المتعلقة بالهجرات.
ـــــــــــــــ
(1) انظر بالخصوص قرارات سميث وغرادي، ج/المملكة المتحدة، 1990/09/29، 90، س. ل. ج/النمسا، 2003/01/09، 37 ؛ كارنر ج/النمسا، 2003/07/24، 37.
(2) انظر التقرير التفسيري للبروتوكول رقم 12 المنبثق عن الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، ص .20
(3) توصيات السياسة العامة رقم 7 الصادرة عن اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح حول التقنين الوطني الرامي إلى مناهضة العنصرية والميز العنصري، .2002
(4) أدانت القمة الثالثة لمجلس أوروبا سنة 2005 بصرامة ''جميع أشكال عدم التسامح والميز، لاسيما تلك المبنية على الجنس، والعرق والدين، بما في ذلك المعاداة للسامية وكراهية الإسلام''. كما اعترفت لجنة الوزراء بأن الروم والرحل قد تعرضوا لأشكال ميز في جميع قطاعات الحياة. من جهة أخرى، توصي اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح بأن يعاقب القانون ''الإنكار، والتخفيف الفظ، والتعليل أو الثناء العلني، بغاية عنصرية، لجرائم الإبادة الجماعية، أو الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب'' إذا كان ذلك عن قصد )توصية السياسة العامة رقم 7 الصادرة عن اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح حول القانون الوطني من أجل مناهضة العنصرية والميز العنصري(. وتشير اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح أيضاً إلى ضرورة مكافحة الأحكام المسبقة والجاهزة التي تعاني منها الجاليات المسلمة، والمعاقبة، بشكل ملائم، الميز المبني على الدين )توصية السياسة العامة رقم 5 الصادرة عن اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح حول مكافحة عدم التسامح والميز حيال المسلمين(.
(5) إعلان حول استعمال وسائل عنصرية معادية للسامية وللأجانب في الخطاب السياسي )مارس 2005(.
(6) المادة 4، الفقرتين 2 و3 من إطار الاتفاقية الخاصة بحماية الأقليات الوطنية.
(7) سراييفو سنة 2003، وتروينا سنة 2004، وبوخارست سنة .2006
(8) يقدم ''الملخص'' معطيات معينة حول السياسة لصالح التنوع الثقافي والحوار البين ثقافي. بشكل أعم، فإنه يقدم، للفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين، مورداً أوروبياً لأهداف مقارنة وإبداع www.culturalpolicies.net
(9) المؤتمر المنعقد حول السلطات المحلية والإقليمية، الهيئات المحلية للمقيمين الأجانب : الكتيب الصادر )ستراسبورغ 2003(.
(10) اللجنة الأوروبية للديمقراطية عبر القانون )لجنة البندقية(، التقرير حول غير المواطنين وحقوق الأقليات ل.د.ق. )2007( 001، فقرة .114
(11) توصية )2001( 15 لمجلس وزراء الدول الأعضاء المتعلقة بتلقين التاريخ في أوروبا القرن 21 تشير إلى أن ''تلقين التاريخ لا يمكن أن يكون أداة تلاعب أيديولوجي، أو دعوة أو ترويج لأفكار قومية متعصبة، أو معادية للأجانب، أو عنصرية أو معادية للسامية وغير متسامحة. لا يمكن، بأي في أي حال من الأحوال، وتحت غطاء أي نية، أن تكون الأبحاث التاريخية أو التاريخ كما هو ملقن في المدرسة، متطابقة مع القيم الأساسية والقانون الأساسي لمجلس أوروبا إذا كانت تنتج أو تروج تمثيلات خاطئة للتاريخ بواسطة أحد هذه الوسائل :
ــ تزوير الأحداث التاريخية، الغش في الإحصائيات، التلاعب بالصور، إلى غير ذلك؛
ــ التركيز على حدث معين من أجل تعليل أو تغطية حدث آخر؛
ــ تشويه الماضي لأهداف ترويجية؛
ــ نسخة قومية بشكل مبالغ فيه للماضي، من شأنها أن تسبب ثنائية بين ''نحن'' و''هم''؛
ــ تحريف للمصادر التاريخية؛
ــ إنكار لأحداث تاريخية؛
ــ حذف أحداث تاريخية )ملحق، قسم 2 حول ''تحويل اتجاه التاريخ''(.
(12) تجسد هذه المبادرات كذلك مثالين ملموسين لتنفيذ مذكرة الاتفاق الموقعة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا في مجال الحوار بين الثقافات والتنوع الثقافي.
. السبيل الذي يجب نهجه
يهدف هذا الكتاب الأبيض إلى تحديد توجه واضح في ميدان الحوار بين الثقافات، لكنه لا يمكنه توفير خارطة طريق مفصلة. وهو لا يشكل سوى مرحلة في مسلسل أطول. ويتعين مراجعة وتكييف استنتاجاته وتوصياته، إذا اقتضى الأمر، بتشاور مع الأطراف المتدخلة الأخرى. كما يتعين تتبع وتقييم الخطوط الرئيسة والتوجهات الملموسة المحددة هنا بالشكل الملائم.
ويدعو مجلس أوروبا جميع الأطراف الأخرى المشاركة إلى متابعة ما وصف في بعض الأحيان بـ ''مسلسل الكتاب الأبيض''، والذي ربط علاقة بين المنظمة وعدد كبير من الشركاء، من مؤسسات دولية إلى مناضلين عاديين. وكل شركائنا مدعوون إلى الاستمرار في تقديم المشورة للمنظمة حول التوجهات التي يتعين اتخاذها، واقتراح برامج ومشاريع، وإخبارها بكل تطور من شأنه أن يهدد الحوار بين الثقافات.
إن الحوار بين الثقافات ضروري لبناء نموذج مجتمعي وثقافي جديد يتماشى مع أوروبا التي تعرف تطوراً سريعاً، وهذا الحوار يمكّن جميع الأشخاص الذين يعيشون في مجتمعاتنا المتعددة الثقافات من الاستفادة من حقوق الإنسان والحريات الأساسية. ويشكل هذا النموذج الذي هو في طور البروز نتاج عمل حالي يشارك فيه العديد من المتدخلين. وهو ينطوي على مسؤوليات كبيرة يقع على عاتق السلطات العمومية على جميع المستويات، وجمعيات المجتمع المدني وجميع الأطراف الأخرى المتدخلة.
ويقدم مجلس أوروبا هذا الكتاب الأبيض كمساهمة في نقاش دولي ما فتئ يتطور. وقد أصبحت قضية تعلم العيش سوياً، في إطار من التنوع الثقافي المتزايد مع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، من الضروريات الأساسية لعصرنا وستبقى كذلك لعدة سنوات أخرى.
ستراسبورغ، يونيو 2008.
الملحق
سرد لأهم الاتفاقيات، والإعلانات، والتوصيات والنصوص المرجعية الأخرى الصادرة عن مجلس أوروبا والمتعلقة بالحوار بين الثقافات(1).
اتفاقيات أوروبية منتقاة
ـــــــــــــــ
(1) مذكرة : وضعت الإعلانات، والتوصيات والقرارات التي تم تبنيها بعد سنة 1980 بترتيب زمني. جميع النصوص متوفرة على موقع مجلس أوروبا www.coe.int
المصدر: http://www.isesco.org.ma/arabe/publications/White%20Book/Menu.php