حالة حوار الثقافات في العالم
حالة حوار الثقافات في العالم
مناهضة الاستشراق الجديد
رفيف صيداوي
تقرير حالة حوار الثقافات في العالم”، الصادر حديثاً عن مؤسّسة الفكر العربي، وتحديداً عن مرصد حوار الثقافات فيها، هو خلاصة دراسة مسحيّة لعيّنة من الصحف والدوريات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والعربيّة، قام بها كلّ من الدكتور محمود خليل والدكتور عماد بشير بهدف رسم صورة العرب في عيون الغرب من خلال الصحافة الغربية، ورسم صورة الغرب في عيون العرب من خلال الصحافة العربية.
يأتي هذا الكتاب في وقت باتت تشكّل فيه العولمة، بمختلف تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، تهديداً لمبدأ السيادة القومية، فضلاً عن مسؤولياتها في ازدياد حدّة الصراعات بين الأفراد والجماعات الطائفيّة والمذهبية والإثنية سواء في الدولة الواحدة، أم بين الدول. وهي صراعات اشتدّ احتدامها مع انتهاء الحرب الباردة وسيادة خطاب ثقافي عنصري يموّه جوهر الصراعات القائم على المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، أي على النفوذ عموماً، باختزاله إلى صدام بين حضارات.
وما ذلك إلا ترجمة أيديولوجية لمقولة صموئيل هنتنغتون، ومفادها أن الإنسانية مقسَّمة إلى جماعات فرعية مؤلفة من قبائل وأمم وكيانات ثقافية تسمّى الحضارات، ما يعني أننا نعيش الآن - بحسب ما جاء في مقولة هنتنغتون – حضارة كونية واحدة تخفي التنوّع في الثقافات، وأنه لا بدّ بالتالي من عودة الهويات من جديد إلى المسرح العالمي وتصادمها أو تصارعها.
“تقرير حالة حوار الثقافات في العالم” ما هو إلا عمل يصبّ في الاتجاه المناهض لمفهوم “صدام الحضارات” الهنتنغتوني، بأبعاده الاستشراقية الجديدة التي تكرّس صورة نمطية عن العرب والمسلمين على اختلاف بلدانهم وأطيافهم وخلفياتهم وتجاربهم، والتي راحت تقابلها استشراقية معكوسة تختزل الغرب بدوره إلى كتلة واحدة أحادية، بحيث ساهمت هاتان الصورتان النمطيّتان لكلّ من العالم العربي والإسلامي والعالم الغربي الأوروبي الأميركي في صوغ تصورات أحادية لكلّ منهما.
لقد استند التقرير في قسمه الأول الذي حمل عنوان:”صورة الغرب في الصحافة العربيّة” إلى عيّنات صحافية أساسية منها “الأهرام” المصرية، و”الحياة” الصادرة في لندن، و”الرياض” السعودية، و”النهار” الّلبنانية، و”البيان” الإماراتية، و”الأخبار” الجزائريّة، فضلاً عن مجلات ثقافية مثل مجلة “العربي” الكويتية، مجلة “المعرفة” السورية، مجلة “وجهات نظر” المصرية.
في حين استند القسم الثاني، ومن خلال رصده صورة العرب في عيون الغرب إلى صحيفتين يوميتين إحداهما بالإنجليزية (New York Times) والأخرى بالفرنسية (Le Monde)، فضلاً عن صحيفة أسبوعية بالألمانية (Die Zeit)، وأربع مجلات أسبوعية إحداها بالألمانية (Der Spiegel) والثانية بالإنجليزية (Time) واثنتين بالفرنسية هما: (Le Figaro) و(Le Point)، ثم مجلتين شهريتين إحداهما بالإنجليزية (Prospect) والأخرى بالألمانية.
ومن الملاحظات التي توصّل إليها الكتاب أن الخطاب الصحافي العربي اقترب من “قضية الصراع ما بين الغرب والعالم الإسلامي”، وحاول أن يفنّد أبعادها. ومن ذلك مثلاً، ما توصّل إليه الكتاب في معالجة مضمون عيّنة الصحف العربيّة، بحيث أكّد الخطاب الصحافي لجريدة “الأهرام” على أطروحة “العرب والمسلمون ضحية التمييز من جانب الغرب”، وعلى أن الشعور العنصري زاد لدى الغربيين بصورة محسوسة عقب أحداث الحادي عشر من ايلول 2001″، فيما أظهرت البيانات أن “فكرة الصراع بين الغرب والإسلام كانت أكثر سيطرة على السياقات “الفكريّة” التي تتمّ معالجة صورة الغرب في إطارها” ( ص32). في المقابل تفوّقت نسبة ترداد سمة التفوّق العلمي في الخطاب الصحافي لـ”الأهرام” (10.3 %) مقابل (22 %) للهيمنة كسمة سلبيّة كانت الأكثر حضوراً في هذا الخطاب (ص 52-53)، فيما كانت فكرة الحوار مع الغرب هي المسيطرة على الخطاب الصحافي في جريدة “الحياة”(ص 68)، وبلغت نسبة ترداد سمة الحوار بين الإسلام والغرب (68.2 %) (ص 66).
أما خطاب صحيفة “الرياض” السعودية فقد بنى علاقة الغرب بالإسلام على أساس الصراع، وعلى أن “الغرب يرسم صورة نمطيّة سلبيّة عن الإسلام”(ص96). في حين تميّز الخطاب الصحافي داخل صحيفة “النهار” الّلبنانية بكونه خطاباً ثقيلاً ومركّزاً مقارنةً بالصحف اليومية الأخرى. إذ اعتمد على تأطير سمات هذه الصورة ومعالمها عبر مجموعة من الأفكار التي ظهرت داخل عدد من الدراسات الصحافية والمقالات والتقارير الإخبارية وعروض الكتب (ص 124). ولوحظ في صحيفة “البيان” الإماراتية أن العلاقة بين الشرق والغرب كانت الفكرة الأكثر سيطرةً على السياقات (الفكرية) التي تعالج صورة الغرب في إطارها (80 %)، تليها فكرة أن الغرب يعتمد تكريس الذاتية (12 %)، وفكرة الغرب كأنموذج للديموقراطية (4 %)، ثم إن الحداثة هي سرّ تفوّق الغرب (4 %)، ففكرة النموّ العلمي في الغرب (2 %) (ص 144).
في موازاة ذلك، سيطرت فكرة الغرب ككيان استعماري على خطاب صحيفة “الأخبار” الجزائرية (35 %)، ثم الحوار بين الإسلام والغرب (30 %)، ففكرة أن الغرب يعتمد تكريس الذاتية (15 %)، ثم الذات وتحدي الآخر الغربي (10%)، فقيم الحداثة سرّ تفوّق الغرب (10 %) (ص 176).
هذا، وأشارت المحصلة النهائية للنتائج المدرجة في إطار “تقارب الحضارات والثقافات” إلى أن المطبوعات الإنجليزية المشمولة في الدراسة سجّلت نسبة تساوي 43.3 % من مجموع المواد الإعلامية الواردة في هذا الإطار، مقابل نسبة 41.1 % للمطبوعات الفرنسية من المجموع المذكور، ونسبة 15.5 % للمطبوعات الألمانية. أما بالنسبة إلى النتائج الواردة في إطار مجموع المواد الإعلامية الواردة في إطار “تباعد الحضارات والثقافات” فقد سجّلت المطبوعات الفرنسية نسبة تساوي 48.5 %، مقابل 28.8 % للمطبوعات الإنجليزية و22.8 % للمطبوعات الألمانية (ص375).
الكتاب المتميّز بطابعه العلمي المستند إلى مسح الرسالة الإعلامية، وفي رصده الموضوعي للقضايا والظواهر التي يختزنها الخطاب الإعلامي، يكتسي أهميته من رسالته الأساسيّة. وهي رسالة ترمي إلى الحوار بدلاً من الصراع، انطلاقاً من نزعة مناهضة لأيديولوجية العولمة ونزعتها الاستشراقية التي قد تؤدّي إلى أمرين كلاهما مرّ: مواصلة تنميط صورة المسلمين والعرب بكلّ ما تختزنه من سلبيات لا تختلف عن تلك التي أنتجها الاستشراق منذ عقود طويلة، وثانيها إيهام العرب والمسلمين بتخلفهم الأبدي.
ألم يتساءل أندريه سرفييه في كتابه “L’islam et la Psychologie du Musulman ” الصادر في العام1923 أنه لو كانت الحضارة الإسلامية حقاً مشعة وعظيمة كما يشاع عنها، فلماذا فقدت إذاً فضائلها هذه؟ ولماذا فقد السوريون والمصريون والبرابرة الطاقة والذكاء وروح المبادرة والاندفاع التي أظهروها في ظلّ الحكم الإغريقي والروماني ما إن تمّت أسلمتهم؟ وقد ورد ذلك كلّه في سياق تأكيده على عجز المسلمين عن تجاوز البربرية (ص 12)، وعلى أنه لا توجد حضارات عربية، وأن العربي لا يتمتّع بالقدرة على التخييل، وأنه نقل فكر الشعوب الأخرى مشوّهاً، وأن الإسلام من خلال عقائده الثابتة أو غير القابلة للتغيير شلّ الأدمغة وقضى على روح الإقدام أو المبادرة.
ومن بين الأهداف التي ترمي إليها هذه الصورة عدم الاستهانة بالإسلام والعرب، لأن الإسلام برأيه “لا يشكّل عنصراً عابراً في مصائر الإنسانية؛ إذ إن هذه المجموعة المؤلفة من 300 مليون مؤمن تزداد باستمرار، ولاسيما أن أرقام المواليد في معظم البلدان الإسلامية تفوق أرقام الوفيات، ولأن البروباغندا الدينية تضمّ إليها كلّ يوم مؤمنين جدداً من بين الشعوب التي لا تزال بربرية”(…). إذ إن “التحوّل إلى الإسلام في الهند الإنكليزية بات منذ عشرين سنة، وعلى الرغم من التدابير الوقائية للمستعمِر، بات يفوق ستة ملايين مؤمن، في موازاة تقدّم مماثل في الصين وتركستان وسيبيريا وماليزيا وأفريقيا. علماً بأن البروبغاندا الناشطة للآباء البيض في القارة السوداء تحارب بنجاح التبشير الإسلامي”.
لينتهي أخيراً إلى أن العربي اقتبس كلّ شيء عن الشعوب الأخرى، من أدب وفنّ وعلوم دينية، ومرّ ذلك كلّه من خلال غربال فكره المحدود العاجز عن بلوغ مفاهيم فلسفية عالية. لقد شوّه وبتر وأيبس كلّ شيء.
أما كتاب “تقرير حالة حوار الثقافات في العالم” فهو من الكتب الفكرية والثقافية التي تساهم في نشر أيديولوجية مناهضة لتلك الأيديولوجيات التي تستخدم مفهوم التعدّد، الثقافي أو غيره، كوقود للصراع بين الأمم.
المصدر: http://www.25yanayer.net/?p=11678