الاستشراق الجديد.. ما بين القاعدة وربيع الحرية

جابر بكر

 

"اقتحام الباستيل شيء، ومعركة كربلاء شيء آخر تماماً، ولكي نسعى إلى فهم الحركات في حضارات أخرى، يتوجب علينا أن ندركها في سياقها ومصطلحها، وفي علاقتها بتاريخها، وبأعرافها، وبآمالها"، هذا بعض هجاء شيخ المستشرقين المعاصرين "برنارد لويس" لهواة المستشرقين الجدد في خطابه أمام مؤتمر جمعية دراسات الشرق الأوسط "MESA" في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1986، والذي نقل أجزاء منه الكاتب الفلسطيني الأمريكي الراحل "إدوارد سعيد" في كتابه "تعقيبات حول الاستشراق"، وجاء ما سبق هجاءً لهواة المستشرقين لما أسماه لويس صرف سحابة نهارهم لاستخراج نظائر زائفة لمقارنة التراث اليهودي – المسيحي مع التراث الإسلامي، واعتبر أن الخطورة لا تكمن في هذه المقارنة فقط، فالأخطر إقران كلمات من نوع "الثورة" بالإسلام، ويتابع لويس "نحن في الغرب نعرف أن هذه الكلمات لا تستدعي في ذهن القارئ الغربي سوى الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية"، وبعدها فوراً يروي لويس في خطابه مقارنته بين معركة كربلاء واقتحام الباستيل.

مستشرقوا اليوم، وبخاصة صغار السن منهم، يرون ما لا يرونه في بلادهم. شعوب المنطقة التي افتُرض أنها ميتة نهضت فجأة، وأثبتت للعالم أجمع أنها لا تنتظر تسمية الثورة قبل أو بعد كلمة "الإسلام"، ولا يعنيها بصيغة أو بأخرى مصدر ثورتها ، إن كان مصدرها الدين الإسلامي أم العلمانية أم الجوع أم الاستبداد وهذا الأخير الأكثر ترجيحاً.

تنبؤات لويس جاءت بجزئية الثورة دقيقة لكنها فشلت بتحديد هوية الفاعلين، فهو توقع ثورات إسلامية راديكالية منع على أساسها تسميتها بالثورات، فالثورة الإسلامية لا تشبه الغربية، بحسب تعبيره وقراءته وربما صدق بهذا، فالعرب اليوم ثاروا بحثاً عن كرامتهم التي فُقدت، وهنا صدقت نبوءة طالب العلوم السياسية، الباحث في شؤون السياسة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، المستشرق النرويجي الشاب "تور هاكن"، حيث قال لدى لقائنا به وبطريقة عفوية بسيطة مخاطباً العرب "أنتم شعوب حية أكثر منا نحن الأوربيون، فأنتم تهتمون بالسياسية والاقتصاد والعالم المحيط، أما نحن فلا يعنينا إلا الضرائب وبعض التفاصيل اليومية الاعتيادية".

 

وتابع "هاكن" رؤيته لمستقبل المنطقة بأنه "سيحدث تغيرٌ غريب وكبير في الشرق وإن طال الوقت"، وعندما دفعناه للدخول في التفاصيل، تحدث عن تحولات في المجتمعات المحلية التي تموج وتمور تحت وطأة الأحداث يومياً، و"لن تقف مكتوفة اليدين بل ستسعى لتغير واقعها، وإن دفعت الكثير من الدماء".

 

اليوم يذهلنا ما قاله "هاكن" قبل رحيله عن دمشق قبيل نهاية عام 2010، وينشر للمرة الأولى، وقبل وقوع أي احتجاج في المنطقة، وليست إلا أيام قليلة حتى اندلعت الثورة التونسية ولم تكن غير البداية، فتلتها مصر وثورتها المذهلة التي وضعت العالم، مع زميلتها التونسية، أمام استحقاقات جديدة هي "إرادة الشارع وثورة الشعب"، وناطحت ليبيا الغضب، لتلد إرادة الثوار فيها رغبة الحرية، ولم يكن اليمنيون بعيدين عما يجري فأذهلوا العالم بعددهم ونموهم ورغبتهم الحقيقية بالحرية، وجاءت سوريا متأخرة في حراكها الشعبي الذي انطلق في آذار/مارس عام 2011 فحمل الكثير من الدماء التي لن تجف قبل أن تنبت شجرة الحرية التي ناد بها أطفال درعا قبل شيبها، ولم تنجُ بعض دول الخليج أو المغرب العربي عموماً من الحراك الشعبي على اختلاف المطالبات والحاجات ولكنها جميعا اجتمعت تحت مسمى الحرية، فالعالم العربي يشهد ولادة جديدة بمخاض يتنبأ البعض أنه سيطول كثيراً.

سنوات ربما تناهز العقد أو يزيد وستغيير خارطة الأنظمة السياسية في العالم العربي، في بلاد ابتلعت شعوبها لعقود طويلة شعارات "الحلول السحرية" ، وتوالت على هذه الشعوب الهزائم السياسية والاقتصادية والثقافية، فأنتهت "خسائر الشرق" الاستشراق بالمعنى التقليدي لتنقله إلى مرتبة جديدة تتألف وعالم العولمة "القرية الغربية الصغيرة"، خاصة أن مسمى المستشرق ربط ولم يزل بالاستعمار والحروب، فالمستشرقون كانوا لسنوات منظري القادة السياسيين في الغرب وسبيلهم لفهم طرق التحكم والسيطرة على هذه الشعوب المسكينة والتي تُحسب لها هفواتها ونزواتها ورغبتها بالحرية كأنها تبتاع الماس الثمين وتدفع لقاء قليل من الديمقراطية آلاف الأرواح ومئات الملايين من الدولارات خسائر.

ومن ثم جاءت أعوام الألفية الجديدة ليطل على العالم "المجاهدون المسلمون" من براري أفغانستان وولدت حكاية القاعدة التي أطاحت بأبراج المال الأمريكية وهددت أمن وزارة الدفاع الأقوى في العالم "البنتاغون"، بهجوم لطائرات حطمت وأحالت برجي التجارة العالميين في نيويورك إلى رماد وفجرت جزءاً يسيراً من "البنتاغون" وأرهبت الشعب الأمريكي الذي أذهلته المشاهد وأثار غيظه ما حل به في عقر داره فقرر الانتقام، فبدأ بمقر ما سمي "القاعدة" أي أفغانستان فضرب وضرب واجتاح البلاد وزار الجبال ومسح الصحارى والتلال والغابات والحقول والقرى الصغيرة والكبيرة ولم يجد رأس بن لادن إلا بعد عشرة أعوام عجاف مرت على العالم دون سلام وأين؟ في باكستان الحليف المقرب جداً.. وتبع حرب أفغانستان حرب العراق وما تبعها من سناريوهات للمنطقة عموماً.

ختاماً عاد الشرق ملاذاً للباحثين الغربيين عن سر حب الموت بهذه الطريقة فلا تهدأ حرب حتى يطلب المسلمون حرباً أخرى وإن كانت في غالب الأحيان ليست بيدهم ولا بقرارهم ولكنهم جزءٌ منها وجاءت الوفود تلو الوفود وقرأت الكتاب المقدس لدى المسلمين بحثاً عن الآيات التي تبيح الانتحار في سبيل الله وما هذا الدين الذي يشغف قلب البشري فيحوله إلى قنبلة تنفجر بكل من ينطبق عليه وصف "عدو الله".

هذا الخسران الكبير الذي مر على المنطقة علناً وما خفي أعظم بكثير، ولّد يأساً أنجب "ثورة"، أو هذا ما يراه السياسي اليساري، الباحث والطالب البريطاني "نيل كرتشلي" والذي يبحث في رسالته لنيل درجة الدكتوراه "علاقة المنظمات الشيوعية مع الحركات الإسلامية في المنطقة"، فأكد "كرتشلي" ما سبق من أسباب الثورات، وأضاف إليها نقص العدالة في توزيع الثروة ما ولد الفقر فانبلج الغضب، لكنه رفض تقيم ما يجري في ليبيا، وقتها عام 2010، أو ما جرى في تونس ومصر، فهو يرى أن الثورة تحتاج لوقت حتى نعرف أين ستحط رحالها؟ وما هي نتائجها؟، لكنه أكد بأن العالم الغربي عموماً لم يتوقع ما يجري اليوم في المنطقة، فالثورات أربكت السياسيين والحكومات، ومراكز بحثهم اليوم تعمل لتجيب على سؤال "ماذا بعد الثورات الشعبية هذه؟" وإن حاولنا التقريب بحسب كلام "كرتشلي" فإن البحث يجري عن آلية لإعادة السيطرة على الحكومات المتوقع أن تصل إلى السلطة بعد موجات الغضب العربية.

بالعودة إلى هجاء برنارد لويس في عام 1986 وتحذيره من إضافة مصطلح الثورة للإسلام والذي تراجع عنه في آذار عام 1993 فلم تعد مسألة المقارنة بين الثورات الفرنسية أو الروسية والثورة الإسلامية مطروحة، حيث تكشفت لـ "لويس" وجهة نظر جديدة نشرت في مجلة "نيويورك" تحت عنوان "أعداء الله" فكتب "إن الثورة الإسلامية تمتلك "يعاقبتها وبلاشفتها"، بالحماس الشرس للمجموعة الأولى وبالثوابت الجامدة للمجموعة الثانية وبالعنف الدامي للاثنتين معاً، ولن يطول الأمر، بحسب ما كتب لويس ونقل سعيد، حتى تفرز هذه الثورة نموذجها النابوليوني أو الستاليني لكي تبلغ ذرى جديدة من حربها ضد "أعداء الله." ويوضح لويس بأن الثورة الفرنسية عرفت خصومها اجتماعياً "الارستقراطية" والثورة الروسية عرفتهم اجتماعيا واقتصاديا وإيديولوجياً "البرجوازية /الرأسمالية/ الثورة المضادة" فإن الثورة الإسلامية برأي لويس تضم جميع ما ذكر تحت عنوان "أعداء الله" لكن الواقع اليوم يروي حكاية مختلفة فلا ثورات إسلامية بالمعنى الدقيق للكلمة ولا وجود لحرب مع "أعداء الله" بل ثورة وحرب بالصدور العارية مع أعداء الحرية وإرادة الشعب.

لم تُبق الحركات الاسلامية، كالاخوان المسلمين في مصر بعد الثورة، والعنيفة كالجماعات الجهادية في سوريا وليبيا والعراق، والسلفية كتونس، والقبلية كاليمن، والعسكرية الانقلابية في مصر اليوم، لم تبق لحرب الصدور العارية والثورات البيضاء ياسميناً وورداً، فجردتها من مدنيتها وأحالتها حركات دينية بمروحة واسعة من الخيارات تبدأ بالجماعة المقاتلة الصوفية وصولا لدولة الاسلام في العراق والشام آخر إصدارات القاعدة، وربما هنا تتحقق رؤية لويس بالنسبة للثورات في العالم الاسلامي، ولكن يتوجب تحليل الموقف بدقة أكبر وبعناية أكثر لفهم السبب الكامن خلف هذا التحول الذي ضرب تلك الثورات.

المصدر: http://arabic.cnn.com/middleeast/2014/05/29/syria-revolution-opinion-jab...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك