مخالب الاستشراق الجديد.. ورؤوسه الثلاث

د. خزعل الماجدي

 

إذا كان الاستشراق القديم (الكلاسيكي) قد طوّر أدواته للسيطرة على الشرق وساهم في حرث الطريق لحركة الاستعمار الغربي عليه، فإن الاستشراق الجديد يطوّر أدواته، اليوم، ليدمّر الشرق ويدفعه للانتحار مستغلاً مشاعر الناس وحاجتهم للإصلاح والتغيير ولكنه يشجع هذا عبر إشاعة الاضطرابات وتقويض الدول و(الفوضى الخلاّقة) وحركات ما يسمى بـ (الربيع العربيّ). ينتقل الاستشراق الجديد من الحرب الباردة إلى صناعة الإرهاب بخطىً واضحةٍ ومنظمةٍ، وقد تتبعنا هذه الخطى وألقينا الضوء على تاريخ الاستشراق الجديد ورموزه الذين حفّزوا ظهور الجانب المدبّب في الإسلام وربطوه بالإرهاب وصنعوا المهاد النظري لما نشهده اليوم، على الأرض، من خرابٍ في الشرق العربيّ الإسلاميّ تحديداً، وسنتناول، هنا، مناهج هذا الاستشراق (الأنثروبولوجية، السوسيولوجية، الألسنية، التاريخية الأركيولوجية) ونكشف عن الجوانب العلمية فيها وعن جوانبها المؤدلجة.

مع منتصف القرن العشرين وصل الاستشراق القديم ذروته حيث كان يعتمد، أساساً، على فقهاء اللغة (الفيلولوجيين)، وكانت قد بدأت مرحلة جديدة أساسها الاعتماد على باحثين من حقولٍ معرفية جديدة في الاستشراق كان أغلبهم من المتخصصين بالعلوم الإنسانية الحديثة كالاجتماع والاقتصاد والسياسة والأنثروبولوجيا والأدب والفنون. وقد صاحب ذلك نوع من توسيع دائرة الاستشراق خارج المركز اللغوي الغربي والمركزية الغربية وبؤرة الحداثة، وبدا كما لو أن الاستشراق بمفهومه الشائع قد انتهى.

ظهر ذلك جلياً في مؤتمر الاستشراق الذي عقد في لندن عام 1967 الذي ناقش التاريخ الاقتصادي للعالم الإسلامي، وظهرت ميول لنقل مركز الاستشراق من أوروبا إلى أميركا خدمة لأغراض وتوجهات أميركا نحو الشرق الأوسط عموماً. وكان لظهور النقد الموجّه للاستشراق القديم الدور الكبير في توقف أدوات وآليات الطرق القديمة له وخصوصاً بعد نشر كتاب إدورد سعيد (الاستشراق) عام 1978 الذي فضح جانبه التعسفيّ والمهيمن.

 

انتهى مصطلح الاستشراق، رسمياً، في مؤتمر باريس للاستشراق عام 1973 بمناسبة مرور قرن على بداية عقد المستشرقين لمؤتمراتهم العالمية التي كانت تعقد كل (3- 5) سنوات. وحين صوّت المشاركون في المؤتمر على مدى الرغبة في استمرار استخدام مصطلح (استشراق ومستشرق) كانت نتيجة التصويت لصالح إلغاء التسمية مع استمرار المؤتمر بنفس وتيرته ولكن تحت عنوان (المؤتمر العالمي للدراسات الإنسانية حول آسيا وشمال أفريقيا) ثم استبدل بعد مؤتمرين إلى (المؤتمر العالمي للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية).

الماهيّة والبدايات

ما هو الاستشراق الجديد ومتى بدأ؟

بدأ الاستشراق الجديد من نهاية الاستشراق القديم عام 1973 ومن مكانه الجديد في أميركا، وكان لابد من أن يجد له جذوراً جديدة بالإضافة إلى جذره الاستشراقي القديم فوجدها في أربعة مشارب مغطّاة وهي: (دراسات المناطق، مستودعات الأفكار، ما بعد الاستشراق، استشراق ما بعد الحداثة)، ولم يكن الغرض من نشوء هذه البداية واضحاً.

 

ومع بداية التسعينيات من القرن العشرين وتفكك العالم الاشتراكي وسقوط الاتحاد السوفيتي وتصدّع العالم الثالث، ظهرت الحاجة، أميركياً، للاستشراق الجديد ليشكل ظهيراً ثقافياً وأيديولوجياً لإعادة ترتيب العالم من منطلق أميركي جديد تحديداً؛ ولذلك ظهر أول المستشرقين الجدد من أميركا وهم: برنارد لويس وفوكوياما وصموئيل هنتنجتون.

 

الدراسات الإقليمية

العلم المناطقي (الإقليمي) هو حقل من حقول العلوم الاجتماعية يرتبط بمنهج تحليلي للمشاكل الحضرية والريفية والإقليمية، وتشمل نظرية المواقع والاقتصاد المكانية ونمذجة المواقع والنقل وتحديد الهجرة واستخدام الأراضي والثيمة الحضرية والاقتصاد الداخلي والبيئة والتحليل البيئي وتحليل الموارد والنظم والمعلومات الجغرافية والاهتمام بالبعد المكاني الذي يشرف عليه علماء إقليميون (Wikipedia. Regienal Science).

مستودع الأفكار

المشرب الثاني كان ما عرف بـ (مستودع الأفكار، بيت الخبرة، خلية التفكير) و«بيت الخبرة، هي منظمات قومية غير ربحية تهدف لتقديم المشورة لمن يطلبها، فإذا حددت أجراً معيناً فهنا تكون ربحية، مثل: بيت خبرة كلية التربية في جامعة الإسكندرية لعلوم التربية، أما إذا استعانت بها الدول في مناقشة قضية معينة وخاصة إذا كانت استراتيجية أمنية مثل مؤسسة راند فهنا تكون مؤسسة غير ربحية تخضع للدولة وموظفوها يخضعون لنظام التعيين». (انظر: خلية تفكير https:/‏‏‏/‏‏‏ar.wikipedia.org/‏‏‏wiki/‏‏‏).

ما بعد الاستشراق

كان إدوارد سعيد قد نحت المصطلح في كتابه عن (الاستشراق) وهذا ما أكده الفيلسوف الهندي (إعجاز أحمد) في كتابه (الاستشراق وما بعده: إدوارد سعيد من منظور النقد الماركسي). (انظر أحمد 2004 ).

وذكرت مليليتشا باكيك هايدن (الأستاذة الزائرة بجامعة بطرسبيرغ) مصطلح (ما بعد الاستشراق) في حدود 1993، وما بعد الاستشراق عند هايدن «لا يعني دراسة الشرق والغرب على أنهما كتلتان ماديتان مسلّم بهما، ولكلّ منهما خواصه الذاتية وأسطورته التاريخية، قدر ما أن الشرق بذاته أو الغرب بذاته يتألف من شعوبٍ وثقافات وتقاليد متعددة. لذا، فالذي يريد أن يستشرق يمكنه أن يستشرق داخل أوروبا أيضاً، نسبة إلى أوروبا الشرقية، وضمن أوربا الشرقية يمكن أن يستشرق كأن يتبَلْقَن، حسب ما فعلت المؤرخة البلغارية ماريا تودوروفا، عندما تحدثت عن مصطلح ما بعد البلْقَنة الذي يُعتقد أنه مشتق من ما بعد الاستشراق» (الناهي د.ت: 66- 67).

استشراق ما بعد الحداثة

يخالف إيان الموند (أستاذ الأدب الإنجليزي والأميركي بجامعة فيادرنيا) ما ذهبنا إليه من تاريخ الاستشراق الجديد، ويرى في كتابه (التمثلات ما بعد الحداثية للإسلام من فوكو إلى بوديارد، المنشور في 2007) أنه ليس هناك استشراق قديم وآخر جديد لأن تاريخ الاستشراق لم ينقطع. ويؤكد أن رموز ما بعد الحداثة من مفكرين وكتّاب يمثلون نوعاً جديداً من الاستشراق الما بعدي إذا صح التعبير. ومن هؤلاء: فوكو ودريدا وجان بودريار وجوليا كريستيفا وسلافوي جيجك والروائيون بورجيه وسلمان رشدي وبابوك).

ويرى ألموند أن هؤلاء لم يكونوا ضد الإسلام بالمعنى الذي عرفناه في تيار المستشرقين الجديد بل هم أقرب إلى الناظرين إلى الإسلام بعين جديدة تحمل في طياتها درجة كبيرة من إنصاف للإسلام، وكان من الممكن أن يستمر تاريخ الاستشراق متناغماً مع هذه النزعة التي يمكن أن نسميها (استشراق ما بعد الحداثة) المتطور عن الاستشراق الكلاسيكي والمختلف مع الاستشراق الجديد، وقد أرجع جذور هذه النزعة إلى نيتشه، الذي سيجدد مقولاته فوكو، وكان نيتشه يسخر من الحروب الصليبية على المسلمين ويلمح تطوراً حضارياً واضحاً للإسلام منذ ذلك الحين وحتى القرن التاسع عشر في أوربا.

«لقد بدا فوكو متردداً في تثمينه للدور الذي لعبه الإسلام في انبعاث الروحيَّة السياسيَّة. ولم يكن السؤال الذي تصدر ما عداه: هل يعدّ الإسلام قوة حقيقيَّة، أو أنه قناعٌ لقضايا أخرى؟ وإنما غدا السؤال: هل كان الإسلام يمثَّل تقليداً راسخاً في مقاومته للطغيان، أو أنَّه مصدر ثرُّ ليوتوبيا حازمة ومتطلَّعة؟ كان فوكو حذراً من إبراز هذا السؤال عبر ثنائيَّة الحداثة والتقليد، وما تستدعيه من توتر واحتدام. ومما لاشك فيه أن إسقاطه لهذه الثنائيِّة جعله يتوصل، عبر بعض الفقرات الهامة، إلى صيغة مكثفة لمعنى الثورة. وهي ليست ثورة بالمعنى التحليلي التقليدي للمصطلح. وإنما مساس بجوهر الثورة بوصفها: «نهوض أمة بأكملها ضد أية سلطة تضطهدها» (سلفاتور1999: 145- 155).

أما جاك دريدا فقد كان منهجه التفكيكي، عموماً، في اتجاه لا يشمل الأديان والدين الإسلامي بالذات. فهو لم يصدر كتاباً متخصصاً في هذا الجانب لكن له آراء مهمة منها تلك التي أفصح عنها في حوار قام به المفكر الجزائري مصطفى شريف معه ونشره في كتاب (الإسلام والغرب) فهو يرى أنه «من الممكن أن يساهم الإسلام في البحث عن عالم متوازن».

وتتعاطى جوليا كرستيفا مع الإسلام كمنهج توتاليتاري (شمولي) لا يمكن محاورته وتراه مناقضاً للتعددية الأوروبية والغربية عموماً.

أما بودريار فهو الذي يرى الإسلام كـ (معقل أخير لمقاومة النظام العالمي أحادي القطب). ويركز على الإرهاب الإسلامي الذي يسميه بالإسلام المتطرف أو الفائق (هايبر إسلام Hyper- Islam) حيث يعتبره أحد نتاجات فشل الحداثة: «إن المشهد الذي يحيل عليه أحداث البرجين تحكمه مفارقة تبلغ حد التداخل بين الشجب الأخلاقي والاتحاد المقدس ضد الإرهاب وبين التهلل الاستثنائي لرؤية هذه القوة الفائقة العالمة وهي تدمّر نفسها بنفسها وكأنها ترتكب انتحاراً مشهوداً، فالغرب الذي يتصّف، حسب بودريار، كما لو أنه في موقع (الله) ذي القدرة الإلهية الكلية والشرعية الأخلاقية المطلقة يغدو انتحارياً ويعلن الحرب على نفسه، وكان انهيار برجَي مركز التجارة وكأنه تواطؤ غير متوقع بين الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه.

ويعتقد بودريار أنّ النظام العالمي المهيمن يستلزم ضرورة وجود إرهاب كي يستمر في العمل والسيطرة لأنه وبدون نقيضه سينهار هذا النظام، بل إن تواطؤاً عميقاً ينشأ بين الخصمين، وبالتالي يمكن التساؤل بهذا المعنى حول من يستخدم الآخر وقد حاولت وسائل الإعلام، بحسب بودريار، أن تلصق تهمة الإرهاب بالإسلام، فالنظام العالمي، المتمثل بشبكة المصالح الرأسمالية العالمية، لابد من أن يخلق لذاته عدواً محدد المعالم يستطيع من خلاله أن يحقق مصالحه، فكان هذا العدو هو الإرهاب، وكيما يصبح محدد المعالم تم لصقه بالإسلام. في حين أن هذا الارتباط غير حقيقي في جوهره، لأن الإرهاب تم توليده من داخل النظام ذاته ولم يأتِ من خارجه». لا يتعلق الأمر بصدام الحضارات أو الأديان، كما يتعدى كثيراً محاولة اختزاله في المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإسلام، صحيح أن هناك تقابلاً بينهما، لكنه تقابلٌ يكشف، عبر طيف أمريكا (التي ربما كانت مركز العولمة، لكنها بالتأكيد ليست بمفردها) وعبر طيف الإسلام (الذي لا يرادف أيضاً الإرهاب)، أن العولمة تخوض صراعاً مع ذاتها ويستطرد بودريار قائلاً: «الحرب تلازم كل نظام عالمي وكل سيطرة مهيمنة، ولو كان الإسلام يسيطر على العالم لوقف الإرهاب ضد الإسلام«(مصطفى 2015: 168).

الثلاثة الكبار

منذ ظهور الاستشراق الجديد في أعقاب نهاية الحرب الباردة وظهور القطب الواحد كان للاستشراق الجديد عبر مهندسيه الأوائل من الجيل الأول للمستشرقين الجدد (لويس، فوكوياما، هنتنغتون) الدور الكبير في ظهور وترسيخ هذا النوع الجديد من الاستشراق، ولابد لنا من معرفة أطروحات ومتون هؤلاء.

برنارد لويس

مستشرق مخضرم بين الاستشراقين القديم والجديد قدح شرارة الاستشراق الجديد، وهو أستاذ فخري بريطاني أميركي في الدراسات الشرق أوسطية في جامعة برنستون والذي تخصص في تأريخ الإسلام، عُرف ببحوثه في الأرشيف العثماني، ساهم لويس في تأسيس فكرة غزو أفغانستان والعراق بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وابتكر مقولات (صراع الحضارات) و(الإرهاب الإسلامي).

كان انهيار المعسكر الاشتراكي وانفراد أميركا كقطب أوحد قد هيأ المناخ لظهور الاستشراق الجديد الذي سيختلف كلياً عن الاستشراق القديم في قوته وطابعه العملي الاستخباري.

كتب برنارد مقالته ثم كتابه (ما الخطأ بتأثير الغرب واستجابة الشرق الأوسط) عام 2002 أي بعد أحداث 11 سبتمبر معلقاً عليها؛ حيث رأى أن حال العالم الإسلامي مع بداية الألفية الثالثة قد وصلت إلى ضعف وفقر وجهل أمام ما حققه الغرب من قوةٍ وغنى وعلمٍ؛ فكان ذلك بمثابة نشوء أفكار عدوانية أدت إلى هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001.

يحدد برنارد اختلافاً مهماً يتعلق بعلاقة الثروة والسلطة عند الغرب وعند الشرق (والإسلام تحديدا)؛ فهو يرى أن النمو الاقتصادي، في الغرب، يتحقق عندما يكوّن الفرد الثروة في السوق، عن طريق الإنتاج والتبادل، ثم يحاول من خلال ثروته الحصول على تمثيل سياسي والوصول إلى السلطة.. أما في الشرق الإسلامي والأوسط فإن الفرد يسرق السلطة ثم يحاول الحصول على الثروة فتفسد السلطة.

ورأى برنارد أن التحديثيين في العالم الإسلامي سواء كانوا إصلاحيين أو ثوريين ركزوا جهودهم في ثلاثة حقول هي: (العسكرية، الاقتصادية، السياسية) لكنها باءت بالفشل، فبناء جيوش حديثة انتهى بهزائم عسكرية، وبناء اقتصادات اشتراكية أو غيرها أدى بدولها نحو اقتصاد مفلس وفاسد ولابد له من عون خارجي، ونشدان الديمقراطية والاشتراكية أدى إلى نشوء أنظمة استبدادية بين أوتوقراطية تقليدية أو دكتاتوريات حديثة:«وكان دعاة التحديث – بالإصلاح أو الثورة – يركزون جهودهم في ثلاثة مجالات رئيسية هي المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، ولكن النتائج كانت – إن شئنا التلطف في التعبير – مخيبة للآمال، إذ أدى السعي للنصر بجيوش محدثة إلى سلسلة من الهزائم المهينة، وأدى السعي للرخاء من طريق التنمية في بعض البلدان إلى الفقر وإنشاء نظم اقتصادية يعيبها الفساد وما تفتأ تحتاج إلى المساعدات الخارجية. وأدى في البعض الآخر إلى اعتماد غير صحي على مورد أوحد هو النفط والغاز، بل إن هذه الموارد نفسها قد اكتشفها – ويستخرجها وينتفع بها – أبناء الغرب بفضل ابتكاراتهم وجهودهم، وهي مكتوب عليها أن تنفد أو أن يتجاوزها العالم إلى غيرها». (لويس 2003: 226).

فرانسيس فوكوياما

هو عالم سياسة واقتصاد سياسي وكاتب وأستاذ جامعي أميركي في مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون بجامعة ستاتفورد منذ 2010. وكتابه الأشهر (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) صدر عام 1992، وهو توسيع لمقالة كتبها عام 1989 بعنوان«نهاية التاريخ؟».

«افترض كثيرون أن احتمال انتهاء التاريخ يدور حول مسألة ما إذا كان ثمة بدائل معقولة نراها في عالم اليوم للديمقراطية الليبرالية، وقد ثار جدل واسع النطاق بشأن أسئلة مثل ما إذا كانت الشيوعية قد ماتت حقاً، وما إذا كان ثمة احتمال لعودة الدين أو المذاهب القومية الفاشية، وأسئلة أخرى من هذا القبيل، غير أن السؤال الأصعب والأعمق إنما يتصل بصلاحية الديموقراطية الليبرالية ذاتها وليس فقط باحتمال انتصارها على منافسيها في عالم اليوم. فعلى فرض أن الديمقراطية الليبرالية أصبحت الآن آمنة من خطر أعدائها في الخارج، فهل بوسعنا أن نفترض إمكان استمرار المجتمعات الديموقراطية الناجحة على حالها إلى الأبد؟ أم أن الديموقراطية الليبرالية فريسة تناقضات داخلية هي من الخطورة بحيث يمكن في النهاية أن تزعزع من دعائمها كنظام سياسي؟ ما من شك في أن الديموقراطيات المعاصرة تجابه عدداً من المشكلات الكبيرة، كالمخدرات، والتشرد، والجريمة، وتدمير البيئة، وتفاهة المجتمع الذي تسوده النزعة الاستهلاكية، غير أن هذه المشكلات لا يمكن التدليل على أنه من المستحيل التصدي لها بالعلاج على أساس من المبادئ الليبرالية، ولا هي من الخطورة بحيث يمكن القول بأنها ستؤدي بالضرورة إلى انهيار المجتمع ككل، كما انهارت الشيوعية في عقد الثمانينيات». (فوكوياما: 1993: 16).

كانت محاضرته التي عنوانها (خطر المسلمين في أوروبا) الطريق لدخوله في الاستشراق الجديد الذي يتعامل مع الإسلام والإرهاب. وهو يرى أن الإرهاب المتأسلم خطرٌ أكثر في أوروبا منه في الشرق الأوسط، وبعد أن مرّ على بعض الأحداث الإرهابية التي قام بها مسلمون في أوروبا تساءل (كيف يتجاوب المجتمع الأوربي المبني على قيم التسامح والانفتاح والديمقراطية مع أناس يعيشون في داخله ويعتقدون هذه القيم؟) وأشار فوكوياما إلى خطورة الوضع في أوروبا أكثر منه في أميركا لن المجتمع الأميركي، أساساً، هو مجتمع أعراق وقوميات منصهرة في بناء واحد أما المجتمعات الأوروبية فهي متجانسة في عمومها ويكون فيها الغريب واضحاً ومميزاً يشعر بالإحباط فيرتمي في تيارات تؤكد هويته وتدافع عنها مثل القاعدة.

يستخدم فوكوياما مصطلح (الفاشية الإسلامية) ليشير بها للأصولية الإسلامية التي تقف بوجه الحداثة والتي تتميز بانغلاقها وعدم تسامحها، ويقدر تقييم فوكوياما للإسلام في جوانبه الإيجابية كدين مهم لكنه يرى أنه دين تسلطّي وشمولي يقهر ويصهر في داخله الإثنيات والقوميات ويعتبره أيديولوجية مغلقة كالشيوعية، وأنه بصعوده الحالي يمثل تهديداً للغرب، ويرى فوكوياما أن الفكر (الجهادي) يوظف الإسلام لأغراضه ويعادي الفكر الحداثي ولا يمكن الجمع بين هذين المتضادين: (الجهاد والحداثة).

صموئيل هنتنغتون

أستاذ في جامعة هارفارد، ويعد كتابه (صدام الحضارات 1996) أحد أهم المصادر الخمسة لترسيخ الاستراتيجية والمركزية الأمريكية لمرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أما الكتب الأربعة الأخرى فهي: (نهاية التاريخ لفوكوياما، أحجار على رقعة الشطرنج الكبرى لبريجنسكي، هل الولايات المتحدة بحاجة إلى سياسة خارجية؟ لهنري كيسنجر، نهاية الشرق لريتشارد بيرل).

يرى هنتنغتون أن هناك أسباباً ترشح الإسلام للصدام؛ فهو كديانة تدعو لصهر الآخر وتذويبه، وربما نبذه وقتاله، تتعارض، كليّاً، مع الحداثة التي تنبني عليها الحضارة الغربية، ويرى إن معظم الصراعات في العالم هي صراعات بين المسلمين وغيرهم أو صراعات بين المسلمين أنفسهم. فمن بين 59 صداما في العالم هناك 28 صداما تخص المسلمين: البوسنة والهرسك، الشيشان، فلسطين، أفريقيا:«ويظل السؤال: لماذا؟ والقرن العشرون يوشك على الانتهاء، نجد أن المسلمين هم الأكثر تورطاً في مزيد من العنف بين الجماعات، من شعوب الحضارات الأخرى... وهل كانت تلك هي الحال دائماً؟ في الماضي كان المسيحيون يقتلون إخوانهم المسيحيين وغيرهم من الناس بأعداد كبيرة. إن تحليل الميل إلى العنف في الحضارات عبر التاريخ قد يتطلب بحثاً مطولاً ليس هذا مجاله، ومع ذلك فإن ما يمكن أن نفعله هو أن نحدد أسباباً ممكنة لتيار العنف الجماعي الإسلامي سواء داخل الإسلام أو خارجه، وأن نميّز بين الأسباب التي تفسر ميلاً كبيراً نحو العنف الجماعي في التاريخ إن وجد، وتلك التي تفسر ميلاً نحوه في نهاية القرن العشرين فقط. هناك ستة أسباب ممكنة تطرح نفسها، ثلاثة منها تفسر العنف بين المسلمين وغير المسلمين، وثلاثة تفسر كلاً من ذلك والعنف داخل الإسلام نفسه، ثلاثة أيضاً تفسر فقط الميل الإسلامي المعاصر نحو العنف، بينما تفسر ثلاثة أخرى ميلاً إسلامياً تاريخياً.«(هنتنجتون: 1999: 426).

وهو يرى بأن الإسلام يقف بوجه الحضارة الغربية بقوة وفيه ما يمنع من انتشار الحداثة والديمقراطية الليبرالية التي نشأت في الغرب، فهو يعتقد أن«الفشل العام للديمقراطية الليبرالية في أن تترسخ في المجتمعات الإسلامية ظاهرة متكررة ومستمرة على مدى قرن كامل، بدأ في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر. هذا الفشل له مصدره – في جزء منه على الأقل – في طبيعة الثقافة الإسلامية والمجتمع الإسلامي الرافضين للمفاهيم الغربية الليبرالية. ونجاح الحركات المتأسلمة في السيطرة على المعارضة وتعيين نفسها بديلاً وحيداً صالحاً للضغط على الأنظمة، ساعد عليه بشكل كبير سياسات تلك الأنظمة نفسها.«(هنتنجتون: 1999: 188- 189).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع

1- سلفاتور، أرماندو: مقاربة فوكو للإسلام ترجمة أحمد خريس – مقتطف من الفصل الثامن لكتاب«الخطاب السياسي للحداثة» مطبعة إثتيكا، لندن (1999). نشر في مدونة الحداثة وما بعد الحداثة.

2- فوكوياما، فرانسيس: نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة أحمد أمين، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة (1993).

3- لويس، برنارد: أين الخطأ؟ (التأثير الغربي واستجابة المسلمين)، ترجمة د. محمد عناني، دراسة وتقديم رءوف عباس، دار سطور للنشر، القاهرة (2003).

4 - مصطفى، بدر الدين: مراجعة في كتاب«المستشرقون الجدد - التمثلات ما بعد الحداثية للإسلام من فوكو إلى بوديارد لإيان ألموند» - مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 432، شباط/‏‏‏فبراير، بيروت (2015).

5 - مصطفى شريف، لقاء مع جاك دريدا: الإسلام والغرب موقع إيلاف تاريخ الاقتباس 12/‏‏‏ 12/‏‏‏ 2015 http:/‏‏‏/‏‏‏www.alefyaa.com/‏‏‏؟p=15404

6 - الناهي، هيثم غالب: إدوارد سعيد ما بين استشراق الاستشراق وما بعد الاستشراق، بحث منشور في النت، مجلة المستقبل العربي، (د.ت).

7 - هنتنجتون، صاموئيل: صدام الحضارات (إعادة صنع النظام العالمي)، ترجمة طلعت الشايب، تقديم د.صلاح قنصوه، ط2، مكتب سطور للنشر، القاهرة (1999).

8 -Almond، Ian:The New Orientalists: Postmodern Representations of

Islam from Foucault to Baudrillard، (London New York: I. B. Tauris، 2007).

9-Salvatore، Armando: Islam and the Political Discourse ofModernity، Ithaca Press، London، 1999، p.p.145-155.

10- Wikipedia. Regienal Science – 12/‏‏‏12/‏‏‏2015.

11- https:/‏‏‏/‏‏‏ar.wikipedia.org/‏‏‏wiki/‏‏‏ خلية_تفكير تاريخ الاقتباس 12/‏‏‏ 12/‏‏‏ 2015

تغيُّر شكليّ

في مؤتمر الاستشراق الذي عقد في لندن عام 1967 بدا كأن الاستشراق قد استنفد أغراضه، وظهرت ميول لنقل مركز الاستشراق من أوروبا إلى أميركا خدمة لأغراض وتوجهات أميركا نحو الشرق الأوسط عموماً. لا سيما وأن الاستشراق القديم صار عبئاً أو محرجاً للأوروبيين بعد ظهور النقد الموجّه للاستشراق القديم ودوره وأغراضه، مما كان له الأثر الكبير في توقف أدوات وآليات الطرق القديمة له وخصوصاً بعد نشر كتاب أدورد سعيد (الاستشراق) عام 1978 الذي فضح جانبه التعسفيّ والمهيمن.

انتهى مصطلح الاستشراق، رسمياً، في مؤتمر باريس للاستشراق عام 1973 بمناسبة مرور قرن على بداية عقد المستشرقين لمؤتمراتهم العالمية التي كانت تعقد كل (3- 5) سنوات. وحين صوّت المشاركون في المؤتمر على مدى الرغبة في استمرار استخدام مصطلح (استشراق ومستشرق) كانت نتيجة التصويت لمصلحة إلغاء التسمية مع استمرار المؤتمر بنفس وتيرته ولكن تحت عنوان (المؤتمر العالمي للدراسات الإنسانية حول آسيا وشمال أفريقيا) ثم استبدل بعد مؤتمرين إلى (المؤتمر العالمي للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية).

بودريار: بقاء النظام العالمي يستلزم وجود «الإرهاب»

بودريار يرى الإسلام كـ (معقل أخير لمقاومة النظام العالمي أحادي القطب). ويركز على الإرهاب الإسلامي الذي يسميه بالإسلام المتطرف أو الفائق (هايبر إسلام Hyper- Islam) حيث يعتبره أحد نتاجات فشل الحداثة: «إن المشهد الذي تحيل عليه أحداث البرجين تحكمه مفارقة تبلغ حد التداخل بين الشجب الأخلاقي والاتحاد المقدس ضد الإرهاب وبين التهليل الاستثنائي لرؤية هذه القوة الفائقة العالمة، وهي تدمّر نفسها بنفسها وكأنها ترتكب انتحاراً مشهوداً، فالغرب الذي يتصّف، حسب بودريار، كما لو أنه في موقع (الله) ذي القدرة الإلهية الكلية والشرعية الأخلاقية المطلقة يغدو انتحارياً، ويعلن الحرب على نفسه، وكان انهيار برجَي مركز التجارة وكأنه تواطؤ غير متوقع بين الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه. ويعتقد بودريار أنّ النظام العالمي المهيمن يستلزم ضرورة وجود إرهاب كي يستمر في العمل والسيطرة لأنه وبدون نقيضه سينهار هذا النظام، بل إن تواطؤاً عميقاً ينشأ بين الخصمين، وبالتالي يمكن التساؤل بهذا المعنى حول من يستخدم الآخر.

وقد حاولت وسائل الإعلام، بحسب بودريار، أن تلصق تهمة الإرهاب بالإسلام، فالنظام العالمي، المتمثل بشبكة المصالح الرأسمالية العالمية، لا بد من أن يخلق لذاته عدواً محدد المعالم يستطيع من خلاله أن يحقق مصالحه، فكان هذا العدو هو الإرهاب، وكيما يصبح محدد المعالم تم لصقه بالإسلام. في حين أن هذا الارتباط غير حقيقي في جوهره، لأن الإرهاب تم توليده من داخل النظام ذاته ولم يأتِ من خارجه:»لا يتعلق الأمر بصدام الحضارات أو الأديان، كما يتعدى كثيراً محاولة اختزاله في المواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية والإسلام. صحيح أن هناك تقابلاً بينهما، لكنه تقابلٌ يكشف، عبر طيف أميركا (التي ربما كانت مركز العولمة، لكنها بالتأكيد ليست بمفردها) وعبر طيف الإسلام (الذي لا يرادف أيضاً الإرهاب)، أن العولمة تخوض صراعاً مع ذاتها ويستطرد بودريار قائلاً: «الحرب تلازم كل نظام عالمي وكل سيطرة مهيمنة، ولو كان الإسلام يسيطر على العالم لوقف الإرهاب ضد الإسلام».

المصدر: http://www.alittihad.ae/details.php?id=3881&y=2016&article=full

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك