جمالية العمارة العربية الإسلامية

د. حسين الصديق

 

تطرح هذه الدراسة إشكالية العلاقة بين الشرق العربي المسلم والغرب الأوربي، وهي إشكالية قديمة بدأت في الظهور أواخر القرن التاسع عشر ولم تتوقف إلى اليوم، وتتلخص في مسألة تقليد هذا الشرق للغرب تقليداً غير مفكر فيه في كل مجالات الحياة الإنسانية.

عرض الإشكالية

أصول هذه الإشكالية كثيرة جداً، وسيقتصر العرض هنا على فن العمارة نموذجاً لهذا التقليد، لمعرفة أثره في تغيير القيم الاجتماعية وتشويه الهوية الثقافية.

العمارة فن من الفنون، ولن يكون المجال مناسباً لعرض مفهوم الفن، إلا أن ما ثابت عند المختصين بتاريخ الفن في العالم هو أن مفهوم الفن في الحضارة العربية الإسلامية لا علاقة له بالمفهوم الأوربي. يكفي أن هذه الكلمة لم تستخدم إلا في العصر الحديث ترجمة لكلمة (art) ، ويقابلها في التراث العربي الإسلامي الصناعة، بما يعني من ارتباط الصناعة بالفائدة والوظيفة الحياتية، ومفهوم شيخ الصنعة يمثل معيار الجودة وأداء الوظيفة على أفضل وجه في خدمة الإنسان.

في مجال فن العمارة، يبدو الأمر أكثر وضوحاً منه في باقي أنواع الفنون التي جاءتنا من الغرب مع تأسيس فرع لمدرسة البوزار الفرنسية في مصر عام 1890، وهي كذلك لأنها على عكس باقي الفنون ولا سيما النحت والرسم يعيش الإنسان فيها حياته اليومية.

مقدمة نظرية

ثمة مجموعة من الأسس الفكرية التي تؤسس معيار الحكم على الاختلاف بين العمارة العربية الإسلاميةوتلك الغربية، من هذه الأسس:

  1. العمارة الأوربية، كما يقول الدكتور عفيف بهنسي، تتبع النظام المعماري الرياضي “الذي فرضته ثابتاً على جميع أشكال العمارة ووظائفها، دون الاهتمام بالمعايير الإنسانية، وكان الاهتمام بالغاً بالشكل الخارجي …. على عكس العمارة الإسلامية التي اعتمدت دائماً على المقياس الإنساني” ص/47 الفنون الإسلامية بين هوية التراثي ومجتمع العولمة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث/ مارس 2008 ، ويمكن تتبع هذا بشكل واضح جداً في قصر فرساي الذي يعد من أجمل قصور أوربا على الإطلاق، إذ لا أحد يمكنه أن يتخيل أن هذا القصر الرائع في تصميمه الهندسي الرياضي يخلو من أبسط مستلزمات الحياة الإنسانية: دورة المياه والحمام، فقد خصص لقضاء الحاجة قسم من الحدائق الجميلة خلف القصر، أما الحمام فكان يجري في البرك وأحواض المياه المنتشرة في حدائق القصر. ودليل على صحة ما تقدم هو حالة الأبنية السكنية في مدينة باريس قبل حتى الأربعينيات، فهي إذ إن الشقق التي فيها تخلو من الحمام، أما المرحاض فيوجد واحد مشترك بين السكان في كل طابق. ومثال آخر على غياب المقياس الإنساني يظهر بوضوح في نظام تصميم الحدائق في أوربا، وهو نظام هندسي رائع التشكيل والانسجام، يوفر للعين الشعور بالجمال الهندسي المادي، ولا يقدم لها الشعور بالارتياح والسكينة الذي ينبثق عن التماهي مع الطبيعة التي هي جزء من الإنسان، وهو ما نجده في الحدائق والبساتين في الشرق العربي.
  2. تأثرت العمارة الأوربية بتطور الفكر الفلسفي في أوربا، وهو فكر إنساني متغير وغير ثابت، وهذا ما يجعل أنظمة العمارة متغيرة بحسب تطور الزمان، إلا أن هذا الفكر فكر مادي لا يحترم الإنسان ككل، وهو ما تجسد في الحداثة وما بعد الحداثة، وجعل العمارة مادية بحتة تهتم بالشكل على حساب الوظيفة. على حين أن العمارة الإسلامية ارتبطت على الدوام، ككل النتاج الحضاري العربي الإسلامي، بأسس ووظائف ترتكز على الشريعة الإسلامية وهو ما جعلها تحافظ على وحدتها في إطار التعدد، وتكون دائماً في خدمة الإنسان.
  3. استحضار الفنون الأوربية وطرز العمارة فيها والنأي عن روح العمارة الإسلامية يعمل على تغيير الهوية الثقافية من خلال فرض نموذج للعيش مرتبط بطرز العمارة، وهو ما نراه اليوم مما أصاب القيم الاجتماعية العربية من خلخلة وقلق أديا إلى غياب الهوية وقتل الإبداع.
  4. العمارة الأوربية تنسجم مع بيئة جغرافية خاصة بها وتطور علمي وتكنولوجي، وتبنيها يشكل خروجاً على قوانين البيئة المعمارية الخاصة بنا. ويمكن عرض نموذين معماريين يجسدان ذلك الخروج، الأول هو بناء كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة حلب، والثاني فندق شيراتون في مدينة الدوحة عاصمة قطر. فكلية الآداب نموذج معماري استوحاه مهندسه المعماري من نموذج غربي يصلح لبلد أوربي لا تشرق الشمس فيه إلا أشهراً معدودة يحرص الناس فيها على استقبالها، ولهذا تكون النوافذ في كل أنواع العمائر عريضة وواسعة لاستقبال أكبر كمية من الشمس، للتدفئة من جهة، وللإنارة من جهة أخرى. ويساعد المعماري ما تملكه أوربا من تقدم تكنولوجي خاص بأنظمة التكييف، على الاستفادة من كل تقنيات الهندسة المعمارية ولا سيما نظام العزل الحراري، على حين أن بناء كلية الآداب الذي يمتاز بواجهات كاملة وأنصاف جدران ونوافذ عريضة من الزجاج غير المعزول بل وغير المحكم التركيب يجعل من يعيش في داخله يعاني من البرد الشديد الذي لا تفلح أجهزة التدفئة التي قلما تعمل حرصاً على توفير المحروقات إلا بتخفيفه، كما يعاني الحر الخانق الذي لا بد من تشغيل أجهزة التبريد الذي يكلف كثيراً من الطاقة. ولعل البديل يوجد في نموذج معماري قام المهندس المصري حسن حنفي ببنائه في إحدى إمارات الخليج العربي، واحترم فيه قوانين البيئة فكانت الجدران سميكة تحقق العزل الحراري، والنوافذ كانت عبارة عن كوى صغيرة في أعلى الجدار تسمح للنور والهواء بالدخول وتحجب أشعة الشمس، ولا نبعد كثيراً عندما نعود إلى قرى حلب القديمة والقبب الترابية التي كانت تنتشر فيها واختفت اليوم لصالح الاسمنت المسلح. والنموذج الآخر شيراتون الدوحة نموذجاً آخر على عدم احترام قوانين البيئة في فن العمارة، فالمعروف أن سوق واقف في الدوحة نموذج رائع للعمارة الخليجية التي تحترم هذه القوانين بنوافذها الصغيرة والمرتفعة، وحاراتها الضيقة والمسقوفة، والسائر فيه في الظهيرة يشعر بالبرودة والراحة، من غير أجهزة تكييف، على حين أن الغرف في الشيراتون تحتل النافذة في الغرفة كل الجدار المطل على الشرفة، وهو ما يعني ضرورة تشغيل التكييف على الدوام إن في الصيف أو في الشتاء، وتغيير الستائر في كل عام نتيجة تعرضها المباشر لأشعة الشمس الحارقة، وبالمقابل فقد جاء شيراتون حلب محترماً لتلك القوانين إلى حد كبير فجاءت نوافذ الغرف صغيرة.
  5. العقيدة الإسلامية في خدمة الإنسان وتوفر له أفضل سبل العيش السعيد والمطمئن الهادئ. وكذلك باقي أنواع الفنون العربية الإسلامية التي تماهت مع فن العمارة، فلا نجد فناً مستقلاً كما الرسم أو النحت، وإنما الزخارف النباتية والهندسية والخط العربي تمتزج مع المقرنصات والأقواس، والأسقف ولجدران والنوافذ، في وحدة تشكل غاية في الانسجام، في كل أنواع العمائر الإسلامية الحربية منها والمدنية والدينية والتجارية وغيرها.

عرض

لعل المقارنة بين طراز البيت العربي وروحه والشقة الغربية أفضل قدرة على إظهار أثر تغيير نظم العمارة وفلسفتها في تغيير القيم الاجتماعية، من كل أنواع العمائر الأخرى.

البيت العربي

الفن العربي الإسلامي فن غائي لا مجال للعبث فيه أو لغياب الوظيفة، وقد ارتبط البيت العربي بوظيفته التي تحددها البيئة الجغرافية من جهة، وتعاليم الشريعة الإسلامية من جهة أخرى.

لنصل إلى البيت لا بد من عبور الحارة ذات الباب الذي كان يقفل في ماضي الزمان ليؤمن الشعور بالسكينة والأمن، والسائر فيها يلاحظ ارتفاع الجدران واتصالها في وحدة عمرانية متناغمة ومنسجمة لا تفرق بين دار ودار، وتوحي بالمساواة بين السكان فلا نعرف إن كان صاحب الدار فقيراً أم غنياً، وخاصة أن الأبواب لا يوجد ما يميز واحداً من الآخر بتواضعه، على الرغم من أن ما وراء الباب يتفاوت من بيت إلى آخر تفاوتاً كبيراً. والحارة ضيقة تحمي المارة بجدرانها العالية من حر الشمس وأشعتها المباشرة في الصيف، والتي تسقط دائماً بشكل مائل، ولا تكون عمودية إلا في وقت الظهيرة، كما تحميهم من الرياح القارسة في الشتاء، ولا نوافذ قريبة من الأرض، حماية لداخل الدار، وهناك بعض المشربيات التي تبرز من الجدران لتعطي مسحة من الجمال اللافت للأنظار.

في مدخل البيت الدهليز الذي يحمي السكان من عيون الغرباء، ويفضي إلى أرض الدار التي تتوفر فيها الفصول والجهات الأربعة، فيبقى السكان على تواصل حي مع الطبيعة دون جرح الخصوصية، فالبحرة والنافورة وأشجار الياسمين والنارنج والكباد والبرتقال والعنب تجعل من بيت العربي جنته الصغيرة التي تذكره على الدوام بما أعده الله له في الجنة.

إن أرض الدار والمشربية ما هما إلا معالجة فنية مناخية لحماية الإنسان وتوفير أفضل ظروف العيش له فأرض الدار تجعل الساكن يعيش الفصول الأربعة بكل تقلباتها، والمشربية التي تخص المرأة من جهة أنها تسمح لها أن ترى ما في الخارج دون أن ترى، ومن جهة أنها توفر التهوية الطبيعية للغرفة، من غير السماح لأشعة الشمس بالدخول حرصاً على تبريد الدار. ويبدو للناظر أثر الشريعة في غياب التطاول بالبناء على مبدأ لا ضرر ولا ضرار، فلا يشرف جار على جار ولا يحجب عنه الشمس والهواء. كما يبدو هذا الأثر في مسألة عدم قصر الاهتمام على الظاهر، والدعوة إلى الانصراف إلى الداخل للتأمل الذي هو من أنواع العبادة، وهو ما يمثله انفتاح البيت العربي على الداخل والسماء. كما يبدو هذا الأثر في نظام اجتماعي ديني يقوم على الوحدة الأسرية ويحافظ على تماسكها، فالأسرة الواحدة في البيت لها كبير ترجع إليه هو الجد واجدة أو الأب والأم، وللحارة كبير تحتكم إليه في حال النزاعات هو شيخ الحارة. يحكم هذا كثير من الأحاديث النبوية التي توصي بالجار وتوصي ببر الوالدين واحترام الكبير. في هذه الأجواء يعيش العربي في بيته حالة من الشعور بالأمن والهناء والتواصل الاجتماعي فالكل يعرف الكل ولا غريب إلا الشيطان، والقيم محترمة والعرض مصون فلا أحد يعتدي على حرمة الآخر بل هو يدافع عنها وكأنها له.

الشقة الغربية

باختصار، كل ما تقدم مفقود في الشقة الغربية، فهي منغلقة على الداخل، لا توفر التواصل بين السكان الطبيعة، وتعيق القيم الشرعية فتح النوافذ ورفع الستائر حماية من أعين الغرباء الذين أصبحوا كثيرين، كل منهم يسعى إلى استراق النظر عندما يرى نافذة مفتوحة، في مقابل من كان يغلق باب جاره إذا ما رآه مفتوحاً أو يصدر صوتاً تحذيرياً إذا ما رأى امرأة جاره تطل من باب بيتها غير منتبهة. أما الشرفات التي هي في الأصل للتواصل مع الطبيعة فقد تحولت إلى مكان لخزان المازوت والسيبا وباقي الكراكيب. والشوارع العريضة المزفتة، لا يوجد فيها ما يحمي المارة من أشعة الشمس في الصيف والرياح القارسة في الشتاء، وهي على عكس الحارة تحتفظ بزفتها الأسود حرارة النهار لتعود فتبثه في الهواء طول الليل، فيكون الجو حاراً بدرجات أكثر منه في الحارة. وما لا توفره الشوارع من هذه الحماية ينطبق على الشقق السكنية أيضاً مما يضطر من يملك المال الضروري إلى التكييف الحار أو البارد وهو ما يعني المزيد من استهلاك الطاقة. لقد أثر هذا النظام العمراني في العلاقات بين الأفراد في المجتمع وفي علاقة الفرد بالآخر في الأسرة الواحدة. فقد أصبح الجار في هذا النظام لا يعرف جاره الذي يسكن في مقابل شقته، وهو في الغالب يتجنب لقاءه هرباً من التعرف عليه، وارتفع بذلك التواصل الاجتماعي وتعطل حديث الرسول الموصي بالجار. فإذا كانت الأفراح في الحارة واحدة للجميع وكذلك الأتراح والأحزان يشارك فيها الكل، فإن الجار في الشقة يرفع صوت التلفاز غير مراع مشاعر جاره الذي فقد عزيزاً أو لديه ابن يحضر امتحاناً. ولا يعرف الجيران بعضهم بعضاً إلا في الظاهر فهم في الأغلب غرباء حذرون من الآخر، فقد الواصل بينهم، في أغلب الحالات، وبخاصة مع زيادة تعقيد الحياة المادية في العقود الأخيرة.

خاتمة

الأمر أشد تعقيداً مما قد يبدو لنا للوهلة الأولى، والحل ليس في متناول اليد. ولكنني أردت في نهاية الدراسة وضع بعض الأسس النظرية التي يمكن استلهامها في حال الرغبة بإيجاد حل، إذ إنه من الصعب الاحتفاظ في هذا الزمان بنموذج البيت العربي والحارة القديمة، ولكن يمكن فعل هذا على مستوى المزرعة الخاصة أو المنازل المستقلة، فيستبدل نظام “الفيلا” المفتوحة على الخارج، بنظام البيت العربي الذي ينفتح على الداخل كما في البيوت التي رأيتها في ضواحي مدينة الدوحة. وما يهمني بغض النظر عن الطراز المعماري، هو أن تتوفر في هذا النظام روح العمارة العربية الإسلامية المستمدة من القيم الدينية والشريعة الإسلامية التي تتحكم في كل جوانب الحياة في المجتمعات المسلمة من جهة وأن تحترم هذا النظام قوانين البيئة الجغرافية للشرق العربي المسلم.

  1. من هذه الأسس أن جمالية العمارة الإسلامية تقوم على تحقيق وظائف ومتطلبات اجتماعية ضمن الإطار التشريعي الديني هي خدمة الإنسان وتوفير أفضل سبل العيش له في كل أنواع العمائر. وهذا نفسه ينطبق على كل الفنون الأخرى التي هي خادمة للإنسان كما الشريعة.
  2. وأن الشكل يتبع الوظيفة، وعندما نتبنى شكلاً غربياً ينسجم مع وظيفة معينة ترتبط بأسس فلسفية حضارية، فإننا نكون بذلك قد ضحينا ليس فقط بالشكل وإنما وهو الأهم بالوظيفة، وجلبنا لأنفسنا أطراً جمالية ستكون عاملاً مؤثراً جداً في تغيير قيمنا الاجتماعية.
  3. أن يكون المقياس في نظام العمارة هو الإنسان وليس قيمة الأرض أو السيارة التي أصبحت المقياس الوحيد في تخطيط المدينة والشوارع والأسواق.

وثمة سؤال : هل كان المجتمع آنذاك يشعر بالجمالية التي تحدثت عنها، هناك ما أسميه بالعفويات الجمالية التي تقوم على عيش الإنسان في داخل الجمال وتأثره به في قيمه وأخلاقه وهويته دون أن يعي ذلك، ويفرض عليه أنماطاً من السلوك مختلفة ونظاماً من القيم والعادات جديداً لم يعرفه من قبل فيجعله مضطراً ليكون على صورة غير التي نشأ عليها أو تفرضها عليه قيمه الدينية والشرعية فيصبح متردداً حائراً مضطرباً لا يعرف كيف يوفق بين الصورتين. أليست هذه هي حالنا اليوم في داخل شققنا التي تفرض علينا قيماً جديدة وأنماطاً من السلوك ما كان أجدانا ولا آباؤنا يعرفونها؟

المصدر: http://asseddik.com/cms/%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%8...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك