الشّارع العالميّ أو ديمقراطيّة المستضعفين حوار مع ساسكيا ساسن (Saskia Sassen)

حاورها: لوكاش بافلوفسكي (Łukasz Pawłowski)

ترجمة الحبيب الحاج سالم

 

تقديم



تشغل عالمة الاجتماع الهولنديّة الأمريكيّة ساسكيا ساسن (من مواليد العام 1947) وظيفة أستاذ علم الاجتماع بجامعة كولومبيا في الولايات المتّحدة. وهي أوّل من استخدم مفهوم المدينة العالميّة (Global City) من خلال اشتغالها على العولمة وأبعادها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، ومسائل الهجرة ونشوء المدن العالميّة، بما في ذلك علاقة الإرهاب بالمدن والتحضّر المتسارع على مستوى العالم. ألفت ساسن أكثر من عشرة كتب في المجال السوسيولوجي بالإضافة إلى مساهمات عديدة في كتب جماعيّة ومحاضرات. ومن أبرز مؤلّفاتها “المدينة العالميّة: نيويورك، لندن، طوكيو”(1)، و“المجال، السّلطة، الحقوق: من التجميعات القروسطيّة إلى التجميعات العالميّة”(2)، و“فقدان السيطرة؟ : السّيادة في عصر العولمة”(3)، و“إقصاءات: الوحشيّة والتعقيد في الاقتصاد العالميّ”(4) وقد ترجم معظم أعمالها إلى أكثر من عشرين لغة.



توجّت ساسن سنة 2013 بجائزة أمير استورياس عن فئة العلوم الاجتماعيّة، وصنّفتها مجلّة فوراين بوليسي سنة 2011 كواحدة من أبرز مائة مفكّر عالميّ.



أجري هذا الحوار سنة 2012 بعد مضيّ عام على الاحتجاجات التي غطّت أجزاء مهمّة من العالم انطلاقاً من تونس وبقيّة الوطن العربي وصولاً إلى أوروبّا والأمريكيّتين، وفيه تحلّل ساسكيا ساسّن طبيعة الاحتجاجات في علاقتها بالمجالين الوطنيّ والعالميّ والمحيط المدينيّ وما طرأ من تجديد على مستوى شكل الممارسات الاحتجاجيّة واستراتيجيّاتها.



نصّ الحوار




- كتبتِ في مقال لكِ حول احتجاجات السنة الفارطة (2011) أنّنا قد نكون إزاء انبعاث ظاهرة جديدة يمكن تسميتها “الشارع العالمي”. ماذا تعنين بهذا المصطلح بالتحديد عندما تقولين إنّ “الشارع العالمي مجال بكر، وأقلّ طقوسيّة” من الفضاءات العامّة التقليديّة في الغرب مثل الجادّة (boulevard) أو الساحة (piazza)؟



يمكن تأسيس العُمُومِيّ – لا بمعنى العمومي المخصوص بالشارع، بل العموميّ في المطلق- من خلال تفعيل ممارسات طقسيّة وخلق الاجتماعيّ الجديد والسياسيّ الجديد. الشارع هو فضاء يمكن فيه خلق أشكال جديدة للاجتماعي والسياسي، أو بالأحرى فضاء جديد لمسرحة الأدوار الطقسيّة. يمكننا القول، بشيء من التوسّع المفاهيميّ، إنّ “الشارع والميدان” مُعَلَّمَانِ سياسيّاً بطريقة مختلفة عن “الجادّة والساحة”: يُشير الأوّلان إلى الفعل، وتشير الثّانيتان إلى الطّقس.



- هل يمكنك إعطاء مثال على الطّقس العمومي؟



هناك ما يطلق عليه الإيطاليّون الباسيجياتا (passeggiata)، وهو التجوّل البطيء عبر الشوارع الرئيسيّة لمدينة ما عشيّة يوم الأحد أو مساء يوم عطلة، تلبس خلاله العائلات زينتها وتخرج للاستمتاع بالحضور الطقسيّ للآخرين، وهذا هو الاستخدام التقليديّ للفضاء العامّ. وتوجد ممارسة طقسيّة أخرى وهي إسراع حشود الناس إلى العمل صباح يوم الاثنين، حيث يمكنك أن تصطدم بشخص أو تدوس على رجله دون أن يُعتبر ذلك إساءة. أمّا إذا ما حدث نفس الشيء خلال نزهة في حديقة عامّة، فستكون ردّة الفعل مختلفة تماماً. ومن هنا، فإنّ الاندفاع الصباحي محكوم بقواعد مختلفة عن الباسيجياتا، لكنّه يبقى متوقّعاً بدرجة عالية. هاتان الممارستان دوريّتان: يذهب الناس كلّ يوم إلى العمل، وكلّ نهاية أسبوع للتنزّه في الجّادات والممرّات.



تظهر الطريقة التاريخيّة الأخرى لاستخدام الفضاءات العامّة حين تغدو فضاء خلق، أي خلق الاجتماعيّ والسياسيّ. الشارع العالميّ هو مكان للخلق. لم تكن الاحتجاجات التي شهدناها العام الماضي في البلدان العربيّة وأوروبّا والولايات المتّحدة وكذلك في جنوب أفريقيا جزءاً من الاستخدام الطقسيّ للفضاء العامّ، مثل التنزّه في نهاية الأسبوع والاندفاع الصباحيّ. لم يكن ذلك من طراز الساحة (piazza) بل من قبيل الشارع العالميّ.



- هل يعني ذلك أن وظيفة الساحة (piazza) هي دعم النّظام الاجتماعيّ وتأكيد آرائنا بخصوصه، إذ نخرج من أجل نزهة عائليّة ونرى النّاس الآخرين يفعلون نفس الشيء، وبذلك نثق أن كلّ شيء منظّم... بينما يتحدّى الشارع العالميّ النظام الاجتماعي، فنخرج للتنزّه في الحديقة العامّة، فنرى النّاس نائمين في خيام، وبذلك نُجبر على التساؤل حول ما يحدث؟ وبعبارة أخرى: هل يتعلّق التحوّل من الفضاء العامّ الطقسيّ إلى الشارع العالميّ بتحدّي القواعد الاجتماعيّة القائمة؟



نعم، إلى حدّ ما، لكن يجب تذكّر أن تحدّي القواعد ليس هدفاً في حدّ ذاته وليس شرطاً كافياً لانبثاق الشارع العالميّ، فالكثير من الفاعلين الاجتماعيّين يتحدّون القواعد، مثل المافيا والهوليغانز والأحداث المنحرفين، الخ... فما يهمّ هو الأهداف التي تُزعزع من أجلها القواعد والوسائل التي يتمّ بها ذلك. هذان العنصران كانا حاضرين بشكل غير عادي في احتجاجات السنة الماضية. وسواء تعلّق الأمر بمصر أو بالولايات المتّحدة أو أيّ مكان آخر، فإنّه من المهمّ ملاحظة أنّ هدف المعتصمين لم يكن الإمساك بالسلطة، بل الالتزام بكشف العيوب والأخطاء في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في بلدانهم.



أمّا بالنسبة للوسائل، فقد رأينا تقنية جديدة للمعارضة تُطبّق وتُطوّر عوض المظاهرات التقليديّة، وهي الاعتصام/الاحتلال. لقد أوضح “ميدان التحرير” و“لوس إينديغنادوس” (los indignados) و“احتلّوا وول ستريت”(Occupy Wall Street) وغيرها من الحركات، أنّ الاعتصام يصنع مجالاً جديداً ويخلق جزءاً من التاريخ، باستعمال ما كان يعتبر سابقا مجرّد أرض. أن تحتلّ هو أن تعيد، ولو مؤقّتاً، خلق منطق سلطة غير ديمقراطي متأصّل وعميق لمجال ما، وإعادة تعريف دور المواطنين الذين تمّ إضعافهم وإتعابهم طيلة عقود من اللامساواة المتفاقمة والظلم. يتطلّب الاعتصام جهداً شاقّاً، ساعة بعد ساعة، يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، حيث يجب عليك إبقاء المكان آمناً وإبقاء الناس ملتزمين وإبقاء التواصل قائماً بينك وبينهم. هذا البعد الزمنيّ هو ما يُكسب الاعتصام خصوصيّته ويجعله مختلفاً عن المظاهرات التقليديّة. إنّه مسار طويل يطوّر خلاله الناس مهارات وقدرات جديدة. ولنأخذ “احتلّوا وول ستريت” كمثال: حين ذهب الناس في البداية إلى منتزه زوكوتي (Zuccotti Park) لم يكونوا يعرفون ما عليهم فعله بالتحديد: لقد تعلّموا في خضمّ المسار، وأنا أزعم أنّه يمكننا رؤية تخلّق الاجتماعيّ والسياسيّ ضمن هذا المسار.



- هل تعتقدين أنه سيكون لحركة الاعتصام أيّ نتائج باقية الآن بعد أن رُحِّل المعتصمون؟



لا أدري، وأظنّ أنّ هذا السؤال مضلّل. ما نلحظه هو محاولة اجتراح سُبُلٍ جديدة للاحتجاج ومعالجة القضايا السياسيّة. وكما سبق أن قلت، لا يحاول المحتجّون الإمساك بالسّلطة، بل يحاولون إبلاغنا أنّ النظام لا يعمل، وأنّه يجب أن لا نقبل بذلك. قد يكون ذلك عسير الفهم وربّما مزعجاً، فحتّى أولئك المنتمين إلى “اليسار الجديد” في ستّينات وسبعينات القرن الماضي، وهو ما غدا بالمناسبة “يساراً قديماً”، لديهم مشاكل مع هذه الإستراتيجيّة الجديدة ويتّهمون المحتجّين بافتقادهم برنامجاً واضحاً. إنّهم يخطئون فهم الهدف. فللمحتجّين سياسة بسيطة للغاية تقول بوجود كمّ كبير من غياب العدالة في هذا البلد؛ ولتحجيم ذلك، يجب جعل المواطنين الأكثر ثراء يدفعون قسطاً مناسباً من الضرائب. وقد قام المحتجّون بالفعل بإثراء ملحوظ للنّقاش العامّ حول هذه المسألة، حيث تُظهر نتائج سبر الآراء المنجزة بعد الاعتصام أنّ أغلبيّة المستجوبين يوافقون على وجود كمّ كبير من غياب العدالة في الولايات المتّحدة، وهو ما يُعتبر سابقة في هذا البلد.



هل يعني ذلك أن حركة “احتلّوا وول ستريت” أضحت قوّة في الحياة السّياسيّة الأمريكية؟



ليس بالضرورة، فنحن لا نعرف ذلك بعد. وأنا لا أعتقد أن القويّ فقط بإمكانه صنع التاريخ. يمكنك إنجاز تغيير ملحوظ وتظلّ مستضعفاً. إلاّ أنّ فقدان القوّة لا يعني غيابها، ففي ظلّ ظروف معيّنة يصبح الاستضعاف معقّداً، أقصد أنّه يتضمّن إمكانيّة صناعة السياسيّ أو المواطنيّ أو التاريخ، والفرق واضح بين أن تكون مستضعفاً وأن تكون غائباً أو عاجزاً. يمثّل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مثالاً على ذلك: ربّما لم يفز المحتجّون بالسّلطة؛ فهم ما زالوا مستضعفين، لكنهّم يصنعون تاريخاً وسياسة. أحاول في عملي تحدّي الفكرة الشائعة القائلة بأنّ أيّ شيء جيّد يحصل للمستضعفين يجعلهم حتماً أكثر تمكيناً.



- توجد خاصيّة فريدة أخرى في عملك وهي معارضتك للتمييز الصارم بين الوطنيّ والعالميّ، الأمر الذي ما يزال طاغياً في العلاقات الدوليّة كمجال أكاديميّ. ما تطرحينه هو أنّه لا يجب النظر إليهما كمتضادّيْن، بمعنى أنّ الأكثر عالميّة هو بالضرورة أقلّ وطنيّة، والعكس بالعكس. هل يمكنك شرح طرحك بشكل أكثر تفصيلاً، وتطبيق هذا الإطار، إن أمكن، على احتجاجات السنة الفارطة؟



في ما يخصّ التمييز بين الوطنيّ والعالميّ، أحاول أن أُظهر في أعمالي أنّ العالمي، سواء كان مؤسّسة أو مساراً أو ممارسة بلاغيّة أو مفهوما خياليّاً، يتعالى على الهيكل الحصريّ للدول الوطنيّة، وهو في ذات الوقت، يبرز ويعمل جزئيّاً ضمن ذاك المسار. تُضحي العولمة إذا ما نُظر إليها بهذه الطريقة أكثر من تنامي الترابط المتبادل وتشكيل مؤسّسات عالميّة قائمة بذاتها، فهي تشمل أيضاً فضاءات تحت وطنيّة ومسارات وفاعلين. وما رأيناه لعدّة سنوات، هو تكاثر ملحوظ لتجميعات عالميّة جزئيّة، وعالية التخصّص غالباً، لأجزاء من المجال والسّلطة والحقوق كانت متخفّية داخل الأطر المؤسساتيّة الوطنيّة. إنّها تجميعات تتخطّى ثنائيّة “الوطنيّ ضدّ العالميّ”. ودعني أضرب لك مثالاً: لا وجود لكيان قانوني يسمّى شركة عالميّة. ورغم ذلك نعرف بوجود 370 ألف شركة تقدّم نفسها على أنّها عالميّة لأنّها تجد في عديد بلدان العالم مزيجاً متماثلاً من العناصر يسمح لها بالقيام بأعمالها بطريقة متشابهة. كيف تمّ خلق هذه الفضاء المتماثل؟ لقد تمّ خلقه من قبل كلّ دولة على حدة، واستخدمت كلّ منها أدواتها المخصوصة من قوانين برلمانيّة أو أوامر تنفيذيّة أو تصريحات قضائيّة، وأنتجت بذلك مجموعة من الظروف التي سمحت لتلك الشركات بالنشاط حول العالم بطريقة متناظرة. هذه الشركات هي النوع الجديد من التجميعات. فهي تستخدم أجزاء وقطعاً من أراضٍ وطنيّة متعدّدة، وهي مع ذلك غير مقيّدة بدولة وطنيّة واحدة وغير مستقلّة تماماً عن الدول الوطنيّة. إنّها في الواقع غير قادرة على النّشاط من دون الدول الوطنيّة.



- لكن توجد مؤسّسات عالميّة تبعاً لحقيقة وضعها نفسه، مثل منظّمة التجارة العالميّة أو صندوق النقد الدولي، الخ...



تركّز كثير من أدبيّات العولمة على هذه المؤسّسات، لكن من وجهة نظري يجب أن ينظر إليها ككيانات تقودنا إلى تحوّل تاريخي، بدل اعتبارها التحوّل نفسه. إنّها مؤسسات تظلّ، مهما بدت بارعة، مجرّد بيادق في الميدان، ويجب بالأحرى فهمها على أنّها مقدّرات قويّة لصناعة نظام جديد: مجرّد أدوات، لا النّظام الجديد نفسه. لقد قامت في نظري بتأدية المطلوب منها بالفعل، وهي لم تعد مهمّة، وأعرف أنّ الكثير من زملائي يخالفونني الرأي في هذا الخصوص.



- فلنعد إلى احتجاجات السنة الفارطة. هل هي ظاهرة غير وطنيّة وغير عالميّة في ذات الوقت؟



تمثّل تلك الاحتجاجات مثالاً جميلاً على ظاهرة غير وطنيّة بالكامل وغير عالميّة بالكامل. تتألّف حركات الاعتصام حول العالم من أجزاء عديدة لمجالات وطنيّة وعالميّة، وتمثّل استعادتها للفضاء العامّ ردّة فعل على القصور الملموس لمنطق الدولة الوطنيّة. هذا الوضع المستجدّ والمرتبط بشدّة ببراديغم “الشارع العالميّ”، حرّر المجال كمقولة وكتمكّن؛ فقد حوّله إلى فضاء لإعادة صناعة الاجتماعيّ والسياسيّ من قبل أولئك الذين يعوزهم النفاذ إلى الأجهزة القائمة للسّلطة ضمن إطار المجال السياديّ الوطنيّ. ولذلك، فإنّ الاعتصامات في القاهرة ونيويورك وجميع الأماكن الأخرى تمثّل عنصراً هامّاً ضمن انزياحات أعمق تقوّض فرض المجال الوطنيّ على دعامات الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة.



لقد كانت الاحتجاجات من ناحية أولى موضعيّة بشكل كبير، حيث احتلّ المحتجّون فضاءات حقيقيّة مخصوصة، وكان لها من ناحية ثانية صدى عالميّ. أعتقد أن هذا النسق الاحتجاجي هو نسق المستقبل. فهو ممركز في مواضع شديدة التكثّف، مع ممارسات ماديّة وبعد عالميّ ساهمت وسائط الاتّصال الاجتماعيّ إلى حدّ بعيد في خلقه.



في واقع الأمر، تمت الإشارة إلى كثير من هذه الاحتجاجات بأنّها “ثورات فايسبوك” أو “ثورات تويتر” بغية التشديد على الدور الحسّاس لوسائل الإعلام الاجتماعيّ فيها. هذا صحيح، لكن لا يجب أن ننسى أنّ الإعلام والتكنولوجيا، مهما كنت درجة تقدّمها، تظلّ مجرّد أدوات ولا يمكنها ضمان النّجاح. أتذكّر أنه كان يسود في تسعينات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين اعتقاد في أنّ تكنولوجيات التواصل الجديدة ستغيّر كليّاً منطق الاحتجاج الاجتماعيّ وأنّه يكفي، بدل دفع النّاس للخروج إلى الشّوارع، جمعهم أمام شاشات حواسيبهم، وقد ثبت الآن فساد ذاك الاعتقاد، حيث يوجد بُعد شعبيّ في السيّاسة لا يمكن تعويضه بالتكنولوجيا. ومن المدهش أن تغدو فكرة الاحتجاجات والاعتصامات الجماهيريّة في العصر الرقميّ، إحدى أهمّ العناصر الإستراتيجيّة للاحتجاج. 



- ما هي انعكاسات حدوث جميع تلك الاحتجاجات في مدن كبيرة على العالم المعاصر؟ لقد كتبت في إحدى مقالاتك أنّ: “الشارع العالمي هو قطعا شارع حضريّ، وليس طريقاً ريفيّاً أو ضاحويّاً”. ما الدور الذي لعبته المدن في ما حدث السنة الماضية ولم يزل قائماً إلى الآن؟



حين يحدث احتجاج في مدينة، فإنّه يكتسب ظهوراً غير متاح إذا ما حصل مثيله في منطقة ريفيّة. لنفترض أنّ 300 عامل لا يملكون وثائق عمل ويعملون بطريقة غير قانونيّة، يقومون باحتجاج في إحدى مزارع كاليفورنيا ضدّ ظروف العمل، ويهدّدهم المشغّل بالاتصال بشرطة الهجرة إذا لم يوقفوا الإضراب. ما الذي سيفعلونه؟ على الأغلب أنّهم سيصرخون، ثمّ يعودون إلى العمل. أمّا إذا كان نفس هؤلاء العمّال في المدينة، فسيكونون أكثر جرأة لأنّهم سيشكّلون حشداً صغيراً. أشدّد هنا على أنهم نفس الأشخاص، لأنّ هذا التغيير لا يتوقّف على الأفراد بل على الفضاء الذي يعيشون فيه. تبدو المدينة نظاماً هشّاً، لكنّها توفّر رغم ذلك نوعاً من الحماية. فقتل مدنيّين في مدينة هو رعب مختلف عن الرّعب الناتج عن قتل أناس أكثر عدداً في الأدغال والقرى. وبهذا المعنى، يؤشّر تمدّن الحرب إلى الحدود التي يمكن أن تبلغها القوى العظمى، فهي يمكنها الانخراط في جميع أنواع الأنشطة، بما فيها المنتهكة للقانون: التسليم السرّي للمطلوبين والتعذيب واغتيال الزعماء المعارضين والقصف المكثّف للمناطق المدنيّة، الخ. لكنّ القوى العسكريّة المتفوّقة تقف عند هذا الحدّ في تدمير المدن، حتّى حين يكون لديها الأسلحة الكفيلة بذلك. لقد كان بمقدور الولايات المتّحدة أن تسحق بغداد، وبمقدور إسرائيل أن تسحق غزة، لكنّهما لم تفعلا ذلك.



يبدو لي أن السبب الكامن وراء ذاك الامتناع عن التدمير الساحق لم يكن احترام الحياة أو كون القتل المتعمّد للمدنيّين يحرّمه القانون الدوليّ الذي طالما خرقته الولايات المتّحدة وإسرائيل. فأنا أقدّر في الواقع أنّ سحق مدينة يمثّل نوعاً مخصوصاً من الجريمة يسبّب رعباً لا يسبّبه موت النّاس بسبب الملاريا. لا أقول إنّ الموت لا ينتمي إلى المدينة، إذ يموت يوميّاً أناس بسبب الجريمة والحوادث أو بشكل طبيعي، لكن يوجد نوع من الموت الذي لا ينتمي إلى المدينة. فخليط النّاس والبنايات في المدينة ينطوي على قابليّة لتخفيف التدمير لا إيقافه، إنّه تخفيف التدمير فحسب. وما يمكن أن يمرّ مرور الكرام في قرية، له كبير الأثر في مدينة.



مع ذلك يمكن تفسير هذه الاختلافات في كثافة الموت والرّعب بمعايير ثقافيّة وسياسيّة، حيث يُعتبر قتل 10 متظاهرين في نيويورك أمرا لا يمكن تخيّله، فيما قُتل على مدار أسابيع خلال السنة الماضية عشرات المتظاهرين المصريّين بطريقة شبه يوميّة، وهو نفس ما يحدث في سوريا إلى حدود اليوم. ورغم أنّ جميع تلك المظاهرات قد حدثت في المدن، إلاّ أنّه يوجد اختلاف هائل في مستوى الوحشيّة المصاحب لها...

 



أتّفق معك حول وجود اختلافات بارزة، لكن لاحظ أنّ عمليّات القتل في سوريا، وقبلها في مصر، سبّبت الكثير من الرّعب والحنق حول العالم. وفي ذات الوقت، لم تُلاحظ عمليّات القتل في جنوب السودان حيث قُتل أكثر من 300 شخص في مدار أسبوع. وهذا ما ينطبق أيضاً على الحروب في أثيوبيا وأرتريا والصومال والكونغو، فجميع عمليّات القتل تلك لا تثير اهتمامنا. هنا ربّما تقول إنّ السبب وراء ذلك هو غياب الإعلام عن تلك المناطق، حيث يرتكز وجوده في المناطق الحضريّة، وحينها فإنّ المدينة ليست هي التي تحدّ من العنف، بل الإعلام. أعتقد في وجود شيء يتجاوز ذلك، فالمدينة في حدّ ذاتها فضاء لا ينتمي إلى منطقة الحرب.



تناولنا إلى حدّ الآن أحداث السنة الماضية كما لو أنّها عناصر لها جامع واحد. ولكن رغم التشابهات الكثيرة بينها، ورغم محاولة الإعلام إبراز تلك الاحتجاجات كأجزاء من ظاهرة واحدة (من خلال الحديث مثلاً عن الربيع العربيّ، والصيف المتوسطيّ، والسقوط الأمريكيّ، والشتاء الروسيّ)، إلاّ أنّها مختلفة في ما بينها اختلافاً بيّناً. ولعلّ أهمّ التّعارضات بينها، هو ما يتعلّق بأهدافها المخصوصة، فالنّاس في الدول العربيّة وروسيا يحاربون في سبيل الديمقراطيّات البرلمانيّة اللّيبراليّة التي كان الناس في الغرب يحتجّون ضدّها.

 



أعتبر أنّ الاختلافات التي ذكرتها سطحيّة، حيث أعتقد أنّ جميع الحركات في البلدان الديمقراطيّة وغير الديمقراطيّة تبغي العدالة الاجتماعيّة. أضف إلى ذلك، أنّ المحتجّين في الغرب لا يرفضون الديمقراطيّة الليبراليّة، بل يهدفون إلى تحسينها عبر تقليل أشكال اللامساواة وتوسيع فرص المشاركة، وهم محقّون في هذا الصّراع، فأنا أيضاً لا أظنّ أنّه يوجد لدينا ديمقراطيّة مفعّلة في الغرب. وبصرف النظر عن الحقائق المؤسفة التي نعيها جميعاً، مثل تناقص الإقبال الانتخابيّ أو تقلّص الاهتمام العامّ بالسياسة بين المواطنين، توجد نزعة مقلقة لاحظتها في ما يسمّى بالعالم الديمقراطيّ، ألا وهي التقهقر المستمرّ لمكانة السّلطة التشريعيّة، أي أقرب فروع الحكومة الديمقراطيّة إلى المواطنين، وهذا ما أصفه بشكل أكثر تفصيلاً في كتابي “المجال، السّلطة، والحقوق: من التجميعات القروسطيّة إلى التجميعات العالميّة”(2). هنا يمكنني فحسب القول إنّ نوع العولمة الذي نعيشه، والذي تقوده الشركات، قد أعاد توزيع السّلطة.



العولمة لم تقلّص من سلطة الدّولة، والدّولة مقولة واسعة جدّاً يجب في رأيي تفكيكها والنظر داخلها، وسنرى حينها نوعاً مستجدّاً من الانقسام داخل أجهزة الدّولة يتصّف بخصخصة نامية ومتزايدة للفرع التنفيذيّ للحكومة المصطفّ مع فاعلين عالميّين محدّدين، إلى جانب سلطة تشريعيّة متضائلة وتواجه فعاليّتها خطر أن تصير حبيسة مسائل أكثر محدوديّة وأشدّ انغماساً في المحليّة. فوجود سلطة تشريعيّة ضعيفة ومدجّنة يحدّ من القدرة السياسيّة للمواطنين على المطالبة بمحاسبة سلطة تنفيذيّة مخصخصة بصدد التعملق، ما دامت السلطة التشريعيّة تعطي المواطنين مكانة أسمى في هذه المسائل أكثر من السلطة التنفيذيّة. أضف إلى ذلك أنّ من شأن خصخصة السلطة التنفيذيّة أنّها تؤدّي جزئيّاً إلى تآكل حقوق خصوصيّة المواطنين، وهو ما يمكن ملاحظته في بريطانيا وفرنسا، وبالتأكيد في الولايات المتّحدة.



النصّ الأصلي للحوار:



“The Global Street or the Democracy of the Powerless”, Kultura Liberalna, n° 163 (8/2012), February 2012. Available at: http://kulturaliberalna.pl/2012/02/20/the-global-street-or-the-democracy-of-the-powerless/



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



1-The Global City: New York, London, Tokyo, Princeton University Press, 2001 updated 2nd ed. (1st ed. 1991).
2- Territory, Authority, Rights: From Medieval to Global Assemblages, Princeton University Press, 2008 updated 2nd ed. (1sted. 2006).
3- Losing Control?: Sovereignty in the Age of Globalization, Columbia University Press, 1996.
4- Expulsions - Brutality and Complexity in the Global Economy, Harvard University Press, 2014.

المصدر: https://www.alawan.org/article15088.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك