المشترك الإنساني سبيل التعارف

د. راغب السرجاني

 

تعددت في الآونة الأخيرة وخاصة بين الجاليات الإسلامية في أوربا وأمريكا، الكثير من الأسئلة التي تدور حول موضوع المواطنة والتعايش مع الآخر في بلاد الغرب خاصة أوربا وأمريكا وكندا؛ نتيجة لتعدد الأعراق والجنسيات والأديان، ليس ذلك التعدد بين غير المسلمين بل بين المسلمين أنفسهم؛ حيث تتعدد أعراقهم وتتنوع جنسياتهم، فهل في الإسلام ما يدعونا إلى التعايش مع الآخر في مودة وسلام؟ وهل من نماذج وصور لهذا التعايش؟ وما هي طبيعة ذلك التعايش؟

حقيقة الأمر أن الإسلام لم يترك لنا شيئًا إلا وتحدث عنه، وناقشه وأدلى فيه بدلوه؛ فالله  يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[الأنعام: 38]. والمتدبر للسيرة النبوية وتاريخ الإسلام منذ لحظاته الأولى يجد أن تلك القضية من القضايا الماسة التي طرحها الإسلام منذ أيامه الأولى؛ أي منذ نزول القرآن الكريم وبناء أمة الإسلام بعد الهجرة الشريفة إلى المدينة المنورة، وقد ذكرها القرآن الكريم في أكثر من موضع بأكثر من وجه، واهتم بها الرسول  في أكثر من موقف من حياته، فلماذا كل هذا الاهتمام في كتاب الله  وسنة رسول الله  بهذه القضية؟

إن هذا الاهتمام الشديد يرجع إلى عدة أسباب؛ منها أولاً: أن الله  خلق الناس مختلفين، فقال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ[هود: 118، 119]؛ فالاختلاف هذا طبيعة بشرية ذات حكمة إلهية، ومع هذا الاختلاف طلب منهم التعاون والتعايش. ثانيًا: لا يوجد في الوجود إنسان كامل، وهذا من سنن الله -تعالى- في الخلق، وكذلك البيئة التي يعيش فيها الإنسان منقوصة، والشعب الذي يتكون من هذا الإنسان مع غيره منقوص، فليس كل إنسان في داخله الكمال الذي يجعله لا يحتاج إلى الآخر، وكذلك الشعوب والبيئات، وهذا النقص الذي يعتري الشعوب والبيئات يدفع حتمًا تلك الشعوب إلى التواصل والالتحام بعضها مع بعض؛ وهذا مصداقًا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[الحجرات: 13].

فالتعارف أحد الأهداف الكبرى لخلق الإنسان على الأرض، وقد سلك الإنسان في سبيل التعارف البنّاء العديد من الوسائل التي تهدف إلى بناء مجتمع متعارف متكامل، وقليلة هي الدراسات العلمية والبحثية التي تهدف إلى جمع تلك الوسائل وتفعيلها، من بينها دراسة علمية جادة وجديدة في بابها للمفكر الدكتور راغب السرجاني بعنوان "نظرية المشترك الإنساني"، وهي نظرية جديدة تناقش العديد من الأسئلة من بينها: هل يمكن للناس أن يعيشوا في وطن واحد ذي أعراق مختلفة؟ وهل يمكن للعالم أن يعيش في سلام ومودة دون قتال ومعارك مستمرة؟ وإن كانت هناك حروب -وتلك سنة ماضية إلى يوم القيامة- فما هي الوسائل التي تقلل من حدة تلك الحروب ودمويتها؟

سلك الإنسان في سبيل استكمال نقصه طريقين مختلفين:

الأولى: وهي طريقة التعارف السلمي من خلال البحث عن المصلحة المشتركة، التي يتعايشون بها معًا في بيت واحد أو وطن واحد، وتلك طريقة الأسوياء والأتقياء.

الثانية: وهي طريقة التقاتل لإكمال ما عنده من النقص, وهي طريقة الأشقياء. وتلكما الطريقان مختلفان، وموجودان دائمًا إلى يوم القيامة.

وقد تعددت وسائل التعارف لتحقيق المصلحة المشتركة بين البشر من خلال مجموعة من المشتركات والصفات المشتركة التي لها دور كبير في تحقيق المصلحة المشتركة.

من تلك المشتركات المهمة لتحقيق المصلحة المشتركة بين البشر جميعًا، ما يعرف بـ(الاحتياجات الأساسية)، وهذه الاحتياجات أساسية لكل البشر لا يمكن الاستغناء عنها؛ كالطعام والشراب والمسكن والزواج، وهذا المعنى ذكره الله في قصة آدم  في قوله سبحانه: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى[طه: 118، 119]. فإن قامت العلاقة بين البشر على توفير تلك الاحتياجات فتلك علاقة سوية، أما إن قامت على الأنانية وتوفير تلك الاحتياجات للبعض دون الآخر، فتلك علاقة غير سوية نتيجتها الحروب والدمار.

من بين تلك المشتركات المهمة أيضًا لتحقيق المصلحة المشتركة ما يعرف بـ(الأخلاق الأساسية)؛ فالأخلاق من القضايا التي زرعها الله  في قلوب الناس، وهي شيء مقدر عند البشر عامة، وهذه الأخلاق الأساسية تشمل ثلاثة أخلاق يتفق البشر عامتهم على احترامها وضرورة توافرها لإقامة علاقة سوية بنّاءة، وهي: خلق الصدق، وخلق الأمانة، وخلق العدل.

ومن المشتركات المهمة أيضًا مشترك الكرامة، التي هي فطرة في الإنسانية، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ}[الإسراء: 70]، على عمومهم وشمولهم؛ فأي علاقة تقوم على حفظ كرامة الإنسان يكون من نتيجتها السلام والوئام، وقد تعددت الآيات والأحاديث تدليلاً على ذلك.

وليست تلك المشتركات العامة هي كل ما يمكن أن يجمع البشر جميعًا، فهناك مشتركات عامة أخرى، كالعلم والعقل والعمل والحرية.

إن كانت هذه المشتركات العامة تجمع البشر جميعًا لتحقيق التعارف والمصلحة المشتركة، فإن هناك مشتركات أخرى خاصة تجمع أقوامًا وشعوبًا بعينهم؛ كالأرض واللغة والعرق.

ولكن إذا كانت هناك مشتركات عامة وأخرى خاصة، فهل هناك من مشتركات داعمة لتلك المشتركات؟ وما هي مكانة الدين من بين تلك المشتركات؟ وهل هناك من نماذج واقعية ناجحة وأخرى فاشلة طبقًا لنظرية التعارف؟.

المصدر: http://islamstory.com/ar/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%AA%D8%B1%D9%83-%D8%...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك