الحوار النبوي
الحوار النبوي
د. عبدالرزاق مرزوكَ
الحمد لله المحمود بلا سبب، رافع صلة تقواه على كل نسب وحسب، والصلاة والسلام على خير من دعاه فأعطاه أعز ما طلب، وزاده من وارف السلوى كاشفات البلوى والشَّجَب، وعلى آله الأنقياء وصحابته الأتقياء، ومن لزم هديه من العابدين الأوفياء.
لمحة عن الحوار النبوي:
(الحوار النبوي) مثل (الأدب النبوي) و(الطب النبوي) و(الدعاء النبوي)...، وسواهما من التصنيفات المستقلة التي حظيت بعناية المصنفين في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته؛ حيث كانت في بدايات التأليف (كتبًا) تحتها أبواب ضمن أمهات كتب الحديث؛ ككتاب (الطب) السادس والسبعين من كتب صحيح البخاري، وكتاب (الأدب) الثامن والسبعين، ثم ألفت فيها كتب مستقلة قديمة وحديثة، كما صارت تخصصات تدرس في الجامعات، وتعد في موضوعها البحوث والرسائل والدراسات إلى الآن.
وكلها متحدة في الدلالة على خصائص نبينا الخاتم صلى الله عليه وسلم المبثوثة في سيرته العطرة، وكمالات استحقاقه للنبوة، وما أيده به الرب الحكيم -جل وعلا- في حجاجه وغِلابه، فهي أعلام حق باهرة اللوح في الأنفس والآفاق؛ وآيات صدق مُخلَصة الرصف؛ متسقة الطِّباق.
ولكل صنف مجاله، وسبله وآثاره، مع اتفاقها جميعًا على تحري مقصد واحد يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماءَ فنفع الله بها الناس، فشربوا، وسقوا، وزرعوا ....) [أخرجه البخاري في كتاب العلم من صحيحه، باب فضل من علم وعلّم (1/175- فتح)].
فكلها أصناف هداية وتأييد خص الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إتمامًا لنعمته عليه وعلى الناس، فمنها الحسي، ومنها المعنوي، وهو أغلبها، ولم يزل في السيرة النبوية من هذا القبيل كنوز ودفائن حرية بالإثارة والاستخراج والتقليب.
أما الحوار النبوي فلم أجد من الأقدمين من اعتنى به على سبيل الاستقلال، وإنما شغلهم عن ذلك -حسبما بدا لي- امتلاءُ القرآن الكريم بهذا اللون من الخطاب؛ فلما وجدوه مشتملا على تأييد النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته اعتبروه أصلا لسائره في أيامه وأحواله.
وفي العصر الحديث عظم الاهتمام بـ(الحوار) من وجهين:
الأول: كونه مفتاح التواصل الحضاري الضروري بين الناس، ووسيلته المثلى، ومجال استثماره الأنفع، لا سيما وأن مسافات الاتصال بين ساكنة العالم لا تزداد إلا ضمورًا.
الثاني: كونه -بالنظر إلى مسالك التأثير- من أعظم الوسائل فائدة، وأنجعها في تبليغ مذاهب التفكير، وإقناع المخالف، وإفحام الخصم المعاند...
ثم اشتدت العناية به لما دعت الحاجة إلى الحديث عن وسطية الإسلام، وأنه براء مما يضاف إليه وإلى أهله من مزاعم التطرف والتشدد، فكثر التأليف في بيان فضل الحوار ولزومه، وحظي باهتمام العلماء والدعاة، والمفكرين ذوي التخصصات السياسية والاجتماعية والأدبية، وغيرها، ولا تزال تعقد تحت شعاره الندوات في الجامعات والمنتديات، وتنشغل به منابرُ الإعلام المختلفة؛ لا سيما القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت العامة والخاصة.
محل الحوار من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم:
والذي يعنينا من هذه المقالة أمران:
الأول: أن للنبي صلى الله عليه وسلم في سيرته (حوارًا) كما أن له (طبًّا)، و(ذكرًا) و(بيانًا) و(أدبًا) يجلي خصائص ما اشتمل عليه هديه النبوي الأكمل الأمثل من وجوه الفضل على الخلق، والرأفة بهم، وهدايتهم، وتزكيتهم، كما قال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].
الثاني: أن الحوار النبوي أعظم حوار وأنفعه للبشرية؛ كما أن الطب النبوي أنجع شفاء يطلب، وأجلاه لأدواء القلوب والأبدان، وما يومئ إليه إعمال الحوار من كمال العقل، وسداد الرأي، وعمق النظر، ونفاذ الإبصار..، وما يرجى منه من الخير والإصلاح... كل ذلك قد اشتمل عليه (الحوار النبوي) أتم اشتمال، وتضمنه أشرف تضمن؛ كما قال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].
ولا يخفى اشتمال الهدى ودين الحق على (الحوار) وكل مظاهر الدعوة النبوية الكريمة ووسائلها، وأنه المرجع الأقوم لكل تصور، أو رؤية، أو نظام، أو منهج يجعل الحوار مناط بروزه وقوته وذيوعه، وسر نجاحه وتأثيره وبقائه.
والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يرى خلال كل أطوارها الحية مواقف حوارية مضيئة تقطر جلالا وجمالا وطهرًا، وتنثال لطفًا ورفقًا ونبلا؛ .. بصائرُ ترشد الداعيةَ اللبيب إلى أرقى مشاهد الرحمة والإحسان، وتعينه على صيانة ما استُحفِظ من نزاهة دين الإسلام ورقيه، وعرضه نقيًّا صافيًا كما عرضه النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيما يلي نموذج مشرق مما بينت، وصورة سنية لما حررت، ودليل جلي على أن (هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحوار) شعبة من شعب سيرته الأصيلة، ومسلك علمي تربوي حضاري حقيق بالعناية، وأن (حوارات النبي صلى الله عليه وسلم) المنتثرة خلال سيرته العطرة حرية بالجمع والتصنيف، والتبيين والتعريف.
فهذا من لوازم النصرة المظفرة التي هبت لأجلها الأمة، ومن شروط المحبة الْمُخْلَصَة، والغيرة الصادقة على مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم..، فهل يوفق في نصرة نبيه من لا يعرفه، ولا يعرف هديه الأمثل، ولا يفقهه؟؟؟؟ .... اللهم لا...
حوار النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين:
لقد علم الصحابة رضي الله عنهم أن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفسُ ما ظفروا به، وأعز ما جمعوه من الدنيا، فلما وجدوا الحظوظ حوائلَ تحجبهم عن بلوغ صفاء محبته أبوا أن يساكنوها، ولم يؤثروا سَفْسافَها على معالي رفقته.....
لذلك بكت الأنصارُ -رضي الله عنهم- لما عاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين؛ حين قسم الغنائم في المؤلفة قلوبهم؛ ولم يعط الأنصار شيئًا، فقالوا: (يغفر الله لرسوله؛ يعطي قريشًا وسيوفنا تقطر من دمائهم). فجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم في قبة له حتى فاضت، فخطبهم فقال: (يا معشر الأنصار.. ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟..، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟..، وعالة فأغناكم الله بي..؟). كلما قال شيئًا قالوا: (الله ورسوله أمَنُّ!..). قال: (والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم:.. جئتنا طريدًا فآويناك، وعائلا فواسيناك، وخائفًا فأمناك، ومخذولا فنصرناك، ... أَوَجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لُعاعة من الدنيا تألفتُ بها قومًا أسلموا، ووكلتُكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام...؟.. أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير -وفي لفظ (بالدنيا)- وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم تحوزونه إلى بيوتكم؟؟.... فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبًا، وسلكت الأنصارُ شعبًا لسلكت شعب الأنصار..، ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار.. الأنصار شعار، والناس دثار.. إنكم ستلقون بعدي أثرة؛ فاصبروا حتى تلقوني على الحوض.. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار...). فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم.
[أخرجه البخاري في كتاب المغازي من صحيحه، باب غزوة الطائف (8/ 47 و53- فتح)].
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- ينوه بما في هذا الحوار النبوي المختصر من النفع والنجوع:
(ولما شرح لهم صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع رجعوا مذعنين، ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم، فسلوا عن الشاة والبعير، والسبايا من الأنثى والصغير، بما حازوه من الفضل العظيم، ومجاورة النبي الكريم لهم حيًّا وميتًا). [زاد المعاد 3/485].
فهذا المشهد العجيب الماتع خليق بأن ينفق في تدبره سائرُ الفكر وزَمْخَريُّ الأنفاس؛ لأن هذا الذي بلغته الأنصار من التعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، واستخرجته من خاصة عنايته ومُخْلَصِ إقباله، وإفرادهم دون سواهم بفرط ملابسته وغاية قربه.. هو أمنية اللبيب العظمى، ومَرْجاتُه العليا من تحصيل علم سيرته صلى الله عليه وسلم، والعكوف على مطالعة هديه السني المنيف.
فتأمل.. كيف تواضع صلى الله عليه وسلم فقبل معاتبتهم..
وزاد.. فاستعطفهم..
وألزم نفسه العزيزة الرضى بمِنَّتهم لو مَنُّوا..
وكيف رفع عنهم في مَنِّهم الملامَ بتصديقهم لو قالوا إن لهم عليه أياديَ؛ مع كون المنة المطلقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم...
وانظر كيف شدد عليهم بقوله: (إنكم ستلقون بعدي أثرة؛ فاصبروا حتى تلقوني على الحوض..) إشارة إلى شدة المحبة ولازمها من التمحيص؛ كي يمحض لهم الإكرام بخالص القرب واتصال الملازمة في الآخرة.
فجَلَبَ لهم صبرهم -على أثرة في المعاش ظاهرها الغمط والهضم- وافِيَ الانتصاف في العاقبة؛ يوم يود الفرحون بغنيمة الشاء أن لو عجل لهم الحرمان، وأجل لهم الوجدان.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليمًا.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/3783/#ixzz1Th96Y5m5