الواحديَّة الأرضيَّة
عبد المجيد حسين تمراز
واحدة من مميّزات الإنسان والعقل البشري وفي نفس الوقت أخطرها عليه؛ أنَّهُ يُريد أنْ يُجَرِّدَ الواقع ويكتشف العلاقات التي بينه ليخرج بمنظور كلّي واحد عن الموقف, وكي يَسْتَخلِص نظريَّة يُريد تَطبِيِقها على أيَّة واقعة ليستخرَجَ منها الغاية والهدف, ولكن مع تقدم الإنسانيَّة بدَأَت تكتشف أنَّ هناك أكثر من منظور لهذه الأمور, وأكثر من نظرية, ذلك أنَّ الوجود متعدِّد, وأنَّ الإنسانَ العاقل ليس هو الوحيد على هذه المعمورة, وأنَّ هذه الفاعليَّة العقليَّة لها أيضًا مسارات متعددة, إذًا هناك غريزة معرفيَّة للإنسان نحو التوحيد, للخروج بنظريَّة واحدة, ولكنَّه أدرك أيضًا بأنَّ هذا لا يعني أنَّها الحقيقة, لذلك عمل على أن يكون منفتحًا على هذا التعدد, والتفكير بأكثر من زاوية.
المشهد اليوم بالذَّات في الواقع الإسلامي العقلي يُبَشِّر بهبوطٍ جديدٍ للواحديَّة على الأرض؛ وأقصد بها الواحديَّة الفكريَّة, وعندما أقول: “هَبَطَت”, ذلك أنَّني أؤمن بأنَّ مكانها فوق السماء صفة لله وحده, فهو الواحد فقط بكل المعاني.
ومن المهم والأهم هنا أنْ أَذْكُر تجلّيات هذه الواحديَّة على الواقع الإسلامي:
- التفسير الأوحد: وهي الظنّ بأحقيَّة وصحَّة فهم واحد للنص المقدس وهذه ذات خطورة عظيمة, ذلك أنَّ النص المقدس نفسه مفتوح الدلالة, وحمَّال أوجُهْ, حتى يستقي كل البشر كلٌّ حسب فهمه, حتى تتكامل الحياة, فليس هناك تفسير أو حتى تأويل للنص هو الحقيقة, وليست هناك علاقة مفاضلة بمعنى أفضل, بل كلهم متساوين كما التساوي في أجر الاجتهاد, وعندما نُؤمن بأحقيَّة فهم واحد للنص نُصبح في حالة صراع أيدولوجي ضدّ أيّ فهمٍ آخرَ وتُصبِحَ العلاقة المعرفيَّة بدل أنْ تكون علاقة بناء وتراكم وتواصل, علاقة تنافر وتكرار وانفصال.
- القطب الأوحد: واحديَّة آلة المعرفة وهي الاعتقاد بصحة وتوحد الحقيقة لدى طريقة واحدة للمعرفة وبذلك نلغي جهد الطرف الآخر مهما كانت طريقته لأنَّنا والوحيدين الذين نملك الطريقة الصحيحة للمعرفة, بمعنى أنَّ الآخر لا يملك معرفة صحيحة أو (حقيقة بمصطلحهم).. وهذه خطيرة لأنها تلغي الجهد العقلي, لأنه يصبح بلا فائدة طالما أنَّ هناك طريقة واحدة (احتكار), وعالم واحد (أرستقراطية), وطريقة واحدة (عنصرية), هي الأفضل.. دائمًا المشكلة في المفاضلة: “أنا لا أنكر طريقته في المعرفة, ولا أن أنكر أنَّه توصَّلَ إلى معرفة, لكنني أنكر استنكاره, وأنه الوحيد الذي يستطيع التوصل لهذه المعرفة الحقيقيَّة”.
- الزعيم الأوحد: القائد السياسي الواحد الذي سيوحد المسلمين (قبل المهدي), وسيكون قائد المسلمين (صلاح الدين الجديد) حتى صلاح الدين لم يحكم المسلمين كلهم!.. منطق الإمامة انتهى برأيي.. بمعنى سياسيًا أنه لابد للمسلمين من قائد واحد يوحد صفوفهم ويقودهم نحو الانتصار.. علينا أن نعي اختلافات الزمان والمكان والوعي بالدين والمجتمع.. لا يمكن أن يحصل هذا اليوم.. ولكن نستطيع أن نفعل واحدية هي في أصلها تعددية كما (الاتحاد الأوروبي).. ومن هنا عندما كل شخص يظن أن قائده هو الأوحد يصبح في صراع ايدولوجي حربي مع الآخر ظنًا منه معرفيًا أنه يريد مصلحة المسلمين.
- المذهب الأوحد: ليس هناك مذهب واحد صحيح.. ولو كان كذلك لألغيت حرية العقل وبإلغائها تُلغى مسؤوليته, وهكذا تُلغى مساءلته.. لن أتكلم عن تعصبية وواحدية المذهب فقد تكلم فيها غيري كثير لو أنك كتبت في أي محرك بحث “التعصب المذهبي” سترى كمية ما كُتب عنه.
الفرقة الواحدة.. المهدي الواحد.. الثقافة الواحدة (الأمريكية)..
ما أريد قوله, هو أنَّنا لن يكون لدينا تنوّع فكري وإنتاج معرفي وتنوع حضاري منتج طالما نتمسك بواحديَّة التفكير, فالحقيقة مكعَّبَة الوجوه, والوجود تركيبي, والإنسان متعدد الأبعاد..
وأختم بهذه الرمزية أنه لم يكن الوجود فياض ومتعدد وملون إلا عندما كان هناك أكثر من واحد وكأن الله يعلمنا ذلك عندما خلق الخلق..