العمل الصالح بين المفهوم الواسع والفكر الاختزالي

عادل الكلباني

 

المقصود الأعظم في التذكير بالعمل الصالح هو إيقاظ النية وتجديدها احتسابًا للفضل في العشر، وأيضًا تنبيه العامل فيها إلى حسن اختيار نوعية العمل غير معتمدٍ على ما يختزله الفهم اعتيادًا وعادة، والنظر إلى أثر ذلك العمل على المجتمع

يتبادر إلى الذهن أحياناً مفهوم خاطئ في مسألة من المسائل، وتُرسم صورة غير الصورة الحقيقة لتلك المسألة، أو أن الذهن لا يتلقى من مفهومها إلا ما يراه واقعًا ملموسًا، ومترجمًا فعليًا، أو يجذبه إليه هواه ورغبته، فيرى من تلك الصورة بعض جوانبها، ويغفل عن جوانبها الأخرى التي تُظهر تلك الصورة بأبعادها المتكاملة.

وربما ظن استنادًا إلى ما يراه في الواقع أن ذلك الجانب أو المفهوم الذي بدا له يشكل الصورة الحقيقية، وما دونه إنما هي كماليات لا تتغير ثوابت النظرة بفقده وانعدامه.

وهذا هو الواقع المشاهد والملموس لمفهوم العمل الصالح عند كثير من المسلمين، وهي قضية قد لا يختلف فيها أرباب الشأن، وإنما يقع الخلاف في التطبيق لتلك النظرة! وربما أصبح تقرير العمل الصالح عند الكثيرين ينطلق من هذا المفهوم "الاختزالي" في جانب من جوانبه وصورة من صوره، وتنبثق من هذا المفهوم الإشكالات بين العامل بتلك الجزئية الناظر لغيره بعين التهمة "بالتقصير" وبين المعرض عن العمل الصالح جملةً اعتراضًا على ذلك المفهوم "الضيق" للعمل الصالح، ويتفرد القليل مابين هؤلاء وهؤلاء بالفهم الواسع والتطبيق الصحيح لمفهوم العمل الصالح وإبراز الصورة الحقيقية للعمل الصالح بذلك المفهوم الذي قرره الإسلام بكل معانيه الشاملة لكل منافع الحياة على اختلاف مراتبها.

إن عشر ذي الحجة خير مثال لما نحن بصدده، فقد جاءت الأحاديث المرغبة في العمل الصالح في هذه الأيام الفاضلة وتكاثرت النقولات في فضيلتها وميزتها عن سائر الأيام، ولم تختص تلك الأيام بعمل معيّـن حثت أو رغبت فيه الأحاديث، وإنما جاءت مطلقةً لتترك للمسلم اختيار ما يتلاءم مع وضعه وقدرته وما هو الأفضل في حقه، فالحديث صريح الإطلاق في ذلك فقد قال صلى الله علي وآله " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" فالإطلاق هنا جاء لحكمة مراعاة كل مسلم، فلو حدد عملاً صالحًا بعينه وعبادةً بذاتها لربما أعجز ذلك كثيرًا من المسلمين، فليس كل مسلم يستطيع الحج، وليس كل مسلم بمقدوره الصيام، وكذلك ليس كل المسلمين أغنياء يقدرون على الإنفاق والصدقات، فجاء الإطلاق مراعاة لكل أحد بحسب حاله.

ومن هنا يتعين على العلماء والفقهاء إنكار التخصيص "العرفي" والاختزال "العملي" التطبيقي لمفهوم العمل الصالح في هذه الأيام العشر، وتوضيح هذا المفهوم كما أريد به في القرآن والسنة، ففي محكم التنزيل (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) فهذا التعدد في نوعية العمل الصالح يعطي العقل إيحاءً أن المقصود الأعظم من العمل الصالح هو توطئة النفس على الصلاح، وتعدي النفع للآخرين وكلما كان العمل متعديًا نفعه كان أعظم في المرتبة، ومن الحرمان –أحيانًا- ترك نفع الآخرين في مثل هذه الأيام الفاضلة واحتساب ذلك النفع، ثم الاقتصار على عمل صالح لا يتعدى نفعه إلا على الشخص نفسه، فنلاحظ أن كثيراً من الناس الذين ارتبطوا بأعمال أو تجارات أو أي منافع أخرى، يتوقفون عن ذلك العمل ويغلقون باب نفع الآخرين، والعذر في ذلك أنهم يريدون "الصيام" في هذه العشر، وفي ميزان الشرع أن الصيام مع ما فيه من فضل وأجر إلا أنه عمل صالح منفعته قاصرة على صاحبه، هذا إذا سلّمنا أنه لا يستطيع الجمع بين عمله وصيامه، وهو الأمر الميسر للموفق من الناس، ومن قصر الفهم وتضييقه أن يترك العمل بما فيه منفعه للأمة وتسيير لمصالح كثير من المسلمين بحجة التفرغ "للصيام"!

وأيضًا هناك أعمال أخرى هي من أعظم العمل الصالح مثل الصدقات وإطعام الطعام، وغير ذلك من الأعمال التي ترتقي بالمجتمع وتغرس فيه روح الإخاء والتعاون وحب البذل وحب نفع الآخرين، ومن أهم ذلك ترك ظاهر الإثم من الحقد والحسد والبغضاء، وآفات اللسان من الكذب والغيبة والنميمة.

وقد نبتت نابتة غريبة أيضا صار همها تحذير الناس من الصيام بحجة أنه صلى الله عليه وآله لم يصم العشر، وهذا فيه من الغفلة عن مفهوم العمل الصالح ما فيه.

ومن العمل الصالح الذي قد يغفل عنه الباحثون عن الأجر والمثوبة واغتنام الفرصة في الأيام الفاضلة مواقع الجهاد والرباط التي يقف فيها جنودنا ورجال أمننا في حراسة هذه البلاد يذودون عنها أيادي العبث والتخريب، فهذا من أرفع العمل الصالح في هذه الأيام العشر إذا احتسب صاحبها والتفت إلى هذا المفهوم، فأذكرهم بإخلاص النية في هذا لينالوا الشرف الأعظم والأجر الكريم.

والمقصود الأعظم في التذكير بالعمل الصالح هو إيقاظ النية وتجديدها احتسابًا للفضل في العشر، وأيضًا تنبيه العامل فيها إلى حسن اختيار نوعية العمل غير معتمدٍ على ما يختزله الفهم اعتيادًا وعادة، والنظر إلى أثر ذلك العمل على المجتمع وعودة ثمرته على نفسه وأسرته ومجتمعه والأمة بعامة. والله من وراء القصد.

http://www.alriyadh.com/1530887

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك