أميركا وإيران.. من الاحتواء إلى الاختراق المزدوج

عبدالله موسى الطاير

 

المبادرة الأميركية لحل الموضوع اليمني قد توحي بأنها محاولة أخرى لتعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، وأن أميركا تتصرف نتيجة جهل بطبيعة نظام الملالي في طهران.

رغبت إدارة الرئيس الأميركي جون كيندي في تحصين إيران ضد الفيروس الشيوعي فأرغمت حليفها القوي على تقديم إصلاحات جوهرية عميقة. ففي يناير من العام 1963م دشن الشاه خطته الإصلاحية "الثورة البيضاء" المكونة من 6 نقاط هي: الإصلاح الزراعي، الخصخصة لتمويل الإصلاح، منح حق التصويت للنساء، تأميم الغابات والمراعي، تشكيل فرق محو الأمية، وأخيرا تنظيم تقاسم الأرباح بين المصانع والعاملين فيها.

هذه الرؤية التي دفعت بها أميركا لتعزيز أحد خطوط المواجهة مع الشيوعية أدت إلى فقدان المؤسسة الحاكمة دعمها التقليدي، وبعد 15 عاما من الإصلاحات المتتالية وجد الشاه نفسه مجردا من قواه، ووجدت أميركا نفسها أمام ثورة شعبية كانت تخشاها.

لم التذكير بالثورة البيضاء الآن؟ إنها محاولة لفهم العلاقة المتنامية بين الإدارة الأميركية وإيران التي كان أحدث فصولها اجتماع الوزير جون كيري بنظرائه الخليجيين في الرياض وتقديمه مقترحات لحل الأزمة اليمنية. وعلى الرغم من وجود ضباب كثيف يحول دون تبين ملامح الخطة الأميركية إلا أن ما رشح من الاجتماعات والتصريحات يثير سؤالا مهما حول مستقبل اليمن وما إذا كان يسير في طريق "اللبننة". بمعنى حكومة وفاق وطني بمشاركة الحوثيين، ونموذج مواز لحزب الله اللبناني "أنصار الله" يحرك بموجبه عبدالملك الحوثي السلطة من سردابه؛ فيعطل قرارات الحكومة، ويرسخ مشروعه الطائفي، ويستخدم التهديد بالسلاح في كل خلاف سياسي داخلي. أما خارجيا فسوف يتصدر الحوثي المشهد الإعلامي بخطاباته المدججة بالكراهية في يوم الشهيد ويوم النصر وفي الأربعين، وبذكرى مولد الخميني ونفوقه، وسيتصرف على أنه ملهم الأمة والمحرض على مقاومة الاستكبار "السعودي". وبنفس الردود المعلبة التي تلوكها الحكومات اللبنانية كلما طلب منها لجم نصر الله سترد الحكومات اليمنية.

المبادرة الأميركية لحل الموضوع اليمني قد توحي بأنها محاولة أخرى لتعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، وأن أميركا تتصرف نتيجة جهل بطبيعة نظام الملالي في طهران. شخصيا لا أعتقد ذلك، ولكن يراودني شك بأن أميركا تريد العودة إلى الفترة ما بين عامي 1963 و1978م وهي الحقبة التي أرغمت فيها الشاه على تدشين ثورته الإصلاحية وأفضت إلى رفض وتذمر شعبي عارم، وفقدان محمد رضا شاه بهلوي الداعمين الرئيسيين له، فعمد أولا إلى تجريب وصفة صندوق النقد الدولي لاستعادة الاستقرار وفشلت، ثم لجأ إلى اطلاق يد جهاز الأمن الداخلي (السافاك) الذي أسس بمساعدة المخابرات المركزية الأميركية، فتحول التذمر إلى انتفاضة، وعندما أدركت أميركا أن الإصلاحات التي دفعت بها ربما تقدم إيران لقمة سائغة للاتحاد السوفياتي لم تجد بدا من التسليم برحيل الشاه وأن يكون الخميني بديلا يبقي طهران بعيدة عن موسكو.

الخبراء الأميركيون منذ الدور المشبوه الذي لعبه المحافظون الجدد في تأخير إطلاق سراح الرهائن في السفارة الأميركية في طهران إلى ما بعد هزيمة كارتر، مرورا بإيران كونترا، وتفجيرات 11/9/2001م وهم يجربون الطريقة تلو الأخرى للتغيير في المنطقة سواء بإحلال الديمقراطية كوسيلة للحكم الرشيد، أو بإعادة توزيع الحدود الجغرافية بما يلبي مطالب الأعراق والمذاهب والطوائف، ويبدو أن الفشل والإحباط المتراكم يعيدان أميركا مرة أخرى إلى حليفها الإيراني ما قبل 1979م.

فشلت سياسة العصا والجزرة التي مارستها أميركا على حكام المنطقة الذين لم يأبهوا كثيرا بالتوصيات والنصائح والمساعدات، فلم يتغير شيء ذو بال في شكل الحكم ومخرجاته، كما فشل البنك وصندوق النقد الدولي اللذان يعملان ذراعا للخارجية الأميركية في تحرير اقتصادات دول المنطقة من أجل إضعاف سيطرة الحكام والدول وتحفيز الشعوب للانعتاق من التبعية، ثم فشل الربيع العربي في اختراق التابوهات الراسخة في علاقة الشعوب بأنظمتها، وترقبا لفشل الفوضى الخلاقة أو لنقل لاستثمار ما سوف ينتج عن هذه الفوضى من حروب ودمار فإن أميركا تعمل على تأهيل شريك يقاسمها قيم الديمقراطية ويكون نموذجا يمكن التأسي به، وإذا لزم الأمر تنصيبه وكيلا مقيما للأميركيين يرعى غرس الديمقراطية التي يتوقعون أن أوانها قد اقترب بعد الإنهاك الذي حلّ بدول المنطقة وشعوبها التي ستكون "مستوية" بحلول 2020م لتقبّل أية فكرة تخرجها من جحيم اليأس إلى جنان الأمل.

وقد يسأل سائل -وهو محق-: هل إيران هي المثال المناسب الخالب للألباب الذي يمكن الاقتداء به في الديمقراطية والحكم الرشيد؟

وجوابي النفي بالتأكيد، فنظام ولاية الفقيه ليس هو ما تراهن عليه أميركا، وإنما رهانها الأساس هو على سقوط الكهنوتية وقيام الدولة المدنية، خاصة وأن الأدوات الانتخابية والتجربة الديمقراطية من حيث المبدأ متوفرة، وثقافتها راسخة في الوجدان الإيراني، وبذلك فإن انقشاع ولاية الفقيه ستبشر بولادة دولة ديمقراطية قادرة على حمل الرسالة الحضارية الأميركية في محيطها الشرق أوسطي، هكذا تفترض الإدارة الأميركية.

أميركا تعمل جاهدة منذ بداية عصر أوباما على التغلغل بين الحكومة المنتخبة ومؤسسات ولاية الفقيه، وهي تجتهد لتوسيع مسافة الخلاف بينهما ودعم الحكومة الإيرانية المنتخبة حتى وإن لم تتفق مع توجهها الديني ومع ملفها في مجال حقوق الإنسان. استراتيجية "الاحتواء المزدوج" التي مارستها أميركا طويلا مع إيران تتحول إلى الاختراق المزدوج الذي تتقرب به أميركا من الشعب الإيراني وحكومته المنتخبة وفي ذات الوقت تعمل على توليد حالة من الجفاء التراكمي بينهما وبين مؤسسات المرشد حتى يحين الوقت المناسب لإماطة ولاية الفقيه عن طريق إيران التي ستتولى آنذاك تنفيذ الأجندة الأميركية الثقافية والسياسية.

علي خامنئي والأجهزة المرتبطة به وبخاصة الباسيج والحرس الثوري وبقية التنظيمات المؤدلجة تفهم اللعبة الأميركية، وسنرى سجالا يصمد فيه صاحب النفس الأطول.

إذا وضعنا الحماس الأميركي لحل الملف اليمني في هذا السياق فلا غرابة حينئذ أن نفهم ما تخطط له أميركا، وكيف يمكن لها أن تؤذي الأصدقاء في سبيل تحقيق عقيدتها الراسخة المتمثلة في نشر الديمقراطية، وقناعتها بأن إيران مدنية ديمقراطية يمكن أن تضطلع بدور كبير في تحقيق الحلم الأميركي بعد فشل أصدقائها التقليديين في هذا الملف وفقا لتقديرها.

المصدر: http://www.alriyadh.com/1529636

الأكثر مشاركة في الفيس بوك