بين القوة الخارجية والضعف الداخلي
د. عامر غضبان
حجم القوى التي تتدخل في واقع بلادنا، ومقدار المكر الذي تمكره لتدمير أمتنا، يجعل الكثيرين مقتنعين بأنه ليس من الممكن للأمة في هذا الواقع أن تنهض بمشروعها الأصيل.
ولا يخالف أحد في إقرار أن أعداء الأمة متربصين ، وأنهم يمكرون مكراً عظيماً ، لكن من الخطأ أن نفترض أن الأمة جاهزة لبناء نهضتها لولا هذا التدخل الخارجي ، لقد أظهر الواقع الحالي الخلل في بناء الأمة وفي مسيرتها، بقدر ما أثبت حجم المؤامرة وإحكامها . وبدا لنا أن أحد أسباب نجاح القوى الخارجية ، فشل القوى الداخلية وعجزها .
وإذا أقررنا هذا التوصيف للواقع ، كيف نعمل في هذا الواقع ؟ أو كيف نتعامل مع هذا الواقع ؟
ظهرت رؤى ونظريات مختلفة لمواجهة هذا الواقع، يمكن أن نلخصها بالآتي:
1.هناك نظرية ترى أن علينا أن نوجه طاقاتنا الذاتية وجهودنا المخلصة لإعداد وبناء وتطبيق مشروع أصيل ينتمي للأمة ويعالج احتياجاتها ، وعلينا أن ننشغل بهذا المشروع الوطني إلى أن يتم بنيانه ويحقق أهدافه، ويجب أن يكون هذا المشروع من أوله إلى منتهاه ، بعناصره وتركيباته ، بعيداً عن أي اتصال بالأجنبي ، مستقلاً عن أي خطة دخيلة على توجهاته الأصيلة
أصحاب هذه النظرية يعملون في الداخل على شكل أعمال تنموية وتطوير للبلاد، لكنهم يحرصون أن تبقى أعمالهم بالحجم الذي لا تحتاج فيه للاستعانة بأجنبي.
2.يرى أصحاب النظرية الثانية أن القوى الخارجية لا تسمح لأي مشروع وطني بأن يتأسس أو أن يكتمل ، واتجاه العمل الأكثر جدوى في خدمة بلادنا وأمتنا هو أن نحارب القوى الخارجية ونكف تدخلها ، وعندما تكف عن التدخل في شؤوننا ، ستقوم المشروعات الوطنية وستتحقق نهضة الأمة.
ومن الواضح أن محور اهتمام أصحاب هذه النظرية هو مقاومة التدخل الأجنبي عن طريق محاربته، ومنعه، أو منع آثاره، في الجوانب المختلفة، العسكرية والسياسية والاقتصادية والفكرية. وتقوم هذه النظرية على فرضية الرفض وعدم الثقة بكل ما يأتي من الأجنبي، واعتباره ضارا، وفي بعض الأحيان يكون الرفض حتى لو لم يظهر لنا وجه الضرر فيه.
3. لكن بعض أنصار العمل من الداخل يجادلون بأن أي تدخل خارجي أجنبي لن يستطيع هدم ما نبني ، قد يستطيعون إيقاف البناء ، أو إبطاء العمل به ، لكنهم لن يصلوا إلى قواعد العمل المؤسس على قيم الأمة والمتصل بطاقاتها الذاتية ، إن كان حقاً قد أحسن تأسيسه وأحكمت أسسه ، فيرى هؤلاء أن العمل المجدي ينبغي أن يكون باتجاه تقوية أسس بناء الأمة ، وإعادة ربطها بجذورها، حتى تستطيع وقاية نفسها من تدخلات أعدائها.
يركز أصحاب هذه النظرية على جهود تماسك المجتمع وبناء ثقافته، وربما تأسيس نخبة تحمل هذه الثقافة، وحماية هذه النخبة. هذه النظرية تقوم على فرضية أن الأمة تحتاج أن يقوم فيها مشروعات بناء، لكن ليست أية مشروعات، إنما المشروعات التي تركز على تقوية الجذور، واختيار العناصر القوية للبناء أو إيجادها، وأحيانا يقدم أصحاب هذه النظرية أنفسهم على أنهم ممثلو الأمة الحقيقيون أو الوحيدون، وينتهون إلى أن خير ما نقدمه للأمة أن نحمي أنفسنا، ونقوي إمكاناتنا، فقوتنا الذاتية هي الرصيد الحقيقي لأمتنا.
4- وهناك نظرية رابعة ، يناصرها مختصون في دراسة النظام العالمي والعلاقات الدولية ، ترى أن من يعتقد أنه قد يصل إلى وضع نهائي لا تشارك فيه القوى الخارجية ، من يعتقد بذلك واهم ، لا يدرك تعقيد النظام الدولي ، ولا يعرف أنواع الأسلحة المستخدمة في هذا الصراع ، وأشكال التدخل المتعددة ، ويقول أصحاب هذه النظرية: الخيار الممكن في هذا الوضع هو التعامل مع هذا الواقع بما فيه من قوى خارجية وداخلية ، ومحاولة التأثير في سير الأحداث بالقدر الممكن لتحسين الوضع النهائي، أو تقليل الخسائر التي تدفعها أمتنا في هذا الصراع.
محور اهتمام أصحاب هذه النظرية هو المشاركة في الحياة السياسية وفي الحياة العامة، والخطر الأكبر في نظرهم هو غيابهم عن المواقع والمؤسسات الكبرى التي تضع الخطط الكبرى للأمة وتسعى لفرضها.
هذه هي النظريات الأساسية الأربع التي تقوم عليها توجهات العمل في واقع الضعف الداخلي والتهديد الخارجي، وقد يجادل البعض في إمكانية الدمج بين أكثر من نظرية من هذه النظريات عند التطبيق العملي، وهذا صحيح، يمكن الدمج بين بعض هذه التوجهات، لكن ليست كل حالات الدمج صحيحة ومنطقية، فبعض الحالات هي في الحقيقة تغيرات استراتيجية في مشروعات لم تكتمل، وبعض حالات الدمج هي محاولات لجمع ما لا يجتمع، وهي تعبر في الحقيقة عن غياب الرؤية الشاملة، وغياب الهدف الواضح.
والمهم، أن يقوم العمل على إخلاص في النية، وتجرد في البحث عن الرؤية الأصلح، واجتهاد في معرفة الهدف الممكن، وصبر ومثابرة عند العمل لتأخذ التجربة وقتها. وإن توافر ذلك فقد نصل إلى إنجازات عملية نستطيع في ضوئها أن نقوِّم هذه النظريات، أو أن نولد نظريات جديدة يمكن من خلالها مواجهة التحديات، مهما كانت كبيرة، وأن نتهيأ للمفاجآت، مهما كانت كثيرة.
المصدر: https://alfajrmg.net/2015/11/18/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9...