في آفاق السياسة الإسلامية
د. معاذ حوى
إن الموقف الديني والحق الشرعي يتنوع إلى جوانب، فهناك حق العلم، وحق الدعوة، وحق التربية، وحق السياسة، وحق الجهاد، وحق القضاء، وحق الوقت، وقد تختلف أحياناً هذه الحقوق والمواقف المترتبة عليها بناءاً على ذلك، وإن اتفقت هذه المواقف وهذه الحقوق في مقاصدها وأهدافها، لكنها قد تختلف في أحكامها، وقد تختلف في صورة العمل بها، وهذا من أحكام الشرع، وليس خروجاً عنه.
فحق العلم مثلاً يقتضي أن من أَخَّر صلاة فريضة الظهر مثلاً حتى كاد يخرج وقتها؛ أنه يجب أن يدخل في صلاته، حتى لا يفوته الفرض، لكن إذا أصيب رجل بإصابة توجب حمله إلى المستشفى في الوقت نفسه فحق الوقت يقتضي تقديم إسعاف المصاب على صلاته، إذا لم يجد من يقوم بهذا، ولم يستطع إقامة الصلاة مع الإسعاف.
وحق العلم يقتضي بيان المسائل الخلافية، وإقامة الحجة والدليل على القول الحق فيها، وتقديم النصح للمسليمن المخالفين فيها، فإذا كان هذا في معركة أو عند انشغال الأمة بالعمل ضد عدوها، فإن الانشغال بحق العلم عندئذ إذا كان يفوت التخطيط للمعركة أو يشغل عن العمل ضد الكافرين؛ فإنه يكون عندئذ حراماً لا واجباً ولا مندوباً، لأن حق الجهاد اقتضى ذلك.
حق العلم والدعوة يقتضي أن نبين للعاصي معصيته ونمنعه منها، لكن حق التربية قد يقتضي أن نسكت عن هذا إلى الوقت المناسب، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما منع الصحابة أن يقطعوا على الأعرابي بوله في المسجد، كما رواه البخاري.
حق العلم يقتضي أن نتبرأ من الكفر ونبين الباطل ونحقِّره، فإذا غلب على الظن أن الكافرين يردون على هذا بسب الله وجب السكوت عما يقتضيه العلم، كما قال تعالى: ﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عَدْواً بغير علم ﴾ (الأنعام: 108).
حق العلم يقتضي أن الرجل الذي طلق زوجته ثلاث تطليقات فإنه لا يحل لزوجته البقاء معه، فإذا رفع الأمر إلى القضاء وأنكر الزوج الطلقة الثالثة كذباً، ولم تستطع الزوجة أن تثبت ذلك، فإن القاضي يحكم ببقاء الزوجية، على الرغم من أن الحكمَ ديانةً حصولُ الفرقة، فلا إثم على الزوجة إن أجبرت على البقاء عند زوجها، وواجبها التهرب منه إن استطاعت لما تعلم من حقيقة الحكم ديانة، لعلمها اليقيني بحصول الطلقة الثالثة.
حق العلم وحق الإيمان والعقيدة يقتضي أن ندعو الكافر، وأن لا نعطي الدنية له في شيء، وأن لا نعينه في شيء، وأن لا نقدم له شيئاً من المال، ومن فعل ذلك يكون موالياً للكافرين ويمكن أن يكون كافراً ﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ (المائدة: 51)، وحق العمل السياسي ـ وهو حق شرعي وموقف شرعي ـ قد يقتضي الهدنة والصلح مع الكافرين والسكوت عنهم، وقد يقتضي بذل مال لهم إذا كنا نتفادى بذلك أذىً يمكن أن يقع بالمسلمين أو بدولتهم، كما عاهد النبي صلى الله عليه وسلم قريشا على شروط ظن فيها الصحابة الدَّنِيّة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قبِلها على الرغم من أنه كان قادراً على قتال قريش وفتح مكة في ذلك الوقت، لكنه قبِل المعاهدة بما فيها من شروط؛ لأنه يتوقع فرصة يستطيع أن يفتح بها مكة دون أن يحتاج إلى التضحية بشيء من دماء المسلمين، ويكون الكافرون من قريش على حال أقرب إلى الإيمان، فلا يحصل منهم قتال ولا سفك دماء.
وقد تشاور النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أن يعطي غطفان ـ على كفرهم ـ ثُلثَ ثمارِ المدينة(1)، ليتجنب قتالهم مع قريش في غزوة الخندق، فهل يُعَدُّ هذا من الموالاة للكافرين؟ أم يعد موقفاً شرعياً سياسياً؟
ـ الموقف السياسي والقرار السياسي قد يقتضي أحكاماً غير عادية، كما رأينا في شأن الحديبية وغطفان، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة حينما بعثه ليتجسس على قريش في غزوة الخندق أن لا يقتل أحداً ولو تمكن من ذلك، فالمصلحة السياسية اقتضت ترك أمر شرعي هو قتل الكافر المحارب حين التمكن منه في الحرب، والعمل بالمصلحة السياسية هذه هي أمر شرعي. وكما في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، إذ أقرهم على بقاء الملك إذا أسلموا، والأصل أن يستسلموا لأحكام الله ويُقَدِّموا للحكم من هو أعلم وأفقه منهم، ولكن الموقف السياسي اقتضى أن يستميلهم إلى الإسلام بتطمينهم أن القضية ليست قضية حكم يريد أن ينتزعه لنفسه منهم، فأعلمهم أنه لن يخرجهم عن الملك، لكن يريد منهم التحول إلى الإسلام وأحكامه والخضوع لها.
فهل هذا تنازل من النبي صلى الله عليه وسلم عن مبادئه ؟ أم هي مواقف سياسية شرعية يشرعها لنا النبي صلى الله عليه وسلم لنقتدي به؟
فأحكام السياسة الشرعية التي تقتضيها المصلحة الشرعية، ولو خالفت الأصل، فهي من شرع الله، وليس هذا من فصل الدين عن السياسة، ولا هو من العلمانية في شيء؛ ما دام تقدير المصلحة يستند إلى الأحكام الشرعية والأدلة الصحيحة ومعرفة الواقع وتقديره.
———–
(1) إن صح الحديث فإسناد هذه القصة فيه ضعف.
المصدر: https://alfajrmg.net/2015/11/18/%D9%81%D9%8A-%D8%A2%D9%81%D8%A7%D9%82-%D...