سورة الكهف من البذرة إلى التمكين
د. أحمد خيري العمري
“الأطوار المتعاقبة” ظاهرة أساسية تمر بها الأفكار أثناء تحولها من مجرد فكرة إلي واقع.
في البداية تكون هذه الفكرة مستنكرة و مرفوضة في المجتمع , ثم مع تراكم الأفكار تحدث ثغرة في جدار الواقع.
فكرة “النهضة و الاستخلاف” ليست استثناء, و تتضح هذه الأطوار في سورة الكهف التي تعتبر مراجعة أسبوعية لمشروع النهضة .
- في البداية.. الطور الأول: في قصة أصحاب الكهف:
فتية آمنوا بالفكرة – الفتوة رمز لأول من يعتنق الفكرة الجديدة دائمًا وهم الشباب – فتية في الطور الأول “آمنوا بربهم فزدناهم هدى” في وجه الشرك و الظلم معًا.
و لكنهم ليسوا مؤهلين بعد للمواجهة, ما زالوا في طور الضعف, إذًا لابد من الاعتزال و الاختفاء و إلا أبيدوا وأبيدت الفكرة معهم. وفرق كبير بين الاعتزال الذي ورد في الآيات و بين العزلة: “وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته و يهيئ لكم من أمركم مرفقًا”.
العزلة حالة يفرضها المجتمع, أما الاعتزال فهي عملية اختيارية تقوم بها المجموعة الحاملة للفكرة لأنها تعي أنَّها ليست قادرة بعد على المواجهة.
- نأتي إلى الطور الثاني: في قصة صاحب الجنتين:
حوار بين الكفر والإيمان, هنا “رجلان” بدلاً من فتية, هنا مرحلة النضج, حيث صارت الفكرة أكثر قوة.
ورغم أنَّ العدد قل من مجموعة إلى رجلٍ واحد, فالقوة زادت.
المهم النوع لا الكم, درس عظيم حتى نبتعد عن الفكرة التقليدية التي تربط النجاح بالعدد على حساب النوع.
هنا الرجل صاحب الفكرة صار قويًّا بما يكفي للدخول في حوار .
الرجل ليس داعية فهو لم يبتدئ بالحوار.
كما أنَّه لم يرد على الآخر عندما كان يتباهى بماله “أنا أكثر منك مالاً واعز نفرًا”, لأنَّ فكرة الكافر قد وصلت إلى الذروة في الواقع, وهذه التفاصيل مجرد ثمار التطبيق, وهي ليست بالضرورة مقياس الحق والنجاح.
أمَّا المؤمن ففكرته ما زالت بذرة في طورها الثاني.
لذا المقارنة غير صحيحة, لكن الحوار سيكون حول أصل البذرة.
نجد المؤمن واثقًا بنفسه, لا يعاني من عقدة نقص, لأنه رجل صاحب مبادئ وذو بصيرة لا تخدعه المظاهر البراقة ولا ناطحات السحاب عن الحقيقة.
- الطور الثالث: موسى والخضر (من التنظير إلى التطبيق):
هنا الاختبار الحقيقي للفكرة وهي الصمود في أرض الواقع والتفاعل معه من أجل التطبيق والإثمار.
سيدنا موسى لم يذهب طلبًا للعلم من الخضر لتواضعه فحسب, لكنه يعي أنَّ تطبيق الفكرة يحتاج إلى علمٍ ورُشدٍ ورؤيةٍ شاملة, ترى الصورة كاملة , دون أن تمنعه التفاصيل والجزئيات عن تلك الرؤية الشاملة وإلا أصبح التطبيق شبه مستحيل.
ولو قارنا في المواقف الثلاث؛ لوجدنا أنَّ الخضر كانت تتميز نظرته بالشموليَّة أما سيدنا موسي فكان يركز على التفاصيل.
تلك النظرة الشمولية تُرتب الأولويات, تطبق الأهم من النصوص وتُؤجل الآخر إلى الوقت المناسب.
وفرقٌ كبيرٌ بين التأجيل والتعطيل لكننا للأسف نخلط بينهما.
والخضر هنا ليس صورة العبد الصالح الزاهد الساكن المعتزل الدنيا كما نتخيل دائمًا.
بل إنه يفعل, يقتحم الواقع بقيمه من أجل الإصلاح والتغيير لأنَّ ذلك جزء من عبادته.
- الطور الأخير: القمة (ذو القرنين):
حضارة القمة: توازن الثنائيات:
لماذا سمي بـ”ذي القرنين”؟
بسبب الثنائيات التي جمعها في حضارته, العدل والقوة, الدنيا والآخرة, المادة والروح, الفرد والمجتمع, تلك الحضارة اعتمدت على البحث في الأسباب والعلوم و الأخذ بها “فأتبع سببًا”, وقد تكررت تلك الآية في قصة ذي القرنين للتأكيد على ذلك.
وهذه الحضارة ميزتها الشمولية:
بمعني, استثمار العلوم من أجل الإصلاح وخير الإنسانية جمعاء – العكس يحدث الآن: (لأنَّ تلك العلوم الدنيوية مرتبطة بالقيم السماوية).
- “فلما بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة و وجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إمَّا أن تُعذّب وإما أن تتخذ فيهم حسنا”.
كثير من المفسرين تعاملوا مع أفول الشمس علي أنه رمز لأفول الحضارة, ليس بالضرورة أن يكون ذلك ظاهرًا, بل قد يبدو العكس كما كان الحال في مملكة سبأ, كما هو الحال الآن, لكن علينا أن ننظر لما تحت السطح لنعرف الحقيقة.
“الحمئة” معناها طين متغير, إشارة إلى الدرجة السفلى المتدينة من القيم التي وصلت لها هذه الحضارة الغاربة, ومع ذلك فإنَّ ذي القرنين استخدم معها القوانين المستمدة من القيم السماوية “قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا“..
وهذا التفاعل سيثمر إيجابية قد يمنع الأفول ويعطي دفعه للأمام..
- ثم يذهب ذو القرنين إلى مكان آخر, حيث مطلع الشمس, حيث الحضارة تنطلق من الصفر.
إنهم في مرحلة البداوة ما قبل الحضارة, لا استقرار, لذا لن يجدي استعمال القوانين. لابد من الاستقرار المدني أولاً.
- ثم يذهب ذو القرنين إلى ما بين السدين, وبين السدين, احتبس القوة وأصبحوا خارج معادلة الحضارة. لقد انعزلوا ظنا منهم أنهم يحمون تراثهم, لكن انغلاقهم وصل إلى حد أنهم “لا يفقهون قولاً“, لا يستطيعون الحوار والتواصل. و رغم أنَّهم ليسوا قوم ذي القرنين, لكنه ساعدهم و حماهم, لأنَّه كما قلنا يستعمل العلوم للإصلاح من أجل الإنسانية – أيًّا كان عرقها أو دينها أو جنسها – وهو يعي أنَّ هذا واجب ومسئولية لا تفضل, لذلك رفض أن يأخذ ثمنًا أو خرجًا منهم.
و لأن تلك المسئولية ليست مسئولية ذي القرنين وحده, بل مسئولية كل فرد؛ فقد أمرهم أن يساعدوه “انفخوا”.
قصة ذي القرنين تنطبق على الأمم كما يمكن لكل منا أن يكون ذي القرنين حين يحاول إقامة العدل من مكانه وفي منصبه.
والسورة بأطوارها تنطبق على الأمم وتنطبق بشكل شخصي على كل منا, على مشروع كل منا, مشروعك الصغير – مهما كان صغيرًا – جزء من المشروع الكبير.
ففي أي مرحلة أنت؟؟