الاسلام دعا الى الحوار والاعتراف بالآخر المختلف
الاسلام دعا الى الحوار والاعتراف بالآخر المختلف
اعداد: سمير العدوي - محمد ذنيبات - محمد القطاونة
ظهر مفهوم حوار الحضارات في إطار الاهتمام العالمي بالبعد الثقافي في العلاقات الدولية في حقبة ما بعد الحرب الباردة. الافتراض الذي يستتر خلفه هذا الاهتمام هو أن الخصائص الثقافية للشعوب تؤثر في العلاقات بين الدول، وأن تحقيق التعاون الدولي يتطلب توظيف تلك الخصائص بحكم الترابط بين السلوكيات السياسية والاقتصادية من ناحية والسلوكيات الثقافية من ناحية أخرى. ليس صحيحاً أن مفهوم حوار الحضارات ظهر كرد على مقولة هنتنغتون عن صراع الحضارات في دراسته المنشورة سنة 1993، والتي رصد فيها الاتجاهات المستقبلية للصراع الدولي مؤكداً أن الحضارات ستكون هي وحدات هذا الصراع في المستقبل، ذلك أن هذا المفهوم ظهر لأول مرة في حقبة ما بعد الحرب الباردة في أدبيات المؤتمر البرلماني الأول للأمن والتعاون في البحر المتوسط الذي عقد في ملقا، أسبانيا سنة 1992 أي قبل نشر دراسة هنتنغتون.
وقد حدد هذا المؤتمر ثلاثة مجالات للتعاون في البحر المتوسط هي التعاون السياسي – الأمني ، والتعاون الاقتصادي، والحوار بين الحضارات ، ويندرج تحته التعاون الثقافي. وقام كل من الوفود المشاركة بتقديم ورقة العمل الخاصة بها والتي تحدد موقفها تجاه حوار الحضارات. كما تم تخصيص الجزء الرابع من الإعلان النهائي لموضوع حوار الحضارات وحقوق الإنسان. وقد تضمن هذا الجزء إشارات إلى المبادئ العالمية والقيم المشتركة للحضارة، ومبادئ الفهم المتبادل والتسامح، والتعاون في ميادين الثقافة والرياضة، وحقوق الإنسان.
وقد تحدثت الوثيقة عن حوار الحضارات باعتباره أساسياً لسد الفجوة بين شعوب العالم العربي وأوروبا. كما أشارت إلى أن حوار الحضارات لابد أن يتأسس على "القيم المشتركة" مثل احترام الحياة الإنسانية، والحاجة إلى القيم الروحية، والتضامن الإنساني وغيرها.
تعابير للقرن الجديد
لعلَّ من أكثر التعابير والمصطلحات انتشاراً وشيوعاً خلال العقد الأخير من القرن العشرين، (صراع الحضارات) ومقابله : (حوار الحضارات)، سواء أكان ذلك على المستوى العام بالنشر في الصحف والمجلات وأجهزة الإعلام الأخرى من محطات إذاعية وتلفزيونية ومواقع متعددة على شبكة المعلومات العالمية الأنترنت، أم على المستوى الخاص بالبحث والدراسة والمناقشة في دوائر البحوث والدراسات ومساندة القرار، أو في الكليات والجامعات، أو في المنتديات الفكرية، أو في المحافل السياسية والملتقيات الثقافية، أو في المؤتمرات المتخصصة وغير المتخصصة التي تعنى ببحث القضايا الدولية المطروحة على الساحة العالمية طوال هذه المرحلة التي كانت ولا تزال من المراحل الدقيقة والحاسمة في تاريخ البشرية، دون منازع.
لقد صار مصطلح(صراع الحضارات) عَلَماً على هذه المرحلة، ولايزال يفرض نفسه في سياق البحث في القضايا الدولية، سواء أكانت فكرية وثقافية، أم سياسية واجتماعية، أم اقتصادية وتنموية. وربما جاز لنا أن نقيس شيوع مصطلح(صراع الحضارات) بما كان يروج خلال فترة الحرب الباردة، من مصطلحات ذات حمولة ايديولوجية ومضامين سياسية هي البضاعة الفكرية التي كانت تُطرح للتسويق على الصعيد الدولي، في تلك الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والتي استمرت إلى سقوط حائط برلين، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي وما استتبع ذلك الانهيار من انحلال الكتلة الشرقية الأوروبية بالكامل. من هنا كان من مقتضيات التعامل مع الظواهر الفكرية السائدة في عالم اليوم، ومن الشروط المُوجبة لتحليل مضامينها وبحث محتوياتها وتعقّب مساراتها واستقراء أبعادها، دراسةُ أكثر هذه الظواهر شيوعاً وأبعدها تأثيراً في الحياة السياسية وفي المعترك الثقافي والفكري الذي يتعيّن على الأمة الإسلامية أن تخوض فيه، وهي تستشرف مستقبلها في القرن الخامس عشر الهجري، ومنها الظاهرة الفكرية التي أفرزها هذا الشيوعُ الواسعُ لمصطلح (صراع الحضارات) ولمقابله (حوار الحضارات).
الإسلام و الحوار بين الثّقافات
إنّ الإسلام هو دين الحوار والاعتراف بالآخر، وهو شريعة تطوير القواسم المشتركة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وإيجاد السّبل الكفيلة يتحقيق ذلك بما يساعد على العيش بسلام وأمن وطمأنينة، ويبتعد بالإنسان أن يحيا حياة الإبعاد والإقصاء ونكران الآخر. لهذا دعا إلى الحوار والدّعوة بالتي هي أحسن، وسلوك الأساليب الحسنة، والطّرق السليمة في مخاطبة الآخر. قال تعالى : " ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ..." هذه الآية تشير إلى حسن المخاطبة، وحسن الحوار؛ لكي نتعارف ونتقارب، ولكن لا تتنازل عن الدّعوة إلى سبيل الله، أي لاتنازل عن مبادئ الإسلام فليفقه جيّدا من يحاور المبادئ التي ينطلق منها وهو يحاور.
فالآية تدعو إلى مخاطبة الآخر بالحسنى لكي يعرف ما عند المسلمين، لا أن يحاوره كي يتنازل له عن مبادئه. وقال أيضا: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّالذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" فالحوار ممكن لأنّ هناك قواسم مشتركة، وهناك مجال للتّفاهم والتّقارب، وهي الإيمان بما أنزل على المسلمين وغيرهم .
فليتعارفوا وليعرفوا بعضهم وليعترفوا بما عندهم جميعا، ومن ثم فليتقاربوا وليتعاونوا على ما هو صالح لهم جميعا. فالقرآن يعطينا أسلوب بدء اللّقاء والحوار، وكيف نستغلّ نقط التّلاقي بين المتحاورين. فيبيّن الأصول التي يمكن الاتّفاق عليها ويركّز على ذلك فيقول: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون" ثمّ يبيّن الإسلام نوع العلاقة التي يجب أن تسود المسلمين وغيرهم، إنّها علاقة التّعاون والإحسان والبرّ والعدل. فهذا هو الحوار الحضاري والعلاقة السّميّة " لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين" .
من هنا يعلن القرآن عن حقيقة وفيما يجب أن يكون، وكيف يجب أن يدور:
" ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" إذن فالإسلام يقرّ الحوار ويدعو إليه ولكن يؤكّد على الثّبات على المبادئ وعدم التّنازل عن الهويّة. نتساءل بعد ذلك عن الشّروط التي يجب توفّرها لإجراء حوار هادف مثمر بنّاء ؟
1 – أن يحترم الحوار السّيادة والخصوصيّات الثّقافيّة، والابتعاد عن التّسلّط وإلغاء الآخر.
2 – أن يتبنّى قاعدة( المعرفة والتّعارف والاعتراف) ينطلق منها في سبيل التّقارب.
معرفة ما عند الآخر معرفة جيّدة ؛ لأنّ الحكم على الشّيء فرع عن تصوّره. والتّعارف الذي يزيل أسباب الخلافات، ويبعد مظاهر الصّراعات. والاعتراف الذي يثمّن ما عند الآخر، ويقدّر ما يملكه. وهو ما يعين على التّقارب والتّعاون.
مثلا إنّ التّعريف بالحضارات والثّقافات التي قلّ الاهتمام بها، أو همّشت لأسباب، يسهم في دفع عمليّة الحوار إلى القطب الإيجابي, أنّ " مشكلة التّفاهم الإنساني هي مشكلة العلاقات بين الثّقافات. ومن هذه العلاقات لابدّ أن ينشأ مجتمع عالمي جديد يقوم على الفهم والاحترام المتبادل. وهذا المجتمع ينبغي أن يتّخذ شكل مذهب إنساني جديد والذي يمكن فيه للعالميّة أن تتحقّق من خلال الاعتراف بالقيم المشتركة بين الحضارات."
تبدل في الافكار
شهد العالم في الخمس والعشرين سنة الأخيرة العديد من التغيرات الأيدلوجية التي دفعته إلى حقبة جديدة وشكل غير مسبوق من الصراعات والحروب والتدمير وتحول العالم عبر انهيار سور برلين وسقوط الشيوعية بعد أن كان ثنائي الأقطاب (بتوازن القوى بالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية) إلى عالم أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة الأمريكية التي تشهد نهضة حضارية قوية خاصة في مجالات العلوم المختلفة والتكنولوجيا ولعل هذا المشهد لا غرابة فيه أما المشهد الى يليق به الاستغراب حقا فهو مشهد العالم وهو يعيش فترة سيطرة أحادية القطب (الولايات المتحدة الأمريكية).
ثم هو بعد ذلك يعاني من ويلات الحروب والتدمير والإبادة أضعاف ما كان يعاني وهو في الوضع الثنائي القطب وهو الوضع الذي تسعى فيه كل حضارة أو بالأحرى قطب من الأقطاب للهيمنة على العالم ولذا فالغالب المتوقع في حال سيطرة ثنائي الأقطاب على العالم حدوث مصادمات فيما بينهم وهذا المشهد متكرر على مدار أزمنة التاريخ فمن الصراع الدائر بين الفرس والروم إلى انجلترا وفرنسا إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية وبين كل حقبة وأخرى من هؤلاء تتنوع الأمثلة وتتعدد الأشكال لحضارات تتصارع لتحقيق الهيمنة على العالم أما أن توجد حضارة واحدة يظهر من واقع العالم أنها الحضارة المسيطرة المهيمنة ثم بعد ذلك نرى مزيدا من الحروب والويلات والتدمير وملامح الاضطراب على الساحة العالمية بادية لا تخفى على أي ناظر فهذا هو المشهد الذي لا بد من الوقوف عنده وتأمله مليا للوصول إلى لبه ومضمونه.
إن وضع تصور حاكم للعلاقات بين الحضارات المختلفة كان الهم الشاغل للعديد من المفكرين والسياسيين والمنشغلين بتحليل الوضع الراهن للمنظومة العالمية حتى يمكن التوصل للفهم الناضج الواعي لطبيعة الأحداث ومن ثم محاولة الانتفاع بها وسوقها في الاتجاه المفيد النافع للبشرية وبناء على ذلك فقد انطلقت العديد من النظريات تحاول جاهدة فهم وتحليل الواقع ومحاولة توجيه دفته إلى ما فيه النفع لعموم البشرية .
بين الحوار والصراع
قبل ما يقارب من عقدين من الزمان والعالم ما زال في ذلك الوقت يتعامل بواقع ثنائي القطب إلى حد ما خرج المفكر الفرنسي روجيه جارودي على العالم أجمع بنظريته الرائدة ومشروعه للجمع بين الحضارات المختلفة على أساس أرضية مشتركة للتفاهم على مستوى شعوب الأرض وسماه بـ (حوار الحضارات) ولكن مشروعه كان يتسم بسمة أساسية ألا وهي النقد الشديد للهيمنة الغربية والسيطرة الأمريكية حتى أنه بشر في ثنايا نظريته بزوال الغرب عموما لكن هذه الصيحة وأخواتها من جانب جارودي أو غيره من المفكرين والساسة الذين سعوا إلى وضع نظرية أو قاعدة تحكم وتفسر واقع المجتمع العالمي لم تجد الصدى اللائق بها في ذلك الوقت لواقع الصراع القائم والمسمى بالحرب الباردة بين قطبي العالم آنذاك ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم بدأت نظريات أخرى بالصعود إلى السطح والظهور لتفسير كيفية تعامل القطب الأحادي مع العالم في ضوء الواقع الجديد ومن هذه النظريات ما خرج به الأمريكي الجنسية الياباني الأصل 'فوكوياما' بما يسمى ويعرف بنظرية نهاية التاريخ تلك النظرية التي انتشرت سريعا لتتداعى بسرعة أكبر ومفادها تصوير انتصار الرأسمالية على الأرض أنها نهاية التاريخ وأن الإنسان الأمريكي هو من وصل إلى أقصى مستوى حضاري ممكن وبالتالي فهي نظرية نهاية الإنسان والتاريخ ثم تلا هذا المشهد مشهد آخر في أواخر صيف 1993 م وكانت أول شرارة أشعلت المشهد مقالة نشرت في صحيفة (الشؤون الخارجية) للمفكر الأمريكي الشهير صمويل هنتنغتون تحت عنوان (صدام الحضارات) والتي حاول فيها قراءة مستقبل العالم المعاصر وقرر فيها أن الصراع في خلال القرن القادم سيكون صراعا بين الحضارات وليس صراعا اقتصاديا أو أيدلوجيا وقد حدد في نظريته تلك سبع حضارات أساسية يتوقع أن يلتهب بينها الصراع ولا بد في هذا الصراع من زوال البعض وخضوع البعض الآخر لهيمنة الأقوى وقرر في النهاية أن الحضارات المتوقع لها الاستمرار حتى النهاية لما تحمله من إمكانيات ومقومات للبقاء هي ثلاث حضارات الإسلامية والغربية والكونفوشيوسية (حضارة الصين) وحذر العالم الغربي من تحالف الحضارة الإسلامية مع نظيرتها الكونفوشيوسية في إشارة إلى إمكانية حدوث تحالف نووي بين الصين وبعض الدول الإسلامية.
مقالة هنتنغتون أثارت عاصفة من الانتقادات والجدل حول المفاهيم التي تضمنتها وقابل هنتنغتون ذلك بالرد أنه على الرغم من إمكانية الاعتراف بوجود ثغرات في نظرية صراع الحضارات إلا أن المعارضين والرافضين لهذه النظرية لم ينجحوا أن يقدموا بديلا في طرحهم يوازيها في الواقعية والوضوح وبأن نظرية صراع الحضارات وهذا من وجهة نظر هنتنغتون بالطبع هي خير وأفضل تصور موضوع للمستقبل في القرن القادم. ولعل من الجدير بالذكر ردا على دعوى هنتنغتون أن أحدا لم يطرح البديل المناسب أقول لعل من المناسب في هذا المقام بيان أن العديد من المفكرين والساسة الذين عارضوا نظرية صراع الحضارات والفكرة القائمة عليها قد طرحوا لها بديلا قويا ألا وهي نظرية حوار الحضارات كوسيلة لتجنيب المجتمع ويلات الحروب والقتال. وتم إنشاء العديد من المؤتمرات والجمعيات والمؤسسات الداعية لترسيخ سياسة الحوار والتفاهم والتعايش السلمي بدلا من الصدام وتبنى العديد من الكتاب هذه النظرية ودعوا إلى تنمية الحوار بين العالم الإسلامي والغرب حتى يمكن لكل طرف أن يتفهم الآخر ويتعايش معه وقد حددت الأمم المتحدة عام 2001 م عام حوار الحضارات وعينت مندوبا متخصصا لهذا المنصب.
إلا أن أطروحة حوار الحضارات لم تخل من جدل شديد ونقد دائم مستمر حتى من جانب المفكرين المسلمين ولم يقف الجميع فيها على نسق واحد فمن رافض للفكرة من أساسها لعدم واقعيتها فكيف ستتحاور مع من يهدم بيتك ويشرد أهلك في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي إلى فريق آخر مؤيد للفكرة على الإطلاق وداع لها بغض النظر عن الواقع الحالي للأمة وفريق ثالث لا يستوعب المعنى المقصود من حوار الحضارات بل يحتفظ كل فرد في الفريق الثالث بفهم خاص لهذا المصطلح.