الشورى والديمقراطية: الفرق والفارق
عادة ما يدبّ النقاش والجدال حول طبيعة العلاقة بين الشورى والديمقراطية في أعقاب أيّ حدث جلل تمرّ به الدول ذات الأغلبيّة المسلمة؛ العربية منها وغيرها، ولا يُعدّ الربيع العربي استثناءً من هذه الاعتبارات. غير أنّ الملاحظ في جلّ الكتابات التقليدية التي تناولت المفهومين بالدرس والتمحيص أنّها، وبصفة واعية أو لا واعية، كانت تضع الديمقراطية معياراً تقاس عليه الشورى، فغالباً ما تأتي المطارحات دفاعيّة أكثر من كونها مؤسسة لنسق مفاهيمي وقيمي يمهد الواقع لتوطيده. وتسعى هذه الورقة إلى استعراض سريع لأهم هذه الكتابات التقليدية، ثمّ تعرج إلى بيان مدى ضرورة الشورى وفقاً لبعض تفسيرات آيات الشورى في القرآن والسيرة النبوية، وتنتقل الورقة بعد ذلك إلى مناقشة الفرق بين الديمقراطية والشورى، ثم تختتم ببيان الفارق بين المفهومين والتحديات الحديثة التي تواجه المفهوم الإسلامي، الشورى، وموقف بعض الكتابات منها.
في بداية استعراض أهمّ ما اشتملت عليه الكتابات التقليدية، يمكن ذكر العلامة إقبال (1877-1983) الذي لم يتحدث بصريح العبارة عن الشورى، إلا أنه دلف إليها من خلال مفهوم الاجتهاد، ومؤدّى كلامه هو أنّه مع غياب الاجتهاد الذي يسمح بتعدّد الآراء، فإنّ الحديث عن الشورى سيكون من قبيل الأمور الشكلية، إذ لا شورى في وجود رأي واحد سائد. ويرى إقبال أنّ الإسلام خصّص مكانة كبيرة لمفهوم الاجتهاد، إذ لا يوجد كهنة ولا أوليغارشية فيه باعتباره دين المساواة، فلا بدّ من العمل على دمقرطة الاجتهاد ومأسسته لتجسير الهوّة بين النص الإلهي والفهم البشري. ويدخل هذا في تأكيد إقبال على قيم الحرية والفردية، والأخوة والوحدة، باعتبارها قيماً أساسية لديمقراطية ليبرالية، فقد انتهى إلى أنّ الديمقراطية هي المثالية السياسية الإسلامية؛ إلا أنّ اقترابه من الديمقراطية كان اقتراباً إسلامياً شديد الالتباس والخلط المفاهيمي، حيث يلاحظ وفقاً لعبد الله أنور بيك في كتابه "شاعر من الشرق"، أنّ إقبال أكد أنّ الخلافة الإلهية هي عبارة عن تمثيل الله على الأرض، مشيراً إلى أنه نوع فريد من ديمقراطية الأفراد. كما أنّه أوضح تأييده للديمقراطية الروحية، إذ يرى أنّ كلّ فرد لديه القوة لإعادة تطوير حياته وإعادة النظر فيها وفقاً للتعاليم الإسلامية، حتى يصل إلى الديمقراطية الروحية، باعتبارها أعلى مراتب التنظيم السياسي والاجتماعي في الإسلام[1].
أمّا أبو الأعلى المودودي (1903-1979)، فيرفض مقولة الفصل بين الدين والدولة، ويرى أنّ الإسلام دين ودولة، إذ يدعو إلى ديمقراطية ثيوقراطية، باعتبارها الدولة الإسلامية المثالية. وبالرغم من نقده للديمقراطية الغربية إلا أنه لم يرفضها، فقد أجاز تعديلها بما يلائم الإسلام، حيث رأى ضرورة خضوع هذه الديمقراطية لمفهوم التوحيد فتكون ديمقراطية إلهية، لأنّ المسلمين لهم سيادة شعبية محدودة تحت سلطان الله. وفي معرض الحديث عن الشورى، يرى بعض الباحثين أنّ استخدام المودودي لمفهوم الخلافة كان استخداماً لمفهوم الشورى في حقيقة الأمر عندما ذكر في كتابه "الطريقة الإسلامية في الحياه" أنّ سلطة الخلافة تقع على عاتق الجماعة والناس ككل، حيث تصبح قادرة على الإيفاء بمتطلبات الرسالة وعقيدة التوحيد، وتُعدّ هذه النقطة هي بداية الديمقراطية في الإسلام[2].
بالمقابل يتبنّى خورشيد أحمد (مواليد 1932) رؤية عقلانية واضحة؛ إذ يفرّق بين الديمقراطية كشكل من أشكال التنظيم وبينها كفلسفة. ويرى أنّ سيادة القانون والمساواة بين البشر وسيادة القرآن والسنّة واللجوء للاجتهاد فيما لا يوجد نص فيه كانت أهم المبادئ التي حكمت النظام السياسي زمن الرسول والخلافة الراشدة بعده. ويرى أنّ الإسلام لا يتهاون مع الاستبداد والسلطوية التي ترسخت بفعل العصر الاستعماري. وقد أشار للمواءمة بين الديمقراطية والإسلام في كتابه "الإسلام والديمقراطية: بعض الأبعاد المفاهيمية والمعاصرة". ففي إطار الإسلام وثقافته، يمكن أن يتحقّق نظام فريد من التشاركية يضمن الجمع بين المادة والروح في تناغم تام، وبهذا يمكن تأسيس نظام سياسي يحفظ أهم مقومين للديمقراطية العملية: العدل والشورى[3].
لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى فتح الله كولن (مواليد 1938) الذي يرى أنّ الديمقراطية ليست شيئاً جامداً، وإنّما هي عمليّة تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان والإنسان، والإسلام لم يضع نظاماً صارماً لإدارة الحياة بين الناس، ولا سعى لذلك، وإنما جلّ ما وضعه الإسلام يندرج تحت بند القيم الواجب اتباعها ومراعاتها عند إدارة شؤون الأفراد والمجتمع، والتي يمكن أن نضع الشورى من ضمنها. ويقسّم كولن الأوامر الواردة في القرآن بما يتعلق بإدارة المجتمع ووفقاً لأهميتها إلى ثلاث فئات: أوامر ضرورية ضرورة مطلقة، وأوامر ضرورية ضرورة نسبية، وأوامر مندوبة. إلا أنّه يرى أنّ الديمقراطية ستصل مبتغاها الكامل إذا أفسحت مجالاً لحضور البعد الروحاني[4].
وفي السياق نفسه من التصريح بمفهوم الشورى وعلاقته بالديمقراطية، يوافق المفكر صادق جواد سليمان (مواليد 1933) على المواءمة بين الشورى والديمقراطية، باعتبارها مفهوماً ومبدأ، لا تختلف عن الديمقراطية. يرى أنّ كلاً من الديمقراطية والشورى ينبعان من الاعتقاد المركزي بأهمية "التشاور الجماعي" ودوره في تحقيق الصالح العام أكثر من الركون إلى الخيارات الفردية وتفضيلاتها. ففي معرض المناظرة بينهما يرى أنّ النظامين يركزان على أهميّة الاعتراف بالمساواة بين البشر ومساواتهم في تحمل المسؤولية، وغيرها من القيم الجامعية التي لا يمكن للبشرية أن تحقق رخاءها بدونها في نظام لا يعتمد على الديمقراطية أو الشورى. لا يرى سليمان أنّ مفهوم الشورى الوارد في القرآن يحمل أي رفض للديمقراطية أو مبادئها، بل هو متوائم معها، كما أنّه لا يحمل نظاماً معيّناً للحكم؛ إذ يرى أنّ الشورى هي قيمة لا بدّ للمسلمين من اعتبارها في حياتهم الاجتماعية، وبالتالي كلّما استطاع أيّ نظام أن يضمن الشورى؛ مؤسساتياً، ودستورياً، وعملياً، كالنظم الديمقراطية، كان أقرب إلى الإسلام، وهو ما يجعل العديد من الباحثين يرون أنّ صادق جواد سليمان يرى الشورى معادلاً للديمقراطية[5].
وعن ضرورة الشورى، ومدى إلزاميّتها، يرى مقتدر خان أنّ الشورى بالأساس هي عمليّة لصنع القرار، قرار استشاري، سواء اعتبره الباحثون الإسلاميون أمراً إلزامياً أو مرغوباً فيه؛ إذ ينقسم الباحثون الإسلاميون حياله إلى قسمين: من يعتبره إلزامياً، يتكئ على آيات من القرآن الكريم: "وشاورهم في الأمر"[6]، في حين يرى قسم آخر أنّ الشورى أمر مرغوب فيه بالنظر إلى الآية: "وأمرهم شورى بينهم"[7]. تتوجه الآية الأولى بالأمر مباشرة إلى النبي محمد، في حين تُعدّ الآية الأخرى بمثابة توجيه عام لمبدأ عام، وربما يُعدّ هذا الأمر هو السبب في عدم اعتداد الباحثين المسلمين التقليدين بالشورى كأمر ضروري وإلزامي في عملية صنع القرار.
الملاحظ هنا أنّ البحث عن الآيات القرآنية الصريحة كدليل قوي وغيابها الظاهر منع العديد من الباحثين الإسلاميين من الوصول إلى نتيجة قاطعة بشأن إلزامية الشورى، وهو ما جعلهم حتى الآن يناقشون هذه القضية. فهناك من يرى أنّ النبي محمداً كان يشاور صحابته دائماً في عمليّة صنع القرار؛ إلا أنّه بالنظر إلى صلح الحديبية مثلاً، نجد أنّ النبي بعد مشاورته الصحابة اختار أن يتصرّف منفرداً، وهو ما يستند إليه البعض في أنّ الشورى ليست إلزاميّة[8]. وفي الواقع هناك أمثلة قليلة تعضد الاتجاه القائل بمشاورة الرسول لصحابته والعمل برأيهم ضدّ رأيه، كقرار ترك المدينة لمحاربة جيش مكة، على سبيل المثال، في غزوة أحد.
وعلى الرغم من أنّ البعض يفضل مدّ هذا الخط على استقامته، في أنه إذا كانت الشورى هي الطريقة الإسلامية في صنع القرار، فإنّ سؤال ضرورتها وإلزاميتها يكون أمراً مهماً، لا سيما إذا كان معيار شرعية أيّ تنظيم أو مؤسسة قائماً عليه، إلا أنّ الواقع لا يخدم الإجابة بالإثبات في هذه الحالة. فعلى الرغم من أنّ العديد من الباحثين المسلمين يرون أنّ الشورى والاستشارة هما أفضل وسائل الحكم، إلا أنّ الفقهاء في الغالب ما تأتي آراؤهم محافظة؛ لا سيما أنّ العديد منهم يقبع في مؤسسات لا تعتمد الشورى أسلوباً، ويتحصل منها على قوت يومه. وبهذا يُعدّ دورهم بارزاً في تأخير الاعتراف العام بإلزامية الشورى واعتبارها من مصادر الشرعية.
بافتراض أنّ الشورى أصبحت أساساً من أسس المؤسسات الإسلامية، الحركات والحكومات، فإنّ السؤال التالي يُعدّ أمراً منطقياً: هل يعنى ذلك دمقرطة هذه المؤسّسات بشكل آلي؟ وفقاً لهذه الرؤية التي ترى الشورى آليّة للحكم كالديمقراطية، فإنّ الإجابة عن هذا السؤال تكون بالنفي، وذلك للعوامل الآتية:
أولاً: على عكس الشورى، تسمح الديمقراطية بتعديل النصوص المؤسّسة؛ ففي إطار الديمقراطيّة يمكن للمواطنين أن يقوموا بتعديل الدستور، باعتباره النص المؤسس للنظام الحاكم. أمّا في إطار الشورى، فلن يمكن تعديل النص القرآني أو ما ثبتت صحته من الأحاديث النبوية. إلا أنّه في الواقع لا تُعدّ هذه مشكلة في حدّ ذاتها، لأنّه بأيّ حال، فإنّ المسلمين ملتزمون بمبادئ الإسلام كأصل عام، غير أنّ الواقع حيال هذه المسألة تحديداً يشهد بتعقيدها، إن لم يكن بتناقضها، فالمسلمون فعلياً لا يتعاملون إلا مع التفسيرات الموغلة في القدم، ولا تُعدّ الشورى كمبدأ إسلامي سوى مثال على ذلك، إذ يخضع تفسيرها ونطاقها إلى الفهم التقليدي للنصوص الإسلامية.
ثانياً: بينما تظلّ الشورى غير ملزمة تُعدّ العملية الديمقراطية والقانون ملزمين، ويمكن مراجعتهما فقط من خلال عملية ديمقراطية ليس من خلال عملية احتكار أحادية الجانب أو عمليات احتكار القلة.
ثالثاً: من واقع الأدبيات التي تناولت موضوع الشورى في الخطاب الإسلامي، بدت كأنها أمر يبدأه الحاكم أو السلطان أو يتوقع أن يكون هكذا. في إطار الشورى، يستشير الحكام الناس، وهنا أي ناس يستشيرهم الحاكم؟ لم توضح الكتابات عن الشورى هل هم من الخبراء، الأقارب، المستشارين[9]؟ هل تكون النساء ضمنهم؟ وماذا عن غير المسلمين؟ وأصحاب الميول الجنسية الشاذة؟ وهو ما سيتم التوقف عنده وتفسيره لاحقاً تحت بند التحديات. يختلف الأمر بالنسبة إلى الديمقراطية التي تتعامل بمبدأ المواطنة. خلال ذلك، يمكننا ملاحظة كيف أنّ الديمقراطية عملية تأتي من الأسفل إلى الأعلى، في حين أنّ الشورى تأتي من الأعلى إلى الأسفل، وفقاً للدراسات التي تناولتها.
فضلاً عن ذلك، تتميّز المقابلة بين الشورى الديمقراطية بعدة إشكاليات، يمكن إجمالها فيما يلي: البنية القومية الأساسية للنظام الديمقراطي، الحرية الفردية، نطاق السلطة التشريعية، وذلك على التفصيل التالي بيانه:
أولاً: البنية القومية الأساسية للنظام الديمقراطي: على الرغم من أنّ القيم الديمقراطية بدأت عالمية في مضمونها من حيث تركيزها على حرية الفرد وكرامته والمساواة بين البشر كما اتّضح ذلك في كتابات جون جاك روسو وغيره، إلا أنّ هذه القيم سرعان ما انحرفت عن مسارها بتبني نظام الدولة القومية. فقد نجحت القومية، لا سيما في أوروبا، في استبعاد الأجانب من المخاطبة أمام القانون مع غيرهم على قدم المساواة، كما قامت بتجريدهم من إنسانيّتهم. ولعلّه من المفيد ملاحظة أنّ انتشار الموجات الاستعمارية تزامن مع توطيد أركان الديمقراطية ومؤسّساتها في كلّ من إنجلترا وفرنسا، وهو ما يجعل من اليسير على المرء إيجاد عدّة أمثلة لانتهاك حقوق الأجانب وامتهان كرامتهم حتى داخل الدول التي تعدّ مهداً للديمقراطية. ويُعدّ قانون الدليل السريّ Secret Evidence Act الصادر عام 1997 بمصادقة الكونجرس الأمريكي والقاضي بإمكانية سجن الأجانب بدون محاكمة دليلاً على ذلك، وهو ما يصم الديمقراطية بأنّها ما تزال أداة قوية في يد مجموعة من الأفراد في الوقت الذي لم تهجر فيه تماماً قيمها العالمية القائمة على احترام حريّة الإنسان. في المقابل، سيدافع البعض عن الشورى باعتبارها المناظر الإسلامي للديمقراطية، بأنّه من الصعب أن نجد مثل هذا التمييز على أساس قومي أو عرقي، إلا أنّ الممارسة تشهد بوجود تمييز من نوع آخر مستند إلى الدين، الأمر الذي حدا بالبعض للقول باستخدام الدين كأداة للسيطرة والاستغلال[10].
ثانياً: الحرية الفردية: تُعد القيود التي قد يضعها المجتمع على الحرية الفردية من أهم الأبعاد التي تفترق بسببها الشورى عن الديمقراطية. يميز أشعيا برلين بين نوعين من الحرية: الحرية من القيود الاجتماعية وحرية التصرف بعقلانية، أو الحرية السلبية والحرية الإيجابية؛ إلا أنّ كلا النوعين تعرضا لهزات عنيفة؛ إذ استغلت الجماعات المسيطرة فكرة العقلانية، لتفرض رأيها باسم العقل والرشاد. وأكثر من ذلك، وبعد انتشار فكر ما بعد الحداثة، أصبح من الصعب على أي فرد أن يناقش أمراً خارج نطاق العقل؛ رغم أنّ مفهوم العقل يعني وجود مجموعة من القيم المشتركة، إلا أنّ مفهوم الحرية، في السياق الغربي، نجح في حفظ الحقوق الفردية للإنسان وكرامته، ومن ثمّ الحفاظ على قدر من الاستقرار السياسي، إلا أنّه أدى إلى ظهور العديد من القوى التي بدأت تنخر في القيم الأخلاقية للمجتمع. إنّ التحرّر من إمكانية التدخل في شؤون الفرد أدى إلى ظهور العديد من الممارسات السلبية. ومما يزيد من حدة المشكلة انعدام وجود نقطة ما يستطيع المرء الوقوف عندها لتقييم كافة الإجراءات الاجتماعية، أو يطلق أحكاماً على نظم اجتماعية مختلفة. في المقابل، يرى البعض أنّه بحكم استناد الشورى لنظام ديني، فمن المنتظر أن تقدم إمكانية تحقيق التوازن بين نوعي الحرية سالفي الذكر. ويبرهن هذا الفريق على ذلك، بأنّ الإسلام يحمي الخصوصية الفردية، ويعرض إمكانية معالجتها بشكل إيجابي إن تطلب قدراً من التدخل، في الوقت الذي يحمي فيه أيضاً التنوع والاختلاف والتسامح والاحترام.
ثالثاً: نطاق السلطة التشريعية: من وجهة نظر إسلامية، فإنّ القانون ليس مجموع ما يعتقده الأفراد، بعقلانية، أنه صحيح في لحظة تاريخية معينة؛ بل إنّ أي قانون له بُعد متعالٍ عن أية جماعات تاريخية. ووفقاً للتقاليد الليبرالية، فقد اقترب روسو من هذا المفهوم. فقد كان واعياً بأهميّة وضرورة وجود مصدر متعالٍ للقانون، يمكنه أن يتسامى عن خصوصية أية جماعة تاريخية معينة، كما كان مدركاً لقصور العقل البشري، وأكد احتياج الإنسان لمصدر يرشده غير أنّه رأى أنّ هذا المصدر لا بدّ أن يتّسم بعدة خصائص، من بينها أن يكون قادراً على جلب الأفراد باعتبارهم كائنات تاريخية.
لاكتشاف قواعد أيّ مجتمع، فإننا في أمس الحاجة إلى عقل متعالٍ، يمكنه أن يفهم مشاعر البشر دون أن يكون أيّاً منهم، لا يمتلك أية انتماءات بشرية لكنه على معرفة بماهية البشر وكينونتهم بشكل تام، حيث تكون سعادته مستقلة عن سعادة البشر إلا أنّه يهتم بسعادة البشر. يستطرد روسو في وصف هذا العقل، فيرى ضرورة أن يتسم بالحرص على الانتظار لاكتمال الزمن في كلياته لتحقيق مجد عزيز، يعمل في زمن واحد ليستمتع بثماره في زمن آخر. بعبارة أخرى، يعرف روسو أنه لا غنى عن وجود إله ليُشَّرِع للبشر.
وفقاً لروسو، فإنّ أفضل شيء يمكن للبشر القيام به للتغلب على قصور العقل البشري، هو الخضوع للإرادة العامة. فالإرادة العامة هي ما يريده الناس عندما يضعون الصالح العام هدفاً لهم، إلا أنه يرى أنّ الإرادة العامة قد تخضع لعملية تضليل وتشويه. وهنا يرى روسو المخرج الوحيد من هذه المعضلة هو التركيز على عقلانية الأفراد. أي أنه بعبارة أخرى، لم يجد مخرجاً من تصريحه بالحاجة الماسّة إلى إله، سوى أن ينهي الدائرة من حيث ابتدأها، وهو التركيز على العقل البشري المعوز للإرشاد المتعالي. في المقابل، يفهم العديد من المفكرين الإسلاميين هذه المعضلة التي قابلها روسو. ولكن على العكس من تنظيره الذي يحوي انسداداً واضحاً، أصبح المفكرون المسلمون مقتنعين تماماً بأنّ الدفاع عن مفهوم العقل والرشاد أمر لا يمكن الاستمرار فيه، وهو ما جعلهم يرون أنّ أخلاقيّات أي نظام سياسي كالعدل والحرية والمساواة لا بدّ أن يخضع للمنظومة الإسلاميّة.
وعن التحديات التي تواجه التنظير لمفهوم الشورى، مسألة استشارة النساء والأخذ برأيهن، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أهل الذمّة من غير المسلمين. بالنسبة إلى استشارة النساء، يرى بعض الباحثين أنّ من الثابت تاريخياً استشارة الرسول للنساء، ولعل من أشهر هذه الأمثلة، استشارة الرسول لزوجه أم سلمة في أعقاب صلح الحديبية عندما أمر الناس أن ينحروا ويحلقوا ولم يستجيبوا، فأشارت عليه بالبدء في ذلك كي يتبعه الناس، وقد كان. أمّا بالنسبة إلى مشورة أهل الذمّة، فيرى بعض الباحثين أنه لا مشورة لذميّ إعمالاً لما كان يقوم به الرسول[11]، وما نصت عليه الآيات: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر"[12]. كذلك: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم؛ فإنه منهم إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين"[13]. إلا أنّ فريقاً آخر يرى جواز استشارة أهل الذمّة، بل ووجوب ذلك، حيث إنّ الآيات الواردة أعلاه خاصة بمن ظهرت عداوتهم للمسلمين وناصبوهم العداء. أضف إلى ذلك أنّ الممارسة الإسلامية في الخلافة الراشدة أثبتت استعانة الخلفاء بغير المسلمين طالما حفظوا العهد وتميزوا بخبرات متنوعة في مجالات شتى.[14]
غاية القول إذن، أنّ مفاهيم كالشورى والديمقراطية شأنهما شأن مفاهيم العلوم الاجتماعية، لا يمكن للمرء أن يجد تعريفاً واحداً جامعاً مانعاً لهما، ليس هذا فحسب، بل إنّ المرء يعدم وجود أرضية صلبة يقف عليها ليقيم كلاً منهما تقييماً موضوعياً من خلال علاقة كلّ منهما بالمجال المحيط به دون أية تحيزات شخصية. فضلاً عن ذلك، فإنّ الحديث عن مفاهيم عمليّة يُعدّ أمراً شاقاً، لأننا في هذه الحالة نسعى إمّا لإيقاف عملية ما، أو أخذ لقطة تثبيتية عند لحظة معينة. وفي الحالتين، فمحاولة الوصول لقول فصل بتمييز أحدهما عن الآخر يُعدّ مغامرة، أضف إلى ذلك، أنّنا نقوم بمقارنة مفهومين من منظومتين مختلفتين، فضلاً عن أنّ الأوّل لم يعد مطبقاً، أو لنقل لم يأخذ نصيبه من التطوير المعرفي والمفاهيمي مثل الآخر. لذا يظلّ الواقع والقدرة على الصمود والتطوّر وتحقيق مصالح الاجتماع البشري هو الفيصل في هذا الأمر. فمدى مأسسة أيّ من المفهومين ودرجة الالتزام به ومحاولة رأب أيّ صدع تفصح عنه التجربة، يُعدّ أمراً ضرورياً في جواز المقارنة بين المفهومين من البداية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] Tauseef ahmed Parray, Democracy in Islam, The views of several modern muslim scholar, The American journal of Islamic social sciences, p143
[2] المرجع السابق، ص 144
[3] المرجع السابق، ص ص 144-145
[4] المرجع السابق، ص ص 145-146
[5] المرجع السابق، ص ص 146-147
[6] آل عمران-159
[7] الشورى-38
[8] Muqtedar Khan, Shura and Democracy, on jan 12 2014, Ijtihad for freedom of thought and independent thinking among muslims everywhere, retrieved from its website.
[9] يرى البعض أنّ المستشارين هنا هم من جمعوا بين العلم والأمانة، انظر في تفصيل ذلك: عبد الله بن عبدالعزيز العنقري، الشورى والديمقراطية: حقيقتهما وأهم الفروق بينهما، (الرياض، جامعة الملك سعود، د.ت) ص ص 12- 19
[10] Louay Safi, Shura and Democracy: Similarities and Differences, the Annual Meeting of the Middle East Studies Association (MESA), Washington DC, November 19, 1999.
[11] تذكر بعض المصادر أنّ الرسول كان يستشير ورقة بن نوفل، وكان مسيحياً، غير أنه تتضارب الروايات فيما إذا كان موحداً حنيفاً أيام الجاهلية أم مسيحياً ذمياً.
[12] آل عمران-118
[13] المائدة-51
[14] انظر في تفصيل ذلك: عبد الوهاب محمود المصري، الشورى والديمقراطية والعلاقة بينهما، الفكر السياسي، د.ت، ص ص 154-155