الحوار بين الثقافيّ والدينيّ
الحوار بين الثقافيّ والدينيّ
تأتي مسألة الحوار وضرورته وأهمّيته في الواقع والحياة من كونه دعوةً إلهيّةً لأنبيائه وعباده جميعاً؛ وقد وردت في القرآن الكريم حواراتٌ عدّةٌ، حتى قال البعض إنّ القرآن كتاب حوارٍ. وقد خلّد الله للنّاس نماذج من حواراتٍ لتكون بمثابة عبرةٍ وحكمةٍ. من أبرزها حوار الله مع إبليس الذي خالف أمره، إضافةً الى حوار الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم.. ومن خلال إيراد هذه الشواهد والأمثلة يتبيّن بجلاءٍ، دعوة الإسلام إلى اتّخاذ الحوار مسلكاً للوصول إلى الصواب والحقّ، وتقويم الأفكار والمفاهيم المغلوطة. كما أكّد أيضاً على نهج سلوك الحوار بشتّى السُبل واتّباع طريق الحُسنى، من أجل إقناع الآخرين وتحقيق التواصل والتّفاهم والتّقارب معهم.
لقد بسطنا هذا المهاد المقتضب الذي ينبثق من خلفيّةٍ دينيّةٍ للمجتمع العربيّ؛ لأنّها تشكّل معتقداً شعبيّاً، ومقدّساً جمعيّاً، بحيث لا يُمكن السيطرة عليه، وفي الوقت ذاته، لا يُمكن تجاوزه؛ لاعتباراتٍ عدّةٍ -لامجال لذكرها في هذا السياق- بل ينبغي الانطلاق منه وتأويله للعبور لمجتمع الحداثة والدمقرطة و حقوق الإنسان...
فما هي دواعي غياب ثقافة الحوار في مجتمعاتنا ومؤسّساتنا؟ هل يكمن الخلل في الثقافة أم في الدين؟
يحتاج المسلمون أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى تربيةٍ حواريّةٍ، أو إشاعةٍ لثقافة الحوار بينهم ومع غيرهم، وتزداد أهمّية الحوار في واقعنا المُعاصر في ظلّ تشرذم أطياف المجتمع، وزيادة الاحتقان، وكثرة النزاعات والخصومات، وانتشار التّعصب والعنف. وهي دواعي كافية لجعل الحوار منهجاً في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة لا محيد عنه، لا سيّما أنّ وظائفه وأدواره الاجتماعيّة والسياسيّة لا تخفى على أحدٍ؛ نذكر منها: التحرّر من الخوف والتردّد والتوجّس من الآخرين، تنمية الروح الإيجابيّة والمُنافسة والتّفاعل، وكذا غرس الثّقة بين الآخرين، وعدم الهروب من المواجهة، والاستعداد النّفسي لقبول ومناقشة الآخر دون مركّب نقصٍ، وكذا تجنّب العنف والتّعصب والفرقة… هذا فضلاً عن المقاصد والغايات التي يتوخّاها، ويُمكن أن نختزلها في نقطتين أساسيّتين، وهي: إقناع الآخرين وفهمهم.
وإذا كان المرء يؤمن من حيث المبدأ أنّ الحوار ضرورةٌ شرعيّةٌ وإنسانيّةٌ، فلماذا نلمس غيابه، أو بالأحرى ممارسته الناقصة في الأوساط التربويّة والاجتماعيّة والسياسيّة...
فرغم أنّ النّصوص الدينيّة تعجّ بالحوار والدّعوة إليه؛ إلّا أنّ الواقع بعيدٌ عن ممارساتٍ حواريّةٍ حقيقيّةٍ وإيجابيّةٍ مثمرةٍ، الشيء الذي جعلنا نتساءل عن بواعث غيابه.
ونقصد هنا بالحوار الجدّي، الذي يكون متّسماً بالمسؤوليّة والموضوعيّة والإيجابيّة. ولا نعني بالحوار الشكليّ/السلبيّ الذي لا يُثمر شيئاً على أرض الواقع، وهذا النوع الأخير يتّخذ أشكالاً تُمارس في مجتمعنا من قبيل الحوارات السلطويّة والإلغائيّة والسطحيّة والعدميّة والاستعلائيّة...
للإجابة عن هذا السّؤال؛ لا بدّ أنْ نستحضر أنّ عصرنا الذي عرف طفرةً نوعيّةً، وتقدّماً هائلاً، في مجال الاتّصال والتكنولوجيا؛ نجم عنه توسّع في مساحات وفضاءات الحوار، ولم تعد تقتصر بين أفراد الأسرة الواحدة أو القبيلة الواحدة، بل نجد شبكة الإنترنت قد وفّرت مجالاتٍ للتّحاور وإبداء الرأي والتّعبير بشكلٍ حرٍّ مع فئاتٍ وطبقاتٍ من مختلف الأعمار، ومن بلدانٍ وأقطار مختلفة؛، لقد أتاحت هذه الوسيلة الإمكانيّة الهائلة للانفتاح والتّفاعل مع الجميع دون قيودٍ ولا حدودٍ، وفي شتّى المواضيع والقضايا؛ من خلال تلك المنتديات والتّعليقات في بعض المواقع، والدردشات بشتّى أنواعها "الصوتيّة والمكتوبة"، وهي نوعٌ من الحوار، الذي يتراوح بين الحوار الراقي والإيجابيّ، وما بين الحوار العديم الجدوى، وكذا الحوار العفويّ.
وهي حواراتٌ تكشف في جانبٍ منها التنوع الثقافيّ والجانب الحضاريّ، وفي ذات الوقت تُبيّن في جانبٍ آخر تدنّي مستوى الحوار، كما هو في الواقع الخالي من أدبيّاته وأخلاقيّاته المستمدّة من الدّين الإسلاميّ، ويرجع –بنظرنا – إلى عوامل ثقافيّةٍ وتربويّةٍ، حيث العامل الثقافيّ بارزٌ على اعتبار أنّ الثّقافة سلوكٌ حياتيٌّ، يمتدّ أثرها إلى مجالات الحياة الأخرى.
إنّ ثقافة المجتمع تنطوي على عراقيل ومعوّقات لا تُشجّع على الحوار الإيجابيّ المثمر، ولقد سبق أنْ ذكرنا بأنّ الحوار مؤصّلٌ له دينيّاً، بيد أنّ مردوديّته وحصيلته في المؤسّسات التربويّة والأسريّة والاجتماعيّة والسياسيّة، تبدو ضئيلةً وباهتةً، ولا تُحقّق المقاصد العليا منه؛ التي تتجلّى في حلّ الخلافات والمشاكل والتوتّرات.
حال واقعنا الاجتماعيّ يحتّم علينا التمييز بين ما هو دينيٌّ وما هو ثقافيٌّ، في جميع مناحي النشاطات الإنسانيّة، ثمّ الكشف عن وعي أفراد المجتمع بأهمّيته من جهةٍ، وبيان هيمنة الجوانب الثقافيّة والاجتماعيّة ودورها الفعّال في تشكيل وعيهم وتأطير سلوكاتهم من جهةٍ أخرى؛ وإلّا بماذا سنُفسّر أمّةً تدّعيّ أنّ لها كتاباً يُعدّ كتاب حوارٍ بامتيازٍ، لكنّها لا تُجيد فنونه مع أبنائها، وأقرب الأقربين إليها، ناهيك عن أنْ تُمارسه مع الآخربن المُخالفين لها دينيّاً ومذهبيّاً وسياسيّاً؟
لا شكّ أنّ ثمّة أزمةً تنفذ إلى الذهنيّة الفرديّة والجماعيّة لأفراد المجتمع؛ من سماتها التقليد وعدم الثّقة في الذات، والسلبيّة والسكونيّة والفوضويّة، والاستبداديّة، واللاإنجاز والقدريّة والنّفور من العلم والمعرفة والاتّكاليّة والتواكليّة… ولاتزال تُحافظ على بعض العادات والأعراف والتّصورات التي لا تخدم القيم الإيجابيّة المتناغمة مع ثقافة العصر؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يزال الآباء والأمّهات والأسر يدعون إلى تربية الأبناء تربيةً عنفيّةً مبنيّةً على القوّة، والقوّة ليست قوةً معرفيّةً علميّةً، وإنّما قوة الجسد والعضلات، حيث لا شيء يؤخذ بالحوار، إنّما يؤخذ أخذاً بالقوّة والعنف.
الحوار خلقٌ كبقيّة الأخلاق – بنظرنا- يُصنع في مشاتل المجتمع، ويُمارس بكلّ انسيابيّة، لكونه خصيصةً إنسانيّةً (الإنسان مدنيٌّ واجتماعيٌّ بطبعه، ولا يُمكن أن ينعزل عن النّاس دون تواصل معهم)، فإذا أصبحت مشاتل المجتمع قاحلةً وجرداء من القيم والسلوكات الحضاريّة، فسينعكس هذا حتماً على سلوكات أطياف المجتمع؛ أي إنّ ثقافة الحوار والتّحاور تختفي وتحلّ محلّها الفوضى والتّعصب والعنف.
إنّ المجتمع هو الذي يصنع، ويُنتج، ويُنمّي كثيراً من الأخلاقيّات، سواءٌ أكانت إيجابيّة أم سلبيّة؛ وبتعبيرٍ آخر، فالثقافة الاجتماعيّة، باعتبارها مجموعةً من العلاقات الاجتماعيّة الناظمة لعادات وتقاليد مجتمعٍ بعينه، هي التي تُحدّد ملامح المجتمع المتحضّر، وهي أيضاً التي تُساهم في نشر الحوار، بالعمل على مأسسته، على اعتبار أنّه أرقى ما وصل إليه الإنسان.
فلنبدأ بتشذيب سلبياتٍ عديدةٍ علقت بثقافتنا، أو بتعبيرٍ آخر، تخليص الدينيّ من الثقافيّ، للتمكين من حوارٍ "نوعيٍّ" يسود حياتنا التربويّة والثقافيّة والسياسيّة. فالمجتمع العربيّ لم يُرسّخ بعدُ سلوكيّات الحوار، لتتجذّر ممارسته بين الأفراد والجماعات، على عكس المجتمعات المتحضّرة، التي انتقلت للمستوى الثّاني، وهو الحوار النقديّ، الذي يرفع منسوب الوعي، ويُسائل المسلّمات، ويقلّب النّظر في شتّى الظواهر والممارسات.
عبد العزيز راجل