الإعلام العربي .. وخطورة غياب التوازن

ليون برخو

 

"الرأي والرأي الآخر" شعار يرفعه كثير من المؤسسات الإعلامية شرقا وغربا. و"النزاهة والموضوعية" مفردات لا تخلو منها أدبيات أي مؤسسة إعلامية.

 

هذه الشعارات والمفردات استقاها الإعلام العربي من الصحافة الغربية. الصحافة العربية بشكلها الحالي ما هي إلا إعارة لممارسات خطابية في الغرب.

 

والإعارة في الخطاب في الأغلب مسألة محببة. اللغة، أي لغة، في إمكانها استقبال ممارسات خطابية على مستوى المفردة أو العبارة أو حتى الجملة من لغات أخرى وتوطينها.

 

بيد أنني قد لا أجافي الحقيقة إن قلت إن اللغة العربية لها قصب السبق في استقبال ممارسات خطابية من لغات أخرى بيسر. اللغة العربية كونها لغة اشتقاقية وتملك من الأصوات والحروف ما تحسدها عليه لغات أخرى لم تخش الإعارة.

 

ونظرة تاريخية مورفولوجيوية morphology "علم الصرف" قد تلقي الضوء على ما أتيت به.

 

نشأت اللغة العربية في بيئة صحراوية في الأغلب. ترعرعت في طقس حار وضمن نطاق قبائل كانت وجهة نظرها قبل مقدم الإسلام قلما تتجاوز نطاقها الصحراوي.

 

وكان العرب لا يحبون القيظ والنهار بصورة عامة. إلا أنهم كانوا يستمتعون بالقر ومولعين بالليل والسماء التي تزينها النجوم. وكثر مديحهم لليل ونجومه لا بل كانوا يؤدون القسم بها.

 

واللغة بنت محيطها وزمانها. ولهذا كثرت في العربية التعبيرات والمفردات التي تستحسن البرد والقر والليل وتستهجن النهار والحر والقيظ.

 

وصارت العرب تعبر عن الصحراء وطيورها وكائناتها بطريقة محببة. النسر والصقر والباز طيور يحبها العرب كثيرا وتحبها لغتهم أيضا. بيد أن الطيور المائية مثل البط والبجع والبطريق لم تكن لديها المكانة ذاتها.

 

وما أن قدم الإسلام وزادت رقعته، وسعت العربية وتطورت.

 

وبسرعة مذهلة أصبحت لغة العلم والمعرفة دون منازع في الفترة الذهبية من العصر العباسي.

 

وزاد تألق العربية في الأندلس في القرون السبعة التي بنى العرب فيها حضارة لم تضاهها في حينه أية حضارة إنسانية أخرى.

 

في العصر الحديث، ولا سيما إبان النهضة في مستهل القرن العشرين، نهضت اللغة العربية بعد سبات طويل.

 

ولكن هذه النهضة سرعان ما خبت. والإعلام العربي له دور لا يستهان به في وأد هذه النهضة.

 

بدلا من أن يوسع الإعلام الأفق من خلال الاستناد إلى أطر خطابية تؤدي إلى نهضة فكرية ونقدية تستوعب الحضارة والتمدن والعلوم وتأوي الآخر المختلف، أخذ أصحاب الشأن فيه التشبث بالرأي الواحد وإقصاء الرأي الآخر المختلف.

 

والرأي الواحد خطير لأن الأغلب فيه هي الأطر الخطابية الضيقة التي من شدة وكثرة تكرارها تدخل في عقل المتلقين وكأنها حقائق دامغة رغم تفاهتها ومحدودية أفقها.

 

بمعنى آخر، إن الخطاب الإعلامي المستند إلى الرأي الواحد يفتقر إلى التوازن لأنه يعبر عن الميول الخاصة. وبعبارة أدق، الميول الخاصة والضيقة التي ترفض النقد في أي اتجاه كانت تسود الفكر والعقل.

 

وبدلا من إشغال العقل يتحجر العقل. كل عقل يسمع ويقرأ ويشاهد أو تفرض عليه أطر خطابية تعكس الرأي الواحد المنطلق من ميول محددة يصبح خطرا على حامله وبيئته.

 

عندما ينبش الإعلام العربي في مفردات تاريخية سلبية أكل الدهر عليها وشرب لتوصيف المختلف ويتغاض عن حقيقة أن المختلف له مفردات مقابلة معناه أن الرأي الآخر (التوازن) جرى انتهاكه.

 

وعندما يركز الإعلام العربي على نهج خطابي محدد دون غيره إرضاء لميول القائمين به أو أصحاب نعمته، يزيد من ليل العرب ظلاما.

 

الخطاب يكون المجتمع ونسيجه والمجتمع ونسيجه نكتشفهما من خلال الخطاب.

 

والأطر الخطابية في الإعلام العربي ولا سيما التوصيفية منها غير متوازنة لأنها تنتقص من الآخر المختلف وتزيد من سلبيته في عين المتلقي وتلغيه وتقصيه إلى درجة يحق فيها من وجهة نظر الخطاب تدميره.

 

وعدم التوازن يرد أيضا في ظاهرة طاغية أخرى وهي الإفراط في التعبير overlexicalization وذلك بتكديس المفردات أو التوصيفات الخطابية السلبية للآخر وغض النظر عما قد يقابلها لدي.

 

ولهذا ترى كثرة الإسناد في الإعلام العربي إلى مصادر غير معرفة. ووصل الأمر بوسائل إعلامية كبيرة لها عشرات الملايين من المتلقين وهي تنسب اقتباسات مباشرة لمصادر عديدة غير معروفة في آن واحد. وهذا في حد ذاته يعد "كفرا" في كيفية التعامل مع الخطاب في الإعلام ويمثل ازدراء لعقل المتلقين من العرب.

 

مشكلة الإعلام العربي، ولا سيما المؤثر منه "وهنا نقصد القنوات الإخبارية الكبيرة"، تتمثل في غياب كتاب أو دليل الأسلوب الذي يضع معايير محددة لكيفية تحقيق التوازن في استخدام الأطر الخطابية.

 

حسب علمي أن أغلب وسائل الإعلام العربية لا تمتلك دليل الأسلوب. في غياب هذا الدليل كل يعمل على هواه. والنتيجة غياب التوازن. وغياب التوازن في الإعلام يلعب دورا خطيرا في حاضر ومستقبل العرب.

المصدر: http://www.aleqt.com/2016/02/12/article_1029593.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك