مفهوم الحوار في إشكاليات الاختلاف والتواصل ونظام القيم
مفهوم الحوار في إشكاليات الاختلاف والتواصل ونظام القيم
يتأسّس على مفهوم الحوار كلّ ما له صلة بالإنسان. به يتعرَّف على موقعه في الحياة والوجود من خلال تعرُّفه على الآخر الذي يشاطره الحياة والوجود. ذلك أن اقتضاء التعرُّف هو الاعتراف بالفطرة والتكوين، أنَّ الذات لا تتكامل إلاّ بوجود الآخر، وكذلك الاعتراف به كشريكٍ طبيعيٍّ في بناء الاجتماع البشريّ، والحضارة الإنسانيّة.
هذه من البديهيّات التي لا جدال فيها. فهي (أي هذه البديهيّة) تدخل في أصل حضور الإنسان إلى العالم بوصفه كائناً اجتماعياً. وهو بهذه المثابة يستحيل عليه أن يحقّق الغاية من مخلوقيّته إلاَّ ضمن الوجود الاجتماعيّ، أي على أساس ينتظمه عقدٌ بين الفرد والجماعة، أو بين الجماعة بوصفها مجموعة أفرادٍ، يجمع شملها ميثاقٌ ما، غالباً ما يكون الحوار في ما بينها العنصر المكوِّن لمثل هذا الميثاق.
ماهية الحوار
للحوار، في اصطلاح علماء اللغة والتفسير معانٍ كثيرة، وإن استوت في الإجمال، على سياقٍ واحدٍ. "حاوره محاورة وحواراً"؛ فالمحاورة هي المجاوبة، أو مراجعة النطق والكلام في المخاطبة والتحاور والتجاوب؛ لذلك كان لا بدّ في الحوار من وجود طرفين: متكلِّمٌ ومخاطبٌ يتبادلان الدور. فحيناً يكون المتكلّم مرسلاً للكلام، وحيناً متلقّياً له، أي يكون المتكلّم مخاطباً حين يصمت ليسمع كلام نظيره. وهكذا يدور الكلام بين طرفين في إطار حلقةٍ تبادليّةٍ يكشف كلٌّ منهما عمّا لديه من أفكار. فيتشكَّل جرّاء ذلك ما يُمكن أن نُسمّيه بالخطاب المشترك الذي تستولده القضية المتحاوَر بصددها.؛ فالحوار، بهذا المعنى، هو تبادل أفكارٍ بين فريقين أو أكثر في إطار موضوعٍ ما، حول قضيّةٍ ما، بُغية الاتّفاق على صيغة حلٍّ أو اتفاقٍ أو تسويةٍ في شأن القضية التي هي مدار الحوار. والآلية التي يسلكها الحوار لا بدّ لها أن تلحظ تبادل الكلام ومراجعته بين كلٍّ من المتكلّم والمخاطب، حيث إنّ غاية الحوار هي توليد الأفكار الجديدة في ذهن المتكلّم، كما في ذهن المخاطب. فالحقائق التي تولّدها العمليات الحواريّة هي ناتج زمان ومكان الحوار، أكثر ممّا هي ناتج الأفكار المسبقة لدى كلّ محاور. ولعلَّ أهمّ المعاني التي يقوم الحوار عليها هي تجاوز الأفكار القبْليّة، والتي غالباً ما تشكِّل عائقاً في وجه الغاية الأساسية من انعقاد الحوار. هذا لا يعني بالطبع، أن يتخلّى كلّ محاورٍ عمّا يعتقده أو يؤمن به من أفكارٍ ومبانٍ معرفيّةٍ حول قضايا الوجود والحياة، بل على العكس، فقد تكون الاعتقادات الكلّية لدى المتحاورين هي التي سهّلت التفاهم حول قضيّةٍ من القضايا، تحقيقاً لأهدافٍ عُليا مشتركة، بما يُفضي إلى التّقدّم الاجتماعيّ والحضاريّ للمجتمع والأمّة. يفترض الحوار، إذاً، وجود قضيّةٍ تكون موضوعاً للتحاور. وهذه القضية إمّا أن تكون موجودة، وقد اختُلِف حولها، ممّا استدعى التحاور بشأنها، بغاية استوائها على نسقٍ يُناسب المصالح المشتركة للمتحاورين، وإمّا أن تكون ثمّة حاجةٌ لها، لخللٍ ما في نظام القيم العام للمجتمع، أو لنقصٍ في بنية المؤسسة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
في هذه الحال قد يستوي على أحد هذين القسمين للقضية. قد يقوم بالقسمين معاً في حالة الرغبة بإعادة إحياء قضيّةٍ وطنيّةٍ كبرى أدَّت المنازعات ودورات العنف الأهلي إلى إقصائها من حقول التداول، كقضية الوحدة الوطنية، وإعادة تأليف النظام الاجتماعي والسياسي على أسس التوافق والديمقراطية والتسامح والعدل الاجتماعي.
آليات الحوار وقواعده
بسبب من تعدّد أوجه استعمال مصطلح الحوار، وكذلك بسبب سوء التوظيف في حقول النزاعات السياسية والثقافية والاجتماعية والعقائدية، لحق بالمفهوم التباسات شتى. حتى إنّنا غدونا نرى إليه في أحايين كثيرة، كما لو كان في غير محلّه، وذلك بعد أن جرى تحويره وتحويل المراد منه، وفقاً لأغراض ومصالح الجهات والقوى المختلفة؛ فالآليّات العامّة التي تجعل الحوار يمضي بالمتحاورين إلى غاياتهم المنشودة ينبغي لها أن تلحظ مبدأ التكافؤ والرضا والتوازن في ما بينهم؛ ذلك أنّ الحوار في أحواله ومبانيه وغاياته قائمٌ على الاعتراف المتبادل، وحقّ كلّ فريقٍ، سواء أكان فرداً أم جماعةً، في المشاركة المتساوية المتكافئة في تقرير الصياغة النهائيّة لشكل ومضمون المسألة التي يجري الحوار بشأنها. إنّ الانطلاق من هذا المبدأ سوف ينجز نصف المسافة المؤدّية إلى الصيغة الفضلى من الاتّفاق والحلّ المفترض. وبالتالي فمن منطق الأمور ألّا يكون الحوار حقيقيّاً وسويّاً، في حال وجود الغلبة وعدم التكافؤ، وإلّا صارت كلّ صيغةٍ تنتجها دائرة التحاور، مجرّد استلابٍ يفرضه الأقوى على الأضعف، ما يُفضي في النّهاية إلى خللٍ في نظام القوّة، يُفضي بدوره إلى توليد النزاع، ويُطلق رحلةً دراماتيكيّةً متجدّدةً من الأزمات ودورات العنف.
على هذا الأساس، فإنَّ استقامة الحوار على مبدأ التوازن والاعتراف والاحترام يفترض مراعاة جملةٍ من الشروط والقواعد والآليّات، يُمكن إجمالها على النحو التالي:
أولاً: وجود أطراف للحوار يجمع بينها مكانٌ ماديٌّ (مساحة ما يلتقي فيها أطراف التحاور وجهاً لوجه)، أو معنويٌّ (التحاور عبر وسائل اتصال مباشرة كالهاتف والإنترنت). وهذا يعني في ما يعنيه، أنّ الحوار يجب أن يكون مباشراً بين المتحاورين، فلا يكون هناك طرفٌ ثالثٌ أو رابعٌ يشكِّل حلقة وصلٍ بين الأطراف. فوجود أطراف أخرى تؤدّي دوراً يصل الأطراف المتحاورة مع بعض، يجعلنا ندخل في ما يُسمّى "الوساطة" وليس "الحوار". وعلى هذا فإنَّ العلاقة الأفقيّة المباشرة بين المتحاورين هي التي ينبغي توفيرها أولاً، لكي يجري حوارهما على نحوٍ سويٍّ.
إلى ذلك فإنَّ على أطراف الحوار، أن يكون لديها رغبة بالأمر؛ فالحوار ليس قراراً يُفرض على أطرافٍ عليهم التجاوب معه بدافع واجبٍ ما، أو إرادة خارجة عنهم، بل إنّ الحافز إليه يُفترض أن يكون نابعاً من الذات، أي من رغبةٍ ذاتيةٍ ناتجةٍ عن قناعةٍ داخليةٍ مؤدّاها أنّ التحاور هو بابٌ أساسيٌّ يجعلنا نخرج من ذاتنا لنلتقي بالآخر. وبذلك نكون قد ساهمنا في مساعدة خروج الآخر من ذاته كي يلتقي بنا.
إنَّ الرغبة بالحوار، هي رغبةٌ باكتشافٍ مستمرٍّ للذات من خلال الآخر، بالتوازي مع اكتشافٍ مستمرٍّ وغير نهائيٍّ للآخر. ذاك يوصل بنا إلى نقطةٍ أساسيّةٍ في هذا الإطار، وهي الاستعداد للحوار الذي يسبق أيّ حوار، فالرغبة تحتّم استعداداً داخلياً غير واعٍ يمرّ به المتحاورون، قبل ولوج باب الحوار. إنَّ هذا الاستعداد هو بمثابة المدخل الضروري كيما يكون الحوار مجدياً، وكي يوصل بالتالي إلى نتيجةٍ ما.
ثانياً: إنّ أحد الشروط الأساسيّة التي ينبغي التوافر عليها في أيّ حوارٍ، هو الموضوع المشترك أو المواضيع المشتركة التي يتمّ التداول بها. فلا يكون كلام أحد الأطراف عن قسمٍ من الصورة، وكلام الآخر عن قسمٍ آخر من الصورة؛ غير أنّ ذلك لا يحتّم أن تكون هناك لغة مشتركة معتمدة، بل لغة واضحة لسائر أطراف الحوار؛ بمعنى أن تكون اللغة التي يستخدمها كلّ طرفٍ، مفهومة وواضحة بالنسبة لسائر الأطراف. فتقنيات التواصل التي نستخدمها من شأنها أن تُسهم في فهمٍ خاطئٍ للمقاصد والنوايا، قبل أن تُسهم في فهمٍ خاطئٍ للمعاني، في حال لم تكن مفهومة وواضحة لدى الطرف الذي نحاوره، والعكس صحيح.
ثالثاً:ما ذُكر حتّى الآن، يشكِّل الإطار الماديّ للحوار، غير أنّ أسسه وشروطه، ترتبط بالذات وبالموقع الذي منه ننطلق للوصول إلى الآخر، بالتوازي مع ارتباطها بالإطار الماديّ. ولعلّ أبرز هذه الأسس، هو النظر إلى الآخر كآخر، له وجوده، وشخصيّته، له ميزاته السالبة والموجبة.
ينبغي أن يكون لديّ القناعة الكاملة، بأنَّ الآخر هو كيانٌ كاملٌ منفصلٌ عنّي. إن لم أستطع النظر إلى ذلك الآخر من هذه الزاوية، فإنّي أكون كمن يُحاور ذاته، أو كمن يُحاور كائناً أبتكره وفق ما أريد، وليس طبقاً لكينونته. هذا الآخر، من غير الجائز أن يحول بيني وبينه مستوى ثقافيّ متعارض، طالما أنّ الرغبة في الحوار تولدت لديه مثلما تولّدت لديّ. هذا الآخر، لا يقف حائلاً أمامي دون الوصول إليه، موقع في هرميّةٍ ما، سواء أكان هذا الموقع أعلى أم أدنى من موقعي. فأياً تكن المستويات الثقافية، أم الاجتماعية التي يقف عندها المتحاورون، فإنّ ذلك لا يشكّل أيّ فارقٍ في تكوين الأطراف الروحيّ، سواء وعوا ذلك أم لا.
من هنا، نستطيع أن نفهم معنى كلمة “المساواة” التي نضعها كشرطٍ أساسيٍّ في مطلق الحوار.
رابعاً: إنّ النظر إلى المساواة من هذه الزاوية، يجعلنا نمضي إلى شرطٍ آخر للحوار، وهو الابتعاد عن التفرُّد بالرأي، كي لا يصبح الحوار "مونولوغاً"، يُحاور فيها الفرد مرآةً صامتةً أمامه. فالحوار هو حديثٌ بين كائنين أو أكثر، يكملان معاً صورةً واحدةً. كلُّ طرفٍ يمتلك جزءاً من الصورة، فعندما نتحاور، علينا الانطلاق من أنّ كلاً منّا يمتلك جزءاً من الحقيقة. فالحقيقة مطلقةٌ، غير أنّ رؤيتنا لها هي النسبيّة والمتغيّرة، معاً وبالتحاور نصل إلى فهم جزءٍ أكبر منها يوماً فيوم. فالحقيقة تأتينا حين نقترب منها بالتكامل، وعبثاً نجهد كي نصلها ونحن نقف في زاويتنا، فالالتصاق بالزاوية يسجُننا في الزاوية، يعمي عيوننا عن المشهد الآخر من الحقيقة، عن الألوان الأخرى للحقيقة. أن ننشد الحوار، ونحن على قرار مسبق بأن نتمسك بالقسم الخاص من الصورة الذي نراه أمامنا، هو كمن يرفض أن يرى من أيام السنة إلا أحد فصولها، أو كمن يرفض أن يرى من ساعات اليوم إلا ساعة منه، زاعماً أن تلك الساعة هي اليوم بأكمله، وأنّ ذلك الفصل هو السنة كلّها.
من هنا نرى أنّ أحد شروط الحوار هو الجرأة التي تسمح لي بأن أقبل أنّ ما لدي ليس إلا الجزء، وما لدى الآخر هو جزءٌ آخر. إنّ في ذلك إرادةٌ ذاتيّةٌ للنظر من زاويةٍ أوسع تتخطى رؤيتي الذاتية للحقيقة.
إنّ توفُّر النيّة كأساس قبْلي للحوار تؤدّي نصف المسافة إلى الهدف؛ فالنيّة التي ترافقني قبل ولوج أيّ حوارٍ، هي شرارةٌ أساسيّةٌ قد توقد نار الحوار الدافئة، كما أنّها قد تولع ناراً حارقة. فالدخول في الحوار، لا يُمكن أن يكون باباً يؤدّي إلى أيّ مخرجٍ، في حال كانت النيّات أصلاً في عدم الوصول إلى نتيجة.
من هنا، يجب علينا البدء في الحوار انطلاقاً من مقصدٍ كامنٍ في داخلنا، مفاده الاستعداد للسير مع الآخر بغية الوصول وإيّاه إلى مكانٍ آخر يتّسع لكلا الطرفين. ذلك يخيفنا في بعض الأحيان، ويُهدد العالم الذي رسمناه والإطار الذي وضعنا أنفسنا فيه.
محمود حيدر