من الإختلاف إلى الصراع: الخطابات الأميركية والعربية بعد 11سبتمبر

الدكتور رضوان السيد

 

رأى كينيث كراغ، مؤرّخ الفن الكبير، أنّ مفهوم الحضارة يستعصي على التعقّل ربما لأنه يستعصي على التعريف والتحديد. أما نوربرت إلياس فقد أبدع فعلاً حين ربط الحضارة بالتاريخ العالمي... فالحضارة عنده مفهومٌ غربيٌّ...

يعني كل السمات والممارسات التي رأى الغربيون خلال القرون الثلاثة الأخيرة أنها أمّنت لهم تفوّقاً على كل الآخرين...".

F.F. Armesto, Civilizations. The Free Press.

New York, 2001, p. 21.

 

أولاً: الخطاب الأميركي القديم والجديد

عام 1998 صدر بالإنجليزية والعربية كتاب فواز جرجس بعنوان: "أميركا والإسلام السياسي: صراع الحضارات أم صراع المصالح"؟ كتاب جرجس يقصّ القصة كلّها منذ الثورة الإسلامية في إيران، وإلى مقتل الرئيس السادات، والمشهد الأفغاني وصولاً إلى الخطاب غير المكتمل حول الإسلام السياسي لإدارة الرئيس كلينتون حوالي منتصف التسعينات. ومع أنّ الكتاب صدر عام 1998 أي بعد تكوين أسامة بن لادن وأيمن الظواهري للجبهة العالمية لمجاهدة اليهود والصليبيين؛ فإنّ رأي جرجس لم يتغيّر: الصراع صراع مصالح وليس صراع ديانات، والإسلام ليس الخطر الأخضر الجديد بعد انقضاء الحرب الباردة. بيد أنّ فواز جرجس، كما لم يهتمّ كثيراً لتهديدات أسامة بن لادن، فكذلك لم يهتمّ لوجهة نظر هنتنغتون واليمين الأميركي الجديد حول "صراع الحضارات" والدور الجديد الذي أعطي للإسلام في هذه المقولة المطروحة منذ العام 1993. والواقع أنّ هذا ليس خطأ فواز جرجس، ولا خطأ الدارسين الآخرين لليساسات الأميركية في الشرق الأوسط. فقد جرت العادة – حتى من جانب سياسيين وواضعي سياسات كبار مثل هنري كيسنجر – على اعتبار أنّ الهدف الرئيسيّ للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط بالذات ينبغي أن يبقى: الإستقرار الذي يحفظ المصالح الكبرى، والتعامل مع سائر الأطراف بطريقة تحفظ تلك المصالح التي تتركّز حول أربعة أمور: النفط، وأمن إسرائيل، والممرات الإستراتيجية، والحدود. والجديد الجديد في سياسة الإدارة الأميركية بعد انتخاب الرئيس جورج بوش الابن – وهو ما لمي يكن بوسع أحد من الدارسين أو الاسترابيجيين التنبؤ به – أنّ الإدارة الحالية لا تربط حفظ المصالح باعتبارات أخرى أياً كانت كالاستقرار وغيره. وهذا الرأي في التوجه الجديد هو رأي غراهام فوللر، نائب رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية سابقاً.

بيد أنّ الأمر الآخر والأهمّ لاتصاله بموضوع هذه المداخلة مباشرة؛ فهو الفصل لدى سائر الدارسين والاستراتيجيين بين العقائد والأطروحات الثقافية الشاملة من جهة، والسياسات من جهة ثانية. فمجيء رونالد ريغن للسلطة عنى صعوداً لليمين الجديد الديني والثقافي والسياسي؛ لكنّ أحداً ما ربط السياسات العملية لإدارته أو إدارة بوش الأب بجيري فولويل أو روبرتسون وسائر أقطاب اليمين الديني والثقافي، بسبب الفكرة السائدة القائلة بأنّ السياسات تخضع في النهاية لاعتبارات براغماتية وعملية تعدّل أو تخفّف كثيراً من النزعات العقدية الكامنة وراءها. وقد اختلف الأمر من هذه الناحية أيضاً في عهد إدارة بوش الابن. فاليمين الديني والثقافي أو العقائدي هو في الإدارة، أي في السلطة الآن، وليس فقط وراءها أو يمارس ضغوطاً عليها تختلف تأثيراتها من حالة لحالة. وهذا الرأي هو رأي بول كروغمان، أستاذ الاقتصاد السياسي المعروف، في عدة مقالات له، آخراها في (نيويورك تايمز، 24/4/2002).

يقول كروغمان إنّ في أميركا وأوروبا على حد سواء فئات غاضبة ليس لأسباب اقتصادية؛ بل لاعتبارات ثقافية وأخلاقية تتصل بصورتها عن العالم الأليف والمثالي، التي تعتبر أنه كان سائداً حتى منتصف القرن العشرين في الغرب كلّه. وهناك مشتركات بين هذه الفئات الغاطبة في أوروبا وأميركا في صورتها عن العالم التقليدي، وصورتها عن العالم الحالي الفاسد، وطرائق إصلاحه. والمشترك الآخر أنها أقليّات ليست منظّمة بالطرائق الحزبية المتعارف عليها؛ لكنّ بينها تناغماً عميقاً وسط الأخطار التي تعتقد أنها تتهدّد عالمها، والتي أوشكت أن تسيطر عليه وتلغيه كلياً. لكنّ الفارق الرئيسيّ بين اليمين الأوروبي مثل Le Pen وهايدر والأميركي أنّ الأول الأوروبي هو خارج السياق العامّ، ولن يستطيع الوصول للسلطة مهما جمع من ناخبين. أما اليمين الأميركيّ فقد صار جزءاً من الـ Main Stream أو التيار الرئيسي وهو الآن في السلطة. وأودّ أن أضيف هنا إلى كلام كروغمان فارقاً آخر بين اليمينين. ففي اليمين الأميركي هناك أصولية دينية إنجيلية قوية؛ بينما تغلب الاعتبارات الثقافية في اليمين الأوروبي.

هناك رأيان إذن في الخطاب والممارسات الأميركية الحالية في منطقتنا وفي العالم. الرأي الأول يقول إنه خطاب اليمين وممارساته منذ أواسط الثمانينات. والرأي الآخر يقول إنه كان جزءاً من السلطة فعلاً منذ أيام ريغن؛ لكنه الآن وبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر يملك الجزء الرئيسيّ من القرار تجاه منطقتنا على الأقل.

لكن أياً يكن تاريخ وصوله أو مشاركته في صنع تجاه العالمين العربي والإسلامي؛ سأحاول بإيجاز قراءة وقائع الخطاب بعد 11 أيلول/سبتمبر تبعاً لوروده في وسائل الإعلام، والإستشهادات، والجدالات. بعد 11 أيلول/سبتمبر تتكرر عند الحديث عن الإسلام والعرب عدة أسماء مع ذكر أطروحاتها وهي بالتحديد: هنتغتون وبرنارد لويس وغلنر وبدرجة أقلّ جوديت ميللر وبسام طيبي وفؤاد عجمي ومارتن كريمر ودانييل بايبس وستيفن أيمرسون وباري روبن. والملاحظ أنه فيما عدا برنارد لويس ومارتن كريمر – وهما مستشرقان بالمعنى المتعارف عليه للاستشراق -؛ فإنّ الآخرين (باستثناء غلنر) هم من أساتذة دراسات الشرق الأوسط، أو العلوم السياسية. أمّا غلنر (الذي توفي قبل سنتين) فهو أنتروبولوجيّ مشهور له دراسات عن مصر والمغرب وطبعائع الإسلام والشرق الأوسط. ووجهة نظره أنّ الإسلام يملك جوهراً ثابتاً تتوالى عليه الدهور فيتغير المظهر دون الجوهر. ومعنى ذلك أنّ الأصولية أصيلة فيه؛ وفي ظروف الأزمات تعود للظهور والسواد باعتبارها الجزء الأصيل من ماهيته. بيد أنّ برنارد لويس هو الذي يتكرر ظهوره أكثر في وسائل الإعلام، كما أنّ آراءه أكثر وروداً في سائر المناسبات؛ بما في ذلك كتابات هنتغتون (قارن بالذات كتاب لويس الأخير الصادر عام 2001 بعنوان: What Went Wrong?). ومقاربته للإسلام بعكس مقاربة غلنر من الناحية المنهجية. فهو يتبع المنهج التاريخاني المعروف عن الاستشراق التقليدي. بيد أنه ينتهي لنفس النتيجة. فقد تكونت للإسلام عبر تاريخه آليات ميكانيزمات صارت معروفة. وقد سادت إبّان حقب المجد والقوة. ولذلك فإنّ المسلمين ما استطاعوا دخول الحداثة لأنها عنت بالنسبة لهم استتباعاً للغرب؛ ومن هنا حالة الخيبة والعداء الشديد، التي أحسن مصطفى كمال أتاتورك التخلص منها بالتخلص من الإسلام كلّه. ولذلك فإنّ الأصولية الإسلامية الحالية المعادية للغرب وللولايات المتحدة بالذات هي جزء من حالة الغضب والخيبة والاستعصاء على تقبّل قيم الحداثة والديمقراطية. وعلى برنارد لويس اعتمد هنتنغتون في رؤيته للإسلام، باعتباره المواجه الرئيسيّ اليوم للحضارة الغربية.

بعد هؤلاء الثلاثة يأتي السبعة الآخرون الذين ذكرتهم. وأولئك يتراوحون في تعليل الخصومة العربية والإسلامية مع أميركا بين لويس وغلنر، ويزاوجون بينهما أحياناً في التعليل. ولهؤلاء جميعاً وغيرهم كثير، تاريخ مع دراسة العرب والمسلمين قبل 11 أيلول/سبتمبر (أنظر مثلاً دراسات وانسبورو وكوك وكرون ونيوبي – وبايبس وسافاير، عن القرآن والرسول والإسلام الأول، والسياسات العربية المعادية لإسرائيل)؛ لكنهم صاروا مراجع معتمدة بعدها. ولا يعني هذا أنه ليس هناك آخرون ممن يحاولون تعديل الصورة بعض الشيء. والتعديليون أو المعتدلون هم الذين هاجمهم مارتن كريمر في كتيّب صدر مطلع العام 2002 بعنوان: "برج عاجيّ على رمال: فشل الدراسات الشرق أوسطية في أميركا". وقد ذكر في ذلك الكتيّب الإداني كلاً من ريتشارد بوليت (من جامعة كولومبيا) وأسبوزيتو (من جامعة جورجتاون)، وإدوارد سعيد (من كولومبيا أيضاً). بيد أنّ الخطّ الذي يتّبع الموضوعيون والمعتدلون أمثال بوليت وأسبوزيتو وكارين أرمسترونغ بعد 11 أيلول/سبتمر تعدّل بعض الشيء أيضاً. كانوا يقولون إنّ الإسلام دين عالميّ عظيم، وحضارة كبرى. أما الآن فيقولون إنّ الإسلام ممتاز؛ لكنّ المسلمين قسمان: معتدلون ومتطرفون. وقد اختطف المتطرفون الإسلام، وعلى المعتدلين استعادته. وهذا الخطّ أو هذه الفكرة هي التي عبّر عنها المفكرون الأميركيون الستون في رسالتهم إلى المسلمين في 12 شباط/فبراير 2002 عندما دعوهم كأصدقاء لمشاركتهم في الحرب على المتطرفين المسلمين، إنقاذاً للإسلام، ولأنفسهم، وللقيم الحضارية والإنسانية.

 

ثانياً: الخطاب الإسلامي القديم والجديد

على مشارف النصف الثاني من القرن العشرين، كانت ثلاثة تيارات تشغل فضاء التفكير في البلاد العربية على الخصوص، بعد أن نضجت وتمايزت خلال العقود الخمسة الأولى من القرن المنقضي. تيار التقليد الإسلامي، إسلام المذاهب التاريخية، والطرق الصوفية، والتجربة العريقة والمتفاوتة مع الدول أو الدول السلطانية والوطنية. وتيار الإصلاح والتجديد الذي حمل مشروعاً للتغيير والتقدم باستلهام روح الإسلام، والتطلع للنموذج الغربي. وتيار الإصلاح والتجديد الذي حمل مشروعاً للتغيير والتقدم باستلهام روح الإسلام، والتطلع للنموذج الغربي. وتيار الإحياء الإسلامي الطهوري، الذي حكمته إشكالية حفظ الهوية وتطهيرها من خرافية التقاليد، ورجس الغرب. وعلى الرغم من اختلاف النموذج المرجعي، والأهداف بين الإصلاحيين والإحيائيين؛ فقد اشتركوا في الهجوم على التقليد الذي اعتبروه متخلفاً وأسطورياً وممالئاً للسلطات على أنواعها. ومع نشوب الحرب الباردة العربية – حسب تعبير مالكولم كير – على هامش الحرب الباردة بين الجبارين ازدادت راديكالية التنويريين والإحيائيين على حد سواء، فتصادم الفريقان على أرض التقليد الذي تضاءلت قدراته الثقافية وما وجدت نخبة غير السلطات ملجأ، في حين تحطّم الإصلاحيون لانفجار التنوير يساراً أو يميناً. وما بقي في الميدان، وفي عيون الجمهور وبعض أطراف الحرب الباردة غير الإحيائيين، الذين تعملقت في أدبياتهم الخصومات العقائدية والثقافية الصدامية، الجاذبة لفئات من الشباب من جهة، والمعينة على التوظيف والاستنصار والتحشيد من جانب آخر.

خاض الإحيائيون الإسلاميون الحرب الباردة بخلفية ثقافية تعتمد القطائع والولاء والبراء والخصوصيات المؤوّلة تأويلاً تنابذياً. وما بدا ضعف تلك الأطروحات آنذاك لأنّ الحرب الباردة كانت حامية وغلبت فيها قعقعة السلاح التي تتطلب روحاً نضالياً، وليس أفقاً ثقافياً أو سياسياً مفتوحاً. لكنّ الحرب كانت محسومة النتائج. فحلفاؤهم في الصراع الداخلي في بلدان الوطن العربي، كانوا أعداءهم في المجال العالمي، وفي الصراع الثقافي.

... وفاجأهم الغرب بعد انتهاء الحرب الباردة بالعداء السياسي والثقافي فترددوا بين القول بحوارية الإسلام أو الحضارة الإسلامية، ونضالية أو جهادية المسلمين. وما كان يمكن للحوار الحضاري أن يسود أياً يكن الرأي في صحة مفهومه؛ إذ إنّ الإحيائيين كانوا يملكون ميراثاً من العداء للغرب والتغريب والغزو الثقافي يمتد على مساحة أكثر من خمسين عاماً. ثم حسم الأميركيون عن حوارية الإسلام في مواجهة صدام الحضارات، ليقول الفريق الأكثر راديكالية من بينهم بالجبهة العالمية ضد اليهوج والصليبيين ثم بالفسطاطين.

 

ثالثاً: الأصول والنتائج

يقول الأنثروبولوجي الأميركي D. Redfield في كتابه World View الصادر عام 1972: إنّ الدارسين الأميركيين سواء أكانوا من المؤرخين أو من أساتذة العلوم السياسية يميلون لتعليل الظواهر تعليلاً ثقافياً. وهو يرجع ذلك إلى الأصول الدينية والإثنية والذهنية للرواد الأوائل، والارتباط البالغ التعقيد بالدولة الأميركية الأولى من جهة، أي التنظيم السياسي الفضفاض، وعلاقة الدولة وجماعاتها بالآخر أو الآخرين. فقد ظلّ التمايز ثقافياص حتى الحرب الأهلية. وعندما قويت الدولة الفيدرالية بعد تلك الحرب، حملت معها تلك الموروثات الثقافية باعتبارها رموزاً وثوابت في رؤيتها الاستراتيجية للخارج الصديق والعدوّ.

كتب ردفيلد دراسته هذه، في ظلّ حرب فيتنام. وقد تعرضت وقتها لانتقادات من عدة جهات. فكان هناك من قال إنّ مفتاح فهم علاقة الإمبراطوريات بالخارج هو الدولة نفسها، أي البنية السياسية، وليس الثقافة؛ في عصور ما قبل عصر القوميات. وهي تميل إلى استلحاق الخارج أو استيعابه، بينما تحوّلت الدولة في عصر القوميات إلى نابذ وطارد أو مهمّش وفي الداخل والخارج. وحسب وجهة النظر هذه؛ فإنّ الدولة القومية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية احتفظت ببعض السمات الإمبراطورية في مجال السعي لتوحيد السوق، والهيمنة السياسية؛ بينما اتخذت سمات قومية ذات طبيعة ثقافية إلى حد ما في مجالات الاندماج الداخلي، وأنماط العيش، والتفكير.

لكن، أياَ تكن صحة مقاربة ردفيلد أو معقولية توجهات نقّادها؛ فإنّ الذي يكمن قوله أنّ أطروحتي فوكوياما عن "نهاية التاريخ" وهنتنغتون عن "صراع الحضارات" أو صدامها، هما أطروحتان ذواتا تأصيل ثقافي؛ وإن تكن أهدافها سياسة واستراتيجية. بالنسبة لهما كانت الحرب الباردة تجربة هائلة الآثار. فانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة ما غيّر العالم وحسب؛ بل غيّر الولايات المتحدة والغرب أيضاً. فوكوياما ذو الأصول الأسيوية، رأى أنّ انتهاء الحرب الباردة، يعني اتجاهاً غلاّباً للتوحّد على المستوى العالمي، وفي ظلّ القيم اللبيبرالية ذات النزعة الإنسانية الشاسعة. أمّا صمويل هنتغتون، اليمينيّ الوسبي، فقد رأى في الصراع مع الاتحاد السوفياتي، صراعاً داخل الثقافة الغربية بمعنىً من المعاني؛ ولذلك اتخذ سمات سياسية واقتصادية وأيديولوجية وعسكرية. أمّا الآن؛ وقد انتهى الصراع الغربي/الغربي؛ فإنّ النزاعات تعود لطبيعتها الأصلية بما هي صراعات بين مجالات حضارية أو بين حضارات وثقافات. لكنه بعد هذه المقدمة الثقافوية عاد لاقتراح سياسات ثقافة غربية – وهنا رأى أنّ هناك تحديين ثقافيين استراتيجيين للغرب: المتحد الثقافي أو الحضاري البوذي/الكونفوشيوسي، والمتحد الثقافي الإسلامي. وقد رجّح إمكان التلاؤم أو المسالمة مع المتحد الأول، والتصارع أو الصدام مع الثاني؛ الذي رأى أنه يملك تخوفاً دموية.

وهنا هبّت العاصفة التي لم تهدأ بعد، لدى المسلمين، والعرب على الخصوص – والذين كانوا يخرجون لتوّهم من تحت رمال عاصفة الصحراء، ووطأة دماء أطفال الحجارة، ليدخلوا في مفاوضات مدريد، والحروب الأهلية وغير الأهلية في الجزائر وأفغانستان والبوسنة والشيشان وكوسوفو.

حلف الأطلسي الذي انتصر في الحرب الباردة، اعتبر يمينيوه الانتصار ثقافياً وحضارياً إضافة للمكاسب السياسية والاقتصادية.

والعرب المجرّدون من كلّ شيء رأوا أنّ عليهم خوض المعركة الفاصلة في الثقافة والدين بعد أن تجاوز العدوان عليهم كلّ حد. كانت الهجمة في الحقيقة عسكرية وسياسية واقتصادية، لكنهم اندفعوا للردّ ثقافياً للعجز في المجالات الأخرى، ولأنهم اعتبروا أنهم أقوى هنا منهم هناك وهنالك؛ بالإضافة إلى أنّ المساس بالإسلام كان مساساً بالرموز، بما في ذلك من استثارة للحساسيات.

 

رابعاً: أي أفق؟

بعد الحادي عشر من سبتمبر ازدادت إذن المقاربات السلبية للعرب والإسلام من جانب النخب الثقافية والسياسية الأميركية؛ ومن منطلقات ثقافية. واستخدم الاستشراق التاريخاني والأنثروبولوجي، واللذان سادا في العقوج الثلاثة الأخيرة، بكثافة. والأسماء والأطروحات ليست جديدة؛ بيد أنّ الجديد فيها ثلاثة أمور: استخدام السياسيين والاستراتيجيين للاستشراق الجديد هذا كما فعل هنتغتون من قبل – وشيوع الأطروحات الأصالية في وسائل الإعلام – وتبني بعض تلك الأفكار من جانب الإدارة الأميركية في خطابها أو خطاباتها للعرب والمسلمين.

والواقع أنّ الوقائع الجديدة للخطاب والممارسة كما بدت في الموقف الأميركي من الهجمة الإسرائيلية الأخيرة، لم تشغل السياسيين والمثقفين العرب وحسب؛ بل شغلت مثقفين ومتخصصين أوروبيين أيضاً. ففي ندوة بالمعهد الألماني للأبحاث الشرقية ببيروت، منتصف شهر آذار/مارس 2002، شارك فيها رؤساء معاهد بحثية غربية في البلاد العربية طرح السؤال التالي: كيف يكمن للباحثين الغربيين، وللمؤسّسات العلمية الغربية، الإسهام في حوار الثقافات، أو في التواصل بين الغرب والإسلام، وإحلال نوع من الهدوء وإعادة النظر بدلاً من الصراع؟ وتباينت وجهات النظر في جدوى السؤال، ثم في ملاءمته. والواقع أنّ سؤال الحوار هو مثل سؤال الصراع بين الثقافات والحضارات. فالثقافات لا تتحاور ولا تتصارع؛ وإنما يتصارع الأفراد أو يتحاورون، وتتصارع الدول أو تتواصل. إنّ الثقافات ليست عناصر فاعلة في الأحداث، وإنما تحضر وتؤثّر وتتأثّر في المديات الطويلة. نستطيع أن ندرس العلاقات بين الحضارات الصينية والأوروبية والإسلامية في العصور الوسطى مثلاً فنصل إلى ترجيح طابع لها خلال حقبة معينة؛ أمّا أن نبحث في هذا الحدث أو ذاك عن العنصر الثقافي؛ فيبدو أمراً عسيراً أو مستعصياً. فالمشكلات بيننا وبين الولايات المتحدة مثلاً هي مشكلات سياسية واقتصادية واستراتيجية، وليست مشكلات ثقافية أو دينية. وأسامة بن لادن نفسه الذي تحدّث عن الجبهة العالمية، وعن الفسطاطين للإيمان والكفر؛ عاد فذكر سببين لهجومه على الولايات المتحدة، كلاهما سياسي: العدوان على الشعب الفلسطيني، وعدم جدوى اللجوء للمؤسسات الدولية.

وإذا كان هنتنغتون، المنتمي إلى اليمين الجديد الصراعي، يتحدّث عن صدام حضاري، استناداً إلى كتابات برنارد لويس وكريمر وغيرهما عن الإسلام؛ فإنّ هناك أميركيين كثيرين لا يرون الرأي نفسه. أما نحن فإننا لا نستطيع القول بالصراع أو بالإنفصال أو بالتجدد الذاتي اليوم؛ ذلك أنّ الثقافة الغربية هي ثقافة العالم المعاصر، والمشكلة معها مشكلة مع العالم والعصر، وخروج من التاريخ ومن الحاضر. وهناك مشكلات كبيرة وكثيرة مع الأميركيين وغيرهم، لكنها مشكلات لا تحلّ إلاّ بالسياسة، ومن ضمن التحالفات والتوازنات والمشاركة الجدية. والقول إنها مشكلات ثقافية يعني أنها ليست قابلة للحلّ. كما يعني أنّ الثقافة الأقوى هي التي تسود وستظلّ سائدة.

هناك من يقول إنه إذا كانت التعليلات الثقافية والخطابات الثقافية تعني وجود أزمة في الوعي أو في الواقع أو فيهما معاً؛ فأين هي الأزمة في الولايات المتحدة التي أفضت إلى هذا الفهم الثقافوي للعلاقة بالعالم، وبالإسلام بالذات؟ وإذا سلّمنا بأنّ هناك أزمة في الواقع والوعي في مجالنا الثقافي أفضت إلى هذه العقائدية السائدة؛ فهل يمكن مقارنتها بالتأزم الأميركي المدّعى؟ وما هي سبل الخروج؟

لا مجال للمقارنة فعلاً بين تأزم علته انتصارية ثائرة لضربة نزلت بها، ولعدم قدرتها على الاستمرار في السيطرة على العالم إلاّ بالقوة المجرّدة، وليس بالسياسة وبالمشرع المتقدم. بيد أنّ ذلك يحمّلنا مسؤولية مضاعفة ما دام المخرج الوحيد الممكن إنما هو في التواصل مع هذا العالم، ومحاولة المشاركة فيه. هكذا يؤول الأمر إلى أنّ الأزمة أزمتنا نحن، لكن لا حلّ لها إلاّ من ضمن السياق العالمي. فالأمر الأول لهذه الجهة أنّ المشكلات التي نعاني منها مع النظام العالمي ليست خاصة بنا أو بمجالنا الحضاري؛ بل إنّ العالم كلّه معنيّ وإن بدرجات متفاوت بوقائع الانتصارية الأميركية ونتائجها على المستوى العالمي. فنحن لا نعاني وحدنا من سطوة الولايات المتحدة بالبلدان وبالمؤسسات الدولية. ولذا لا أرى أساساً لفكرة المؤامرة علينا، ولا لفكرة انفرادنا أو تفردنا في هذا العالم. وإذا تطورت لدينا الوسائل، كما كان عليه الأمر في الخمسينات والستينات من القرن العشرين؛ فيمكن أن تكون هناك تحالفات لحفظ المصالح المشتركة مع بلدان العالم الإسلامي وخارج العالم الإسلامي. والأمر الثاني ضرورة البقاء على أرضية الشرعية الدولية ليس بسبب العجز عن سلوك سبيل أخرى وحسب؛ بل ولأنّ هذا البقاء ضمن القيم الإنسانية الكبرى يحفظ علينا إنسانيتنا، ويمكّننا من التأكيد على المشتركات وعلى وجود معيارية معيّنة لا يستطيع أحد منازعتنا بشأنها. وإذا كانت القوة الأعظم لا تأبه لهذه المعايير الآن، فإنّ هناك آخرين يأبهون. كما أننا لن تنتهي اليوم والمستقبل أمامنا. فلا صالح لنا في مقولة: نحن أو الآخرون، وإلاّ تصرفنا تصرّف الأقليات اليائسة والانتحارية، ولا يستطيع ذلك من يرون لأنفسهم وأمتهم مستقبلاً في هذا العالم ومعه. والأمر الثالث أنّ النظام العالمي حتى مع القطب الأوحد ليس مقفلاً، بدليل قدرة شعوب شرق آسيا على المشاركة في النظام الاقتصادي العالمي بقوة وخلال ما لا يزيد على الثلاثة عقود. والقدرة على المشاركة هي التي أرغمت الأميركيين على الحديث عن الإنسان الأسيوي، والصيغة الأسيوية للنهوض والتقدم؛ وهذا وإن يكن النظام العالميّ للهيمنة مختلف عن العولمة والاقتصاد العالمي؛ كما هو معروف.

فالعمالقة في الإقتصاد مثل اليابان وألمانيا وغيرهما ما يزالون صغاراً في النظام العالمي الذي تهيمن الولايات المتحدة عليه. والأمر الرابع الإصرار على التغيير والإصلاح على هدْي التجارب العالمية في بناء الدول، وإدارة الصراع الإجتماعي والسياسي. فالظاهرة الإسلامية ذات الهوامش المتشدّدة، هي في أحد وجوهها، تعبير عن عجز الدولة الوطنية العربية عن الاستيعاب والتلاؤم، وخضوعها لأولويات في السياسة والاقتصاد لا تنمّ عن وجود مشروع سياسي وثقافي عامّ. والأمر الخامس والأخير أنّ علينا واجباً نحن العاملين في المجال الثقافي لجهة استيعاب متغيرات العالم وتمثّلها وبلورتها في أطروحات وفي الحدّ الأدنى في أسئلة ملائمة للنقاش والمعالجة. بيد أنّ الجانب المهمّ الآخر في عملنا يتّصل بالقراءة الدقيقة والصحيحة لأزمتنا الدينية والثقافية: ماذا حدث للإجماعات، ووجوه التماسك؟ وأين الأكثرية الآن؟ بل أن سلطة أو سلطات المراجعة والمرجعية؟ ثم أين يمكن البدء لاستعادة الروح الأكثري المنفتتح؟ هل هو في النصاب السياسي المفقود؟ أم هو في نصاب الجماعة التي عرفها اجتماعنا الكلاسيكي؟

كان المفكر العربي المعروف قسطنطين زريق يقول: مهمّ أن نؤمّن بأنّ لنا حقاً أو حقوقاً؛ لكنه مهمّ أيضاً العمل على استحقاق هذا الحقّ أو تلك الحقوق. لقد كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ضربة كبرى لنا أمام العالم، وأمام أنفسنا. وقد حرّكت صوراً نمطية كثيرة، كما حرّكت لدينا أيضاً ردود فعل نمطية إذا صحّ التعبير. بيد أنّ التغيير ممكن ومتاح رغم الحيرة والتردد والأسى وعدم وضوح الطريق:

فيا دارَها بالخَيف إنّ مزارَها    قريبٌ، ولكنْ دون ذلك أهوالُ

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=73#.V0iWdLgrLIU

الأكثر مشاركة في الفيس بوك