مشاهد التغيير ومناهجه في الفكر العربي
الدكتور رضوان السيد
I
اخترت أربعة مشاهد أو مواجهات ثقافية عربية جرت ثلاثةٌ منها في مصر على مدى القرن العشرين، لبلورة الأُطروحة التي ذهبْتُ إليها حول الطبيعة العقدية لهذا الفكر، فكر الذاتية والهوية، وعلاقة وعي الهوية برؤية العالم، والإمكانيات الأخرى التي تفتّح عليها المشهد في تسعينات القرن العشرين؛ لجهة ما يتعلق بالتغيير ومناهجه وآلياته.
المواجهة الأولى: بين فرح أنطون ومحمد عبده في مطلع القرن.
والمواجهة الثانية: بين رشدي صالح ومحمد البهي أواخر الخمسينات.
والمواجهة الثالثة: بين سيّد قطب وشيوخ الإخوان المسلمين المصريين في الستينات والسبعينات.
والمواجهة الرابعة: بين الإحيائيين الإسلاميين القائلين بإسلامية المعرفة، والليبراليين الجدد الذين يعتبرون الثقافة الغربية نهاية المطاف.
كانت الإشكاليةُ في المواجهة الأولى مسألة التقدم، وما هي السبيل الفُضلى لتحقيقه؟ فقد كان فرح أنطون اللبناني المتمصّر يرى متأثراً في ذلك بالمسار الفرنسي- وبإرنست رينان على الخصوص- أنَّ السبيل الفضلى لتحقيق التقدم تتمثل في فصل "السلطة المدنية" عن "السلطة الدينية"؛ ذلك أنه "لا مدنية حقيقةً ولا تساهُلَ ولا عدلَ ولا مساواة ولا أمنَ ولا أُلفةَ ولا حريةَ ولا علمَ ولا فلسفةَ ولا تقدمَ في الداخل إلاّ بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. ولا سلامة للدول ولا عزّ ولا تقدم في الخارج إلاّ بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية". فيردُّ عليه محمد عبده بأنّ هذا الأمر غير ممكنٍ في كلِّ الأديان، وفي الإسلام على الخصوص. ثم يتجه لعرض صورةٍ مُشْرِقةٍ عن علاقة الدين بالدولة في التاريخ الإسلامي، وصورة أخرى قاتمة عن تلك العلاقة في التاريخ المسيحي الوسيط؛ ليصلَ في النهاية إلى أنه لا ضرورةَ لـفصل الدين عن الدولة في الإسلام من أجل التقدم، في حين كان ذلك ضرورياً في أوروبا للخصومة بين الكنيسة والعلم، والكنيسة والمُلْك في العصور الوسطى والحديثة. ولا يقـف فرح أنطون مكتوف الأيدي أمـام هـذا الحِجـاج، فيورد أمثلةً للاضـطهاد الديني في التاريخ الإسلامي (أبرزُها مَثَلُ ابن رشد)، ليؤكد في النهاية أنه ليس ضدّ أيِّ دين؛ لكنه ضدّ أن تسطو المؤسساتُ الدينية على أمور الشأن العامّ - لما في ذلك من إضرارٍ بالمواطنين وبخاصةٍ في المجتمعات المتعدّدة الأديان. فالحكومة الديـنية - كما يقول - سوف تنحاز إلى أهل دينها، بينما الحكومةُ المدنيةُ تنظر إلى الجميع نظرةً واحدة! وهنا يحشُرُ محمد عبده فرح أنطـون في زاوية المسـيحي المعتـدي على الإسلام فيـجادله في أنَّ أُصـول المسيحية (وليس الكنيسة فحسْب) مُعادية للعلم وللعقل وللتقدم - فيجيبه فرح أنطون بما معناه إنه لا يريد الدخول في نقاشٍ دينيٍّ، بل إنه يحتكم إلى العقل في الأمر المدني، ويترك للبشر الأفراد أن يتديَّنوا بالدين الذي يشاءون(1). وبعكس ما يبـدو لأول وهلة؛ فإنّ الذي حوصر في النهاية محمد عبده وليس فرح أنطون. ذلك أنَّ الواقع أنه كما لم تكن مرجعية فرح أنطون مسيحيةً؛ فإنّ مرجعيةَ محمد عبده لم تكن - في مسألة التقدم بالذات - إسلامية. جُلُّ ما كان عبده يقصده أنّ المسلمين يمكنهم أن يتقدموا بالمقاييس وبالأنماط الأوروبية، دون أن يقف الإسلامُ عقبةً في سبيل ذلك. فالمثال الأوروبي القائم في نظر الرجلين على العقل والعلم مرجعيةٌ مشتركةٌ؛ لكنّ عبده لا يرى احتذاءه بحذافيره، وبخاصةٍ ما اتّصل منه بمُصارعة الدين. لكنه عندما اضطُرَّ للتفصيل مَيَّزَ بين المـسيحية والإسلام فسوَّغَ عداءَ العلمانيين الأوروبيين للكنيسة بل وللمسيحية، مدافعاً عن إمكانية تلاؤم الإسلام (بشواهد تاريخية ونصّية) مع العلم والتقدم والمدنية.
وما حُسِمَ النقاشُ لصالح واحدٍ من المجادلَين. ليس لأنَّ الحسمَ غير ممكنٍ في نقاشٍ من هذا النوع وحسْب؛ بل ولأنَّ الصُوَر التاريخية والنصوص والوقائع؛ تخضع كَلٌّ منها لقوانين ومناهج بحثٍ لا تتطابق. فالصورة التي كانت سائدةً يومَها عن العصور الوسطى الأوروبية، التي كانت الكنيسةُ مسيطرةً فيها، لا تقف في وجه الصورة المُشرقة للعصور الوسطى الإسلامية. لكنْ من ناحيةٍ ثانيةٍ فإنّ الحاضر الأوروبي المتقدم والفاصل للدين عن الدولة شاهدٌ لا يمكنُ دفعُهُ بالاستشهاد بنصوصٍ إسلاميةٍ في الحرية والتقدم.
بدأ النقاشُ إذن حول التقدم ومستلزماته، والتغيير وآلياته. وانتهى افتراقاً في قضايا دور الدين في دنيا الواقع، وعلائقه بالدولة والسلطة السياسية. وهي إشكاليةٌ ما تزالُ عالقةً في الفكر والواقع العربي على مشارف القرن الواحد والعشرين.
أما المُواجهةُ الثانية: فقد كانت بين رشدي صالح الذي أصدر عام 1957م روايةً تأويليةً عن ابن خلدون عنوانها: "رجلٌ في القاهرة "، ومحمد البهي الذي أصدر عام 1957م, أيضاً كتاباً ضخماً عنوانه: "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي". وقد خصّص في كتابه هذا فصلاً طويلاً عنوانه: "الماركسية في التجديد في الفكر الإسلامي " للردّ على رشدي صالح، ومؤلفَين آخرَين اعتبرهم ماركسيين مثله هما خالد محمد خالد (من هنا نبدأ)، ومصطفى محمود (الله والإنسان). محاولة رشدي صالح في فهم ابن خلدون محاولةٌ ماركسيةٌ فعلاً، تحتدي طـرائق جورج برنارد شو في شرح الاشتراكية وتبسيطها لأنصاف المتعلمين. والجديد فيها -فضلاً عن صيغتهـا الروائية الجذَّابة- استلهام شخصية تراثية مشهورة من أجل الدعوة لقيمٍ وتحليلاتٍ وممارسات مُعاصرة. أمّا محمد البهي (الذي كان وقتها مديراً للثقافة بالأزهر، ثم صار مديراً لجامعة الأزهر، فوزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر) فأكثر ما أزعجه فيما قال: استخـدام ابن خلـدون من أجـل الدعاية للـشيوعية(2). فالتجديد أمر مشروعٌ، والاستلهامُ للتراثيات مُفيدٌ للناشئة، لكنّ حدود التجديد هي حدودُ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده لا أكثر ولا أقلّ. بيد أنه عندما يمضي مُجادلاً رشدي صالح ورفاقه المتمركسين من وجهة نظره، يكشف عن سرّ انزعاجه الحقيقي: الصراع في الثقافة المصرية صراعٌ على الحاضر السياسي، والهوية الثقافية والسياسية لمصر بعد الثورة، والتي لم تكن قد تحددت بعد. وهو مثل محمد عـبده من قبل ضدّ الصليـبية، ومثل شيخـه المراغي ضد الشيوعية، فاك غربـان مرفـوضـان: الغرب الماضـي (الصليبي)، والغرب الماركسي، ويبقى الأمر مفتوحاً فيما يتعلق بالغرب الثالث (الثاني في الحقيقة؛ لأنّ الغرب الأول الذي يهاجمه باسم الاستـشراق والصليبـية هو غربٌ متصوَّرٌ له علاقةٌ بتحديد الهوية أكثر مما له علاقةٌ بالواقع). يقرر رشدي صالح على لسان ابن خلدون حتمية التطور، وحتمية الصراع الطبقي، وحتمية انتصار المسحوقين. فيجيبه محمد البهي بحتمية انتصار الإسلام على الشيوعية وعلى الصليبية. إنه صراعٌ على السلطة، أو أنه دعوةٌ من جانب مثقفين في جبهتين متقابلتين لثورة يوليو لاعتناق إحدى وجـهتي النـظر. والطريف أنَّ مرجعية رشدي صالح الظاهرة إسلامية تراثية، بينما مرجعية محمد البهي إسلامية حديثة.
في حالة محمد عبده وفرح أنطون كانت الإشكالية ضخمة وموجعة، لكنّ التلاقي علـى قواسم مشتركة ظلَّ ممكناً. ففرح أنطون الذي هاجر إلى أمريكا عام 1906م، ما لبث أن عاد إلى مصر عام 1909م تحت تأثير حَدَث الدستور العثماني عام 1908م. فكما كانت هجرتُهُ مثقلةً بالرموز، كانت عودتُهُ - أملاً بالحداثة العثمانية - رمزيةً أيضاً. أمّا مواجهة محمد البهي مع رشدي صالح فهي مواجهةٌ بين مثقفين على طرفي نقيض، ولا إمكان للقاء بينهما على تسوية. وهي تجري على خلفية الحرب الباردة التي نشبت بين الجبارين أواخر الأربعينات، والتي قسّمت العالم حتى أواسط الثمانينات. وقد حاول ثوارٌ كبارٌ في آسيا وإفريقيا الخروج من إرغامات الانحياز لأحد الطرفين بمؤتمر باندونغ وجبهة عدم الانحياز؛ لكنّ رشدي صالح ومحمد البهي، كلٌّ على طريقته، يرفض عدم الانحياز، ويستصرخُ سلطات ثورة يوليو أن تنضمّ لأحد الطرفين المتصارعين في السياسة كما في الثقافة. فالحتميات الثقافية هنا حتمياتٌ سياسية، بينما كان من الممكن أيام محمد عبده وفرح أنطون أن تكون لك خياراتك الثقافية دون أن تكون مع السلطة أو ضدّها.
ويأتي المشهد الثالث ليُفْصِحَ عن الخيارات التي ما كانت قد تحددت أثناء الخمسينات. إنه كتاب سيد قطب: (معالم في الطريق) الذي كتبه في السجن، ونظّر فيه للـحاكمية الإلهية، في مواجهة حاكمية الجاهلية والطاغوت. كان سيد قطب يخرج من السجن في النصف الثاني من العام 1964م ليعود إليه بعد سبعة أشهر، ثم ليُعدم عام 1966م. وكان محمـد البهـي يُعزَلُ من الوزارة ويُوضَعُ في الإقامة الجبرية، بينما كان رشدي صالح وزملاؤه يخرجون من السجون ليتولَّوا المؤسسات الصحفية والثقافية، وليشاركوا في تحديد سياسات وخيارات مصر الناصرية. محمد البهي موظف الدولة القديم وضع الغرب الليبرالي، في مواجهة الشرق الشيوعي. أمّا إسلاميو الإخوان المسلمين فكانت المسألة لديهم أكثر تعقيداً. فطوال الثلاثين عاماً الماضية انصبّ اهتمام مثقَّفيهم على نقد مادية الغرب وصليبيته وتآمره على الإسلام والمسلمين. وما اقتصر الأمر على نقد السياسات، بل والثقافة والحضارة أيضاً. لذلك كان الأقرب لتصور فكر الهوية والإحيائية هذا تنصيبَ نموذجٍ ثالثٍ في مواجهة الشيوعية والرأسمالية معاً: إنه النظام الإسلامي، نظام حاكمية الله في الأرض؛ الذي لم تدنِّسْهُ أوضارُ الشرق أو الغرب. فإذا كانت إشكالية مطلع القرن هي إشكالية كيف نتقدم، وإذا كانت إشكالية الأربعينات والخمسينات: رأسمالية أو اشتراكية؛ فإنَّ إشكالية الستينات والسبعينات تتحدد بالسؤال: كيف يمكن أن تبقى مسلماً؟! وعلى ذلك يجيب سيد قطب: لا يمكن أن تبقى مسلماً بدون الدولة أو النظام السياسي الذي يحكم بما أنزل الله! فيجيب شيوخ الإخوان (في المخطوط الذي تدول داخل السجون ثم طُبع عام 1977م بعنوان: دعاة لا قضاة) بأنَّ المسلم يستطيع ممارسة دينه دونما الحاجة للدولة كما في الصلاة والزكاة وغيرهما. لكنه يستطيع مقاومة تلك الدولة إن حالت بينه وبين أداء دينه على الوجه المُرضي. ولو كانت الدولة الإسلامية من ضرورات الدين لزال الدين يوم زالت الخلافة عام 1924م(3).
ولم يعتبر الشيخ يوسف القرضاوي هذه الإجابة كافيةً آنذاك؛ ولذلك بدأ عام 1974م إصدارَ سلسلته المعروفة بحتمية الحلّ الإسلامي. وهي حتميةٌ تنطلق من أنّ الإسلام أصلح للإنسان من سائر الوجوه، وأنَّ الله تكفّل بحفظه وازدهاره حتى يعمّ العالم(4).
وإذا كان الشيخ القرضاوي يلتمس للحتمية شواهد في النصـوص، وفي "حركة الواقع"؛ فإنّ الذي أوصله إليها في الحقيقة أفكار الاشتراكيين حول الحتمية التاريخية لانتصار الاشتراكية. فقد رأى أنه ما دامت الشيوعية حتمية الحدوث رغم أنها مذهبٌ إنساني؛ فإنّ الإسلام أَولى أن يكون انتصاره حتمياً.
وهكذا أطللنا على السبعينات وهناك حتميتان تسودان فكرياً: الحتمية الإسلامية، والحتمية الماركسية. أما الحتمية السياسية المتصلة بالقومية والوحدة، فقد تراجعت من أفق المشروع إلى أفق الأفكار، وبدا أنّ لا أحدَ يهتمُّ لهذا التراجع.
أما المشهد الرابع: والذي اتخذ من "إسلامية المعرفة" عنواناً له، فيحدُثُ ويسودُ في الثمانينات من القرن العشرين. فقد عقد المعهد العالمي للفكر الإسلامي المؤتمر الأول للمسألة عام 1982م. وتصوره للموقف الراهن للأمة الإسلامية لا يختلف عن تصورات الندوي والمودودي وسيد قطب والقرضاوي: فمنذ القرن السابع عشر الميلادي، اجتيحت ديار الإسلام بالغزوين: الاستعماري العسكري، والثقافي الفكري.. حتى استطاع هذا الغزو الشامل أن يأخذ مواقعه في عقول الكثيرين من أبناء هذه الأمة، وفي قلوبهم وأفهامهم. وقد اتخذ ذلك الغزو لنفسه بناءً على تخطيطٍ دقيقٍ مسربين اثنين: التبديل الثقافي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، وقطْع صِلَة الأمة بتراثها الإسلامي وتحويله إلى مجرد تراث تاريخي يُفتخر به ويُتغنَّى بأمجاده. ولذلك رأى المؤتمر ذاك، والمعهد بناء مشروع "إسلامية المعرفة" من أجل إعادة تكوين ثقافة الأمة على هدْيٍ من الموروث الإسلامي الأصيل، استناداً إلى فهمٍ صحيحٍ وعميقٍ ومستفيض لتجربة الأمة التاريخية في شتى النواحي من جهة، وفهمٍ نقديٍ كاشفٍ للسياقات الثقافية والمعرفية والسياسية والاقتصادية التي أحاطت وتحيط بها في الأزمنة الحديثة. فالمطلوب إعادة بناء التصور، أو الرؤية، التي لا تكتفي بأن تحفظ على الأمة دينَها وثقافتَها الخاصّة؛ بل تطمح إضافةً لذلك أو تأسيساً عليه إلى الاندفاع في نهضةٍ جديدةٍ مغيِّرةٍ في حيـاة المسلمين، ومن ثم في مواقعهـم في العـالَم المعاصر(5).
على أنّ هذا المشهد، الذي يستلهم الفكر الإحيائي الإسلاميّ في التأصيل، لكنه يمضي قُدُماً خطواتٍ أبعد في البناء، أثار ويثير حفائظ الليبراليين الجدد، الذين خرجوا من الحتمية الماركسية، باتجاه الحتمية الليبرالية. فالأستاذ المعروف الدكتور عزيز العظمة يرى أنّ رؤية "أسلمة المعرفة" تحتوي خطابين نقيضين: خطاب سِجال، وخطاب إيجاب. الخطاب السجاليُّ ينقض المناهج العلمية العالمية باسم الخصوصية، وخطاب الإيجاب يفسر وقائع التاريخ والمجتمع في بوتقة تصورٍ إسلامي(6).
ولستُ هنا في معرض مناقشة صحة هذا التصور أو ذاك. بل إنني معنيٌّ هنا باستنطاق دلالات هذه الحتميات على رؤية العالم وبالتالي الذات، من أجل فهم الأزمة الفكرية التي راوحت مكانها بدرجاتٍ متفاوتةٍ طوالَ القرن العشرين، إلى أن انفجرت في التسعينات المنقضية تعبيراً عن العجز عن مواجهة إشكاليات العلاقة بعالم العصر، وعصر العالم. فإحيائيو "إسلامية المعرفة" يرون أنّ أمتنا تملك مشروعاً معرفياً وحضارياً طمست معالمه أحداثُ ووقائع الغزو الاستعماري والثقافي الجارية منذ القرن السابع عشر، والتي تفاقمت في العقود الأخيرة من القرن العشرين، حتى صارت مشكلةً داخليةً، أو أنها أوشكت أن تُلغي ذلك الداخل لصالح الاستعمار والاستلاب الثقافي. والأستاذ عزيز العظمة لا ينكر وقائع ذلك الغزو، لكنه يرى أنّ الحضارة الغربية صارت حضارةً عالمية، وأنّ الصبغة العالمية تطّردُ أيضاً في العلم والثقافة. فالبحث عن الخصوصيّةِ بالإحياء النصي أو التاريخي شكلٌ آخر من أشكال الوهم والاستلاب، لا يقتصر ضررُهُ على عدم إمكانه ولا معقوليته؛ بل إنه يـسُدُّ على المسلمين منافذ الدخـول إلى الحداثة والعالمية. فإذا كانت رؤية محمد عبده في مواجهة فرح أنطون رؤيةً تاريخية. ورؤية محمد البهي في مواجهة رشدي صالح واليساريين رؤيةً سياسية، ورؤية سيد قطب والقرضاوي رؤيةً نضالية؛ فإنّ رؤية إسلاميي المعرفة وعزيز العظمة معاً هي رؤيةٌ ثقافية، أو عقائدية، تنصبُّ على التصارُع على المجتمع والدولة في العالَم الإسلامي؛ وإن اتخذت من العالَم المعاصر كلِّه مسرحاً لها.
في مشروع "إسلامية المعرفة" ظلَّ التغيير ممكناً، وإن يكن صعباً؛ أمّا لدى الإحيائيين الإسلاميين والماركسيين، فقد سدَّت العقائدية الأفق، وما عاد التفكير في التغيير والتطوير ممكناً وسط صراع العقائديات. والحق أن الأمر يتعلقُ برؤية العالم في المشاهد الأربعة التي ذكرتُها.
II
ذكر الأنثروبولوجي المعروف مايكل كيرني (Michael Kearny) أنه لم يعد من الممكن دراسةُ التصورات حول الثقافات في تكويناتها، والعلاقات فيما بينها، إلاّ بالاستناد في ذلك -وبخاصةٍ في المسائل العلائقية- إلى بحوث وفرضيـات "رؤية العالم" أو رؤاه(7). وكـان هذا المصطلح: "رؤية العالم" (Weltanschauung) قد ظهر للمرة الأولى في كتابات الفيلسوف والمؤرخ الاجتماعي الألماني Wilhelm Dilthey(1911-1833م)(8) ثم شاع في أوساط الأنثروبولوجيين والمؤرخين منذ القرن التاسع عشر، بحيث صار اليوم إحدى المقولات الكلية التي تدخل في مضمون الثقافة. وقد صنّف السوسيولوجي الألماني الكبير ماكس فيبر (Max Weber) (1920-1864م) تلك المقولـة في مستويين، درس استناداً إليهما عدة ثقـافاتٍ تاريخية(9). يتعلق المستوى الأول بما يطلق عليه دلـتاي اسم "الصورة الكونية" التي تؤلّف الكتلة الأساسية للمعتقدات والمسلّمات الافتراضيّة عن العالم الحقيقي والواقعي. والتي يمكن في ضوئها الوصول إلى إجاباتٍ شافيةٍ أو مقبولة عن التساؤلات حول مغزى الكون والوجود، أو ما يُعرف بروح الحضارة. ويتعلق المستوى الثاني بالسياق التصوري الواعي والإرادوي، الذي تضعُ فيه الذاتُ الجمعيةُ نفسها ضمن تقسيمات العالَم الواقعية أو المركَّبة من النواحي الثقافية في الأصل؛ لكنْ أيضاً من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.
وأحسبُ هنا أننا معنيون بالمستوى الثاني، المتعلق بالتركيبات الحاضرة للعالم، والتي ألجاتنا للعودة إلى "الصورة الكونية" أو إلى المستوى الأول أو الأساسي. إذ استناداً إلى وعي الأفغاني وعبده والعظم ورضا وأرسلان لأحداث العالم وتركيباته وترتيباته، ومواقع المسلمين فيه، حدَّدوا إشكالية المسلمين بأنها التخلُّف في سائر المجالات، كما حدَّدوا الحلَّ وهو التقدم بالمفهوم الأوروبي آنذاك وفي حين كان التقدم ما يزالُ سهلاً في وعي رفاعة رافع الطهطاوي (-1883م) ويتعلق بالصناعة والزراعة والتجارة، صار لدى مدرسة محمد عبده فكرياً وتربوياً ومؤسَّسياً(10). على أنّ المفكرين الإسلاميين بدأوا يتخلَّونَ عن هذه الفكرة، أو عن هذا التحديد للإشكالية منذ الثلاثينات من القرن العشرين. وليس بالوسع القول إنّ هذا التخلي سببُه عجزُ المسلمين عن التقدم؛ بل الأَمْرُ أعقدُ من ذلك. فالتقدم عنـد النهضوي الإسـلامي يستندُ في مفهومه إلى مقاييس غربية. وبتلك المقاييس يمكن القولُ إنّ المسلمين كانوا يتقدمون. لكنْ مرةً أخرى؛ فإنه بالمقاييس الغربية أيضاً، ما كان ذلك كافياً ولا شافياً، بدليل عدم القدرة على الوصول إلى حلٍ لإشكالية المـسلمين مع الغـرب من ضمن التركيبات العالمية التي كانت سائدةً آنذاك، والتي تركت أثراً عميقاً في وعي المسلمين، وبالتالي في تكييفاتهم للأوضاع القائمة في العالَم الإسلامي. وقد بلغت تلك التأثيرات إحدى ذُراها في ضياع فلسطين من جهة، وعدم نجاح التجربة الباكستانية من جهةٍ ثانية. لقد كان بالوسع طبعاً ذكر أمثلةٍ للنجاح: ظهور الدولة الإندونيسية التي لم تتوحد جزرها طوال التاريخ، وتوحدت في الخمسينات. كما كان بالوسع ذكر الدول الإسلامية الكثيرة التي ظهرت واستقلّت. كما كان بالوسع ذكرُ حركة عدم الانحياز التي وضعت المسلمين في قلب حركةٍ عالميةٍ كبرى؛ والتي أثارت فعلاً اهتمام أبي الحسن الندوي لفترة، واهتمام مالك بن نبي حتى الستينات(11). لكنّ مساربَ الوعي لا تجري على نحوٍ واقعيٍ أو مفهومٍ دائماً. ولذلك اتخذ ذلك الوعي مساربَ أخرى أوصلت "رؤية العالَم" لدى المفـكرين الإسلاميين إلى حدود المستوى الأول، حدود الصورة الكونية: مغزى الوجود والكَون. فظهرت تصوراتُ الاستخلاف والتكليف والحاكمية، التي وضعت الوعي الإسلاميّ في سياق العقائدية، سياق الهوية والرسالة والخصوصية. فما عادت مسألةُ التغيير من أجل التقدم، كافيةً لمعالجة الإشكال، وصار مطلوباً "تحقيق الذات"، بالنضال المباشر، وبإعادة بناء التصور، وبتحديد خصائص ذلك التصور، سبيلاً للنضال من أجل إنجازه على أرض الواقع. فعدمُ الارتياح إلى الترتيبات والتركيبات السائدة في العالَم على كلّ المستويات، أنتج وعياً مزدوجاً: الانسياح باتجاه التاريخ من جهة، وعدم الاطمئنان في الوقت نفسه إلى الطهورية الكاملة لذاك التاريخ. ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه المفكرون الإسلاميون يرجعون إلى استكشافات النهضويين للتاريخ الإسلامي، كانوا في الوقت نفسه يبتعدون عن أفكارهم ومسلَّماتهم باعتبارها ذات مرجعيةٍ غربية. ومن هنا كان لجوؤهم بإلحاحٍ تأصيليٍ إلى النصّ نفسه باعتباره كامل الطهورية والعصمة. وبذلك اكتمل خطاب الحتميات لدى الإسلاميين في الوقت الذي كان يكتمل فيه ذلك الخطاب لدى القوميين والاشتراكيين في تناغمٍ غير واعٍ مع السائد عالمياً في الحرب الباردة. فالقوميون والاشتراكيون رغم وجودهم في السلطة في العالم الإسلامي أو على مقربةٍ منها، كانوا محبطين أيضاً لعدم الاطمئنان إلى متانة أوضاعهم في الترتيبات الواقعية للعالم. وهكذا فإنّ البنية الأساسية لوعي العقائديات والحتميات لدى سائر التيارات الفكرية والسياسية العربية والإسلامية كانت واحدة، وظلّت كذلك حتى مطالع التسعينات من القرن العشرين. أمّا الصراعات بينها فهي صراعاتٌ على ساحة السلطة أو السلطات، وعلى المواقع في دولهم ومجتمعاتهم -وليس نتيجة الاختلاف في رؤية العالَم. فقد كانوا جميعاً يناضلون من أجل الانفصال عن العالم بعد أن عجزوا عن الوصول إلى حالةٍ من الرضا عن مواقعهم فيه. لقد رأى الإحيائيون الإسلاميون دائماً (ربما باستثناء مالك بن نبي الذي كان يملك على أي حالٍ تصوراً استقلالياً آخر) أنّ الترتيبات العالمية، التي تبدو على درجةٍ كبيرةٍ من الانقسام، ليست منقسمةً في الحقيقة، بل هي موحَّدةٌ في مواجهتهم. أما القوميون واليساريون فقد وضعوا أنفسهم في صفّ أحد الانقسامين لفترةٍ قصيرة، ثم ما لبثوا أن تحولوا باتجاه النضال الشامل مثل الإسلاميين من أجل "تحقيق الذات" التي لم تجـد هويتها إلاّ في الانفصال (مركز دراسات الوحدة مثـلاً وتصوراته للمشروع الحضاري، وللتنمية المستقلة، في الثمانينات).
III
…وبدأ المشهد يتغير ويختلط في مطالع التسعينات: انهار الاتحاد الـسوفياتي، ونشبت حربُ الخليج الثانية، وازدادت علائق المسلمين بالعالم سوءًا بحيث ظهرت مقولة هنتنغتون حول صراع الحضارات، وحول التخوم الدموية للإسلام. ثم توالى ظهور المشروعات الاستراتيجية ذات الأبعاد الثقافية: حوار الحضارات، والنظام العالمي الجديد، وثقافة السلام، والتعددية الثقافية والسياسية… والعولمة(12). وقد اعتبر الإسلاميون والقوميون والبقية الباقية من اليسار ذلك كلَّه لغير صالحهم؛ وبخاصةٍ تلك الهيمنة الأميركية الطاغية في الاستراتيجيا والأمن والقيم السياسية والثقافية. لكنهم بعكس ما فعلوه حتى الثمانينات أقبلوا على مناقشة الأمور كلِّها، وإعادة النظر في المسلَّمات، وطرح الأسئلة على أنفسهم وعلى العالَم. لقد انفجرت الحتميات في أحضان كلّ التيارات، وبدأوا يغادرون ساحَ المعارك الإيديولوجية؛ ولذلك انعزلت القِلّةُ المتشدِّدة من دُعاة الحتميات القديمة أو الجديدة. وتضمُّ تلك القِلّةُ راديكاليي الليبراليين الجدد، وراديكاليي الإسلاميين. يُصرُّ الليبراليون الجدد على أدلجة ظواهر العولمة، كما يُصرُّ خصومُهُم من راديكاليي الإسلاميين على الطهورية والانفصال. وبين هذا الطرف وذاك تنفتح البيئات الفكريةُ والثقافيةُ والأدبيةُ على آفاقٍ شاسعةٍ من التغيير تشكِّلُ مخاضاً ضخماً حافلاً بشتّى الاحتمالات والإمكانيات. وشأن المخاض العربي والإسلامي في ذلك شأن كلّ مخاضٍ تختلطُ فيه وُجوهُ وخطراتُ وخطوات التقدم والتراجع والتردد والتشبُّث والقلق. لكن فيما عدا تلك القِلّة المطمئنّة من الراديكاليين؛ فإنّ الظاهر هو الإقبال الشديدُ على التغيير والتجدُّد والتجديد. فقد أقبل الإسلاميون منذ السبعينات على إصدار الدساتير والإعلانات الإسلاميّة لنظام الدولة، ولحقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل. وصـارت تلك الإعلاناتُ في التسعينات شأناً عربياً وإسلامياً عاماً(13). صحيحٌ أنّ تلك البيانات والإعلانات تحفلُ بالشروط والتحفظات والملاحظات على الإعلانات العالمية، لكنها من ضمن وعي الهوية السائد تُعتبرُ مُراجعةً نقديةً لوعي القطيعة السابق، كما أنها تطلُّعٌ غلاَّبٌ للمشاركة في قيم العالم والعصر، وفي جدول أعماله أو أولويات اهتماماته. وعاد الإسلاميون للحديث في "مقاصد الشريعة"(14) في حين كانوا قد غادروا هذا المبـحثَ أو هذا المنحى منذ عشرينات القرن العشرين. ويعـني ذلك طموحـاً لإعادة النظر في مكوّنات المستوى الأول من مُستويـي "رؤية العالم"، مستوى معنى الوجود والرسالة. صحيح أنّ الإسلاميين تحدثوا في الستينات من القرن العشرين عن الإسلام باعتباره البديل الديني والحضاري؛ لكنهم كانوا يريدون وقتها إعادةَ فرضه في عالَم الإسلام، وليس في العالَم. أما اليوم فإنّ الإسلاميين البارزين الذي يتحدثون عن "مقاصد الشريعة" إنما يريدون من وراء ذلك الدخول في منافسةٍ مشروعةٍ من ضمن القيم العالمية الكبرى. والإسلاميون الذين أزعجتهم صورة هنتنغتون السلبية عن الإسلام، وهي الصورة التي تغذّيها وسائل الإعلام العالمية كلَّ يوم، ما عادوا للتحصُّن وراء أطروحات الهوية المتعملقة، بل عالجوا -وإنْ بنقديـةٍ مشروعـةٍ على أي حال- قضايا حوار الحضارات والثقافات على قاعدة التقابس والتجاوُر والتعددية والنسْبية؛ آخذين حوارَ المسيحية والإسلام للمرة الأولى مأخذ الجِدّ والتفهم، باستثناءاتٍ قليلة. أما العاملون في إطار "إسلامية المعرفة" فإنهم يخرجون تدريجياً من الاشتراط على النفس والعالَم، معتبرين الإشكالية المعرفية إشكاليةً إنسانيةً ينبغي التفريقُ فيها بين الحيادية والموضوعية، وجاء منهم من وصل أخيرً إلى القول إنّ الموضوع هو موضوع رؤية العالم وليس موضوع الهوية(15).
هل يعني ذلك كلُّه تغييراً في رؤية العالَم لدى الإسلاميين؟
الإجابةُ على هذا السؤال الكبير تتطلَّبُ عدة أمور، الأمر الأول أنّ ما نشهدُهُ منذ عقدٍ من الزمان إنما هو مخاضٌ هائلٌ في مجالنا الثقافي، وفي العالَم. ولذلك فإنه لا يملكُ ملامحَ محدَّدةً أو نهائية، وربما لن يحدث ذلك في المدى المنظور؛ بل ربما ما كان ذلك مطلوباً. والأمر الثاني أنّ الرؤية السائدة للعالم لدى الإسلاميين كانت تتمحورُ حول الهوية، وتتّسم: بالقطيعة والقطعية والطهورية، وما عاد الأمران الأولان متحققَين؛ أما الأمر الثالث، وهو مطلبُ الطهورية؛ فما يزالُ ظاهراً، وإنْ لم يكن سائداً. والأمر الرابع الملحوظ هو الانزعاجُ القويُّ لدى الإسلاميين المعتدلين والمتطرفين، والقوميين، واليساريين، من الترتيبات على المستوى العالمي. وهي ترتيباتٌ تحولُ في وعي هؤلاء جميعاً دون الانفتاح المرغوب على عالمٍ تهيمنُ فيه وعليه قوىً غاشمة. وقد اتجهت"القاعدة" فعلاً للاصطدام بتلك القوة الغاشمة؛ لكنها كمن يلحس المبرد، إذا إنها تفقد لسانها كلما ازدادت إمعاناً(16).
إنّ الأمر الذي لا يمكنُ تجاهُلُه أنّ وعيَ الهوية ما يزالُ قوياً. وهو وعيٌ يؤدي مباشرةً إلى مشاعر وإحساسات الطهورية والتمايز والانفصال التي تقولُ بالغزو الثقافي وبالتجدد الذاتي. وهاتان مقالتان غير تواصليتين. كما أنهما تفرضان عقائديةً معينةً في مجال الفكر ومجال الثقافة نتيجةً لذلك الوعي. فليس في الثقافات ولا بينها غزوٌ أو استتباع. كما أنّ التجدد لا يمكن أن يكون ذاتياً, فالذات المتجددة هي الذاتُ المنفتحة التي تُصْنَعُ وتتشكل باستمرار في حواريةٍ مع الآخَر. والوعْيُ لا ينتظم ويتواصل ويتجدد نتيجة حواريةٍ داخليةٍ بين نصوصه ومقدّساته ورموزه وتاريخه، بل يتّسق وينتظم عندما يتجه الخارج المتنوع والمتكاثر لمحاورة ذلك الوعي المزوَّد بتلك العناصر، أي بالـثقافة. قـال ابن تيمية في كتابه: "الرد على المنطقيين" مناقضاً بذلك أرسطـو إنّ الحـاضر والموجود والعيني هو الجزئيُّ وليس الكلي(17). فليس صحيحاً ما قاله أرسطـو من أنّ الماهية سابقةٌ على الوجود. وليس صحيحاً استطراداً أنّ تعريف الشيء فرعٌ عن تصوره. وليس دقيقاً أنني أفكر فأكون ثم تكونُ أنت. بل إنني والآخر متحاذيان ومتحايثان يُنتجُ أحدُنا صِنوَه في الوقت نفـسه. وتكونُ المـفارقة عندما يتجه الآخرُ للتحقق بدونك فلا تكون.
إنّ هذا التّوقَ لتحقيق الذات من طريق التغيير، يحدُثُ في العالَم الواقعي، الذي تتشابكُ عناصرُهُ وتتكاثفُ وتتكاتَفُ، فيتأثرُ بها الوعي المباشرُ تأثراً مباشراً. ولذلك فإنّ صراعَ الاتصـال والانفصال لا يـدورُ في الثقافة بل يدورُ في الوعي. فالحديثُ عن ثقافة الهوية المتأزمة حديثٌ فيه الكثيرُ من التجاوُز، والأدقُّ الحديث عن وعي الهوية المتأزم، نتيجة الترتيبات غير الملائمة للعالَم الواقعي. وهكذا فإنّ الحلولَ لتلك التأزمات إنّما تُلتَمَسُ أيضاً في مجال الوعي بالواقع، وليس في مجال الثقافة التاريخية التي يجري اللجوءُ إليها كثيراً من أجل اجتراح الحلول.
قد لا تكفي كل ظواهر التغيير التي تحدثنا عنها للوصول إلى أنّ تبدلاً في "رؤية العالَم"، أي في عالم الثقافة، قد حدث. لكنّ الحتميات قد سقطت، ونحن نخرج من الأزمة، ونتجه للبحث عن إمكانياتٍ أخرى للتحقق والتحقيق. وأهمُّ ما يدعو للتفاؤل في هذا الصدد نزعةُ المراجعة الغلاّبة، ومساعي تجديد مشروع الدولة والمشروع السياسي، في العالمين العربي والإسلامي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قارن بمحمد عبده: الإسـلام والرد على منتقديه، القاهرة 1928م، والإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، نشرة الهلال 1960م. وانظر فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام، 1979م، ص202-206.
(2) رشدي صالح: رجلٌ, في القاهرة: ابن خلدون، سلسلة كتب للجميـع، رقم 115، عدد مايو، 1957. ومحمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، دار الفكر ببيروت. الطبعة الخامسة 1970م، ص387-400.
(3) سيد قطب: معـالم في الطريق، 1964م، وحسن الهضيبي: دعاةٌ لا قُضاة، 1977م. وقارن بأحمد الموصللي: الأصولية الإسلامية. دراسة في الخطاب الإيديولوجي والسياسي عند سيد قطب، بيروت 1993م، Mansour Moaddel and Kamram Talattof , Contemporary Debates in Islam.2000.
(4) يوسف القرضاوي: الحل الإسلامي، فريضةٌ وضرورة، 1974م. وقارن بكـتابي: سياسيات الإسلام المعاصر، بيروت 1997م، ص167-183.
(5) المعهد العالي للفكر الإسلامي: إسلامية المعرفة، المبادئ العامة، خطة العمل، الإنجازات. سلسلة إسلامية المعرفة (1)، الطبعة الثانية 1986م، ص11-19، ص23 وما بعدها.
(6) عزيـز العظمـة: أسلمـة المعرفـة، وجموح اللاعقلانيـة السياسية؛ في: قضايا فكرية. الأصوليات الإسلامية في عصرنا الراهن، الكتاب الثالث والرابع عشر، أكتوبر 1993م، ص407-414.
(7) Michael Kearney; World View, Chandler and Sharp, 1984.
(8) W.Dilthey; Gesammelte Schriften, Bd.III: Die Philosophie des Existenz, Berlin 1923.
(9) Max Weber, Sociology of Religion (1964); H. Gerth, R. Mills; From Max Weber: Essays in Sociology (1980).
(10) فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص95-184، ورضـوان السيد: سياسيات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص157-170.
(11) قارن بدراستي: مسألة الحضارة، والعلاقات بين الحضارات، في كتابات المثقفين العرب في الأزمنة الحديثة؛ في الصراع على الإسلام، 2004م، ص121-149..
(12) قارن بدراستي: الإسلاميون والعولمة؛ في: الدين والعولمـة والتعددية، منشورات جامعة البلمند، لبنان 2000م، ص85-106.
(13) قارن بدراستي: مسألة حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر؛ بمجلة الأبحاث، الجامعة الأميركية ببيروت، السنة السادسة والأربعون، 1998م، ص3-35.
(14) صدرت عن "مقاصد الشريعة" ثمانية كتب في الأعوام الأخيرة، بينها ثلاثة عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي. وانظر مراجعة بوتوري الصـادرة عن دار الطـليعة قبـل أشـهر. ومراجعتي عبـد المجيد تركي وصلاح الدين الجورشي، بالعددين الثامن والتاسع من مجلة الاجتهاد، 1990م.
(15) قارن مثلاً بكتاب قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، المعهد العالمي، 1996م، ونحو نظام معرفي إسلامي، 2000م. وانظر مجلة "إسلامية المعرفة"، العدد 40، السنة العاشرة، العدد 40، عام 2005م؛ فتحي ملكاوي، رؤية العالم، ص5-14.
(16) قارن بالفضل شلق: الوعي بالعالم، دار الكتاب العربي ببيروت 2000م ص11-57.
(17) ابن تيمية: الرد على المنطقيين، نشرة بومباي بالهند، 1949م وانظر عنه محمد حسني زيدان: منطق ابن تيمية ومنهجه الفكري، 1979م ص94-137، ووائل حلاق. Ibn Taymiyya Against the Greek Logicians, 1993.
المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=89#.Vy5LDlUrLIU