اقتصاد المعرفة يودّع آخر قطرة نفط
عندما وصف وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر، مواطنه يورغن هابرماس بـ "فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة"، كان يستبطن الدور الانعطافي الذي أداه هابرماس في نهضة المجتمع الألماني، وهزيمة هزيمته، وتحفيز وتيرة الإبداع والابتكار من أجل التجاوز والتخطي الذي أوصل ألمانيا، خلال عقود وجيزة، لتكون واحدة من أضخم الاقتصادات في العالم.
إنها قوة الأفكار، وسلطة العقل، وانفجارات الخيال، ومقاربة ضفاف المستحيل. ومن وحي ذلك يمكن قراءة الشغف الإماراتي بالتوجه إلى اقتصاد المعرفة، والتخلي، كما قال ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، عن "آخر قطرة نفط" والاستثمار في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار، واستدامة الموارد في قطاعات بديلة، رغم أن دولة الإمارات العربية المتحدة تُصنّف السابعة عالمياً من حيث احتياطاتها النفطية.
وفي تدشين عصر ما بعد النفط دلالات رمزية بعيدة الأثر؛ فمن خلالها تتهاوى الصور النمطية عن دول الخليج، والإمارات تحديداً، باعتبارها دول نفط استيقظت ذات زمان، فوجدت تحت أقدامها بحاراً من الثروة. الآن هذه البحار، التي مآلها النضوب، ستحتل عما قريب مرتبة متأخرة في سلّم الموارد، ومن يدرك هذه الحقيقة مبكراً، يقطف ثمار المستقبل ويسير مع تيار التاريخ في توليد الأفكارالمبدعة، وإنتاج الحلول المبتكرة، وحفز الخيال وتثويره.
الإمارات أعلنت التخفيض التدريجي في الاعتماد على النفط بالاقتصاد الوطني من نحو 70% خلال الأعوام الماضية، حتى وصلت إلى 30% فقط خلال عام 2014.
وتتطلع الإمارات، وفق رؤيتها 2021 إلى مساهمة اقتصاد المعرفة بنحو 5 % في ناتجها الإجمالي خلال السنوات المقبلة. وجرى أخيراً الإعلان عن سياسة عليا للدولة في مجال العلوم والابتكار والتكنولوجيا، تتضمن 100 مبادرة باستثمارات تصل إلى 300 بليون درهم (ما يزيد عن 81 بليون دولار).
وأفادت دراسة حديثة أعدّتها شركتا "مدار للأبحاث والتطوير" و"أورينت بلانيت"، أنّ الإمارات تصدّرت مؤشر اقتصاد المعرفة بين الدول العربية، فضلاً عن تقدم الإمارات للمركز التاسع عشر عالمياً في تقرير التنافسية العالمي (2013-2014) بين 148 اقتصاداً عالمياً، محافِظة، للعام الثامن على التوالي، على وجودها في مرحلة "الاقتصادات القائمة على الإبداع والابتكار" التي تعدّ أكثر مراحل تطور الاقتصادات العالمية، بناءً على منهجية المنتدى الاقتصادي العالمي، وهي الاقتصادات التي تمتلك مؤسسات قادرة على طرح منتجات سلعية وخدمية تستطيع المنافسة في الأسواق المحلية والإقليمية والدولية .
الاحتفال بوداع آخر قطرة نفط يضع الإمارات أمام تحدّ جديد يبدو أنها أعدت له العدّة مبكراً، من خلال التصوّرات التي تمّ إقرارها باتجاه مضاعفة الإنفاق على البحث والتطوير، كنسبة من الناتج القومي، إلى ثلاثة أضعاف بحلول عام 2021، وإحداث تحوّل حقيقي في الاقتصاد الوطني، وزيادة نسبة عامل المعرفة إلى 40%.
وسيجري، وَفقاً لرؤية التنوع والابتكار بالاقتصاد، زيادة الاهتمام بنمو قطاع تكنولوجيا المعلومات، والاهتمام بدعم نمو القطاعات الصناعية بمختلف أنواعها، لا سيما مشتقات النفط والبتروكيمياويات، علاوة على دعم نمو صناعة الطيران والسياحة.
وثمة، إلى ذلك، وعي عميق بتنمية مساهمة قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي، فضلاً عن إنشاء مراكز لحلول تخزين الطاقة، والتوسع في برامج أبحاث الطاقة الشمسية، وإطلاق برنامج وطني لتحلية المياه باستخدام تقنيات ذات كفاءة علمية متقدمة، وتعزيز استخدام الطاقة النووية السلمية، وبرامج بحثية وتطويرية وطنية في مجال "الروبوتات" والذكاء الاصطناعي والجينوم، والفضاء، ووضع أطر تشريعية جديدة لحماية الملكية الفكرية، وتشجيع تدفق العلماء والباحثين، وتسهيل دخول ونقل معدات البحث والتطوير المتقدمة، وبرامج للدراسات العليا والأبحاث الأساسية والتطبيقية، وتحفيز التعاون بين الجامعات والقطاع الخاص في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار.
ولأنّ الإنسان، الذي نظّر له هابرماس، هو مفجّر الابتكار وخالق الإبداع، فقد روعي إعداد كوادر بشرية قادرة على مواكبة التغيرات التنموية التي ستشهدها الإمارات، إذ اتفق على مضاعفة التركيز على مواد العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في سائر المراحل التعليمية، إضافة إلى إنشاء مراكز أبحاث في جامعات الدولة، ووضع الابتكار كمعيار أساسي في تقييم المدارس والجامعات الحكومية والخاصة.
الاستثمار في المستقبل، يعني هدم الأسوار، والتفكير الغوريّ العميق في آليات مراودة آخر الممكنات وأقصاها. وفي قلب هذه الرؤية جاءت دعوة حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم جامعات الإمارات إلى ترشيح 3 شباب و3 شابات من كل جامعة، ممن تخرجوا في آخر عامين، أو ممن هم في سنواتهم الأخيرة ليكونوا وزراء في الحكومة. وقال عبر "تويتر": "يمثل الشباب تحت سن 25 نحو نصف مجتمعاتنا العربية.. ومن المنطق أن يكون الاهتمام بهم وبقضاياهم يوازي هذه النسبة".
وبعد أيام من تلك الدعوة، جرى الإعلان عن استحداث وزارة دولة للسعادة. وقال الشيخ محمد بن راشد، كما أفادت وكالات الأنباء، إن الوزير الجديد سيقود سياسة "توفير الخير والرضا في المجتمع". وقال في قمة الحكومة العالمية التي أقيمت في دبي: "على الحكومات أن تكون مرنة، فنحن لا نحتاج إلى مزيد من الوزارات، وإنما لمزيد من الوزراء القادرين على التعامل مع التغيير".
وأعلن أيضاً، عن استحداث مجلس وطني إماراتي للشباب. وقال بن راشد إن "المجموعة المختارة من الشبان والشابات" ستقدم النصح للحكومة حيال شؤون الشباب، وتقودها وزيرة دولة لشؤون الشباب لا يتعدى سنها الاثنين وعشرين عاماً، حيث "إن طاقة الشباب ستغذي الحكومة في المستقبل".
ولا تأتي هذه التغيّرات الجوهرية في هيكيلية بناء العمل الحكومي، من فراغ، وإنما تنبع من رؤية، وتحركها دوافع عملياتيّة، وتسندها حجج ومبررات منطقية. وما هذه الرؤى والحجج والدوافع إلا ثمرة الفكر المستنير الذي يوظف القيم العقلانية في بناء الدولة، وتحديث المجتمع، وإحدث الانتقالات الكبرى.
"المعرفة قوة" قالها، الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون، الذي آمن إيماناً مطلقاً بالعلم وبقدرته على تحسين أحوال البشر، فجعل العلم أداة في يد الإنسان، تعينه على فهم الطبيعة وبالتالي السيطرة عليها. وأشار بيكون، كما أقر في مذكراته، بأنه كانت للإنسان سيادة على المخلوقات جميعاً، ثم أدى فساد العلم إلى فقدان هذه السيطرة، ومن هنا كانت غايته مساعدة الإنسان على استعادة سيطرته على العالم.
أراد بيكون أن يعلم الإنسان كيف ينظر إلى الطبيعة؛ فالأشياء تظهر لنا أولاً في الضباب وما نسميه في أغلب الأحيان مبادئ هو مجرد مخططات عملية تحجب عنا حقيقة الأشياء وعمقها. لهذا دعا رائد الفلسفة الجديدة القائمة على "الملاحظة والتجريب" إلى وجوب أن تكون للإنسان عقلية عملية جديدة، يكون سبيلها المنهج الاستقرائي الذي يكون الهدف منه ليس الحكمة أو القضايا النظرية بل الأعمال، والاستفادة من إدراك الحقائق والنظريات بالنهوض في حياة الإنسان.
فلسفة بيكون محاولة لكشف القيم الجديدة التي تتضمن الحضارة العلمية الحديثة في أول عهودها، واستخلاص المضمونات الفكرية لعصر الكشوف العلمية والجغرافية، والتعبير بصورة عقلية عن التغيير الذي تستلزمه النظرة الجديدة إلى الحياة.
المعرفة ينبغي أن تتجلى في أعمال، والعلم، في نظر بيكون، يتعين أن يكون قابلاً للتطبيق في الصناعة، وعلى الناس أن يرتبوا أمورهم، حيث يجعلون من تحسين ظروف الحياة وتغييرها واجباً مقدساً.
وإن كان بيكون يفترق من حيث التصورات عن هابرماس، فإنهما يشتركان في نقد الأدوار التقليدية للفلسفة، وكلاهما ثار على الفلسفة الأرسطية، وفلسفة السكون، واعتبار الفلسفة شأناً نخبوياً، وهو ما نجده لدى هابرماس على نحو دقيق، لذا كانت دعوته لربط الأفكار بالفعل التواصلي، من أجل دفع عجلة الحياة إلى الأمام، والتخلي عن الأفكار الفلسفية التي لا همّ لها سوى التحديق في المطلق.
ولئن لم يعثر المتأمل على خيط يلظم رؤى هابرماس، وبيكون، وسواهما بما يجري من تحولات باتجاه اقتصاد المعرفة، فإنّ في خلفية المشهد وعقله الباطني تكمن الأفكار، وتعلن عن نفسها في أعمال ومشاريع ومبادرات تأخذ على عاتقها تحسين الحياة، وحقنها بكل أسباب السعادة، وإعمار هذه الدنيا، التي كانت قبل زمن قصير صحراء بلقع لا يحيا فيها إلا الشوك والظمأ!