الإنسان وحقوقه لدى المسلمين والغربيين والمسؤوليات المشتركة

الدكتور رضوان السيد

 

1

  رأى الباحث المعروف الراحل جورج مقدسي، الأستاذ السابق للدراسات الإسلامية بجامعة بنسلفانيا أنّ التقليدي الإنساني والكلاسيكي (التعليمي) ظهرا في عالم الإسلام، ثم تسرباَ إلى الغرب من طريق إيطاليا والأندلس. لكنّ الفرق بين عالم الإسلام، والعالم الأوروبي أنّ العالَم الإسلاميَّ عرف الحركة الإنسانية أولاً ثم النظام التعليمي (السكولائي)، بينما عرفت أوروبا النظام التعليمي الكلاسيكي أولاً ثم الأنسنة(1).

إنّ المقصودَ من وراء هذا التقديم الذهاب إلى أنه ربما كانت مشكلاتنا الثقافية مع الغرب ناجمةً عن التشابُه الشديد في الأصل، وليس الاختلاف؛ بمعنى أنه ربما كنا نتزاحمُ على مساحةٍ واحدة.

وعلى أي حال؛ فإنّ مبحث (الإنسان) قديمٌ في الإسلام، الذي اعتبر كتابُهُ المنزَّل (الإنسان) مقولةً قائمةً بذاتها من الناحيتين الوجودية واللُّغَوية. وقد يَحيَّر فيها المعجميون واللغويون بحيث ما استطاعوا الاتفاق على جذرٍ لها. وراقب جورج مقدسي آثار ذلك لدى الفلاسفة والمفسِّرين. بيد أنّ الفقهاء كانوا هم الذين قادوا الأمر إلى نهاياته. فقد ذهب إمام الحرمين الجويني (-478هـ) إلى أنّ الشريعة إنما أُنزلت من أجل قوى خمس مصالح ضروريةٍ لبني البشر هي: النفس (حق الحياة)، والعقل، والدين، والنسْل، والمِلْك(2). وهذه الفقرة الموجزةُ تكررت لدى الغزالي (-505هـ) تلميذ الجويني، وجاءت لها مشابهاتٌ لدى عز الدين ابن عبد السلام (-665هـ)، وابن تيمية (-728هـ), وابن قيّم الجوزية (-751هـ)(3). إلى أن بلغت ذروة نُضجها لدى الشاطبي (-790هـ), الذي عقد عليها كتاباً ضخماً تحت اسم (الموافقات في أصول الشريعة). وقد رأى الشاطبي أنّ هذه الضروريات أو المقاصد تتدرج كلُّ واحدةٍ منها من حالات أو أصول الضرورة إلى الحاجيات والتحسينيات(4). وهذا يعني أنّ الحقوق الإنسانية الأصلية تتشقّقُ إلى فروعٍ أو فرعياتٍ كثيرة في شبكةٍ تتوسَّع بقدر توسُّع إنسانية الإنسان. ولذا كان لابد من الوصول إلى النتيجة المنطقية وهي اعتبارُ هذه الحقوق أو المقاصد أمراً إنسانياً عاماً، وليس خاصاًّ بالشريعة الإسلامية إدراكاً واعتباراً؛ فقال الشاطبي: (وقد قيل إنها مُراعاةٌ في كلّ ملّة)(5).

ولستُ هنا في معرض استعراض قواعد ونصوص استمرار هذه المنظومة لدى الأُصوليين والفقهاء في العصور المتأخّرة. لكنني أُلاحظُ مع رفاعة رافع الطهطاوي (-1883م) في كتابيه: المرشد الأمين، ومناهج الألباب، وقد بدأ بكتابتهما في خمسينات القرن التاسع عشر، أنه يلتقي عنده في مسألة (الإنسان) خطّان: الخطّ الفقهي العريق، والخطّ الذي أرستْه الثورة الفرنسية، كما عرفه من خلال الدستور الفرنسي الذي لخَّصه في (تلخيص الإبريز) مطلع الثلاثينات من القرن التاسع عشر. يذكر الطهطاوي في مجالى استلهام فكرة الدولة والمؤسسة والقوانين من العصور الإسلامية الوسيطة أنّ شرائع الإسلام عُنيت بصون النفس والعِرض والمال(6). ثم يطوّر الفكرة قُدُماً فيذهب إلى أنّ (الممالك) إنما أُسِّست (لحفظ حقوق الرعايا بالتسوية في الأحكام والحرية وصيانة النفس والمال والعرض على موجب أحكامٍ شرعية، وأُصولٍ مضبوطةٍ مرعية)(7).  وتقومُ مسألة الحقوق هذه على مبادئ فطرية لايتردد الطهطاوي في القول بها، وأهمُّ تلك المبادئ أو الأصول أصلان: العقل والحرية. فـ(الحرية منطبعةٌ في قلب الإنسان من أصل الفطرة). وهو يقسّمها إلى خمسة أقسام: حرية طبيعية وحرية سلوكية وحرية دينية وحرية مدنية وحرية سياسية(8). وهذه (الحريات) هي التي تضمن التوازُنَ والاستمرار والاستقرار للهيئة الاجتماعية. وقد كنتُ أظنُّ أنّ الطهطاوي ربما أخذ الجانب الإسلاميَّ من نظرته من المستصفى للغزالي (-505هـ/1111م) الذي كان قد طُبع أو أنه عرفه مخطوطاً. لكنْ من الممكن أن يكونَ قد عرف فكرة (المصالح الضرورية) من ابن القيّم أو بعض رسائل السياسة الشرعية.

أمّا خير الدين التونسي (-1888م) الوزير الأول بتونس، والصدر الأعظم بالقسطنطينية؛ فلا شكَّ أنه عرف نصوص المصالح والضرورات والمقاصد من رسالة (السياسة الشرعية) لمحمد بيرم الأول، والذي ربما ألّفها له، وطُبعتْ في مطبعة الدولة التونسية عام (1884م)(9). وفي السنة نفسِها أو بعد ذلك بقليل زار الشيخ محمد عبده تونس زيارتَه الأولى، وعرف كتابَ الموافقات للشاطبي، وقرأ رسالة (السياسة الشرعية) وتحدث إلى صاحبها. لكنّ (الموافقات) أثّر فيه تأثيراً كبيراً، فعرَّف به في كل مكان، وعمل على إعادة طبعه بمصر فيما بعد، وقد أفاد منه هو وتلامذتُه في مباحث الإنسان وحقوقه، وفي إنمَاء آليات القياس القديمة لصالح المقاصد العامة للتشريع الأعلى سقفاً، والتي تسمحُ باسم ضرورات المصالح بتبنّي إنشاء المؤسسات الحديثة العسكرية والسياسية والتربوية(10). وقد بلغ من تأثير فكرة المقاصد أن اعتبرها رشيد رضا (-1935م) تلميذ محمد عبده أساساً صالحاً للاستناد في تسويغ النظام الدستوري باعتباره نظامَ شورى. يقول رشيد رضا رداً على سائلٍ له بمجلّةِ المنار عام (1907م): (لا تقل أيها المسلم إنّ هذا الحكم المقيَّد بالشورى أصلٌ من أصول الدين، ونحن قد استفدناه من الكتاب المُبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين، والوقوف على حال الغربيين. فإنه لولا الاعتبارُ مجال هؤلاء الناس لما فكَّرتَ أنت وأمثالك أنّ هذا من الإسلام...)(11). فالنظام الدستوري، نظام الحريات في أوروبا، لا يمكن الاستنادُ فيه فقط إلى التشابُه مع نظام الشورى؛ بل يمكن استناداً إلى السقف العالي لفطرة (مقاصد الشريعة) الذهاب أيضاً إلى أنّ كلَّ ما يحقّق مصلحة الجماعة يمكن الأَخْذُ به بفضّ النظر عن مصدره، وهو في هذه الحالة المصدر الغربي.

لكنْ عندما أُقرّ ميثاق الأمم المتحدة عام (1945م)، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام (1948م)؛ كانت الأجواء الثقافية والنفسية والسياسية فقد تغيرت كثيراً لدى المسلمين وفي العالَم. في العالمين العربي والإسلامي اشتعلت الحربُ العالميةُ الأولى (1914-1918م)، والتي كانت عبارةً عن صراعٍ بين القوى الأوروبية على مناطق النفوذ، وشملت العالَم كلَّه. وكانت نتائجها في الشرق العربي والإسلامي كارثية.

فقد احُتلّت سائر ديار المسلمين، وجرى إلغاء الخلافة الإسلامية من جانب حكام تركيا الجدد بعد الهزيمة في الحرب، وتوزّع المنتصرون الأقطار العربية فيما بينهم، وبدأ ظهور الدول الوطنية التي كانت إمّا مُعاديةً للإسلام أو مُحايدةً إزاءه.

وسُرعان ما ظهرت التلاؤماتُ الثقافيةُ لهذه المتغيرات فقيل بالفصل بين السلطنة والخلافة (أطروحة العلمانيين الأتراك عام 1922م قبل إلغاء الخلافة عام 1924م)، وقال الإيراني حسن تقي زاده مثل مصطفى كمال بالتغريب الكامل، وقال علي عبد الرازق بمصر بفصل الدين عن الدولة (في الإسلام وأصول الحكم)، ودعا طه حسين لإعادة النظر في الموروث الديني. وما تحمّل المثقفون الإسلاميون – حتى الإصلاحيين منهم – هذه المتغيرات في الإطار السياسي، أو في السياق الثقافي. وهناك ما يدلُّ على أنَّ الحساسيات الجديدة نالت أولاً من وعي النُخَب الإسلامية، وليس من وعي العامة. بل إنّ النُخَب ذاتَها دخل بعضُها في التجربة الجديدة للدولة الوطنية. بيد أنّ قسماً معتبراً من تلك النخبة داخلته الشكوك والهواجس بشأن الأبعاد الدينية والثقافية للاستعمار الغربي. وانقسم هؤلاء إلى قسمين: قسم أراد استخدام الوسائل والإنجازات الغربية للوصول إلى الندية مع الغرب والاستقلال عنه بها. وهذه فكرةٌُ قديمةٌ تعودُ إلى زمَني الطهطاوي وعبده والتونسي. وقسم جديد رمى لرفض الغرب كلِّه، وليس بالطريقة التقليدية التي تكره الغريب وتخافُه؛ بل بطريقةٍ جديدةٍ هدفُها الحفاظُ على الهوية أو نَحْتُ هويةٍ طهوريةٍ تتكسَّرُ عليها سيوف الغرب ورماحُهُ، كما يتكسَّرُ عليها تبشيُرهُ واستشراقُه(12).

 

II

اعتبر العاملون الدوليون، من المختصين بالشؤون العامة أو بالفلسفة أو بالقانون، منذ العام (1943م)، أنهم يقومون بعملٍ تاريخيٍ كبيرٍ أدَّعى في النهاية إلى صياغة ميثاق الأمم المتحدة ومؤسَّساتها وآلياتها. وفي العام (1948م)، وبعد عملٍ مُضنٍ وطويل صدر أيضاً الإعلان العالميُّ لحقوق الإنسان. بيد أنّ الآمالَ التي عُلِّقَتْ على الأمرين سُرعان ما تضاءلت بسبب اضطراب العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ونشوب الحرب الكورية، وبدء الحرب الباردة التي ما انتهت إلاّ بسقوط الاتحاد السوفياتي عام (1990م). وقد عنت الحربُ الباردةُ أنّ النظام الدوليَّ الذي كان عماداه: ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فقد أكثر فعاليته، وما عاد اتخاذ القرار في بيئاته الرئيسية ممكناً إلاّ إذا توافق على ذلك الأميركيون والسوفيات. لكنّ هذا التوافُق ما كان كثير الحدوث، ثم إنه إنْ حدث فيكون خارج آليات الأُمم المتحدة.

وكانت ظروف العرب والمسلمين أيضاً لا تؤهِّلُهُم لمشاركةٍ فعّالةٍ في إقامة المؤسسات الدولية الجديدة، كما لا تؤهِّلُهُم للتأثير في قراراتها. وجاءت قراراتُها الأولى عشية نشوب الحرب الباردة غير واعدةٍ أو مشجِّعةٍ بالنسبة للعرب والمسلمين؛ في الوقت الذي كانت فيه السوداوية الثقافية، وثقافة الخصوصية تتصاعدُ في أَوساطهم، بحيث بادلوا العالَم التشكُّكَ، وسوء الاعتبار، والإحساس بالظلم والانحياز ضدَّهم. ففي العام (1947م) أقرت الأمم المتحدة انفصال باكستان عن الهند، وعلّقت مسألة كشمير، ووقفت عاجزةً تُجاه التهجير والقتل بالملايين بين الطرفين. وفي العام (1948م) أقرت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وعجزت عن إنقاذ القرار الجائر هذا بحيث سيطر الإسرائيليون على ضعف المساحات التي أعطاهم إياها القرار الدولي الذي وقف معه السوفيات والأميركيون.

ولذلك كان النقد الأول الموجَّه للمؤسسات الدولية الجديدة من جانب العرب القول إنها تكيلُ بمكيالين، وبازدواجية المعايير, وتفتقر للعدالة مقياساً وإنفاذاً. فالقراراتُ جائرة، وهي أيضاً لا تنفَّذ بحيث يصبح الأمر ظلماً خالصاً. ثم جاء الوجهُ الآخرُ للنقد، نقد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بالقول بالقطيعة أو أنه ليست هناك قيمٌ إنسانيةٌ مشتركةٌ أو عالميةٌ بين المسلمين وبين العالّم. إذ قال هؤلاء النقِّاد إنّ الإعلانَ العالميَّ يؤسِّس مبادئه على (الحقّ الطبيعي) للإنسان، والإسلام يعتبرُ ذلك تأليهاً له، ويرى أنّ تلك الحقوقَ إنما هي تفضُّلٌ من الله -عَزَّ وجَلَّ- وتكليفٌ، ولا علاقة لها بطبيعة الإنسان(13).

وصحيحٌ أنّ الدول العربية والإسلامية دخلت منظمة الأمم المتحدة، وتكاثرت عدداً في الخمسينات والستينات. بيد أنّ الحرب الباردة، أحدثت اصطفافات بحيث وقف البعض مع الولايات المتحدة، ووقف البعض الآخرُ مع الاتحاد السوفياتي. وما أَمكن للتأثير أن يزداد رغم كثرة الأعداد، والتصويت الكثيف في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأنّ القرارات الفعّالة كان مقرها وما يزال مجلس الأمن، ومجلس الأمن تسودُهُ قيتوات الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي (والآن الاتحاد الروسي). والولاياتُ المتحدة كانت دائماً مع إسرائيل ولا توافق على أيّ قرارٍ ضدَّها. وإذا وافق مجلس الأمن على شيءٍ مهما بلغت خِفّتُهُ؛ فإنه لا يُنّفَّذُ بسبب قوة المنظومة الغربية الداعمة للكيان الصهيوني.

وبدلاً من البقاء عند الاحتجاج على الظلم وازدواجية المعايير، سار الفكر الإسلامي منذ الخمسينات، وكما سبق ذكرُه، في مسارٍ آخَر: الإعلان عن عدم وجود (قيم إنسانية مشتركة) بين المسلمين وبين العالَم. في حين لم تلتزم أكثر الدول العربية بالإعلان العالمي لحقوق الإنسَان، ليس بهذه الحجة طبعاً، بل للاتجاهات الأُخرى لأنظمة الحكم، وتَهافُت المجتمعات المدنية، واتجاهها اتجاهات ثورية تُسيءُ إلى الإنسان وحرياته من حيث ادعاؤها الإحسان(14).

وهكذا ففي حين ظلّ المثقفون الثوريون والليبراليون العرب يشكون من قصور منظومة حقوق الإنسان، وظلم المنظمة الدولية؛ أقبل المفكرون الإسلاميون على اشتراع منظوماتٍ إسلاميةٍ لحقوق الإنسان، ظلّت تتوالى بأشكال فردية وجماعية حتى مشارف القرن الواحد والعشرين(15).

III

أردْتُ إبّان ازدهار البيانات الإسلامية بشأن حقوق الإنسان، أن ألجأ للتأويل الحسن للظاهرة بالذهاب إلى أنّ النزوع الخصوصي الإسلامي يريد التلاؤم أيضاً ببعض الشروط مع الأجواء العالمية(16). بيد أنّ الأقرب للحقيقة كان ما ذكره الباحث المسلم الأميركي من أصل كيني (المزروعي) من أنّ الوضع بين المفكرين الإسلاميين والعالم هو من السوء بحيث يستدعي الأمر أن نطلب من الإسلاميين أن لا يعترضوا على القيم العالمية غير المنصوص عليها في القرآن والسنة، ولا تعارضُ مقتضياتهما! والواقعُ أنّ تسعينات القرن الماضي شهدت صعود أطروحة (صدام الحضارات) وصولاً إلى (الحرب على الإرهاب الإسلامي)، وقابلتها الحملات العشواء من جانب المفكرين المسلمين على الغرب والولايات المتحدة ليس من الناحية السياسية وحسْب؛ بل ومن النواحي الثقافية والحضارية. وفي النزاعات بين الأُمم والدول، يسهُلُ التمييز بين المسائل والقضايا الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، أمّا في النزاعات الأيديولوجية فيصعُبُ التمييز والتفسير إذ تتسع تلك النزاعات لتضمّ بين جنباتها الحساسيات الدينية والخصوصيات الثقافية ومسائل أخرى حميمة تتعلق بأحاسيس الناس ومشاعرهم, وما يعتبرونه خاصاً وعزيزاً. فقد ذهب كثيرٌ من الأميركيين بعد هجمات (11 سبتمبر2001م) إلى أنّ (القاعدة) إنما هاجمتهم ليس بسبب سياسات الهيمنة الأميركية، بل بسبب طرائقهم في التفكير والتصرف والعيش. وكما قالوا في بيانهم (من أجل ماذا نحارب) أنهم بالدعوة إلى مقاتلة هؤلاء إنما يدافعون ليس عن حياتهم وحسْب؛ بل وعن قيم الحرية الإنسانية والدينية والاختيار الأخلاقي الكبير. وما قصّرت (القاعدة) في تغذية هذه الإيهامات والانطباعات بالحديث عن مجاهدة الصليبيين واليهود، وعن فسطاطي الكفر والإيمان(17)!

بيد أنّ هذا الجانبَ من الصراع أو الصِدام، لا ينبغي أن يلفتَنا عن جوانب الاشتراك والتقارُب في المسائل القيمية، رغم النزاعات الناشبة على الأرض. ففي التسعينات بالذات ازدهرت لقاءات (الحوار العالمي) بين الديانات الكبرى، وأظهرت المؤسسات الدوليةُ يقظةً من نوعٍ ما بعد انتهاء الحرب الباردة. وكان في نضال الفكر الإسلامي ضدَّ أطروحة صراع الحضارات جانبٌ إيجابي، تمثّل في اعتبار الإسلام دين مُوادعةٍ وسلامٍ وتعايُش، وليس داعية حروبٍ وصراعات، وأنّ العدوانية إنما جاءت من الأطراف الأُخرى.

وفيما يتصل بحقوق الإنسان بالذات، فقد تكاثرت الجمعيات المدنية والرسمية للدفاع عن حقوق الإنسان أو حمايتها. وعاد المفكرون الإسلاميون للتأليف في (مقاصد الشريعة)، والتركيز على أطروحة الضرورات الخمس، واستيحاء ذلك واستلهامه في أعمالهم على البيانات والإعلانات والدساتير المعنية بالإنسان وحقوقه من وجهة نظرٍ إسلامية(18).

على أنّ تلك الجهودَ الفكرية والرسمية ما استطاعت إزالة القطيعة تماماً وذلك لعدة أسباب: أنها ظلّت مليئةً بالشروط والتحفظات الناجمة عن تعْملُق فكر الهوية والخصوصية. ولأنّ الانتهاكات الفظيعة الجارية على الإنسان وحقوقه في ديار العرب والمسلمين لا تشجّعُ على رفع الصوت في نُصرة القيم العالمية لحقوق الإنسان. ولأنّ الجاليات الإسلامية في البلدان الأوروبية تعرضت لضغوطٍ شديدةٍ في خصوصياتها، بما يتجاوزُ مبدأ المساواة في المواطنة، والحريات الدينية والأساسية؛ بحيث ما كان من السهل أن ينشط دُعاةُ الإعلان العالمي على أرضنا.

وهكذا فالمشكلةُ الحقيقيةُ تكمنُ في النظر إلى القيم الإنسانية العالمية (ورمْزُها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) باعتبارها قيم الآخَر المسيحي أو الغربي. وهي في أحسن الحالات (نسْبية)، وخاضعة لإعادة النظر في كل مرةٍ استناداً إلى سلوك المؤسسات الدولية، وسلوك القوى الكبرى الغربية، تجاه قضايا العرب والمسلمين. وهذه مشكلةٌ لا حلَّ لها إلاّ بالوصول إلى حالةٍ يحسُّ فيها العربيُّ والمسلمُ أنه نِدٌّ وأنه مُسْهمٌ في صنع قيم العالم المعاصر الثقافية، وسياساته.

هناك تقدمٌ لجهة الاحتكام إلى القيم العالمية في التعامُل مع العالم. وهناك تقدمٌ لجهة محاولة استنبات قيم مُناظرة أو مُشابهة في موروثنا الحضاري. وهناك (بداياتُ إرادةٍ) لتحمل المسؤولية مع العالَم عن الأمن والاستقرار والتقدم، لكنها ما تزال حافلةً بالتحفظات والشكوك. ولذلك فهناك رأيٌ يقول إنّ القطيعةَ جرى تجاوُزُها بالفعل، لكننا لم نصل بعد إلى الآفاق التي طلبها منا الشاطبي في القرن الخامس عشر عندما اعتبر أنّ تلك القيم الإنسانية (مُراعاة في كل ملة).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- George Makdisi, Humanism in Clanical Islam and in the Italian Renainamce; in: studis in History and Literatnse. Hagar Publishing. Beirut 1992, PP.15-22.

2- الجويني: البرهان 2/111-112، والتلخيص 2/254. وقارن بعبد المجيد الصغير: الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام. دار المنتخب العربي (1994م)، ص347 وما بعدها.

3- الغزالي: المستصفى 2/86، وابن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/311-313، وابن تيمية: الفتاوى 13/218-222، وابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية، ص23-27 (نقلاً عن ابن عقيل الحنبلي).

4- الموافقات 1/11-12. وقارن بأحمد الريسوني: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي. بيروت (1992م)، ص209-215. وانظر عبدالمجيد تركي: الشاطبي والاجتهاد والتشريعي المعاصر، بمجلة الاجتهاد، عـ8، (1990م)، ص237-255.

5- الموافقات 1/16-17.

6- المرشد الأمين للبنات والبنين، القاهرة (1872م)، ص127.

7- مناهج الألباب المصرية، الطبعة الثانية، مصر (1912م)، ص18-19.

8- المرشد الأمين، مصدر سابق، ص127.

9- محمد بيرم الأول: السياسة الشرعية، مطبعة الدولة بتونس (1884م)؛ ص74-79. وقارن خير الدين التونسي: أقوم المسالك إلى معرفة أحوال الممالك. تحقيق المنصف الشنوفي، الدار التونسية 1972م، ص50.

10- رضوان السيد: سياسيات الإسلام المعاصر، بيروت (1997م)، ص245-247.

11- قارن بوجيه كوثراني: مختارات سياسية من مجلة المنار، بيروت (1980م)، ص97.

12- قارن عن تلك المتغيرات برضوان السيد: سياسيات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص248-250، ووجيه كوثراني: قضايا الإصلاح والشريعة والدستور في الفكر الإسلامي الحديث؛ بمجلة الاجتهاد، م3، (1989م)، ص208-238.

13- قارن برضوان السيد: مسألة حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر بين الخصوصية والعالمية؛ في: سياسيات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص251-253.

14- قارن على سبيل المثال بكتب علي عبد الواحد وافي: حقوق الإنسان في الإسلام (1977م)، ومحمد الغزالي: حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة (1958م)، ومحمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان، ضروراتٌ لا حقوق (1985م).

15- استعرضت AnnMayer هذه البيانات ودرستْها في كتابٍ لها صدر بلندن عام (1991م). وقارن باستعراضٍ لي في المقالة السالفة الذكر في كتابي: سياسيات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص243-261.

16- سياسيات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص259-260.

17- درسْتُ ردود الفعل الأميركية على هجمات سبتمبر، ونشرتُ نصّي المفكرين الأميركيين في كتابي: الصراع على الإسلام، بيروت (2005م).

18- لاحظتُ مثلاً أنّ المعهد العالمي للفكر الإسلامي أصدر بمفرده في الثمانينات والتسعينات ثمانية كتب عن مقاصد الشريعة؛ من بينها كتاب الريسوني السالف الذكر, ومن بين آخر ما قرأت الكتاب المشترك (أحمد الركسوني, ومحمد الزحيلي, ومحمد عثمان بشير) بعنوان: (حقوق الإنسان, محو مقاصد الشريعة) (2002م) وقد قدم له في سلسلة كتاب الأمة بقطر مدير السلسلة عمر عبيد حسنة.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=94#.VykA91WDGko

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك