الانتماء العربي والإسلام السياسي

الدكتور رضوان السيد

 

في العام 1974 أصدر الأستاذ مُنَح الصلح كتيباً عنوانه:عروبة النخبة وإسلام الجماهير. وقتها كانت عدة أمور تحدث معاً: توفي جمال عبد الناصر عام 1970، وأُخرجت المقاومة الفلسطينية من الأردن وتمركزت في بيروت وجنوب لبنان بعد اتفاق القاهرة عام 1969. وشنّ المصريون والسوريون حرب العام 1973 لتحرير الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وفرض الملك فيصل الحظر البترولي لدعم مطالب تحرير الأرض العربية، واجتراح حلّ عادل للقضية الفلسطينية. وفي العام 1975 اندلعت الحرب الأهلية في لبنان على وقع الخلاف الداخلي بشأن المقاومة الفلسطينية. وافترق أطراف حرب العام 1973 فمضت مصر باتجاه مصالحة إسرائيل في كامب ديفيد، ودخل الجيش السوري إلى لبنان، ونشب الصراع بين النظامين البعثيين بسورية والعراق على الزعامة بالمشرق العربي بعد خروج مصر. واجتاح الإسرائيليون لبنان مرتين عام 1978، وعام 1982 حيث وصلوا إلى بيروت، وأخرجوا المقاومة الفلسطينية من لبنان. وفي العام 1979 سقط شاه إيران على وقع ثورةٍ شعبية وقامت الجمهورية الإسلامية في البلاد. وفي العام 1980 هاجم العراق إيران فاشتعلت حربٌ ضَروس استمرت حتى العام 1988. وفي العام 1981 اغتال جهاديون إسلاميون الرئيس أنور السادات، لكنّ كامب ديفيد لم تسقط.

 

لماذا أذكر ها الحشْدَ من الأحداث الهائلة معاً، والتي تركّز معظمُها في السبعينات من القرن الماضي؟

 

أذكُرُ أحداثَ السبعينات العاصفة، لأنها كانت الاختبار الأخير على مستوى النتائج السياسية والاستراتيجية للانتماء العربي في القرن العشرين. ففي العقدين الأولين من القرن العشرين بدأت فكرة الدولة العربية بالظهور بصيغٍ مختلفة، إلى أنّ قامت الثورة العربية عام 1916 على العثمانيين بمعونة بريطانية. وكانت الفكرة إقامة دولة عربية أو دول في العراق  والشام، وهي الأقطار التي كانت خاضعةً للدولة العثمانية. ولكي نكونَ دقيقين؛ فإنّ الفكرة كانت إقامة سلطات عربية، دونما تفكيرٍ كثيرٍ بالمسـألة القومية باستثنـاء الحساسية التي كانت قد تصاعدت ضد الأتراك. لكنّ النضال ضد الاستعمار، وضد التقسيم وسايكس- بيكو، وبروز الخطر الصهيوني على فلسطين، أثار المسألة القومية ومسألة الوحدة مرةً واحدةً فيما بين العشرينات والأربعينات من القرن العشرين. فقد اقتطع الفرنسيون لبنان الكبير، ثم انصرفوا لتقسيم سورية إلى أربع دويلات. وأصرَّ البريطانيون على استقبال اليهود في فلسطين. ولذلك صار النضال مزدوجاً: التخلُّص من الاستعمار، وإقامة الدولة الواحدة. وبالطبع صار النضال مزدوجاً: التخلُّص من الاستعمار، وإقامة الدولة الواحدة. وبالطبع فإنّ الوعي بذلك كان أقوى في أقطار الشام والعراق، لأنها كانت هي التي تتعرض للتحديات الأكبر. فالجزيرة قامت فيها الدولة السعودية القوية. ومصر ظهر فيها كيانٌ وطنيٌّ ودولةٌ حديثةٌ وناهضة. وأقطار المغرب كانت تتابع النضال من أجل الاستقلال . لكنْ فيما بين العشرينات والأربعينات ظهرت إشارات قوية على تنامي الوعي الوحدوي في أربعة أمور: كثرة المشروعات والنظريات بشأن العروبة والوحدة، وظهور أحزاب وطنية وقومية حظيت بجمهورٍ واسع، وقيام الجامعة العربية 1943-1945، وهي تعني وجود روابط قوية في الوعي والواقع، ومشاركة سبع دُوَل عربية كان بعضُها قد استقلّ حديثاً في الحرب  ضد الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948.

 

إلى هذا الحدّ، وإلى قيام الجامعة العربية، كان هناك وعي عربي، وكانت هناك لدى النخب ولدى الجمهور جوانب سياسية لذاك الانتماء. لكنّ العروبة السياسية الحقيقية ما تبلورت إلاّ بعد ظهور الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وقيام  الوحدة بين مصر وسورية. في فلسطين صار هناك جرحٌ عميقٌ في الانتماء دفع باتجاهاتٍ متعددة. وفي الوحدة المصرية- السورية صارت العروبة تياراً سياسياً غلاّباً، وفكرةً استراتيجيةً للعرب في القرن العشرين. وعلى وقع هذين الحدثين الكبيرين دارت وقائع التاريخ والمستقبل العربي في النصف الثاني من القرن العشرين. فالوحدة لم تستمر. ومشاريع الوحدة الأُخرى لم تتحقق. وفلسطين ما تحقق بشأنها نجاحٌ يُذكَر رغم الحروب المتكاثرة. فهل يكونُ هذا الفشل في الأمرين، هو السبب في الانكسار الذي تعانيه مسألة الانتماء العربي منذ عدة عقود؟

*****

عندما نتحدث هنا عن انكسار العروبة السياسية، وعن خفوت الانتماء العربي، فنحن نتحدث عن أمرين مختلفين: فالعروبة السياسية تتعلق بالدول والاتحادات والتجمعات والتكتلات السياسية والاقتصادية،والموقع في المجالات الإقليمية والدولية. أمّا عندما نتحدث عن الانتماء فنحن نتحدث بالتحديد عن الجمهور العربي وأحاسيسه وتطلعاته. وفي الواقع فالعربُ يُعانون اليومَ من الأمرين، وكلتا الظاهرتين متفاقمتان. بمعنى أنّ الموقع الاستراتيجي العربي مضروب ضربات قوية. كما أنّ الجمهور يشعر بإحباطاتٍ شديدةٍ، وما عادت لديه تطلعاتٌ كبيرةٌ، وإن كنتُ أزعُمُ أنّ الانتماء العربي ما يزال حاضراً وإنْ نافستْه بقوةٍ الانتماءاتُ الاُخرى المتكاثرة. فلنبدأ بالعروبة السياسية. في كانون الأول عام 1961 ألقى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي الكبير محاضرةً بحامعة القاهرة عنوانها: لماذا تأخرت وحدةُ العرب؟ والمحاضرة طويلة، وقد قال الرجل فيها إنّ كل شروط الوحدة عند العرب متوافرة. وإنما حالت دون تحققها العوامل الدولية، وقد قصد بها استقطابات الحرب الباردة. وقد قدّر وقتها أنّ الوحدةَ إن تأخرت، فلن تتأخر عـن أواسط السبعينـات. وتـوقّع توينبي أن يتحـول الـعرب إلـى تكتـل قـوي فـي شكل كونفيـدرالية منفتـحة بعضها علـى بعـض، أكثـر من انفتـاح الأوروبييـن وتضامنهم. لكنْ – بحسب ما قال - يكون على العرب لتسريع أمر التوحُّد حلّ مشكلتين أو التصدي لمشكلتين: التنمية، ونظام الحكم. فالتنميةُ تربط الجمهور بعضَه ببعض في تجربة نجاح بداخل كل بلد، وفيما بين البلدان المختلفة. أمّا نظام الحكم فقد عنى به أنه ينبغي أن يكون في تشكله ومساره تعبيراً عن الإرادة العامة للناس. ولا يصحُّ هنا التسرع بالقول إنّ معاناتَنا اليوم ناجمةٌ عن تخلُّف هذين الامرين، أوعدم تحققهما. بل الذي أزعُمُه أنّ العامل الثاني، أي نظام الحكم أو قوة الدولة واستراتيجياتها هي التي تحقق التنمية، وبالتالي فهناك قضية واحدة لا قضيتان. وهذا الاستنتاج لا يحتاج إلى تدليلٍ كثيرٍ، فكل التجارب الناجحة في عالم اليوم قامت بها الدولة القوية صاحبة الرؤية والعزيمة. وهذه كانت وما تزال مشكلتنا الكبرى في العالم العربي. وأرى أنها هي التي أدّت إلى انكسار العروبة السياسية، وأثرت تأثيرات هائلة في وعي الانتماء العربي لدى الجمهور. فمنذ الخمسينات والستينات قامت في تسع أو عشر بلدان عربية بعضُها رئيسي أنظمةٌ عسكريةٌ وأمنية ذات طبيعة ثورية، استظلت بأحد طرفي الحرب الباردة، وفشلت في كل شيئ، ومع ذلك فقد استمرت في السلطة  حتى بعد زوال الحرب الباردة، وحلول الهيمنة  الأميركية. فبعد كل فشلٍ كانت القبضة تشتد على الجمهور، وكانت الصدامات وإحساسات الغلبة والعجز تتزايد. ويظل الشعار المرفوع هو هو عن فلسطين وتحريرها، وعن الوحدة،  والاشتراكية، وأخيراً الصمود و التصدي ومكافحة الإرهاب!

 

وما دمنا نتحدث عن العروبة السياسية، فلنذهب إلى بعض التفصيل: فالفشل في مواجهة إسرائيل أدّى إلى خروج مصر باتجاه الصلح مع إسرائيل. وانشلّت الجامعةُ العربيةُ أو انشلّ تضامُن المشرق العربي بالصراع بين العراق وسورية. واستنفدت تلك الأنظمة قواها وحافظت على وجودها في الوقت نفسه بقبول التوظيفات من الجهات الدولية: العراق يشنُّ الحروب على إيران والكويت، وسورية الأسد تحتلُّ لبنان، وتشلُّ المقاومة الفلسطينية، والقذافي يمضي من العروبة إلى الأَفرقة، ونظام السودان العسكري الإسلامي يقسم السودان. والنظام الجزائري العسكري يرهن بقاءه بمعاداة المغرب. وهذه جميعاً مظاهر لأزمة حكم ونظام، قال عنها الباحث المصري الراحل نزيه الأيوبي (في كتابه: تضخم الدولة العربية، 1994) إنها تسببت بانسداداتٍ منقطعة النظير في عمل الدولة ووظائفها، وأدَّت إلى تصفية أو إزالة كل مظاهر الانتماء الواحد ليس بين الدول العربية فقط؛ بل وبداخل كل دولة.

 

******

العروبة السياسيةُ إذن ضربتْها السياساتُ الدولية، مستخدمةً في ذلك الحكامَ العسكريين والأمنيين خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية. فلنمض باتجاه الجمهور، وباتجاه الانتماء العربي. ذكرتُ في مطلع هذه المحاضرة كتاب الأستاذ منح الصلح: عروبة النخبة، وإسلامية الجماهير. منح الصلح لديه بصيرةٌ واستشرافٌ عميق. إذ عندما قال ذلك  ما كان الافتراقُ بين العروبة والإسلام قد صار فاقعاً. كان الناس ما يزالون يذكرون جماهيرية جمال عبد الناصر، وما يزالون يعيشون تجربة المقاومة الفلسطينية. وفي التجربتين تختلط العروبة بالإسلام ولا يتناقضان. وقد كانت هناك جماعات إسلامية منذ الثلاثينات، وما كانت بشوشةً مع الدولة العربية الحديثة بسبب اتهامها بالتغريب.لكنها ما كانت تملك مذهباً سياسياً، وإنما كانت مهتمةً بالمسائل التربوية والثقافية كما هو شأْنُ حركات الهوية. وإنما تحولت تلك التجمعات (وليس عندنا فقط، بل في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي) إلى أحزاب صلبة ذات توجُّه سياسي، ودعوة لإقامة الدولة الإسلامية على وقع فشل الدولة الوطنية العربية في مرحلتها الثانية، مرحلة العسكريين والأمنيين. فقد همَّشت الأنظمةُ العسكرية العربية والإسلامية فئاتٍ واسعةً من الجمهور، بل وناصبتْها العداء، فصارت الجماعات الدينية التي تسيَّست حزبيات إحيائية خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية. وكلما ازداد الفشل السياسي والتنموي والقمع لدى الأنظمة، كلما ازدادت أعدادُ المنضوين في الأحزاب الدينية/ السياسية. وفي السبعينات أيام الرئيس السادات انفجر الإسلام العنيف جماعاتٍ جهادية، وأسقط إسلاميو إيران الدولة الوطنية هناك، وانصرف الإخوان المسلمون المنظمون والمنتظمون إلى التغلغل ليس في الأوساط الفقيرة فقط؛ بل وفي أوساط الطبقات الوسطى ذات الحساسية الدينية، واندفعت تلك الموجة الداعية لأسلمة المجتمع والدولة، وتطبيق الشريعة. وهذا معنى ما ذكرْتُهُ عن تنافسيات الانتماء بين العروبة والإسلام. فالعروبةُ ما عاد لها نموذجٌ إلاّ الانظمة القمعية، بينما اعتصم الإسلاميون بمثال الخلافة الراشدة. فحدث عندنا ما حدث بباكستان وإندونيسيا وإلى حدٍ ما في تركيا. دولة فاشلة  تتشدّق بالعلمانية واليسار ولا تنسى أن تذكر العروبة أحياناً، وكل الشبان لديها خونةٌ أومُغامرون- وجماعات احتجاجية إمّا تريد الجهاد أو توهِمُ البسطاء أنّ في جعبتها نظاماً سياسياً معصوماً أو على الأقلّ أفضل بكثير من أنظمة الأسد وصدام والقذافي! وهكذا فقد حدثت تنافسيةٌ في الانتماء إلى حدود الإلغاء للعروبة. ففي استطلاعٍ للرأي في الهوية والانتماء في 20 دولة عربية عام 2010 كان المسؤول يقول مَثَلاً إنه أردني أو سوداني أو جزائري ثم يضيف هويته الدينية. وما ذُكرت العروبةُ باعتبارها ثالثةً في محدِّدات الانتماء إلاّ في موريتانيا واليمن وفلسطين وسورية وعدد من بلدان الخليج. وفي أربعة بلدانٍ عربية ذُكر الانتماءُ المذهبي بعد الوطني باعتباره من محدِّدات الهوية!

 

لدينا إذن أربع ظواهر بارزة:

-           خراب على مستوى وحدة المجتمعات، وعلى مستوى الإحساس بالانتماء الواحد أو الأصلي والفرعي.

-           وخراب على المستوى السياسي والاستراتيجي. فإسرائيل مرتاحة ولا تريد سلاماً مع عرب فلسطين. وإيران تملك تنظيماتٍ مسلَّحةً في أربع دولٍ عربية. وهناك عدة دول خربة، وأُخرى تتجه للخراب.

-           والأنظمة العسكرية والأمنية التي كسفت شمْسها الثورات ما تزال تقتل  في عدة بلدانٍ عربيةعلى رأسها سورية.

-           وجهاديو الإسلاميين وتنظيميوهم ينشرون في موجتهم الثانية الموت والخراب في عدة بلدانٍ عربيةٍ أيضاً. فخلال أقل من خمس سنوات، وبفضل الأسد والمالكي والبشير وداعش والتنظيمات المسلّحة الأُخرى، والميليشيات الإيرانية، عندنا نصف مليون قتيل، وعشرة ملايين مهجَّر وأكثر. وتزعزع لأركان الدولة في خمس أو ست بلدان عربية.

 

******

ما العمل إذن أمام هذه الظواهر المفزعة؟ هناك انتماءٌ عربيٌّ كبير أبرز النضالُ قبل نكبة فلسطين وبخاصةٍ بعدها جوانب سياسيةً بارزةً له. بيد أنّ الحرب الباردة والسياسات الدولية والأنظمة العسكرية والأمنية أَفشلت العروبة السياسية وهي مبادرةُ العرب الاستراتيجية في القرن العشرين. وعندما كانت العروبة السياسية تنكسر وتسقط، كان الانتماء الإسلامي يصعد في موازاة ذاك السقوط وباتجاهين: الاتجاه الجهادي والاتجاه التنظيمي لإقامة الدولة الإسلامية بديلاً للدولة الوطنية العربية. والواقع اليوم أنه بسبب "الخواء الاستراتيجي" العربي، كما سماه  الأمير سعود الفيصل عام 2010 هناك تشرذمٌ عربيٌّ وضعف واختراقات إسرائيلية وإيرانية وأميركية وروسية، وتهديدات إثيوبيةوتركية. وفي غياب العروبة الجامعة في الانتماء الثقافي والسياسي، صار الإسلام أيضاً جزءًا من الشرذمة والانقسام، ومبرِّراً للقتل، تارةً بحجة إقامة الدولة الشرعية كما في حالة داعش وأشياعها، وتارةً بحجة المقاومة كما في حالة حزب الله وأشياعه.

 

أعتقد أنّ العمل ينبغي أن يبدأ على الانتماء، بمعنى استعادة الأَولوية للانتماء العربي في مجال الوحدات الوطنية الداخلية، وفي مجال العلاقات بين الدول العربية. وهذه المهمة، أي استنهاض الانتماء هي مهمةٌ ثقافيةٌ ودينيةٌ في الأصل. هي مهمةٌ ثقافيةٌ لأنّ العروبة الجامعة ثقافةٌ وقواسم مشتركةٌ في اللغة والتفكير وفقه العيش. وقد كانت عاملاً توحيدياً منذ بروز التحديات في أواسط القرن التاسع عشر. وما كانت هناك تفرقةٌ دينية أو طائفية أو مذهبية بداخل العروبة حتى السبعينات من القرن العشرين. والانحراف الثقافي ما أتى من الحكام الطغاة من أنصاف الأميين فقط؛ بل أتى أيضاً من المثقفين العرب الكبار فقد غادروا جميعاً تقريباً العروبة إمّا لأنّ القومية لا تكفي، بل لا بد من أيديولوجيات وسياسات وبرامج تحررية لا تتيحها غير الماركسية اللينينية، وإما لأنّ في العروبة شيئاً من الإسلام، والدولة الحديثة لا بد أن تكون علمانيةً بحتة. وقتَها قاوم القوميون القُدامى مثل الحصري وعفلق والبيطار وعصمت سيف الدولة هذين التوجُّهين، لكنّ الموجة كانت جارفةً وبخاصةٍ بعد وفاة جمال عبد الناصر. إننا نتحدث هنا عن الانتماء الجامع، والذي تتوافر عناصره وشروطه في هذه الأمة. أما الأيديولوجيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فإنها أمرٌ آخر ولا تتعلق بالانتماء الوطني والقومي. أو يكون الإيطالي اليميني من أنصار الملكية مثلاًغير منتمٍ للوطنية والقومية الإيطالية، واليساري الأميركي غير منتمٍ للأمة الأميركية. والأمر كذلك بالنسبة للانتماء الديني. فموضوع القومية الأوطان والدول. والناسُ فيها منذ قرون يعيشون معاً، ولهم طرائق في العيش،ويشعرون بالانتماء الواحد رغم تعدد أديانهم وطوائفهم. والعلمانية الراديكالية النافية للأديان هي فلسفةٌ للعيش عند أُمَمٍ أُخرى وليست عندنا. أما شأن الدولة وإدارة الشأن العام، فلا يمكن أن يكونَ إلاّ بالطرائق الحديثة القائمة على مبدأ وممارسات المواطنة التي تقتضي تساوياً في الحقوق والواجبات والمشاركة السياسية والاحتكام إلى القوانين الواحدة.

 

ولدينا مهمةٌ دينيةٌ أيضاً، وليس مهمةً ثقافيةً فقط. المهمة الدينية هدفُها صون الدين بالدرجة الأُولى وليس الدولة. وصَونُ الدين  في أزمنة التغيير هذه يكونُ باتجاهين: اتجاه نقد تحويل المفاهيم، بالزعم أنّ في الإسلام نظاماً سياسياً ضروريَّ التطبيق لاستعادة الشرعية في الدين والمجتمع والدولة. وهذاغير صحيحٍ على الإطلاق، وما صارت للحلّ الديني والدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة شعبية بين بعض المتديين، إلاّ بعد الفشل الذي نال من الدولة الوطنية والقومية في بعض البلدان العربية، بلدان العسكريين والأمنيين، وبعض البلدان الإسلامية مثل إيران وتركيا وباكستان. طوال تاريخنا ما كان هناك صراعٌ بين الدين والدولة. وما حدث الصراع إلاّ بسبب تحديات الحداثة، وفشل الدولة العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة في مواجهة تلك التحديات، وتحديات التنمية والنهوض والتقدم. لا بد من إخراج الدين من هذا المأزق الذي أدخله فيه الإسلاميون جهاديوهم وتنظيميوهم. ولا سبيل لذلك إلاّ بعمليات نقد المفاهيم المستجدة، والتي تضع الدين في مواجهة الدولة القومية والوطنية. الجهاديون لا يُكافَحون إلاّ بالقوة لأنهم اختاروها حلاًّ. أمّا التنظيميون فلا بد من الدخول معهم في عمليات جدالية ونقد للمفاهيم التي يعتنقونها بشأن الدولة المستحيلة المسمَّاة إسلامية، والتي تظلم الدين قبل الدولة، لأنها تكلفه بما لا يطاق. والفرع الآخر على هذه العملية هو التفكير في سياسات الدين أو إدارته في أزمنة التغيير هذه. هناك ملفّاتٌ دينيةٌ تحتاج الدولة نفسها إلى مَنْ يديرها مثل التعليم الديني والفتوى وقيادة العبادات والإرشاد العام، والمحاكم الشرعية، والأوقاف. وقد كانت المؤسسات الدينية تديرها وما تزال بإشراف الدولة. وها نحن نرى أنّ الدين انفجر بأيدي الدول والمؤسسات الدينية. فلا يمكن تكرار التجربة التي فشلت، كما أنه ليس من مهامّ الدولة إدارة الشأن الديني، بل صون وحراسة حريات العقيدة والعبادة والتعليم، فلا بد من إعادة بناء المؤسسات الدينية لكي تستطيع القيام بالمهامّ والوظائف بكفاءة فتكتسب صدقية، تُعينُناعلى إخراج تلك الملفات من أيدي الأصوليين، سواء أكانوا جهاديين أو تنظيميين. فلا أحد منا يريد أن يتلقى أولاده تعليمهم الديني لدى حزبيين. ولا حاجة بنا إلى الفتاوى الجهادية في الفضائيات، وفتاوى التطرف والمذهبية.

 

لقد قلت إنّ الاستنهاضَ العربي والقومي يحتاج إلى بحث المسألة الثقافية والمسألة الدينية. وقد ذكرتُ طرفاً من ذلك في السطور السابقة. لكنّ هذا كلَّه يظلُّ مقدمةً أو تمهيداً لأمرٍ آخر هو المسألة السياسية والاستراتيجية. فقد بدأ الاختلال من جهتها أو من جهتهما. وأقصد بذلك الإصلاح السياسي وإقامة أنظمة الحكم الصالح أو الرشيد. كان الرئيس رفيق الحريري في سنواته الأخيرة يسأل مُحاوريه وجُلساءه من عربٍ ودوليين: لماذا ينشئ الناس أنظمة ودولاً؟ ثم يجيب نفسه قائلاً: يُنشئ البشر دولاً وأنظمةً سياسيةً لتحسين ظروف عيشهم، وصَون مصالحهم الوطنية والقومية. أنظمةُ الضباط والأمنيين العرب وعلى مدى خمسين عاماً ما أنجزت شيئاً من ذلك، بل الذي حدث هو العكس. ولذلك صعدت الآمال والأَوهامُ بدولةٍ بديلةٍ دينيةٍ أو طائفية أو مذهبية أو إثنية. لا بديل عن الدولة الوطنية العربية. بيد أنّ القذافي وصدّاماً والأسد والنميري والبشير..إلخ كفّروا الناسَ بها. وهذا معنى حركات التغيير العربية. فرغم الأهوال الطائفية والمذهبية بالعراق وسورية ولبنان واليمن والتي تفرضها علينا إيران، ما ثار الناس بالعراق وسورية ومصر وتونس واليمن بسبب قلة دين رؤسائهم، بل بسبب الطغيان، وسوء إدارة الشأن العام. فلا حاجة لدى الناس للركض وراء الدولة الدينية المستحيلة، إذا كانت دولة الحكم الصالح ممكنة. ولذلك فإنني أعتبر حركات التغيير في موجتها الأُولى أفقاً جديداً لإصلاح إدارة الشأن العام. وقد انكسرتتلك الموجة لكنّ العودة للوراء غير ممكنة. فلو لم يكن لحركات التغيير من الفضائل غير إنهاء المذابح والتهجير فإنّ ذلك يكون خياراً يستحقُّ النضال من أجله. ودول الحكم الصالح عندما تقومُ في السنوات القادمة، هي الكفيلة بتقويم الخلل، وسدّ الثغرات والاختراقات. والتصدي للشأن الاستراتيجي العربي، ومن ضمنه الملفات مع دول الجوار، واستدراك ما فاتنا في قضية فلسطين، وقضية التنمية والمستقبال العربي الآخر.

 

نحن العرب لا نسعى وراء وهمٍ أوسراب رغم الأزمة الطاحنة، وهول المصاب. لقد عرضتُ إيجازاً بشأن مخارج ممكنة، وهناك عشرات الألوف من مثقفي العرب والمهتمين بالشأن العام، يفكرون في الحلول والمخارج. نحن نحتاج إلى نجاحٍ واحدٍ كفيل بالاستنهاض والجمع، وأنا أراه بين تونس ومصر واليمن وسورية وفلسطين. أين كنا قبل أن ندخل على مصر وتدخل علينا مصر بعد العام 1955؟ لقد كان دخول مصر علينا ودخولنا على مصر أساساً لمرحلةٍ جديدةٍ في الانتماء وبناء الدولة.  مثَلٌ آخر أرجو أن لا تستهينوا بشأنه. ففي ليالي غزوة الأحزاب، وعندما كانت المدينة مُحاصرة من قريش  ويهود والقبائل القيسية عام 626م، وكان النبي وأصحابه يحفرون الخندق لحماية المدينة، نال التعب والبرد من  عمّار بن ياسر أو بلال، فأخذ النبي(ص) الفأس منه وأقبل يضرب الصخرة في تلك الليلة الباردة من ليالي شتاء الصحراء. مع الشرارة الأولى، صاح النبي: الله أكبر، إني لأراكم في بلاد اليمن وقصورها لا يحول بينكم وبينها شيئ! ومع الشرارة الثانية بعد عدة ضرباتٍ بالفأس، صاح عليه الصلاةُ والسلام مرةً أُخرى، الله أكبر! إني لأرى حصون فارس والروم تتداعى أمام سيوفكم وعزائمكم!

 

نحن العرب المُحاصَرين، والمذبوحين، لن نتخلَّى عن انتمائنا العربي فهو مدخلُنا للعصر والإنسانية. ولن نخضع لأَوهام الطوائف والمذاهب والأصوليات المعادية للعروبة والإسلام. لقد أهديتُ كتابي:" العرب والإيرانيون" (2014) إلى ثوار سورية المناضلين من أجل الحرية، ومن أجل شرف أمتنا وكرامتها. إنه الشرف الباقي للوجود والمستقبل، شرفُ العربية والعروبة: { وإنه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تُسألون}.  

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2533#.VxU7fnErLIU

الأكثر مشاركة في الفيس بوك