رؤية العالم: وجهة نظرٍ إسلامية

الدكتور رضوان السيد

 

I

بدأتُ الاهتمام بمصطلح "رؤية العالم" في النصف الأول من التسعينات في القرن الماضي. وما كان اهتمامي به فلسفياً أو مجرَّداً، بل بسبب ما بدا لدى المسلمين من اضطرابٍ في "رؤية العالم" أو  في العلائق بأواليات التفكر والتدبُّر والممارسة فيه(1). فقد عاش المسلمون، والأمم الأسيويةُ والأفريقية في العقود الأولى للحرب الباردة (1955-1970) في ظلّ فكرة أو منظومة لعدم الانحياز أو الحياد الإيجابي. وهي تقوم على ثلاثة أُسُس: الخروج من الاستعمار إلى الاستقلال السياسي والثقافي/ الحضاري- والدخول في أفق التنمية على كلّ المستويات – والإسهام في صنع العدالة والسلام في محور عدم الانحياز، وفي أُفق الحياد الإيجابي، الذي يشمل تجاوُز انقسامات الحرب الباردة، وتأثيراتها على العوالم الأسيوية والإفريقية الجديدة. بيد أنّ هذا المحور تراجع وفشِل، وفي مهامِّه الثلاثة: فالخروج من الاستعمار  تحول إلى تبعية لأحد قطبي الحرب الباردة بدلاً من الاستقلال والحرية. والتنمية لم تتحقق، بل وتحطمت الكياناتُ التي كانت تقوم بمحاولاتها أو  أوشكت. وعالم السلام والعدالة الذي طمحت دول مؤتمر باندونغ(1955) إلى إقامته عندها وعلى مستوى العالم، تحول إلى بؤرٍ للتوتر والانقسامات التي لم تتوقف عند حدّ. وكانت أجزاءُ ذاك المحور الأشدّ اضطراباً، هي الأجزاء العربية والإسلامية. وكما سبق القول؛ فإنني فكّرتُ في التسعينات الأُولى بأسباب الاضطراب والتحوُّل على مستوى العالمين العربي والإسلامي. وكما سبق أن اتخذْتُ في أعمالي في الثمانينات والتسعينات من محمد رشيد رضا(1865-1935) نموذجاً للتحول من الإصلاحية إلى الإحيائية(2) فقد لفتت انتباهي وأنا أتأمَّل الأجواء الملبَّدة في العالم العربي خلال الحرب على العراق وبعدها(1989-1992)، تحولات الأستاذ مالك بن نبي(-1975) فيما بين نهايات الأربعينات وبعد أواسط الستينات من القرن العشرين(3). فقد كان مالك بن نبي من أشدّ أنصار الأفق الذي فتحه محورُ عدم الانحياز  ابتداءً بمؤتمر باندونغ عام 1955. وقد انطلق مالك بن نبي في تفاؤله من أمرين: إقبال الأُمم الأسيوية والإفريقية (ومن ضمنها المسلمون) على الكفاح من أجل الاستقلال من الاستعمار والتبعية، والتطلُّع العالمي والإنساني الكبير لهذه الأُمَم العظيمة (وبينها الهند والصين وإندونيسيا ومصر ويوغوسلافيا والباكستان ونيجيريا وكينيا وأوغندا) التي صَمّمت ليس على الاستقلال وحسب؛ بل وعلى إقامة ثقافةٍ تنمويةٍ قويةٍ وجامعة، عمادُها السلامُ والعدالة. فهذه "الثقافة" في نظر بن نبي كانت تُبشِّرُ بآمالٍ كبيرةٍ وأشواق هائلة وبخاصةٍ بالنسبة للمسلمين الذين يملكون في الأصل تفكيراً رسالياً،  وإنسانيةً ودودةً وجامعة. فالعربيُّ والمسلم، والعربيُّ المسلم وهو يناهضُ الاستعمار، ويقاتلُ من أجل الاستقلال والحرية، ما كان يقدم مئات أُلوف الضحايا والشهداء للخلاص من الاستعمار العسكري والاقتصادي الأوروبي؛ بل كان يريد أيضاً وفي الاساس صَونَ انتمائه الثقافي والديني المفتوح الآفاق. وقد اعتبر بن نبي – مستنداً إلى اعتزاز العرب بمصر والجزائر بما قام به عبد الناصر في باندونغ- أنّ هؤلاء العرب الذين حملوا رسالة الإسلام إلى العالم،  إنما يحرّكهم شَوقٌ كبيرٌ إلى الانتماء الكبير الذي صنع من قبلُ وعلى مدى عشرة قرونٍ حضارةً عالميةً كبرى، وإلاّ فما معنى قول الجزائري النهضوي عبد الحميد بن باديس: شعبُ الجزائر مسلمٌ/ وإلى العروبة ينتسِبْ؟! العربُ يريدون إذن ليس استعادة الاستقلال والانتماء؛ بل ويريدون المشاركة من جديدٍ في صُنْع حضارةٍ عالمية. ولا أَولى من الصينيين والهنود من مشاركة المسلمين في هذه المغامرة النهضوية، بالنظر للمُعاناة المُماثلة لمعاناة المسلمين من الاستعمارات العسكرية والاقتصادية والثقافية. إنها المحاولةُ الأكبر منذ زمن ما بعد الموحِّدين للعودة إلى العالم برسالة النهوض والنموّ والوحدة.

وما كان مالك بن نبي(ومثله على الخصوص أبو الحسن الندوي) غافلاً عن الاحتمالات الأُخرى وإمكانيات الانتكاس. فقد عاش في القاهرة في النصف الثاني من الخمسينات، وراقب عن كَثَبٍ أفكارَ وممارسات التفتُّح والانكماش معاً. وقد قال لي إنه عرف الندويَّ وسيد قطب بالقاهرة عندما كان الثاني يقدّم لكتاب الأول: ماذا خسِر العالم بانحطاط المسلمين(4). كما شهد تراجُع سيّد قطب بل والندوي باتجاه الرؤية الذاتية، وعوالم الصراع الداخلي والانكفاء على طهوريةٍ ترفض الآخَر، أيَّ آخر، بدوافع الحفاظ على الذات. وهو حفاظٌ ما كان يراه بن نبي ممكناً إلاّ من ضمن الانتماء الكبير والتفتُّح والامتداد في أشواق العالمية ومسؤولياتها وآفاقِها. وهو مثل الندوي والمودودي وسيد قطب، ومنذ الخمسينات، ما كان يرى في الحرب الباردة غير صراعٍ غربيٍّ للسيطرة على العالم. وكانت تُهمُّه أكثر ما تُهمُّه "الحربُ الباردةُ الثقافية"، والتي تريد محاصرة البشرية الجديدة بين الرأسمالية والماركسية، وكلتاهما غربٌ لا يأبه لآمال البشر وتطلعاتهم للتحرر والحرية. ولذا ففي الوقت الذي كتب فيه كتابه عن الفكرة الإفريقية- الأسيوية، سارع  لكتابة كتابه الآخر: الصراع الفكري في البلاد المستعمرة(5). لكنّ مالك بن نبي، والندوي، كلاهما عاش، حتى تضاءلت الآمالُ أو اختفت. وآل المسلمون أو نُخَبُهُمْ المتديِّنة إلى انكفائيةٍ اتخذت ثلاث سِمات: النزوع الطهوري للخلاص من أَوضار التقليد والتغريب في الوقت نفسِه، والمصير إلى إحيائيةٍ تتجاوز التجربة التاريخية إلى أشواق الزمن الأول. ومُعاداة التغريب الرأسمالي والماركسي الثقافي والسياسي. والاقتناع بضرورة الاستيلاء على إدارات الدولة الوطنية التي تسنّمها الضباط، من أجل صَون الدين والدولة معاً. وأمام هذه الهزيمة لعالمية الحياد الإيجابي، وظهور التشنُّج في الفكر الإسلامي، اكتفى مالك بن نبي والندوي بالإنكار على أصوليتي سيد قطب والمودودي، ونُصْح الشبان المسلمين بعدم اللجوء إلى العنف في وجه السلطات. وقد سمعتُ مالكاً يقول لشابٍ شاميٍّ عام 1973، وكان يُريه كتاباً عنوانه: بيِّنات الحلّ الإسلامي، إنّ الأمر لا بيِّنةَ فيه، والحلُّ الإسلاميُّ هذا ليس مشروعاً، إنه بالأحرى بروتستانتية جديدة، ولن ينجم عنه غير العنف والدمار.

II

"رؤيةُ العالم" في الأصل، مصطلحٌ فلسفيٌّ نحته الفيلسوف الألماني فلهلم دلتاي(1833- 1911)، واعتبره بحثاً في فلسفة الفلسفة(6). وموضوعه: التصورات الأساسيةُ للإنسان، والتي يعتبرها مطلقةً في سَرَيانها وشمولها، وفي دلالاتها وتأثيراتها في الحياة الإنسانية. بيد أنه يعود فينقُدُ هذه الإطلاقية لاعتبارها أنّ هناك رؤىً للعالم، وليس رؤية واحدة، وهي متضاربةٌ بين اللاهوت والميتافيزيقا والفنون والفلسفة، والتي تتوخّى جميعاً كشف مفهوم الحقيقة. وهو يتابع أنه لا بد من قراءةٍ نقديةٍ ليس لربْطها بالزمان والمكان وحسْب؛ بل ولاكتشاف المشتركات  فيما بينها بحيث تُشكّلُ أساساً صلباً ومؤكَّداً لأخلاقيات الإنسان وتصرفاته بدوافع إعطاء حياته معنىً في قضايا الوجود والمصير؛ وهي جوهر الحياة الإنسانية، وإنسانية الإنسان. وهذه القراءة النقدية من أجل كشف المشتركات، تشكّل في نظر دلتاي استمراراً بنّاءً لفلسفة كانط(-1804)في الواجب الإنساني الناجم عن العقل المجرَّد في مصيره من خلال العقل العملي إلى الدخول في الزمان والمكان(7).

لقد انطلقت بحوث "رؤية العالم" إذن من فلسفة كانط، وتفرقته بين العقل المجرد والعقل العملي. فالعقل المجرد مزوَّدٌ من طريق التأمُّل بالتصورات الأساسية، والعقل العملي يبحث في التدبيرات الواقعية أو ظروف تحقُّق الرؤية في الزمان  والمكان أو المجتمع والدولة(8). وإذا عُدنا إلى أبي الحسن العامري(-381هـ) في كتابيه: السعادة والإسعاد، والإعلام بمناقب الإسلام، نجد أنه- متأثّراً في ذلك بالتيارات الفكرية في القرن الرابع الهجري في البيئات الإسلامية- يعرض تصوراً أو رؤيةً إسلاميةً للعالم(9). وتنطلقُ هذه الرؤيةُ من مقولة الوحدانية القرآنية التي تعتبر الدين مركوزاً في الفطرة {فطرةَ الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخَلْق الله ذلك الدينُ القيم}. وهذه الفطرةُ مزوَّدةٌ بالقيم أو التطورات الأساسية: المساواة والكرامة والرحمة والعدل والتعارف والخير العام، والتي تتصل برسالة الإنسان واستخلافه في الأرض(10). وهذا التوتُّرُ الناجمُ عن العلائق المتشابكة أو المشتبكة بين العقل والدين، هي التي ظهرت لدى الفلاسفة والمتكلمين في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي في مفهوم العقل. فقال الفيلسوف الكندي(252هـ) إنّ العقل جوهرٌ فردٌ شأن ما ذهب إليه أرسطو(- 322ق.م) وهو ينفردُ بتفكير الإنسان وتدبيره(11)؛ بينما قال المحاسبي(-243هـ) إنّ العقل غريزةٌ أو قوةٌ كاشفةٌ ودافعةٌ مثل سائر القوى الغَرَزية في الإنسان، وهو لا يمتلك التقدير، بل يتشاركُ مع القوى الأُخرى في التدبير(12). فالتصورات الأساسيةُ عند الكندي والفلاسفة الإسلاميين صادرةٌ عن العقل الفعّال. وعند المحاسبي عن فطرة الله التي فطر الناسَ عليها. ووظيفةُ العقل عند الكندي ذات شقين: معرفة الخالق، والتشارُك مع الدين في تدبير المنافع وتجنُّب المضارّ في الدنيا. ووظيفةُ العقل عند المحاسبي: العقل عن الله، أي كشف مقضيات الفطرة التي زوَّد الله سبحانه الإنسان بها، والتشارك مع القوى الأُخرى في تدبير الشأن الإنساني. ولأنّ المتكلم المسلم في القرنين الثاني والثالث للهجرة (وإذا قلنا المتكِّم فالمعنيُّ به حتى أواسط القرن الثالث، المعتزلةُ ومُشابِهوهُم) كان معنياً بإقامة لاهوتٍ عقليّ؛ فإنه حاول إقامة شراكةٍ أصيلةٍ بين العقل والدين، وبدا ذلك في منظومة القيم عنده أو صِفات الله المُلْغاة أو المتضمَّنة في اللاهوت العقلي، وذلك عندما فاضلَ بين قيمتي العدل والرحمة على العدل(13) استناداً إلى ضمان القرآن: {كتب على نفسه الرحمة}، و{رحمتي وسِعت كلَّ شيئ}. ولأنّ تأمُّلات العقلانية التجريدية، والميتافيزيقا العقلانية، مضت بعيداً في أعمال فلاسفة الإسلام؛ فقد خرج منها – دون أن يغادر مقولاتها الأساسية- تيارٌ أخلاقيٌّ  أفاد أيضاً من منتجات العقل العملي الأرسطي في الأخلاق والسياسة، ومن منتجات الأفلاطونيات المُحدَثة- وليس من أجل التآمُر كما ذهب لذلك الجابري-، بل من أجل التلاؤم مع السوائد في عالم الإسلام، ومن هؤلاء أبو الحسن العامري، ومسكويه ويحيى بن عدي. ومن طريق هؤلاء أقبل الفقهاءُ من مثل أبي زيد الدبّوسي( صاحب الأَمَد الأقصى)، والراغب الأصفهاني(صاحب تفصيل النشأتين، والذريعة إلى مكارم الشريعة)، والماوردي(صاحب أدب الدنيا والدين) على استكشاف وترتيب منظومة القيم القرآنية، باعتبار تأثيراتها في إعطاء السلوك الإنساني ومصالح الإنسان، أبعاداً أخلاقيةً بارزة(14). ومن باب هذا البُعْد الأخلاقي الواسع اعتُبرت أعمالُ  الإنسان الدنيوية عباداتٍ أيضاً، بالنظر لصدورها عن القيم القرآنية، وتأثيراتِها في مسائل الإباحة التي تتجاوز فقهيات الحلال والحرام. وكشوف الماوردي والجويني والغزالي هذه، هي التي أوصلت الفقيه الشافعي عز الدين ابن عبد السلام(-660هـ) في كتابه: قواعد الأحكام في مصالح الأيام، إلى اعتبار أنه حتى الأحكام تكونُ بالاستقراء تابعةً للمصالح أو مترتبةً عليها(15). ونحن نعلم أنّ الشاطبي(-790هـ) في كتابه: الموافقات اعتبر – وبالاستقراء من القرآن وأصول الشريعة- أنها ضرورياتٌ إنسانيةٌ خمسٌ لا يقوم مجتمعٌ ولا يستمرُّ بدونها وهي: حقَّ النفس، وحق الدين، وحق العقل، وحق النسل، وحقّ الملك(16). وهذا الأصل على أهميته الفائقة، ودلالته على الرؤية القيمية الإسلامية للعالم، اقترن عند الشاطبي بالحديث عن الحاجيات والتحسينيات المشتقّة من كل ضروريٍّ من هذه الخمس، وهو خيارٌ إنسانيٌّ كبيرٌ يتعلق بالأفراد، كما يتعلق بأعراف وتقاليد ومستجدات الزمان والمكان في سائر المجتمعات. وهكذا يكونُ لدينا مهادٌ هو الحقوق الأساسية، وأُفقٌ سامٍ هو القيم القرآنية، وحاجياتٌ وتحسيناتٌ هي التي تترتب على توقيع الاساسيات أو الضروريات، والقيم في عوالم ومتغيرات الزمان والمكان. وهذه المبادئُ الثلاثة تشكّل بمجموعها الرؤية الإسلامية للعالم في أزمنة الحِقَب الإسلامية الكلاسيكية. وبالطبع؛ فإنّ التجربة التاريخية للأمة ينبغي قراءتُها لجهة تحقق هذه الرؤية قراءةً نقديةً فاهمةً وكاشفة. لكنها في كلّ الأحوال تبقى مبادئ وثوابت لا يجوزُ إنكارُها ولا التنكر لها. ويمكن اتخاذها مقياساً للتأصيل في حالة القراءة، وللنقد والتطوير في حالة المقارنة مع المنظومات الأُخرى، وفلسفات رؤية العالم لدى الأُمم المختلفة.

II

كيف حدث الخَلَل؟ هذا العنوان، كما تعلمون لبرنارد لويس. والعنوان صحيح، لكنّ لويس أجاب عليه إجابةً فظيعةً كما نعلم، وليس في هذا الكتيّب فقط الصادر  عام 2003، بل وفي مقالته: جذور العنف الإسلامي(1990)، وفي كتبٍ ومقالاتٍ أُخرى، صدرت قبل ذلك وبعده. والإجابةُ واحدةٌ، وهي التي صارت مستنداً لسائر الداعين لمواجهة التطرف والإرهاب الإسلامي في العقدين الأخيرين ومنهم هنتنغتون وغيره. وخُلاصة ما ذهب إليه لويس وتلامذته ومُشايعوه، أنّ المسلمين امتلكوا حضارةً عظيمةً وإمبراطورياتٍ كبرى منذ القرن الثامن الميلادي وحتى القرن التاسع عشر. وما توقف ذاك الإنجاز الحضاري عن الإثمار والتقدم وإن بخُطىً وئيدةٍ بعد الانطلاقة الكبيرة. لكن الغرب الأوروبي ثم العالمي، وفي القرن الثلاثة الأخيرة، حقّق قفزاتٍ هائلةً في شتّى المجالات، وقد اصطدم بسائر الحضارات الكبرى الأسيوية بالدرجة الأولى ومنها الحضارةُ الإسلامية. ولأنّ المسلمين على وجه الخصوص- بخلاف اليابانيين والصينين والهنود مثلاً- ظلُّوا يواجهون التقدم الغربي، بنفس الأساليب السابقة أو المعدَّلة قليلاً أو كثيراً؛ فإنهم سقطوا في حروب المواجهة، واستولى الغربُ الأوروبي والأميركي فيما بعد على العالم، وصار  هو حضارته، وحضارة العصر؛ فإنّ المسلمين وقد تكثّف لديهم الحقدُ من الفشل، كانت ردّةُ فعلهم عنيفةً وما تزال. وهذا العنف الظاهر في الإسلام المعاصر- بنظر لويس ومشايعيه- له أصولٌ في النصوص، لكنْ ما كان لتظهرَ له هذه التأثيرات العميقةُ حتّى لدى المسلمين، لولا أمران اثنان: عنف الظاهرة الاستعمارية والإمبريالية، وفشل المسلمين في الدخول في العصر أولاً بشروطه، ثم في المشاركة من جديد ومن مواقع النديّة والاقتدار في حضارة العصر والعالم. وليس من همي هنا نقد رؤية برنارد لويس، فليس هذا هو المكان الصالحُ لذلك. لكنّ العِلّة الثانية من علَّتيه تستحقُّ قراءةً نقديةً بالفعل. وأعني بذلك مسألة المشاركة. وقد بدأتُ مقالتي هذه  بالمسألة ذاتِها، أي أشواق العرب والمسلمين للمشاركة في صنع عالميةٍ أُخرى غير العولمة الغربية،وهي التي سمّاها مالك بن نبي: فكرة الأسيوية- الإفريقية. والأسيوية- الإفريقيةُ سقطت كما نعلمُ تحت وطأة المواجهة في الحرب الباردة. بيد أنّ ذاك السقوط ما أثّر على الهند والصين كما أثّر على العرب والمسلمين، والأفارقة؛ وذلك لأمرين اثنين: الأول أنّ الأُمم الأسيوية الكبرى اختارت ( وبالقرار السياسي والثقافي) الدخول في حضارة الغرب ثم في حضارة العالم بشروط العالمية والعولمة الغربية؛ بينما أبى العربُ والمسلمون ذلك للافتراق بين السياسي والثقافي/الديني لديهم(17). والأمر الثاني: أنّ القرار السياسيَّ والثقافيَّ لدى العرب وأكثر المسلمين في العقود الأربعة أو  الخمسة الأخيرة،  ما توافرت له الإرادةُ ولا الإدارةُ الملائمة. وعلينا أن نتأمَّل مسألتين اثنتين؛ الأولى: طبيعة القرار السياسي العربي والإسلامي ومَنْ تولاّه بعد تفكك الآسيوية- الإفريقية. والثانية: مَنْ تولّى القرار الثقافي، الذي يُحدّدُ أكثر من السياسي "رؤية العالم" لدى الأُمم الكبرى، والأديان الكبرى، والثقافات الكبرى. ولأننا معنيون هنا برؤية العالم بالذات، وأساب اضطرابها في عالم المسلمين والإسلام، فسيكون ذلك هو خاتمةُ أو مآل هذه الإطلالة على وجهة المسلمين والإسلام،وليس على عالم ما بعد الموحِّدين بحسب مالك بن نبي، بل على عالم انتصار العولمة والهيمنة في العقود الخمسة الأخيرة. في الانتكاسات الكبرى للأُمم والحضارات، تواجهُ ترتيباتُ رؤية العالم، بين القيمي والأساسي من جهة، والحاجي والتحسيني أو العملي من جهةٍ ثانية، اضطراباً في الحاجي والحسيني والعملي أيضاً. وبنتيجة هذا الاضطراب تحدث ارتداداتٌ واحتماءاتٌ بالقيمي والأساسي. والقيمي والأساسي لدى المسلمين عالميٌّ وقويٌّ ومنفتح. ولذلك فقد دار صراعٌ عنيفٌ على مدى قرنين تقريباً واستناداً إلى الأساسيات في الدين والثقافة، للخروج من الانكسارات العملية. لكنّ الثورة الثقافية باتجاه الأساسي والقيمي وانطلاقاً منه لم  تحدث. ولم تحدث تلك الثورة لأنّ النُخَبَ التي تولتْ الشأن الديني والشأن الثقافي، ما كان لديها التصميم القاطع، لأنه ما كان لديهاالوعي الجذريُّ فما كانت عندها الإرادة، باستثناءاتٍ فرديةٍ ما استطاعت تغيير الواقع أو المشهد العام، وسواء لدى الإصلاحيين، أو لدى العلمانين، وقبل ذلك وبعده وفيما يتعلقُ بالإسلام، لدى نُخَب المؤسسات الدينية(18). وهكذا ومع تفاقُم التأزُّم وتحوله إلى الرمزيات والعقديات، بسبب فشل مشروع ما بعد الاستقلال، أقبلت نُخَبٌ جديدةٌ على إعادة تأويل الإسلام، باعتباره وفي الوقت نفسه:وسيلة اعتصامٍ واحتماء، ووسيلة مواجهةٍ لأعداء الخارج والداخل. في الحفر للاعتصام بالانتماء الأصيل جرت تنحيةُ عنصرين: التقاليد والأعراف الموروثة من أجل تطهير  الدين وإزالة عناصر البدع الواقعة في أصل الانحطاط والهزيمة باعتقادها، والعناصر الدخيلة أو التي اعتبرتها دخيلةً من دخائل الغرب الهاجم. وفي مرحلة مواجهة الغرب والعالم بالداخل والخارج بالدين، جرت الاستعانةُ بما تعتبره عناصر صلبةً ثبتت جدواها في التجربة التاريخية كما وعتْها مثل الجهاد من جهة، وبسط سلطان الشريعة بالمفهوم الجديد على المجتمع والدولة. وهكذا فقد غابت أولاً عن الوعي التجديداتُ والإبداعاتُ الفكرية والثقافية التي يصنعُها الاجتهاد في الحاجي والتحسيني. ثم غابت أو تجمدت ثانياً أصول الرؤيةالقرآنية ورؤية التجربة التاريخية للأمة(19).

إنّ هذا الاستطلاع أو التفسير للثوران الإسلاميُّ الأصوليُّ، يفترضُ الآن سؤالاً عن المصائر. وهذا السؤال سببُهُ المباشر وصول أهل الإسلام السياسي إلى مواقع القرار الدولتي، بعد امتلاكهم زمام القرار الديني/ الثقافي منذ عقودٍ وعقود. فهل يكونُ هذا الاقتران أو هذا الإشباع – إذا صحَّ التعبير- سبباً واعداً أو مبشِّراً بإعادة الانفتاح على الرحابة والعالمية التي كانت حاضرةً في وعي المسلمين وتصرفاتهم في أزمنة التجربة التاريخية الطويلة، والتي شهدت انتكاساتٍ وحروباً طويلةً خاسرةً، دون أن تفقد الثقة بالمشروع الكبير وباستعادة الزمام؟

في نظري؛ فإنّ ذلك لا يبدو متوقَّعاً في الأمد المنظور. لأنّ إعادة تأويل الإسلام عبر خمسة عقودٍ أو أكثر أوصلت إلى انسداداتٍ هائلة، وسيزيد النجاح الأخير من اليقين بصوابيتها. بمعنى أنّ الحلَّ الجهادي وليس الإسلامي والذي انتصر من طريق التنظيمات النضالية، في الوعي ثم في الدين ثم في الثقافة ثم في الوصول للسلطة، يكون الأسهلُ عليه، وهو عاجزٌ بالفعل عن مواجهة الخارج العالمي، الانصراف إلى الاستبداد بالداخل الثقافي والديني والاجتماعي والسياسي، شأن ما نجح فيه العسكريون على مدى عقودٍ وعقود. ولن يكونَ سهلاً عليه بالسلطوية التي تتملكُهُ الانطلاق إلى نقض البناء الذي اصطنعه في تأويل الدين أو عقدنته طوال عقودٍ وعقود. ولماذا يفعلُ ذلك ما دام قد نجح، وما دام أنصارُهُ المتحمسون يمضون بدون تردد لتشديد القبضة على المجتمع والدولة باسم الدين(20)؟!

وهكذا لا يبقى غير احتمالٍ تُرجِّحُ إمكانية تحققه أحداثُ السنتين الماضيتين وهو أن تتمكن المجتمعات الموّارة بالتغيير من التفلُّت من إسار هذا التحشُّد بالحركة المستمرة. بيد أنّ ذلك إنْ حدث، فسيكون فيه نجاةٌ للدولة والمجتمع السياسي، وليس للدين. إذ لا طريق لتحرير الإسلام من قبضة الأصوليات إلاّ بخطوتين مقترنتين أو متقاربتين: إخراجَ الدين من بطن الدولة ليعودَ لحضن المجتمع وخياراته وثقة العيش فيه- وإنتاج فهم آخر للإسلام، يعيد "رؤية العالم" الرحبة ذات الآفاق العالمية إلى مواقع التأثير والفعل في مجتمعات المسلمين وفي العالم. وكلا الأمرين يحتاج إلى نُخَبٍ رساليةٍ تمتلك الوعي والنزاهة والشجاعة والإرادة.وهذه سِماتٌ أربعٌ قد تتوافر اليوم لدى أفرادٍ معدودين، لكنّ هؤلا ء لايصنعون بعدُ النخبة أو النُخَب المُرتجاة:{ وما كان الله ليُضيع إيمانكم إنّ الله بالناس لرءُوفٌ رحيم}(سورة البقرة:143).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)        رضوان السيد: رؤية العالم في الفكر الإسلامي المعاصر: الحتميات المؤتلفة والإمكانيات الأُخرى. وقد كُتب البحث عام 1994، ونُشر في كتاب الصراع على الإسلام، الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية. بيروت: دار الكتاب العربي، 2005، ص ص 173-188.

(2)        رضوان السيد: سياسيات الإسلام المعاصر. بيروت: دار الكتاب العربي 1997، ص ص 185-214، 252-254.

(3)        رضوان السيد: مسألة الحضارة والعلاقات بين الحضارات لدى المثقفين العرب في الأزمنة الحديثة؛ في: الصراع على الإسلام، مرجع سابق، ص ص 121-147؛ وبخاصةٍ الصفحات 133-135.

(4)        نشر أبو الحسن الندوي كتابه: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، بالقاهرة عام 1950 وقدّم له سيد قطب. وانظر تحليلاً موجزاً للكتاب في رضوان السيد: مسألة الحضارة والعلاقات بين الحضارات؛ في: الصراع على الإسلام، مرجع سابق، 129-131.

(5)        كُتُب مالك بن نبي المنشورة بالقاهرة في الخمسينات ومطالع الستنيات: فكرة كومنولث إسلامي(1955)،  ومشكلة الأفكار في العالم الإسلامي (1956)، وميلاد مجتمع (1956)، ومؤتمر باندونغ أو فكرة الأسيوية الإفريقية(1956)، والصراع الفكري في البلاد المستعمرة(1960)، ومشكلة الثقافة (1962)، وشروط النهضة(1965).

(6)        W.Dilthey; Gesammelte Schriften.Bd. III: Die Philosophie des Existenz. Berlin 1923; W. Dilthey; Der Aufbau der geschichtlichen Welt in den Geisteswissenschaften. Suhrkamp. 1981, pp. 332-335; Ulrich Lessing: Wilhelm Dilthey. Böhlau- UTB. 2011. pp. 153-174.

(7)        Michael Kearney; World View, Chandler and Sharp. 1984.

(8)        درس ماكس فيبر  (1864-1920) هذين المستويين في "رؤية العالم" في كتابه:Max Weber; Sociology of Religion (1964) H. Gerth, R. Mills; From Max Weber. Essays in Sociology (1980).

(9)        قارن بمقالة منى أحمد أبو زيد: مجتمع الخير والأمة الميمونة عند العامري، بمجلة التفاهم، م 34، 2011ن ص ص 101-126.

(10)      قارن برضوان السيد: المفهوم القيمي والأخلاقي في العقل الإسلامي؛ بندوة القيم العُمانية: نشر وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان، 2011، ص ص 349-364. وانظر دراستين لي بالموضوع نفسه في مجلة التفاهم، م 31، ص ص 13-21، م 34، ص ص 28-42.

(11)      الكندي: الرسالة في الفلسفة الأولى. تحقيق أحمد فؤاد الأهواني. القاهرة، 1955، ص ص 38-41. ورسائل الكندي الفلسفية. حققها وأخرجها محمد عبد الهادي أبو ريدة. مصر: دار الكتاب العربي، 1950: رسالة الكندي في العقل وإشكالياتها، م1، ص ص 312-358- ورسالة في حدود الأشياء ورسومها، م1، ص 165.

(12)      المحاسبي: العقل وفهم القرآن. نشر حسين القوتلي. بيروت: دار الفكر  1971، ص ص 162-163، 211-212. وقارن بدراستي: بين التنزيل والتأويل، منهج المحاسبي في رسالتيه مائية العقل وفهم القرآن؛ في: أعمال مؤتمر الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب(2010). نشر دار مدارك للنشر. بيروت 2011، ص ص 11-18. ودراستي القديمة: العقل والدولة في الإسلام عند الفلاسفة والفقهاء. بيروت: دار جداول للنشر. الطبعة الخامسة 2011، ص ص 186-208.

(13)      قارن برضوان السيد: المفهوم القيمي والأخلاقي في العقل الإسلامي، مرجع سابق، ص ص 350-351.

(14)      قارن برضوان السيد: المجتمع الصالح بحسب الماوردي، والنظام القيمي في التجربة الإسلامية؛ في: مجلة التفاهم، م 35، 2012، ص ص 64-84.

(15)      أنظر عز الدين ابن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام. بيروت: مؤسسة الريان، 1990، وله: شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال. تحقيق إياد خالد الطباع. بيروت 1996. وقارن بدارسةٍ عن أعماله في الأخلاق والمصالح عند الجابري في: العقل الأخلاقي العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، ص ص 595-618.

(16)      الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة، م1، ص ص 138-148.

(17)      قارن برضوان السيد: الإسلاميون والعولمة: العالم في مرآة الهوية؛ في: الصراع على الإسلام، مرجع سابق، ص ص 149-172.

(18)      قارن برضوان السيد: الإصلاح الإسلامي وإصلاح البرامج التعليمية؛ في: الصراع على الإسلام، مرجع سابق، ص ص 213-250.

(19)      قارن برضوان السيد: الإسلاميون والعولمة، العالم من مرآة الهوية؛ في: الصراع على الإسلام، مرجع سابق، 149-173.

(20)      قارن بدراستي: الدين والدولة في زمن الثورات؛ بمجلة المستقبل العربي: العدد 206. ديسمبر 12/2012، ص ص 23- 38- ودراستي: الربيع العربي وضرورات الإصلاح الإسلامي، بمهرجان القرين، الكويت، يناير 2013.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2683#.VxKTLnErLIU

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك