إشكالية الحوار في مجتمعاتنا ومعوِّقاته

رضوان السيد

 

في البدء كان التداول:

أذكر أنّ أولَ من افتتح نقاشات الحوار وفلسفته ودلالاته في الأزمنة المعاصرة كان الفيلسوف كارل بوبر في كتابه: "المجتمع المفتوح وأعداؤه". فقد عقد فصلاً في كتابه المؤلَّف خلال الحرب العالمية الثانية اعتبر فيه أنّ الحوار الحُرَّ والمستنير في الحياتين الثقافية والسياسية يشكّل سِمةً أساسيةً من سِمات "المجتمع المفتوح". وبعكس ذلك فإنّ أنظمةَ الدول القائلة بالحتميات في كل شيئ، تُغلقُ البابَ أمام إمكانيات التحاوُر والتداوُل في الثقافة والسياسة، بحيث تُلغى مع تطاوُل الزمان ثقافةُ الحوار الحُرّ والمسؤول. لكنْ منذ الستينات من القرن الماضي، ساد من خلال الفيلسوف الألماني المشهور هابرماس مصطلح: التداول Kommünikation بيد أنّ تلميذه Axel Honneth أضاف لذلك أو وضع له شروطاً أو متطلبات مؤدَّاها أنّ غائية التداول  والتواصل الأخلاقية تفترض الاعتراف والعدالة والحرية، لكي يستوي الأمر على مستوى المجتمعات، ومستوى الدول. ولا شكَّ أنه تأثّر في ذلك بالموقف العالمي، وبالنقاشات التي أثارها أستاذ الفلسفة السياسية الأميركي جون رولز Rawls في كتابه : نظرية العدالة (1972).

لقد قدَّمتُ بهذه الفقرة، لأُشير إلى المَدَيات التي وصل إليه النقاش حول "ثقافة الحوار" في العالم المعاصر. وما كان ذلك سببه الإشارة إلى ضعف أو انعدام ثقافة الحوار في مجتمعاتنا وثقافتنا العامة. فأنا أرى أنّ العالَم اليومَ، بل ومنذ آمادٍ بعيدةٍ مثل "الأنابيب المستطرَقة لا تستقلُّ فيه وديانٌ عن مرتفعات- كما في الطبيعة- بل إنّ العالم وحدةٌ واحدةٌ في كل شيئٍ تقريباً. وإذا كان هناك تخلُّفٌ ظاهرٌ أو افتقادٌ ظاهرٌ لمسألةٍ أو واقعٍ في أيّ ناحية؛ وبخاصةٍ في الثقافة؛ فلافتقاد الشروط أو الظروف التي أشار إليها هونيت مثل الحرية والعدالة.

وبالطبع فإنّ الاستثناءات الحاصلة سواء عند العرب أو غيرهم إنما أحدثتها أو تُحدثُها عِلَلٌ متعمدة أو غير متعمدة في البلد أو في المجال المتخلِّف عن ثقافة العالم، والمسؤول عنها بالطبع أيضاً نظامُ العالم ذاته، أو – وإلى جانبه- أسبابٌ محليةٌ وعِلَلٌ محليةٌ سكتَ عنها أو دفع إليها النظامُ السالفُ الذكر.

في هذا المجال، ولأنّ موضوع البحث هو عوائقُ الحوار في مجتمعاتنا، لا أميلُ للاستشهاد بالدثائر العريقة في نصوصنا أو مواريثنا، لأنها أولاً غير مسؤولةٍ عن ظروفنا المعاصرة. ثم لأنّ الاستشهاد بهذا النصّ أو ذاك، أو هذه الواقعة أو تلك، يستدرج في العادة ردوداً مُناقضةً أو مخالفة تُوردُ وقائع أو نصوصاً أُخرى من الموروث ذاته. لكنْ لا بد مما ليس منه بُدّ، فالمعذرةُ إذا كنتُ سأُوردُ بإيجازٍ بعض تلك النصوص أو الواقعات، إشارةً إلى المفارقة  الحاصلة بين الماضي والحاضر. 

يَغَصُّ القرآنُ الكريم بالآيات التي تشير إلى اختلاف الناس في الألوان والألسنة والأذواق، والتنظيمات الاجتماعية. لكنه يضعُ قاعدةً عامةً لتنظيم هذا الاختلاف، بحيث يستطيع الناسُ العيشَ معاً، بالاختلاف والحرية في الوقت ذاته. قال تعالى:{ يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتَعارفوا. إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}(سورة الحجرات: 13). وبذلك تكونُ التقوى هي الاعترافُ بالاختلاف، والتواصُلُ على وعيٍ به من خلال التعارُف، أي الاعتراف المتبادَل بالحرية، وبالحقّ في الاختلاف، وبإمكان العيش المشترك بالتحاوُر العاقل والمستنير: { ولا تُجادلوا أهلَ الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم. وقولوا آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم. وإلهُنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون}(سورة العنكبوت: 46). ثم يصبح الحوار الأحسن قاعدةً عامةً مع الناس جميعاً في قوله تعالى: {وقولوا للناس حسنا} (سورة البقرة:83). وهكذا يكون التعارُف حريةً، ويُصبحُ عدالةً،  ويصبح أخلاقاً- أو أنه عدالةٌ لأنّ شرطه التكافؤُ في الحرية. إنّ هذا كلَّه لم يَحُلْ دون حدوث حالاتٍ كثيرة استمرت دولاً وأجيالاً ما تحقّق فيها التعارُف أو الحوار المتساوي والمتناظر. إنما كسائر حيوات وتجارب الأُمم أيضاً كانت هناك عصورٌ في مجالنا الحضاري سادت فيها قيم التعارُف والحوار مثل  القرون التاسع والعاشر والحادي عشر في المشرق، وخمسة قرون من تجارب الحياة المشتركة والتداوُلية والزاهرة في الأندلُس.

إشكالياتُ الحوار وعوائقه: عندما نتحدث عن التداوُل والتبادل فنحن لا نقصِدُ المقولة القديمة لدى الفلاسفة والمفكرين والقائلة "إنّ الإنسانَ مدنيٌّ بالطبع" بمعنى أنه في حاجةٍ إلى الاجتماع للتبادل والاشتراك في قضاء حاجاته الأساسية. وإن تكن هذه المقولة تتصل في صيغتها المتطور بفكرة العقد الاجتماعي. بل نقصد المعاني المستجدة للحوار التداولي بعد ظهور مقولة "المجتمع المدني"، والتي لا تفترض الضرورة بل التكافؤ والحرية. وفي هذه المرحلة يظلُّ  الحوار التواصلي المتكافئ ( أو لا يكون حواراً) مُشكِلاً بحدّ ذاته، لأنه يتطلب عدة شروطٍ وبيئات واسعة ومُرتاحة لا تتوافر بالقدْر المطلوب في معظم الأحيان. فإدغار موران صاحب فلسفة وآليات التفاهُم، يذهبُ إلى أنّ النزاع والخصام والتقاطُع هي اُمورٌ مُغْريةٌ للكثيرين، لأنها في بادئ الأمر وفي الظاهر لا تتطلب جَهداً خاصاً يستدعيه الحوار. ففي كثيرٍ من الأحيان فإنّ الحوار يستدعي منذ البداية تنازُلاً عما يعتبره المرءُ حقاً له. وإذا كان ذلك بين جماعات يصبح الأمر أصعَب لاختلاف الأراء  والتكتيكات حتى ضمن الجماعة الواحدة. وهنا ندخل في قضية أو مسألة الثقافة، التي هي عنوان هذه الندوة. ولا أُريد التعرض لها هنا لأنني سأعودُ إليها فيما بعد. بل إنّ الذي أُريد بحثه هو ما سمّاه الذين خطَّطوا للندوة: العوائق أمام الحوار. والواقع أنّ في مجتمعاتنا عوائق ومعوِّقات تكادُ تبلُغُ حالة الاستعصاء، وكلُّها من وجهة نظري صِلتُها بالثقافة المجتمعية والسياسية المستقرة ضعيفة. فالثقافةُ وعيٌ تتواردُ عليه عدة مكوِّنات أو عوامل بحيث يُصبحُ تقليداً أو عُرفاً مستقراً وإن بشكلٍ نسبي. وتتبادلُ التأثير فيه وعليه ثلاثة عوامل عامة: التقاليد الموروثة للعلائق بين الناس - وترتيبات السلطات والمرجعيات الاجتماعية والسياسية- وما سميتُه من قبل "نظام العالم"، والذي مثّل القواعد المعتبرة والمعترف بها في النظام الدولي بما في ذلك الجوانب الثقافية والقيمية، وما تتداوُلُه وسائلُ الإعلام السيّارة؛ وهي تتناولُ الحريات الخاصة والعامة. وهذه العوامل الثلاثة تتلاءم أو تتصادم أو تتوازنُ بعد صدامٍ ودائماً لصالح نظام العالم السائد. وسأتناولُ العقبات والعوائق بالترتيب من وجهة نظري في قدراتها على التأثير والفعل والإعاقة. ثم اختم ببعض الملاحظات التي يمكن أن تكونَ مفيدةً في الخروج التدريجي مما نحن فيه من ضعفٍ للحوار التداوُلي، وليس لثقافة الحوار.

أولاً:  معوِّقات الدولة الوطنية العربية في مرحلتها الثورية: ذهب ماكس فيبر (1864-1920) إلى تحديد ثلاثة أنواعٍ أو أشكالٍ للشرعية: الشرعية التقليدية، والشرعية الدستورية، والشرعية الكارزماتية. ولأنّ هذه القسمة متداوَلةٌ كثيراً في العلوم الاجتماعية والسياسية فلا حاجة للإسهاب في شرحها، وهي على أي حال ليست موضوعَنا. لكنْ كان بين الدارسين الغربيين مَنْ نَسَب أصول أو مسوِّغات الأنظمة العربية العسكرية والأمنية في النصف الثاني من القرن العشرين المنقضي إلى النمط الثالث من أنماط الشرعية وهو النمط الكارزماتي، أي أنها أنظمةٌ كوربوراتية شعبوية تتمحور حول شخصية القائد. بيد أنّ مايكل هدسون في كتابه الصادر أواخر الستينات بعنوان "السياسات العربية" رأى أنّ الأنظمة العسكرية العربية في معظمها ما كانت ذات شعبيةٍ جارفة، ولا كان قادتها ذوي جاذبيةٍ جماهيريةٍ كبرى، ولذلك ارتأى التحدث عنها وعن بعض الأنظمة في أميركا اللاتينية وإفريقيا تحت اسم: الشرعية الثورية. بمعنى أنها قامت نتيجة انقلابٍ عسكري قامت به قلةٌ من الضباط استولَوا على السلطة بالقوة بداعي الثورة على الواقع القائم وإرادة تغييره بالقوة لصالح التغيير الداخلي الجذري، والتحرر من السيطرة والتبعية للخارج الاستعماري أوالإمبريالي. إنّ حكم القلّة أو الطُغمة هذا بحسب المصطلح الأرسطي يزعم أنه يستجيب للإرادة الشعبية في التغيير، لكنه لا يقول بالتداوُل من أي نوع. فهو لا يعتمد الوسائل والآليات المعاصِرة في الانتخابات وتكوين المؤسسات، ولا يقول بتداوُل السلطة، ولا يلتزم الحريات العامة. ومع أنه يقول بنظام الحزب الواحد – شأن الدول الاشتراكية- فإنّ الحزب، الذي مثّل فئةً مختارةً من أبناء الشعب، لا يحكم في الحقيقة، بل إنّ القائد وأعوانه هم الذين يحددون كل شيئٍ بداخل الحزب، وفي النظام والدولة. ولأنّ الحياة السياسية حزبيةً وغير حزبية مُلْغاةٌ؛ فإنّ الحوار التداوُلي لا تتوافر له أيةُ  وسيلةٍ للبروز والإعلان عن نفسه، وممارسة حرياته أو الحريات من أي نوع. وإذا كان الحوار الحر والمسؤول يشترط الحرية والتكافؤ والعدالة؛ فإنّ أياً من شروطه ما توافر سياسياً ولا اجتماعياً ولا اقتصادياً ولا إعلامياً في أيٍّ من الأنظمة العسكرية والأمنية التي سادت في دولٍ عربيةٍ رئيسيةٍ مثل مصر وسورية والعراق والسودان والجزائر وليبيا، وعلى مدى أكثر من خمسة عقود. هل صنع هذا الواقعُ ما يمكن اعتبارُهُ ثقافةً أو وعياً بضرورات الاستبداد؟ بالطبع لا، لكنه أعاق إلى حدٍ بعيدٍ تكوُّنَ فئات "المجتمع المدني" التي يُعتبر الحوارُ التداولي أولَ وأهمَّ شروط نشوئها. عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" الصادر في مطلع القرن العشرين اعتبر أنّ الاستبداد مُفْسِدٌ للدين والأخلاق والمجتمعات ونظام الدولة. بيد أنّ الذي وقع وصار ممارسةً كان التمردات الهوجاء اليسارية في زمن اليسار، والإسلامية في زمن الإسلاميات الجديدة وعودة الدين كما يقال. وتلك التمردات دعمت وتدعم سطوة الأنظمة، بسبب القمع المفرط، وخوف الفئات الاجتماعية الوسطى من الفوضى، وميل النظام الدولي في زمني الحرب الباردة والهيمنة إلى دعم الأنظمة التي لا يُهدد وجودُها وخلودُها مصالحه. إنما ومرةً أُخرى: هل صار الأمر ثقافة؟ أي المراوحة بين الخضوع والتمرد الأهْوَج؟ بالطبع لا، بدليل أنّ سائر الحراكات المدنية في العام 2011 إنما اندلعت في البلدان العريية التي سادتْها أنظمةٌ من هذا النوع.  وقد اعتمدت جميعها على وسائل التواصُل الاجتماعي التي صارت قنواتٍ حواريةً مفتوحة، وهذه هي الثقافة العالمية الجديدة التي توشكُ أن تصبح جزءًا أساسياً من نظام العالم. لا يمكن، وبمقتضى قانون الأنابيب المستطرقة، أو التواصُل العالمي أن يصبح الطغيان من جهة، والخضوع والصمت من جهةٍ أُخرى، ثقافةً لأي شعب. لكنّ مجتمعات التداول وإن حصلت فيها انتكاسات باتجاه الاستبداد أو الكارزماتيات؛ فإنها تتمكن من التصحيح واستعادة التداول  للخطاب وللتنظيم وللسلطة، أكثر من البلدان التي اعتمدت أنظمتها من أجل البقاء في السلطة على الطغيان والقمع بالوسائل العسكرية والأمنية. وبهذا المعنى، ومعنى الانتماء لنظام العالم، تُعتبرُ الأنظمة العربيةُ الأمنيةُ والعسكريةُ في الزمن الثاني للدولة الوطنية، معوِّقات للحوار التداوُلي السياسي والاجتماعي والذي يقع في الأزمنة الحديثة والمعاصرة في أصل نشوء المجتمع المدني وتطوره.

وهناك النوعُ الآخَرُ أو الشكل الآخر من أشكال الشرعية وهو الشرعية التقليدية التي سادت في مجتمعات الخليج ودوله. وهي أكثر رجحاناً في موازين الشرعية بالطبع من اللاشرعيات الانقلابية السالفة الذكر. وهي كانت تحظى ولا تزال بشعبيةٍ ظاهرةٍ في دُوَلها. وقد تطور بعضُها إلى ما يشبهُ الملكيات الدستورية. بيد أنّ مجتمعاتها المدنية ما تطورت على النحو الذي يمكنُ اعتبارُها معه مجتمعات تداولية، بمعنى مشاركة الحوار المجتمعي والسياسي في تكوين السلطة وتداولها. وهذا التفاوُتُ أو الفوات بين التحديث الهائل وجمود البُنى السياسية والمجتمعية، ليس سببه الأول الموروث القبلي أو العشائري، بل طرائق عمل الأنظمة على تخليد البُنى التي ما عاد لها غير معنًى مصطَنع مع تضاؤل وظائفها، وتركُّز الثروة حيث تتمركز السلطة، والعائلات الكبرى من حولها. ثم إنّ النُخَب الثقافية والسياسية الحديثة في الخليج ما خاضت نضالاتٍ سلمية طويلة الأمد من أجل التداوُل في المجتمع والسلطة؛ فظلَّ الطابع التكنوقراطي غالباً على مسالكها.  وعلى أي حالٍ؛ فإنّ الانسدادات التي شخّصها الأستاذ نزيه الأيوبي( في كتابه: تضخيم الدولة العربية، 1994) في الأنظمة العسكرية والأمنية، ما حصلت في دول الخليج؛ بينما حصلت في دولٍ مثل لبنان وتونس بزغت فيهما مجتمعاتٌ مدينةٌ تداوُلية، لكنها ما استطاعتت التأثير في التغيير والتطوير والتداول السياسي. وهو الأمر الذي حصل أخيراً في تونس، دون لبنان.

ثانياً: الإعاقات الدينية والإعاقات الحاضرة باسم الدين: المجتمعات الدينية السنية التقليدية مجتمعاتٌ سواسية، والمجتمعات الدينية الشيعية مجتمعاتٌ هرمية. ولكلٍ منهما تداوُليتها أو تعدديتها الخاصة. أما عند السنة فهي قائمةٌ على تعدد المذاهب الفقهية ووجود الصوفية والإسلام الشعبي. وأما عند الشيعة فهي قائمةٌ على تعدد المراجع. وهي تداوُليةٌ محدودةٌ لا تتناول الأمورَ العقدية المسلَّم بها، بل تتناولُ الفروع الفقهية المتعلقة بحياة الناس اليومية ومعاملاتهم وأخلاقهم. وقد تفاقم الجمودُ على التقليد لدى الطرفين في القرن الثامن عشر، بدليل ظهور حركات تجديد لدى الطرفين، لكنه كان تجديداً باتجاه التشدد والعقائد الصارمة، فحتى المجال الفقهي الفروعي جرى ربطه بالاعتقاد. وهذا ما ظهر في الوهّابية والسنوسية والمدنية والعلوية وغيرها. كان الهمّ الخلاص من تصوف الطرق التقليدية والإسلام الشعبي. وباستثناء الوهّابية والسنوسية، واللتين أقامتا دولةً لاحقاً واستولتا على المؤسسة الدينية للتعليم والفتوى، فإنّ المؤسسات الدينية التقليدية صمدت في العالم السني مثل الأزهر والقرويين والزيتونة وديوبند. بيد أنّ الحِراكين السلفي والإصلاحي عادا للارتفاع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد كانت لهما ظاهراً أهداف واحدة: التصدي للإسلام الشعبي، وللمؤسسة الفقهية التقليدية، وفتح باب الاجتهاد. ولذلك فإنّ محمد عبده كان معتبراً سلفياً لهذه الناحية؛ في حين كان هو يريد ضرب التقليد من أجل التحديث الديني والاجتماعي، بينما كان السلفيون من الهند وإلى مصر والجزيرة العربية يريدون العودة للكتاب والسنة متجاوزين المذاهب الفقهية التقليدية.

ولستُ هنا في مجال قراءة التطورات الدينية في مجالنا العربي في القرن العشرين. بل ما قصدتُ إليه أنّ هدفَ الإصلاحيين من وراء ضرب التقليد، وفتح باب الاجتهاد، كان إدخال الدين والنقاش الديني إلى مجال التداوُل الفكري والثقافي والاجتماعي، وبالتالي إحداث تغيير في التفكير بالدين، وفي المؤسسات الدينية التي كانت تتولى التعليم الديني والفتوى والإرشاد العام. ولأنّ المشروع السياسي كان قيدَ التجديد في صِيَغٍ متقاربةٍ للملكية الدستورية، فقد اعتقد الإصلاحيون أنّ المؤسسات الدينية بما لها من تأثيرٍ على العامة تستطيع إذا تجدَّدت ممارسة التأثير الإيجابي في كسْب الجمهور للأنظمة الجديدة. وما حدث أو استجدَّ شيئٌ من ذلك إلاّ بشكلٍ محدود ومبتسَر. ولا يرجعُ ذلك لاستعصاء التقليد. فقد انكسر التقليد تحت وطأة الحداثة الفكرية والثقافية والاجتماعية، بيد أنّ الذي حلَّ محلَّه الطهوريات المتشددة التي أُسمّيها في دراساتي الإحيائيات. ونحن نعرف أو صِرْنا نعرفُ منذ السبعينات من القرن الماضي أنّ تلك الإحيائيات تطورت إلى حركاتٍ وأحزابٍ عنيفة أو يمكن أن تكون عنيفة. وقد اصطدمت أولاً بالمؤسسات الدينية المحدَّثة برعاية السلطات أو استتباعها، ثم اصطدمت بالأنظمة الأمنية والعسكرية الحاكمة، واصطدمت أخيراً بأصلها الطهوري، ففجَّرت الدين وصادمت العالم وما تزال.  

لماذا حدث ذلك وكيف؟ حدث ذلك لأنّ الطهوريين هؤلاء أحدثوا – شأن الحركات الاحتجاجية البروتستانتية واليهودية والآن البوذية والهندوسية أيضاً – قطيعةً مع التقليد الذي اعتبروه خانعاً ومستسلماً، وأرادوا باسم قداسة الهوية صَون الجماعة من شرور العالم المعاصر، عالم الجاهلية الثانية. وما تنبه الكثيرون لخطورة انكماشيتهم وتشددهم في العقود الأُولى. في حين كانوا هم يبنون جمعياتهم الخاصة، ومدارسهم الخاصة، ويصنعون ملابسهم الخاصة، وأشكال الهيئة. ثم انطلقت تلك الجماعات خارجةً من الانكماش والتقوقع بعد حدثين هائلين: انفصال أقاليم ونواحي أكثرية إسلامية عن الهند في دولة باكستان عام 1947 بحجة أنّ المسلمين لا يستطيعون العيش مع غيرهم في دولةٍ لا يحكمونها هم بمفردهم، لأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم- والحدثُ الآخَرُ سقوط فلسطين بأيدي الصهاينة عام 1948. وظلت قوتهم محدودة رغم نشاطاتهم الواسعة، إلى أن ظهرت  بوادر الفشل في الدولة الوطنية العربية والإسلامية في مرحلتها الثانية. فتكاثرت الأدبيات العَقدية بشأن افتقاد الشرعية، وضرورة استعادتها من طريق إقامة الحكم الإلهي(= الحاكمية) أو تطبيق الشريعة. وبذلك صار نظام الحكم ركناً من أركان الدين، وصارت مهمته ليس إدارة الشأن العام والحكم الصالح، بل تطبيق الشريعة! ونحن نعلم منذ ثلاثة عقود أنّ هؤلاء انقسموا إلى قسمين: إسلام سياسي، وإسلام جهادي. والأول يريد ويسعى للتغيير التدريجي بالوصول إلى السلطة دون عنف، ثم تطبيق الشريعة بعد التمكين، والثاني يريد إقامة حكم الله في الأرض بالقوة!

وإنني أرى أنّ حركات الهوية هذه أثرت في الدين وفي الثقافة العامة أكثر مما أثر فيهما الحكام المتسلطون. أولئك ألْغَوا المجتمع السياسي وهو الساحةُ الأكثر اعتماداً على الحوار والتداول. لكنهم فعلوا ذلك بالإرغام والتخويف وإثارة المخاوف على النفس وعلى الممتلكات وعلى الوطن والدولة. وهكذا فإنهم ما استطاعوا تغيير الوعي. أمّا دُعاةُ الهوية؛ فإنهم غيَّروا الدين بحجة إعادته إلى مساره الأول. وأعني بتغيير الدين اعتبار الإسلا م ديناً ودولة، ولذا لا بد من إقامة الدولة الإسلامية لإحقاق الدين. إنّ نصف المتدينين المسلمين يعتقدون اليوم أنّ الإسلام يتضمن نظاماً للحكم، والسواد الأعظم من هؤلاء غير مستعدين لممارسة العنف توصُّلاً لإقامة الدولة، لكنهم يرغبون فيها، ويطالبون حكّامهم بتطبيق الشريعة منذ الستينات من القرن الماضي. وقد فهم الرئيس السادات ذلك فأدخل المادة الثانية في الدستور عام 1971 والقائلة إنّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي في التشريع ثم تبعته دول عربية وإسلامية كثيرة!

إنّ التقليدية الإسلامية السنية تقيم تلازماً بين فقه الدين وفقه العيش، وعندما تغير من طريق الإسلاميين فقه الدين، تغير بالتبع فقه العيش. وهذا معنى القول إنّ الإحيائيين السياسيين والعنيفين هؤلاء أثروا تأثيراتٍ فاجعةً في ثقافة الجمهور إزاء الدين وإزاء الدولة. وبالطبع فإنّ الكفاية والعدالة ظلتا قيمتين بارزتين، لكنهما قيمتان ذواتا مرجعية دينية محدَّدة بالتفاصيل، وهي تفاصيل لا تقبل النقاش.

ثالثاً: إعاقات النُخَب السياسية والثقافية للمجتمع المدني التداوُلي:

عندما نقول إنّ التقليد انكسر، وإنّ الأُصوليات الطهورية خرجت من بين شقوقه المحطَّمة، فليس معنى ذلك أنّ الفقهاء الإصلاحيين ما أثروا ومن داخل المؤسسات الدينية المحدَّثة ومن خارجها. لقد بُذلت جهودٌ هائلةٌ لفتح التقليد  ونقده واستيعابه وتجاوُزه. وشاع مصطلح تجديد التقليد. وكان هناك مَنْ حاول إيجاد شرعيةٍ للمفاهيم والمؤسسات المعاصرة من داخل الموروث.  ثم إنّ أولَ من قال إنّ نظام الحكم في الإسلام مدني هو فقيهٌ كبير. وأول من قال بفصل الدين عن الدولة هو فقيهٌ بارز. وأولُ من قال إنّ الجهاد دفاعيٌّ وهو ليس أساساً في العلاقة مع العالم هو فقيهٌ كبير. وصدرت كتبٌ بالغة الجدية عن الدين والحرية. وكتب السيد محمد حسين فضل الله عن الحوار في القرآن. بيد انّ الثقافة الأُخرى الطهورية المتشددة والعصية على الحوار والتداول، صارت لها اليد العليا في فقه الدين، رغم كل شيئ. كان أُستاذنا الراحل شيخ علماء الشام وهبة الزحيلي يجادلني في أنّ التقليد الفقهي الإسلامي في شتى مذاهبه ما يزال ذا شعبيةٍ كبيرة. وقد استدلَّ مرةً قبل أعوام على ذلك بأنّ كتابه الضخم: "الفقه الإسلامي وأدلته" في ثماني مجلدات طُبع عشر مرات، وتُرجم إلى التركية والملاوية.. الخ. وقلتُ له: كم تقدّر عدد ما بيع من نُسَخة بكل اللغات؟ قال: أكثر من خمسين ألفاً! قلت: فكم تُقدّر أنّ كتاب سيد سابق: "فقه السنة" قد باع؟ قال: لا أدري، قلت: باع مليون نسخة! وكم تقدّر أنّ كتاب الشيخ القرضاوي: "حتمية الحلّ الإسلامي"، قد باع؟ قال: لا أدري، لكنه طُبع خمسين مرة! قلت: بل ستين، وباع حوالى المليوني نسخة، فقال متضاحكاً: يعني أكثر من كتاب عائض القرني المسمَّى : لا تحزنْ!

ومع ذلك فأنا لا أقصد بإعاقات المثقفين العرب للحوار العقلاني والتداولي ما قام به الفقهاء الإصلاحيون أو المتشددون. بل أقصد بذلك جهود وأعمال: المثقف الإنتلجنسي. أي المثقف الحديث بالمعنى الفرنسي، صاحب الدعوة والمقولة والرسالة الحوارية والتداولية. وناشر قيم العقلانية التنويرية الهادمة والبانية والصانعة للبدائل في المجتمع المدني، والمجتمع السياسي. هناك بحوثٌ ودراساتٌ عربية جادّةٌ بالطبع عن الديمقراطية وعن المجتمع المدني وعن العلمانية. بيد أنّ معظم المثقفين غادروا النضالَ منذ ثلاثة عقودٍ وأكثر. وما كانت علاقاتُ أكثرهم بالسلطات الأمنية والعسكرية سيئة. وهم يقولون إنهم كانوا دائماً ينصحون بمراعاة الحريات وبالديمقراطية! بيد أنّ علاقات معظمهم بالجمهور وثقافته وحياته وطرائق تفكيره ما كانت على ما يرام. ما كان هناك مثقف بارزٌ في العالم العربي إلاّ وكتب ضد التراث والموروث الديني والثقافي ودعا للقطيعة معه أولاً من أجل الدخول في الحداثة وثقافتها، وثانياً وفي العقود الأخيرة من أجل مكافحة الأُصوليات. وما عرف أحدٌ منهم حتى التسعينات أنّ الإحيائيين الأصوليين قاموا في الأصل على أنقاض التقليد، وأنهم اخترعوا نظاماً فكرياً جديداً علاقتُه بالموروث علاقة رمزية، والمرجعية عندهم كما نعرف ليس التجربة التاريخية، بل الكتاب والسنة بتأويلاتٍ ما أنزل الله بها من سلطان. ولذلك فإنّ النضال من أجل الحريات والتداوُل الذي ما كان منتظراً أن يظهر من سياسيي الأنظمة العسكرية والأمنية باعتبار ذلك ضد مصالح سادتهم، ما ظهر أيضاً في أُطروحات كبار مثقفي الأمة باعتبارهم كانوا مشغولين بإحداث قطيعة مع الماضي الديني والثقافي للأمة، لأنّ في ذلك الإنقاذ الحقيقيَّ من التخلف! وكنا ما نزال صغاراً عندما انعقدت ندوة الكويت عام 1974 عن أزمة الثقافة في العالم العربي، وباستثناء أنور عبد الملك وقتَها، كان الإجماع أنّ الأزمة سببها إعاقات الثقافة التاريخية الموروثة. لماذا هذه المشكلة مع الموروث؟ إنها تجربةٌ مضت وانقضتْ، وهذا التشديد على القطيعة معها أو التحرر والتحرير منها، كما قال الأستاذ الجابري، لا يفيد في شيئ، ولا يبني ثقافةً حديثةً بديلة، ويُلقي بالدين والجمهور إلى أحضان الإسلامين السياسي والجهادي!

وهكذا واستثناءاتٍ ضئيلة؛ فإنّ المثقفين العرب المتخرجين في الغرب كلّهم حاولوا إنجاز قطيعتين: قطيعة مع الموروث للدخول في الحداثة بدون انسدادات- وقطيعة مع الغرب، باعتبارهم يساريين ومعادين للرأسمالية والإمبريالية. والعملُ بهذا المنهج وهذه الطريقة لا يُنتج مجتمعاتٍ مدنيةً تداولية، لا تنتجها في العادة غير القوى التداولية والتواصلية مع العالم. فإذا كان مثقفو العرب ما شكلوا إعاقةً للمجتمع التداولي؛ فإنهم أيضاً ماكانوا فعّالين في استحداثة وتطويره.

ملاحظةٌ وأفكارٌ ومخارج: قبل الدخول في الأفكار والمخارج، أودُّ الإدلاء بملاحظةٍ بشأن "الثقافة" أو النقد الثقافوي. لقد قلت إنّ هناك ثقافة دينية جديدة تكاد تغيّر من طبيعة الدين. وقد سمَّيتُ ذلك ثقافةً، لأنّ فئات واسعة من الجمهور صارت بالغة الاقتناع بها، دون أن يعني ذلك بالطبع الميل لاستخدام العنف لإحقاق الدين وشريعته، ما دام المؤمنون مكلفين بتطبيق الدين. ولا يمكن قول الشيئ نفسِه بالنسبة للثقاقة السياسية، والثقافة العامة. إنّ مفرد الثقافة لا ينبغي أن يُستخدم في سياقاتٍ غير ملائمة، وإلاّ تجوهر وثبت. ولا ننسى أنّ التجوهُر الثقافي هو الأُطروحة التي اعتنقها أصحاب نظرية صدام الحضارات، لأنّ  ديننا في الأصل  يملك تخوماً دموية. وأدونيس قال إنه ليس مع الاحتجاجات في سورية، لأنها تخرج من المساجد: من أين سيخرجون إذن؟ أين هي الأغورا التي تركها لهم الأسد الابن وقبله الأسد الأب؟!

ولنمض بإيجازٍ إلى الأفكار والمخارج. وأنا أُوجزُها في أربعة:

أ: بعث الحيوية في المجتمع السياسي، لأنّ المجتمع السياسي هو الذي يُنشئُ التداول، ومن طريق التداول يقوم نظام الحكم الصالح. لن تعود الديكتاتوريات. لكنّ الناسَ خائفون على الدولة. وإذا تدعَّم الاستقرار، فسيكون على المثقفين المسيَّسين العمل على المجتمع المدني والآخر السياسي. إنّ التداولية المجتمعية والسياسية تؤثر كثيراً في مسائل الحوار على طريق إقامة الحكم الصالح أو الرشيد. لا يمكن الانتظام في نظام العالم المعاصر إلاّ بمجتمع مدني وسياسي. وهذا عمل كهول الحركات الشبابية، وحركات وأحزاب المجتمع السياسي.

ب. العمل معاً متدينين وغير متدينين على أمرين اثنين: نقد المفاهيم المحوَّلة للدين ومكافحة ظواهر العنف والإرهاب بكل سبيل- والأمر الثاني: إحياء المؤسسات الدينية وزيادة فعاليتها لتمكينها من القيام بكفاءة بمهامِّها الأربع: وحدة العبادات، والتعليم الديني، والفتوى، والإرشاد العام. لا تنجح الدول في إدارة الدين ولا في استتباع مؤسساته. فقد فعلت ذلك من قبل  فانفجر الدين بأيدي الدولة والمؤسسات. إنّ الممكن هو تقسيم العمل، والانسجام بين المؤسسات والدولة، كما كان عليه الأمر في الحِقَب الكلاسيكية. لا بد من نقاشٍ عامٍ ومسؤول في ضرورات الدولة، وخيارات الدين والأمة، كما كان الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين يقول. وإذا كانت المؤسسات الدينية عند أهل السنة هي مؤسسات تطوعية؛ فإنّ  رساليتها ينبغي أن تبرز الآن، أو يظلَّ الدين في أيدي الجهاديين وجماعات الإسلام السياسي.

جـ. نحن أحوجُ ما نكون إلى نهوضٍ فكري وثقافي كبير. وهذا الأمر لا تستطيع القيام به وسائل التواصل الاجتماعي، وإن لم يعد الاستغناء عنها ممكناً.  إنّ الذين يمكنهم القيام به- وقد فوتوه من قبل- هم المثقفون الذين يعرفون حراك الفكر والثقافة في العالم. إنّ المطلوب تصحيح العلاقة بالتاريخ وبالعالم. وهاتان المهمتان هما مهمتا المثقفين.

د: تؤثّر علينا نحن العرب حالة "الخواء الاستراتيجي" التي تجعل الأقربين والأبعديين يتدخلون في شؤوننا وسيادتنا، فنظلّ نُعاني من الاستنزاف ومن المرارات، فندور في حلقةٍ مفرغةٍ من ردود الأفعال القاتلة والمقتولة- كما يحصل اليومَ مع داعش ومع الإيرانيين ومع الروس والأميركيين. ويتطلب هذا الأمر الذي يتهدد الدول والمجتمعات والأجيال القادمة مجموعات استراتيجية للتفكير والتقدير، كما يقتضي تكوين مجموعات دفاعية في العسكريات والدبلوماسيات. نحتاج إلى "التكامل العربي" والفعل العربي المشترك. ولن يحصل ذلك بدون نقاشاتٍ علنيةٍ في الأهداف، وفي القدرات على الفعل.

إنّ ثقافة الحوار، هي ثقافة التداول والتكافؤ والحرية، والتي تصنعها المجتمعات المدنية والسياسية معاً. ديننا في خطر بسبب الانغلاق والثوران ومصادمة العالم. ودولنا في خطر بسبب خواء الدواخل، وهجمات الخارج. فلنتقدم على طريق الحوار العقلاني التداولي لفتح الأُفق على صَون المجتمعات، والخروج على الخوف على الدين والخوف منه، وصنع دولة الحكم الصالح والرشيد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) ألقيت بندوة مجلة عالم الفكر الكويتية عن "ثقافة الحوار" في 26/11/ 2015.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2756#.VwwUqk8rLIU

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك