التربية الثقافية في القرآن

 

د. مجدي حسن

 

 

 

حمل القرآن على عاتقه إعادة الصياغة الفكرية والثقافية للإنسان، الإنسان الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض ليقوم بتطبيق منهج الله. هذا الإنسان لابد أن تتكامل عنده الرؤية إلى الحياة بكل جوانبها، لابد أن يكون على وعي تام بكل ما حوله من الكون لمعرفة المبدأ والمآل والحكمة والوجهة التي يتوجه إليها.

 

لقد تردى الجانب المعرفي والثقافي لدى الإنسان زمن الفترة قبل بعثة النبي  " صلى الله عليه وسلم"  فكان لابد من إعادة صياغة هذه العقول وتربيتها تربية ثقافية تأخذ بأيدي الإنسانية إلى تحقيق المراد من وجودها.

 

من هنا جاء القرآن بمنهج التنوير ليأخذ بيد العقل الإنساني ليهديه سواء السبيل لاسيما العقل المسلم ليطلق له عنان الفكر والتدبر والنظر في الأنفس والآفاق.

 

بل أطلق العنان للعقل هناك.. هناك.. في عالم الملك والملكوت والعلم والإبداع والتاريخ القديم والجغرافيا وعلم الزراعة وعلم الصناعة والعمل التطوعي، بل والأفكار الدائرة في العالم من الملل والنحل ورسالات السماء السابقة على القرآن الكريم وما طرأ عليها من التغيير والتبديل.

 

لقد ربى القرآن الكريم المسلم على النظر في الآفاق والملكوت الذي لا يدركه بعينه بقدر ما يدركه بعقله وفكره.

 

فطالب القرآن المسلمين بالنظر والتفكر في مخلوقات الله تعالى في العالم العلوي والعالم السفلي فقال تعالى: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ } (يونس:101).

 

وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران:190).

 

فجعل الكون محرابا للعابدين.

 

وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات:21)

 

ووجه القرآن الكريم العقل المسلم إلى النظر إلى التاريخ والاعتبار بمصير الأمم السابقة كما قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (الصافات:137-138).

 

وقال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ  جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ  كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ  بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا  وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} (سبأ:15-17)

 

ومع مراعاة أن القرآن الكريم ابتدأ نزوله بمكة التي لم تشتهر بالزراعة إلا أن القرآن الكريم عمل على تثقيف المسلم بثقافة زراعية بذكر أنواع الزروع والثمار وألوانها.

 

فقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (الرعد:4).

 

ويطوف بالعقل المسلم في مملكة الأنعام ليرشده إلى الحكمة من خلقها وتنوع وظائفها. فقال تعالى: { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا  لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ  إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (7) } (النحل:5-7).

 

وفي الجانب الفكري من العقائد والملل والنحل ارتفع القرآن الكريم بثقافة المسلم حتى يكون على وعي بالحركة الفكرية المنتشرة في المجتمعات، والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } (الأنعام:55).

 

فيتعرف الفلسفات المختلفة وينقدها ويوجهها ويبين تهافتها.

 

ويرتقي أكثر بثقافة المسلم حين ينهاه عن الجدال إلا بالتي هي أحسن فيكون على مستوى الحوار العلمي والأخلاقي مما يؤهله لإثبات المطلوب ودحض الشبهات.

 

قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ  وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (العنكبوت:46)

 

إن التربية الثقافية في القرآن الكريم لا تنفك عن الأخلاق الكريمة والسلوكات الحميدة فهي جزء منها وليست ندا لها.

 

قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ  وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ  إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ  وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل:125).

 

فهي ثقافة معتدلة عفيفة، الفضيلة جزء منها، أما الثقافة الفاجرة فالقرآن يريد من المسلم أن ينهى عنها وينأى عنها.

 

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ  وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور:19).

 

الجانب التطبيقي لثقافة الآخر في حياة النبي  " صلى الله عليه وسلم" 

 

إن النبي  " صلى الله عليه وسلم"  تعامل مع غير المسلمين أخذا وردا ونقدا، فما كان مما عندهم يحقق المصلحة والمنافع للأمة أو لا يتعارض مع القرآن والسنة فلا بأس أن ننتفع به ونتعرف عليه طالما توافق مع الأصلين العظيمين القرآن والسنة.

 

وقد قال الفقهاء: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.

 

وقد أخذ النبي  " صلى الله عليه وسلم"  فكرة الخندق -التي لم يكن يعرفها العرب- من سلمان الفارسي، فتلاقح الثقافات تحت لواء الاسلام لا غبار عليه طالما يخدم المصلحة العامة للأمة.

 

وقد استفاد النبي  " صلى الله عليه وسلم"  من خبرة عبدالله بن أريقط الذي كان مشركا في طريق هجرته ليكون دليلا له في هذه الرحلة الخطيرة التي يتوقف عليها مستقبل الدعوة إلى الله.

 

لقد أسهمت هذه التربية الثقافية في إنشاء جيل يعرف كيف يتعامل مع ثقافة الآخر. وما يأخذ منها وما يذر.

 

فعمر بن الخطاب  "رضي الله عنه"  أخذ بتدوين الدواوين وذلك بعد الفتوحات لبلاد فارس والروم فرأى ذلك النظام في تدوين أسماء الجند والعطايا وغير ذلك، وإن كانت تكتب بلغاتهم حتى ترجمت في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان إلى اللغة العربية.

 

فكان هناك وعي ثقافي لدى هذه الثلة المباركة تفرق بين ما هو مفيد ونافع يدخل تحت العلم النافع ويفيد المصلحة العامة وبين ما هو تشبه محض لا يفيد ولا يسمن ولا يغني من جوع فيدخل صاحبه تحت حديث رسول الله  " صلى الله عليه وسلم" : «من تشبه بقوم فهو منهم».

 

ضوابط تقبل ثقافة الآخر

 

وقد وضع النبي  " صلى الله عليه وسلم"  ضوابط التلاقح الثقافي مبينا كيف يتعامل المسلم مع ثقافة الآخر.

 

ففي الحديث الشريف قال  " صلى الله عليه وسلم" : «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (صحيح البخاري).

 

فهذا إذن من النبي  " صلى الله عليه وسلم"  يبيح الرواية عن أهل الكتاب، ولكن ليس على إطلاقه، بل بما يوافق الكتاب والسنة.

 

وللمرويات التي لا نعلم صدقها أو كذبها موقف آخر، روى أبوهريرة  "رضي الله عنه"  قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال  " صلى الله عليه وسلم" : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (الآية) (صحيح البخاري).

 

وهذا فيما إذا أخبروا بشيء لا نعلم صدقه ولا كذبه فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقا، ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلا، ولكن نؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط وهو: أن يكون منزلا، ولا مبدلا، ولا مؤولا.

 

تلك هي الضوابط التي وضعها النبي  " صلى الله عليه وسلم"  للتعامل مع ثقافة الآخر بقوله وفعله حتى يكون المسلم خبيرا بالواقع على صلة بالماضي والحاضر والمستقبل.

 

فأي مرونة وعقل متفتح، وفكر متقد، وفطنة لماحة اتسم بها عقل النبي  " صلى الله عليه وسلم" ؛ ليربي جيلا من المسلمين متواصلا مع الآخر مخترقا حدود الزمان والمكان فلا يمنعانه من الانتفاع بالعطاء الثقافي في أي زمان ومكان، ليسوا متقوقعين داخل الذات يجهلون ما يحدث خارجها.

 

إنها رسالة للمسلم في كل مكان وزمان.. اقرأ، اكتب، سطر بالقلم، انطلق، تعلم، تفكر، تثقف، أبدع، قدم جديدا للعالم، وتواصل مع بني جنسك، ولا تكن عالة على الناس في العمل، والإبداع، والفكر، والثقافة، إنها تربية القرآن الكريم.

http://alwaei.gov.kw/Site/Pages/ChildDetails.aspx?PageId=888&Vol=610

الأكثر مشاركة في الفيس بوك