حوار الأديان والثقافات حالة مقدونيا نموذجاً
حوار الأديان والثقافات حالة مقدونيا نموذجاً
بعد دعوة المجمع الثاني للفاتيكان في 1965 لـ"الحوار بين الاديان"، التي كانت تعني فيما تعنيه الاعتراف بالاخر بعد قرون من تجاهله، احتضنت بيروت في 1972 أول ندوة عن الحوار الاسلامي المسيحي لتتواصل بعدها في تونس عام 1974 ثم في بلدان عديدة لتتحول بعدها الى اطار موسع تحت اسم "حوار الاديان". ومع الاهتمام بالهويات والثقافات المحلية بعد الحرب الباردة، التي شكلت مدخلا لحروب جديدة، برز لدينا أيضا الدعوة لـ "حوار الثقافات" ثم أصبحت لدينا سلسلة ندوات ومؤتمرات باسم جامع جديد "حوار الاديان والثقافات ".
وفي هذا السياق يمكن الحديث عن المؤتمر العالمي الثاني عن "حوار الاديان والثقافات" الذي عقد حول "الدين والثقافة الرابطة المتينة بين الامم" في مدينة أوهريد بجمهورية مكدونيا خلال 6-9 أيار 2010 في حضور حشد كبير من ثلاثين دولة يمثلون أهم الاديان في العالم، الذي شاركت فيه بدعوة من رئيس الحكومة.
ومن حيث الشكل يبدو أن اختيار المكان كان مناسبا لهذا النوع من الحوار بين الاديان والثقافات. فمدينة أوهريد، التي تنسب الاساطير بناءها الى قدمس الفينيقي ابن الملك آغنور، اكتسبت أهميتها الدينية والثقافية لليهود والمسيحيين والمسلمين خلال العصر القديم (الروماني والبيزنطي) والعصر الوسيط (البلغاري المكدوني ) والعصر الحديث (العثماني) ما جعلها توصف أيضا بـ "القدس الثالثة" بعد سراييفو والقدس الاولى.
ولكن هذا "الحوار" أريد منه أيضا أن يعبر عن حالة "جمهورية مكدونيا" التي استقلت عام 1991 عن يوغسلافيا السابقة والتي خرجت من حرب داخلية في 2001 لم يكن الدين خارجا عنها. ومن هنا رأت وزارة الثقافة أن تتبنى عقد مؤتمر دولي دوري في اوهريد عن حوار الاديان والثقافات، فعقد المؤتمر الاول في 2007 كما وانتخبت في نهاية المؤتمر الثاني لجنة دولية للتحضير للمؤتمر الثالث في 2013.
ومن حيث الشكل أيضا فقد حظي المؤتمر برعاية رسمية عالية تمثلت في حضور وزيرة الثقافة ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية وحضور رجال دين بأزيائهم المميزة بألوانها من مختلف أرجاء العالم، وبالتحديد من الهند الى الولايات المتحدة، ما جعل المؤتمر يبدو متعدد الاطياف والالوان والوجوه.
ولكن هذا "النجاح" المتمثل بلمّ شمل كل هذا الحشد العالمي لم يغط الانشقاق الديني والثقافي والسياسي الداخلي الذي كاد أن يفشل المؤتمر حتى اللحظة ما قبل الاخيرة بالاضافة الى تداعيات الوضع الاقليمي. فمقدونيا تتألف من السلاف الارثوذكس (نحو 65%) ومن الالبانيين المسلمين (نحو 30%) بالاضافة بالاضافة الى 5% من المسلمين الاخرين (الاتراك والغجر والسلاف). وكان النزاع المسلح في 2001 بين السلاف والالبان، الذين كانوا يطالبون بمشاركة تتناسب مع عددهم في "دولة الجميع"، قد أخذ للاسف بعدا قوميا دينيا ما أدى الى قصف أو نسف واحراق عشرات الكنائس والجوامع التي يتمتع بعضها بقيمة تاريخية.
وبعد التدخل الدولي والتوصل الى "اتفاقية أوهريد" في آب 2001، التي وضعت أساسا دستوريا جديدا للدولة المقدونية يقوم على "دولة كل المواطنين"، تم اصلاح الكثير من الكنائس والجوامع التي قصفت أو أحرقت عمدا في فورة النزاع المسلح.
ولكن "الجماعة الاسلامية" التي تمثل المسلمين أمام الدولة وتتولى شؤون الجوامع في كل الدولة، طالبت منذ سنوات باعادة ترميم الجوامع التي دمرّت خلال النزاع المسلح وعلى رأسها "جامع السوق" في مدينة بريليب الذي يعود الجزء الاصلي فيه الى 1475 م. ولكن تهاون الدولة في أمر ذلك، مع أن الجامع موضوع تحت حماية الدولة كأثر تاريخي، وغيره من الاسباب الاخرى جعل التوتر يعود من جديد في السنوات الاخيرة حتى أنه وصل الى ذروته في الايام الاخيرة التي سبقت افتتاح المؤتمر.
ولاجل ذلك فقد قررت "الجماعة الاسلامية" مقاطعة المؤتمر ودعت المشاركين من العالم الاسلامي الى مقاطعته، وكان من المحرج لمؤتمر دولي عن "حوار الاديان والثقافات "أن يعقد في بلد يعاني من تصدع ديني ثقافي. ولم يحل الامر الا في اليوم السابق لافتتاح المؤتمر بعد لقاء رئيس العلماء المسلمين الشيخ سليمان رجبي مع رئيس الحكومة نيقولا غرويفسكي الذي وافق على اعادة ترميم "جامع السوق" في بريليب واستخدام الالبانية في المؤتمر الى جانب المقدونية بالاضافة الى اللغات العالمية.
في يوم افتتاح المؤتمر بدا الانفراج في الصالة حيث جلس الشيخ سليمان الى جانب رأس الكنيسة المكدونية مقابل رئيس الحكومة غرويفسكي. وتمنى البعض في نهاية المؤتمر أن يتضمن برنامج المؤتمر الثالث المقبل في 2013 زيارة الى "جامع السوق" في بريليب للاطمئنان على نتائج "حوار الاديان والثقافات" داخل مقدونيا ذاتها.
المصدر: http://www.dicid.org/news_website_details.php?id=79