التربية ومستقبل الأدب العربي

من خلال علاقتي بالوسط الأدبي، لاحظت يأساً في كلمات كثيرين من المهتمين بالأدب والثقافة عموماً، وذلك لضبابية العلاقة بين صنَّاع الثقافة والذين يسيطرون على سوقها وكذلك جمهورها، مما جعل كثيرين يفكرون في إشباع رغبتهم في التأثير، بالبحث عن عوالم أخرى من خلال الترجمة، يكون التعامل فيها أفضل. وشكلت محدودية انتشار الأدب العربي خارج إطاره الجغرافي عقدة بالنسبة لكثيرين. فها هي الكاتبة حياة الرايس في مقالها الذي نشرته القافلة في عدد مارس-أبريل 2014م تحت عنوان: لماذا لم يصل أدبنا العربي إلى العالمية، تتساءل: «كيف يمكننا أن نبحث عن ترجمة لأدب غير مقروء في لغته أصلاً؟»، وهذه عبارة دقيقة وإن كان فيها الاستياء واضحاً.

ولكن ما يزعجني شخصياً بشأن الأدب العربي، ليس غيابه عن ساحة الأدب العالمي، بقدر ما يزعجني عدم قدرته على التعاطي الفعال مع محيطه الذي خرج منه، مع اعترافي بضرورة التفاعل الحضاري مع الآخرين، من أجل المساهمة في صناعة الواقع الذي نحن جزء منه. لكنني تعلمت من الكيمياء أن التفاعل لا يمكن أن يحدث بين ذرتين إحداهما نشطة والأخرى خاملة.

الشرط الأول للتعامل
إننا نمتلك رصيداً من التاريخ ومن الجغرافيا ومن التفرد كان من الممكن أن يجعلنا نستحوذ على موقع ريادي في المشهد الثقافي العالمي، والأمثلة على ذلك كثيرة. فالكتَّاب الذين تأثروا بالثقافة العربية -حتى المعاصرين منهم- من غير العرب، جاءت أعمالهم ذات نكهة خاصة عززت موقع أدبهم على الخارطة العالمية، منهم بورخيس وباولو كويلو اللذان يعترفان بهذا التأثير عن طيب خاطر، وكذلك ظهر التأثير العربي في رواية اسم الوردة؛ رائعة أمبرتو إيكو ذائعة الصيت. هذه مجرد أمثلة، وهذا يعني أن إمكانية إدهاش العالم ممكنة جداً، إذا ما أحسن الأديب العربي، تعامله مع مكوناته الثقافية. ولكن يجب ألاَّ تسيطر علينا فكرة الآخر، لأنها ستجعلنا ننسى أنفسنا في رحلة البحث عنه. علينا أولاً أن نبحث عن الآليات التي تجعل من الأدب عنصراً فاعلاً في بناء الواقع الذي نعيشه، بتعبيره عن الإشكالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية للشعوب العربية.

إن أهمية المنتجات الثقافية تكمن في قدرتها على تغيير المفاهيم، وهذا ما يدفع بدوره إلى خطوات من أجل تغيير الواقع. فالإبداع بطبيعته الحالمة يخلق الرؤى التي تدفعنا إلى التغيير نحو الأفضل. وقد كان لبعض الأعمال الأدبية العالمية، تأثير حتى على دنيا العلوم التجريبية. ولذلك أرى بأن إشباع أدبنا العربي بحياة تستمد روحها من روحنا، هو العتبة الأولى للتفاعل الثقافي مع الآخرين، إن شكسبير لم يكتب مسرحياته الرائعة ليدرج اسمه على قائمة الأدباء العالميين، بل عبَّر عن عصره، ولذلك كسب الخلود. ونحن حين نضع الآخرين نصب أعيننا، لا نرى أنفسنا، ولذلك أنتج المهووسون بالترجمة والعالمية، أعمالاً ليس بها شيء عربي سوى اسم المؤلف.

المشكلة في نظرتنا إلى الثقافة
إننا خلاصة تربية غير منهجية، جعلتنا نفتقر إلى الفلسفة الواضحة في التعامل مع الأشياء والأحداث، ومع حياتنا أيضاً، ومن هذه الأخطاء التي ورثناها هي تلك الفكرة الظالمة التي شكلت نظرتنا للأدب والثقافة عموماً، وهي أنها بلا جدوى، أو هي مجرد شيء لتزجية الفراغ، وتعلمنا أن كل قراءة خارجة عن إطار المقررات الدراسية هي مجرد هواية. ولذلك، اعتبر الكاتب أيضاً أن ما يكتبه مجرد هواية، ومن الطبيعي أن يكون ناتج التفاعل بين اثنين بهذا الفكر، صفراً. وهذه المعضلة الرئيسة إذا لم تختف عن عقلية الأجيال القادمة، فلن يكون للأدب دوره الفعَّال.

إن أهم ما نقدمه للأجيال القادمة هو تربية ثقافية جديدة للتعامل مع الواقع المستقبلي، يكون هدفها تنشئة الجيل القادم على آليات للتعاطي مع الثقافة -والعلم أيضاً- وكيفية ربط الحصيلة المعرفية بالواقع والإسهام في صناعة المعرفة بطريقة علمية سليمة كنوع من ضريبة الاستمتاع بالإنتاجات التي أبدعها آخرون.

الخلل فينا خلل في تربيتنا
إن هنالك خللاً كبيراً في طرق التلقي، فنحن نتعامل مع قشور الأشياء ولا نتجه إلى عمقها، ويبدو هذا جلياً في طرق تفكيرنا في حل المشكلات، حيث يمكننا أن نفكر في كل شيء حول المشكلة إلا الحل. لقد غفلت المناهج الدراسية أن تجعلنا نتلمس الحكمة أو أن نبحث عن زبدة الأشياء. وهذا الخمول الفكري الذي نعيشه إنما هو لغياب فلسفة واضحة للتلقي المعرفي.

لقد حدثونا عن تاريخ الاختراعات وأسماء المخترعين، لكن أحداً لم يذكر لنا أن بإمكاننا أن نكون ضمن القائمة الذهبية التي نُعطَى عليها الجوائز حين يتم اختبارنا بسؤال: من هو أول من فعل كذا؟.

لم يخبرونا عن آليات التفكير التي توصل إلى الاكتشاف أو الاختراع، وجعلونا نحفظ القصائد والقطع الإنشائية. وقرأنا روايات واختبرونا في مضمونها. ولكن لم يذكر لنا أحد كيف نكتب قصيدة أو رواية إن كان لنا ميل إلى ذلك، وهأنذا نشرت عدداً من الروايات، وأخشى أن يسألني أحد عن تعريف علمي للرواية.

إن خلاصة ما نريد الوصول إليه في هذا الصدد هو أن علينا جميعاً أن نربي الجيل القادم على التلقي الإيجابي، والتفاعل مع المنتجات الثقافية ومحاورتها، وأن نملِّكه آليات لصناعة المعرفة وابتكار أساليب جديدة خاصة، وفلسفة تعين على ربط الإبداع بحركة الواقع وبالمثاليات، فلسفة تجيب عن أسئلة التلقي والإبداع. وسيكون مستقبل الأدب العربي أفضل، حين يعرف المتلقي أنه عنصر مهم في عملية التثاقف، وحين يكون قادراً على تحويل الخلاصة المعرفية إلى أثر في الحياة فإنه يحصل على آليات فكرية يعرف عبرها كيفية التعاطي مع المستجدات. وكذلك يحتاج منتجو المعرفة المستقبليين إلى تربية إبداعية تساعدهم على التفكير بحرية وإحترافية، وإنتاج أعمال تشبع حاجة الجمهور المحلي وتتفق مع المعايير العالمية، وحين نبني علاقات جديدة بين الناشرين والكتاب من جهة، وبين الكتاب والقراء من جهة، وحين نتبع أساليب جديدة في التسويق الثقافي، وقتها سيبحث العالم عن الأدب العربي ويفتن به، كما سحرته سابقا- وما زالت تسحره- ألف ليلة وليلة.

المصدر: http://qafilah.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%88%...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك