بين الورقة والشاشة

ما زال بين الورقة والشاشة في حياتنا اليومية بون شاسع، وما زال لكل منهما حيز منفصل عن الآخر. ولم تقترب الشاشة بعد من أن تصبح ورقة أو كالورقة، أما الورقة فلا تحاول.. فهي الأصل والأساس.

وربما ينقسم الناس بشكل عام بين حزب الورقة وحزب الشاشة. لكن بطبيعة الحال هناك المزيد من التحول النسبي إلى الأخيرة. ويلاحظ على البعض نوع من التعصب للشاشة، ومحاولة استخدامها استخداماً واسعاً، وكأنهم يسعون بوعي أو بلا وعي لإلغاء الورق من تعاملاتهم.. إحداث انقطاع مع القديم والانخراط في الجديث بشكل كامل. ولنسمهم اصطلاحاً الكمبيوتريون رغم أن طول الاسم لا يشجع على استخدامه، فدفتر نوتتهم جهاز صغير منظم للأعمال، عليه أرقام اتصالاتهم ومواعيدهم وملحوظاتهم يسجلونها للرجوع إليها، ومنهم من يضيف أفكاراً أو نكاتاً أو حتى أبيات شعر. وكثيراً ما تراهم يبادرون في منتصف حديث إلى سحب هذا الجهاز، وانتشال القلم غير الحبري من وسطه والنقر على شاشته أمراً من الأمور أو حاجة من الحاجات. وعادةً ما يكون هؤلاء من الموغلين في التعامل مع الجوجل وما شابهه (ولربما من الأسهل أن نطلق عليهم الجوجليون وهي في لفظها قريبة مما كان يوصف به أتباع الزعيم الفرنسي الراحل ديجول) يقرأون صحف الصباح على شاشة الإنترنت. هذه هي أكثر الممارسات إثارة لاستنكار الورقيين من الحزب الآخر. فهل من وسيلة لقراءة الأخبار والرأي أجمل من الجريدة الورقية؟ لقد حلت الشاشات الكبيرة والصغيرة محل كثير من الأوراق. أما بقاء بعض أنواع الورق في التداول فسببها الحاجة إلى التوقيع باليد. ويذكرنا التوقيع بنوعي الكتابة كتأليف الأول على الورق والثاني على الشاشة، ولا بد هنا من استعادة منافسة سبقت هذه، (وتوارت الآن عن الأنظار) تلك التي كانت قائمة بين الكتابة على الآلة الطابعة والقلم، مع الفارق أن الآلة الطابعة ظلت حتى الأمس القريب تستخدم الورق بخلاف الكمبيوتر.

ومن الصدمات الثقافية الأولى التي تعرض لها رومنطيقيو الكتابة بالقلم هي مشاهدة روائي أو شاعر أو حتى صحافي يؤلف مادته على الآلة الكاتبة بدلاً من القلم والورقة. واستمر الشعور لدى الكثيرين، وربما حتى يومنا هذا بأنه يستحيل أن تكون الكتابة بالطابعة على المستوى نفسه من الرفعة الروحية والإبداعية للتأليف بالقرطاس والقلم ! من الصعب على أحد أن يجزم بأن هذا الانطباع عار كلياً من الصحة. فالورقة بلا شك جميلة بل وتستطيع أن تقول نبيلة. وفي الماضي الغابر كانت تعامل بدرجة ما من الوقار والمهابة.

إن القراءة للقراءة لا تزال تمارس في أغلبها على الورق، من كتب ومجلات وصحف. ولا يبدو أن التوقعات التي انتشرت منذ بضع سنين بأن الكتاب الرقمي سوف يحل محل الكتاب المطبوع مرشحة لأن تحدث، إلا في نطاق محدود.

ومن أسباب ذلك أن القراءة على الشاشة لا تزال متعبة إن طالت، ثم إن الشاشة لا تتناسب مع القراءة في وضعية الاسترخاء، ومراجعة أنواع معينة من المرئيات مثل المراسلات والصور الفوتوغرافية أو جداول الأرقام أو قائمة الطعام وغيرها أسهل وأوضح للنظر، لا بل أسرع على الورق من مراجعتها على الشاشة مهما كانت.

لكن يبقى أن ما تقوم به الشاشة من اختصار لاحتياجاتنا إلى الورق أمر محمود أيضاً. فمن المثير للتوتر في حياتنا الحاضرة تراكم هذا الكم الكبير من الأوراق الصغيرة في جيوبنا ومحافظنا، وما تقوم به الشاشات الصغيرة من إسقاط الحاجة لها فضل لا يمكن إنكاره.

غير أن هذه الازدواجية في الوجود بين الشاشة والورقة تشكل بدورها مشكلة، لأنها توجد ارتباكاً في سجلاتنا على اختلاف أنواعها ومهامها. بعضها ضمن الشاشة وبعضها على الورق، وهما لا يزالان على حالهما من النفور ورفض التواصل.
والورقة لا تزال ورقة
والشاشة شاشة!

المصدر: http://qafilah.com/ar/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B1%D9%82%...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك