بين المفيد والضار
وسط تضارب الدراسات فـي ما نأكل
أصبحت الأخبار العلمية التي تتناول المواد الغذائية وفوائدها ومضارها من الكثرة، بحيث صارت تحتل أبواباً ثابتة في المطبوعات الدورية. ولكن المشكلة لا تكمن فقط في أن هذه الأخبار غالباً ما تردنا بالمفرق، بل أيضاً في تضارب الاستنتاجات المتعلقة بالمادة الغذائية الواحدة. الدكتور إسماعيل سكرية يعرض هنا ما هو مفيد وضار في ما نأكل، معرجاً على بعض العوامل المؤثرة في تضارب ما يردنا من معلومات عن المواد الغذائية.
لا عجب في أن يتزايد الاهتمام ويتوسع في ما يختص بعلم الغذاء عاماً بعد عامٍ، ويوماً بعد يومٍ، وتتمدد ثقافته على صفحات الإعلام (العلمي منه والاجتماعي وحتى السياسي)، فالغذاء هو وقود الجسم ومصدر طاقته على الحركة والاستمرار. كما أن التطور الهائل الذي حصل في مجال الغذاء حتى أضحى علماً حقيقياً، ومغريات أرباحه المادية الكبيرة، وسرعة وسهولة تسويقه، أدت إلى رفع وتيرة ومستوى الاهتمام بالغذاء، وهذا بدوره فتح الباب أمام نظريات متناقضة أحياناً تعتمد أسلوب الإثارة و الفلاشات الإعلامية لفتاً للأنظار، وحصداً سريعاً للمكاسب المالية….!
ولكن وبالرغم من ضجيج النظريات، والإرباكات الناتجة عن الخلاف في ما هو نافع وما هو ضار، فقد بقيت ثوابت العلم هي المشترك الأساس. وبقيت صحة جسم الإنسان الناطق الأصدق، والمقياس الأدق في تمييز النافع من المضّر.
منذ انطلاقة البشرية، وعلى مر العصور، عرف الإنسان كيف يؤمن لنفسه الغذاء الأنسب والأسلم بدافع شهية الحاجة وحب البقاء، متأثراً بالجغرافيا والطبيعة، وما تقدمه له من غذاء. فكان للصحراء غذاؤها، وعماده التمر والحليب، بينما تنوعت الأطعمة والخضار والفواكه في المناطق الزراعية، فيما طغت لحوم الصيد في الغابات، وفرضت المناطق الباردة لحوم الحيوانات البرية والمائية الأكثر دهوناً وشحماً لما توفره من سعرات حرارية يتطلبها الجسم البارد.
غذاء جديد في عالم جديد
مع تطور الحياة ومتغيراتها، ونتيجة للانفتاح والتواصل الذي وصل عصر العولمة بفلسفتها القائمة على ثقافة السوق وما تفرضه من شراسة المنافسة وسرعة الاستهلاك والتسويق؛ اشتعلت حمّى الاهتمام بالغذاء الصحي على كافة المستويات العلمية والتجارية والإعلامية والشعبية؛ مما أدى إلى واقع يتميز بإغراق الأسواق بآلاف الأصناف الغذائية ومستحضراتها…. بما فاق كثيراً قدرة المستهلك على الاستيعاب والتمييز، وبموازاة هذا الإغراق، وبسبب تحكم سلطان المال بالسوق وحركته، ارتفعت واتسعت نسبة التحايل في المنافسة التجارية (تزويراً وتهريباً وتقليداً) وأصبح هناك مافيات تتصارع، وتمتلك بواخر تجوب أعالي البحار، متخصصة بتغيير الشكل، وتمديد الصلاحية والتلاعب بالماركات، مخترقة معظم الأسواق العالمية ، وخاصة أسواق الدول النامية التي استقالت (بمعظمها) من دورها الذاتي في تأمين الغذاء، إلى دور المستهلك للغذاء المستورد.
أما أخطر ما في هذه الثقافة السوقية القائمة على أكبر ربح في أسرع وقت وبأي أسلوب كان، فهو يكمن في ما يحمله من مخاطر على صحة الإنسان وسلامة المجتمع، بفعل استعمال كل ما يؤمِّن أضخم إنتاج في أسرع وقت من مواد سامة (toxic)، ومسرطنة (carcinogenic)، ومحورة وراثياً.. نكتفي منها بما يأتي:
1.
الكيماويات (chemicals): تستعمل سماداً زراعياً، وبشكل عشوائي في كثير من الأحيان، والأمر ناتج عن جهل أو طمع في محصول أكبر وأسرع.. مخاطرها الصحية كثيرة وأهمها ما ينتج عن سوء استعمال مادة النيترات nitrates التي تتحول في معدة الإنسان إلى nitrosamine القادرة على تغيير شكل الخلايا metaplasia مما يرفع نسبة الإصابة بالسرطان في المعدة والقولون والمثانة عند الرجل.
2.
المبيدات (pesticides) الزراعية: سامة عند تجاوز العيارات المطلوبة، وتسبب العديد من أمراض الجهاز العصبي والهضمي.
3.
المنميات (anabolics): تستعمل في تسريع نمو الدواجن وفي الأعلاف، وبعضها يحتوي على مواد مسرطنة carcinogenic إذا ما استعملت أكثر من المدة المحددة، هذا عدا استعمال الكورتيزون بكثرة، لزيادة وزن الطير المدّجن، ومخاطر الكورتيزون تطال كافة أعضاء الجسم.
4.
المواد الحافظة (conservatives): تستعمل في حفظ الأغذية في المعلبات والتجفيف والتخزين، تحتوي على سموم ومواد مسرطنة.
5.
المواد المضافة (additives): تستعمل في تحسين طعم الغذاء، وشكله ورائحته. وتتضمن مواد سامة بمعايير مختلفة، لها تأثير تراكمي على صحة المستهلك.
6.
المواد الملوّنة: المستعملة لتلوين الخضار والفواكه والألبان والأجبان وغيرها، تحمل مخاطر صحية سمّية التأثير.وأكثر أعضاء الجسم تأثراً بالموادالثلاث الأخيرة هو الكبد (hepatotoxicity).
7.
الأغذية المحورة وراثياً (genetically altered): حيث تنقل جينات من كائن حيّ إلى آخر (من نبات إلى نبات، ومن حيوان إلى نبات). وتهدف إلى المساعدة في تصنيع الغذاء، بكلفة أقل وبكم أكبر، وبقيمة غذائية أفضل، وخفض الحاجة للكيماويات والأسمدة.
وتحمل الأغذية المعدلة وراثياً، العديد من المخاطر على صحة الإنسان، نذكر من أهمها:
–
الحساسية وتفاعلاتها، ومنها أنواع جديدة يصعب تحديدها أو التعرف إليها.
–
سموم ،كمثل مادة الـ tryptophan، والذي سبب عشرات حالات الوفيات في الولايات المتحدة الأمريكية
–
تقليل القيمة الغذائية لبعض الأطعمة، بسبب حدوث تغيرات كيموحيوية في النباتات.
–
الكيماويات السامة، من نواتج الكائنات المحورة وراثياً، مثل إضافة جين (metalothienen) إلى النباتات، والذي وجد في أورام سرطان الثدي والخصيتين.
–
كما تحتوي الأطعمة المهندسة وراثياً على جينات من البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.
أدى كل ذلك إلى تحميل جسم الإنسان الكثير من المخاطر الصحية، المعروف منها والمجهول… وأحدث خللاً وإرباكاً في قدرة الجسم على مقاومة بعض الأمراض المستعصية، وفي مقدمها مرض السرطان وأمراض ضعف المناعة وأهمها الإيدز .
الدقة العلمية والضجيج الإعلامي
من هنا، فإن الحديث عن غذاء صحي وآخر غير صحي، وعن مسموح وممنوع، يجب أن يقترن بالدقة العلمية، والصدق في طرح المعلومات، ووضع قيمة الإنسان وصحته هدفاً أساساً فوق الاعتبارات المادية…. وهو ما لا نشهده دائماً وللأسف… فالضجيج الإعلامي الغذائي الذي استوطن الإعلام والمحلات التجارية مفخخ بالكثير من الأكاذيب والتضخيم والإغراء وكافة أساليب الشطارة المستخدمة في حلبة صراع العولمة الذي لا يرحم …! حتى مراكز البحث العلمي، لم يسلم بعضها من تأثير سلطان الشركات الغذائية القادرة مالياً، فاستسلم لسياسات غذائية موجهة باتجاه ما يناسب صراع السوق …! مما يؤكد ضرورة حضور رعاية الدولة وإشرافها التوعوي والرقابي دائماً وأبداً.
من جهة أخرى، وفيما يختص بالتعارض الظاهر أحياناً في الأبحاث العلمية، لا بد من التذكير بأن جسم الإنسان المعقد بتركيبته الفيسيولوجية وبوظائف أعضائه وخلاياه، ونظامه الهرموني الدقيق، ما زال يختزن مساحة من الاحتمالات والحقائق القابلة للنقاش العلمي أو للتعديل أو التطوير. خاصة أن العلم مفتوح على تطور دائم، يغوص أكثر وأكثر في جسم الإنسان وأسراره، مما يؤدي إلى تعارض نسبي. أما التعارض المطلق فيعود إما إلى تباين في المنطلق والنهج العلمي لهذا المركز أو ذاك، وإما إلى خلفية تجارية – مادية. وللتوضيح أكثر، نذكر مثالاً على تأثير التطور العلمي وأسلوب تعاطي المدارس العلمية إزاءه، الحليب والقرحة . فبعد قرون من شعبية الحليب في مداواة قرحة المعدة من خلال تحييد مفعول الأسيد ، سقطت هذه النظرية بعد أن تبين أن مادة الكالسيوم الموجودة في الحليب ترفع من نسبة إفراز هورمون Gastrin في الإثني عشري، الذي يرفع بدوره نسبة حوامض المعدة. وأود التشديد هنا على ألاَّ علاقة لهذا بالقيمة الغذائية الكبيرة للحليب.
أما الخلفية المادية – التجارية، فهي تتصاعد يوماً بعد يوم، وقد استطاعت أن تدخل العديد من مواقع البحث العلمي في صراع قوى المال وشركاتها الهائلة، والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى.. من نصدّق؟، إنه سؤال كبير.. ولكن، تبقى مؤسسات البحث العلمي التي ترعاها الدولة مثل FDA في الولايات المتحدة الأمريكية و Health & Nutrition في إنجلترا، ومنظمة الصحة العالمية أكثر صدقية من غيرها.
فالضجة التي أثيرت حول الـ صويا ، وما ذكر عن تسببها بخفض كمية المنويات عند الرجل، فهي تتعلّق بالكمية المستعملة، لا بمادة الصويا بحد ذاتها. والكمية المطلوبة لتحقيق ذلك (وفي حالات نادرة لم تشكل بعد حالة يتبناها العلم) التي يفترض استهلاكها يومياً، هي أضعاف ما هو موجود في لحمة الصويا التي يستعملها النباتيون، وفي حليب الصويا الذي يستعمله المتحسسون من مادة LACTASE الموجودة في الحليب.
المعادلة السليمة
إن الغوص في فوائد كل غذاء على حدة يشكل موضوعاً لا يمكن اختصاره حتى في كتاب. ولكن المبادئ الأساس في الغذاء الصحي، التي يؤكدها العلم وحقائق تركيبة الجسم وحاجاته تسمح لنا بالقول إن المعادلة الغذائية الصحية التي أصبحت معروفة لدى الجميع، مركّبة على تغليب عنصر الخضار والفواكه في غذائنا، على اللحوم والدهنيات والحلويات، ورسمت على شكل هرمي… والوجه المتمم لهذه المعادلة، يكمن في ممارسة الرياضة (مشياً سريعاً، أو سباحة أو أي شكل من أشكال الحركة المتكررة التي تخرجنا من ترهل القعود المكتبي اليومي الطويل). وإذا أردنا الكلام عن المثال، فالغذاء المثالي هو ما أنتجت عناصره الأرض الطبيعية الخالية من كل ما ذكرنا من كيماويات ومواد أخرى.. والمستفيد من دفء الشمس، وهو ما أصبح أقرب إلى الترف لقلته. من ناحية أخرى أثبتت الأبحاث العلمية أن العديد من أمراض العصر الأكثر انتشاراً كالسرطان والزهايمر والسكتة القلبية والذبحة الصدرية والسكري والتهاب المفاصل وغيرها من الأمراض التي لا تسببها الجراثيم، مرتبطة بنقص في المغذيات المضادة للأكسدة (anti-oxidants)، المتوافرة بكثرة في الأغذية النباتية ومعظم الأعشاب الطبية… وهذه النظرية قائمة على (جذور الأكسجين الحرّة)، التي تهاجم خلايا الجسم وتفقدها طبيعتها ومناعتها، وتسببها عوامل كثيرة أهمها (عمليات الاشتعال ومن ضمنها التدخين، الإشعاعات، المبيدات الحشرية، قلي أو شوي الطعام، القلق النفسي، الخ..).
إن مضادات التأكسد هي مجموعة من العناصر والمركبات الموجودة بصورة طبيعية في جميع الخضراوات والفاكهة ومعظم الأعشاب الطبيعية… وهي قادرة على مقاومة تأثير الجذور الحرّة، علماً بأن أجسامنا دائمة الصنع لمضادات التأكسد الخاصة بها، ولكننا عند تناولنا للغذاء الصحيح نساعدها في القيام بعملها الطبيعي. وقد أظهرت الدراسات وجود علاقة عكسية مباشرة ما بين استهلاك الخضروات والفاكهة والإصابة بأمراض السرطان، خاصة سرطان الجهاز الهضمي بدءاً من المريء ونزولاً حتى القولون، حيث تبرز أهمية الألياف الموجودة في الخضار والفواكه والحبوب في تحريك سير فضلات الطعام وخاصة في القولون، ومنع تراكم مترسبات هذه الفضلات، مما يرفع احتمالات الإصابة بالسرطان. ومن الأمثلة على ذلك:
–
الخضراوات الورقية: تحتوي على مركبات كاروتينية carotenes تعمل كمانعة للتأكسد ولها القدرة على تحييد الجذور الحرة، وغنية أيضاً بحامض الفوليك folic acid وهو حامض ضروري لتصنيع الأحماض النووية والمادة الوراثية للخلية.
–
الخضراوات والفواكه الصفراء: مثل الجزر والبطاطا والقرع واليقطين والمانغا والشمام. وهي تحتوي على كميات وفيرة من مادة البيتاكاروتين betacarotene التي تعمل كمضاد للتأكسد وتحمي خلايا الجسم من التأثير الضار الذي تحدثه الجذور الحرّة. كما أن قابلية البيتاكاروتين للتحول إلى فيتامين (أ) أكسبها قدرة إضافية على مقاومة النمو السرطاني.
–
الحمضيات: تتميز باحتوائها على كميات كبيرة من حامض أسكوربيك فيتامين ج (vitamin c) الذي يحمي جدار الخلايا والمادة الوراثية فيها من عمليات التأكسد الضارة نظراً لطبيعة الحامض المضادة للتأكسد. ويعتقد أن فيتامين ج، يقلل احتمالات السرطان من خلال تقليل فرصة تحويل النيترات إلى نيتروزمين المسرطن.
كذلك فإن الخضراوات والفواكه تتضمن مواد أخرى مثل سيلينيوم و الفلافونويدات الموجودة في الشاي الأخضر وتساعد في تنظيم ضغط الدم، وعمل عضلات القلب. كما ثبتت العلاقة بين مرض الزهايمر وهبوط مستوى فيتامين أ و هـ في الجسم. وعلى الرغم من هذه الفوائد، يجب عدم الإفراط في تناول الخضراوات والفاكهة على حساب البروتينات ومصادر الطاقة وبعض المعدنيات مثل الحديد والكالسيوم وغيره. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تشكيك بعض التقارير بالحليب الغني بمادة الكالسيوم، غير صحيح، وأن أية مشكلات ناتجة عن تناول الحليب تعود أسبابها إلى سلامة التحضير (تجميعاً ونقلاً وتعقيماً ونظافة عمال، الخ…) وليس إلى مادة الحليب بذاتها (ما عدا التحسس المحدود الانتشار من مادة lactase، وبعض حالات التحسس من البروتينات).
ولتصويب الموضوع باتجاه أكثر عملانية، نسلط ضوءاً سريعاً على فوائد عينة من الأصناف الغذائية التالية:
–
الطماطم: تحتوي على مادة lycopene، وهي أقوى مضاد للأكسدة في فصيلة الكاروتينيات . وهي مصدر هام للفيتامين ج.
–
السبانخ: متخم بـالحديد وفيتامين ب ومادة folate الضرورية لجهاز الأعصاب والمضادة للأكسدة.
–
العنب: تحتوي قشور العنب على polyphenols المضادة للأكسدة والمقوية للكوليسترول الجيد HDL.
–
المكسرات: وخاصة الجوز واللوز، ترفع نسبة الكوليسترول الجيد HDL وتخفض مستوى الكوليسترول السىء LDL. كما تحتوي على فيتامين E المضاد للأكسدة، والمحسن للوظائف الجنسية. ولكن يجب تناولها بملء اليد الواحدة لا بملء الاثنتين.
–
البروكلي: مضاد للأكسدة ومساعد في منع تكوين الخلايا السرطانية. غني بفيتامين ج وبالألياف المفيدة للجهاز الهضمي.
–
الشوفان: تناوله اليومي يخفض الكوليسترول في الدم، ويمنع تراكم الفضلات في القولون.
–
سمك السلامون: يحتوي على نوع خاص من الدهنيات هو Omega-3 المقوي لعضلات القلب، والمانع لالتصاق الصفائح بجدار الشرايين. ويخفض الدهنيات في الدم والكوليستيرول السىء LDL.
–
الثوم: مخفض للكوليسترول وإلى حد ما ضغط الدم. طهيه بقوة يخفف من فوائده.
–
الشاي الأخضر: متخم بـ polyphenols وبقوة مضادة للأكسدة (مائة ضعف الفيتامين ج).
وخلاصة لكل ما ذكرنا، فإن الاعتدال والاتزان يجب أن يحكما نهج حياتنا، وخاصة في ما يتعلق بما يدخل جسمنا من غذاء. كما يجب عدم اللهث المكثّف وراء كل ما يورده الإعلام، تجنباً للوقوع في دائرة الهوس Obsession والتي لا ينفع معها أي غذاء مهما تميز. وليكن شعارنا في الغذاء الصحي قائم على التحالف التالي: (خضار + فواكه + أسماك + طيور وقليل من اللحم + رياضة يومياً) مضاف إليه ما أمكن من راحة البال والأمان النفسي… والثقة بالنفس.
لا علمية للتناول الصحفي
يتحمل بعض المحررين العلميين في وسائل الإعلام، جزءاً من المسؤولية عن ضبابية المعلومات الشائعة حول فوائد الأغذية ومضار بعضها. فلو أخذنا المواد الغذائية التي قرأنا أنها تقي من السرطان لوجدنا أن لائحتها تطول لتضم أكثر من نصف الأطعمة التي نتناولها يومياً. ولو كانت هذه الأخبار صحيحة لكان يفترض بالسرطان أن يختفي من عالمنا. فأين المشكلة إذن؟
غالباً ما توزع مراكز الأبحاث والمعاهد العلمية ملخصات عن نشاطاتها وأبحاثها، ومنها بشكل خاص ما هو قائم على الإحصاءات. فتتناول دراسة معينة نحو 10 آلاف شخص، وتنتهي إلى الملاحظة بأن الذين يتناولون المادة الغذائية الفلانية أكثر من غيرهم، يصابون بالمرض الفلاني أقل من غيرهم. وبمجرد وقوع الخبر في يد محرر علمي مضطر إلى أن يضع عنواناً من كلمات قليلة لخبر من مئة كلمة، يصبح العنوان المادة الفلانية للوقاية من المرض الفلاني . أما الحقيقة العلمية فهي في مكان آخر. فالدراسات القائمة على الإحصاءات وعينات، مهما كبرت، من الناس، تبقى مصدراً لإطلاق فرضية. وعلى الفرضية أن تمر بالمختبرات، وتخضع لتجارب إذا نجحت وتكرر نجاحها كل مرة، تسمح بإطلاق حكم علمي.
ولمزيد من الإيضاح، يمكن لأي شخص أن يقوم بدراسة إحصائية تنتهي إلى القول بأن الكافيار محسّن لبشرة الوجه. فمن ضمن عشرة آلاف شخص يتناولون الكافيار بانتظام هناك 99 في المئة على الأقل ممن يتمتعون ببشرة ملساء خالية من البثور. ولكن الواقع هو أن الذين يتناولون الكافيار بانتظام هم عادة من الأثرياء الذين يمتلكون المال والوقت اللازم للعناية بمظهرهم وببشرتهم. وبالتالي لا علاقة للكافيار ومحتواه من البروتينات ببشرة الوجه أكبر من علاقة اليخت والطائرة الخاصة والمجوهرات.
وعليه، يفترض بالإعلام العلمي أن يتوخى دقة أكبر في تعاطيه مع ما يرده من الوكالات حول الأبحاث الغذائية، وعليه مقاومة الرغبة الدائمة في لفت انتباه القارئ من خلال العنوان الجازم والمثير. وإذا رفض المحرر العلمي ذلك أو عجز عنه، فعلى القارئ أن يتولى هذه المهمة.
المصدر: http://qafilah.com/ar/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D9%8A%...