الفن والعلم شريكان في مملكــة الإبـداع..
رغم كثرة الحواجز التي تفصل تعريف العلوم الدقيقة خاصة التكنولوجيا عن تعريف الفن، ورغم أن لكل من كلمتي علم وفن وقعاً مختلفاً في الذهن، فثمة علاقة قربى ما بين هذين الاهتمامين الإنسانيين أقوى بكثير مما يبدو للوهلة الأولى.
أمين نجيب يدرس هنا صلة القربى هذه، انطلاقاً من مفهوم الإبداع في المجالين، ويظهر كم أن الإبداع في الواحد منهما مدين للآخر.
لم يكن نيلز بوهر الشهير سوى باحث عادي في علم الذرّات, تسكنه أسئلة كثيرة وشكوك بكل ما يعرفه. فهو رغم مثابرته إلى حد الهوس على أبحاثه، لم يتوصل سوى إلى نتائج متناقضة تبعث على اليأس أكثر من زيادة الشغف بمواصلة البحث والمعرفة.
وربما دفعه سأمه هذا إلى الترفيه عن نفسه بقراءة كتاب بعيد عن اختصاصه المباشر وعنوانه Du Cubisme أو التكعيبية في الرسم من تأليف ألبير غليرز وجان ميتزنغر، وشكّل هذا الحدث الشرارة التي أشعلت مخيلته التي توصلت إلى ما صار يعتبر محطة كبيرة في تاريخ العلم، ألا وهي نظرية المتمم في فيزياء الكم (Complementarity in Quantum Physics) والتي تقول بأن هناك بعض الأشياء التي هي جزيئات Particles وتموجات في الوقت نفسه, ولكنها دوماً عند قياسها تكون, إما هذا أو ذاك. بالمقابل, فإن التكعيبية التحليلية في الرسم تحاول أن تمثل مشهداً مرئياً من جوانب مختلفة على لوحة واحدة. لقد ألهمت هذه النظرية بوهر للافتراض أن الإلكترون هو تموجات وجزيء في الوقت نفسه, ولكن عند مشاهدتك له فإنك تختار أحد الاحتمالين.
وإذا كانت تطبيقات الإبداع العلمي حاضرة في حياتنا العصرية في كل زمان ومكان, في البيت والطريق والعمل والمدرسة, ونتعامل معها أينما تواجدنا وفي أي وقت, فإن الإبداعات الفنية وبالرغم من حضورها الظاهري الأقل, فإنها, كما سنرى لاحقاً، تتواجد بشكل متوازٍ مع ذاك. إن الإبداع العلمي أو التكنولوجي والفني مترابطان إلى أبعد الحدود منذ نشوء الحضارة البشرية إلى يومنا هذا، وسوف تستمر في المستقبل مهما تخلله من انقطاعات.
ما هو الإبداع
هناك تعريفات كثيرة وتحديدات لا تحصى حول مفهوم الإبداع للمهتمين بتحديده. ولكن الكثير من المبدعين يستغربون التحديد. الإبداع, ربما يعلو على التحديد. وبالرغم من ذلك، فإنك تقع أحياناً على تعريفات مبدعة كما يقول دين سيمونتون يجب أن تعرف مادتك, لكن لا يجب أن تعرفها جيداً. يجب أن تكون لك خبرة, لكن تجنب الاختصاص الزائد. كن مستعداً لخرق القواعد العامة والحكمة السائدة. كن مستعداً لنعتك بالجنون. كل شيء جديد يبدو جنوناً . وبالفعل، فإن أهم نظريات علم الفلك الحديث وهي نظرية الانفجار الكبير أطلق عليها في البدء هذه الكلمات كتعبير تهكمي بمعنى المبالغة الكبرى , وعندما تبين من خلال الاختبارات والحسابات صحتها, خصوصاً عندما التقطت المركبة الفضائية كوب الإشعاعات الأولى من هذا الانفجار في أواخر القرن العشرين، تكرس هذا النعت التهكمي كاسم لهذه النظرية.
الخيال في العلم والفن
وتختزن الإبداعات العلمية الكثير من الخيال كما في سائر الفنون. ويقول عالم البيوكيمياء روبرت روت إن اللعب والتجريد وبناء النماذج وتمييز الأشكال والأنماط هي نفسها عند الصغار وعند كبار العلماء والفنانين . ويحضر هذا القول الشهير لـ آينشتاين إن لي من شخصية الفنان ما يكفي لأنسج من خيالي ما أريد . ويضيف في محاضرة ألقاها سنة 1918م أن هناك في الإبداع العلمي عنصراً لا يمكن القبض عليه. إنها حالة شعورية في الباحث قريبة من حالة العاشق, غير صادرة عن قرار عقلاني أو برنامج معين, بل عن حاجة شخصية . كما أنه يضيف في مكان آخر أنه لو لم أقرأ قصة الجريمة والعقاب لدوستويفسكي, لما توصلت، ربما، إلى النظرية النسبية . والجدير بالذكر أن في قصة هذا الكاتب الروسي في القرن التاسع عشر بطلة هي امرأة ساقطة، لكنها في الوقت نفسه من أفضل نساء المجتمع, وخلاصتها أن القيم نسبية. وفي سيرته الذاتية يقول آينشتاين إنه في سن السادسة عشرة كان ينتابه هاجس تخيل نفسه ملاحقاً أو راكباً على شعاع من الضوء. وهذه كانت إحدى البذور التي جعلته يتوصل إلى نظريته. ويقول آرثر ميلر، أستاذ تاريخ العلوم والفلسفة في جامعة لندن، إن آينشتاين وبابلو بيكاسو كانا في وقت واحد يعالجان خاصية المكان أو الفضاء, وكيف التطلع إليه بطرق مختلفة من قبل مشاهدين عديدين. آينشتاين اكتشف النسبية وبيكاسو التكعيبية.
ويضيف ميلر أن الاكتشافات العلمية يتم التوصل إليها أحياناً عن طريق التخطيط النظري. مثلاً الرسم البياني الشهير باسم (Hertzsprung-Russell) في الفيزياء الفلكية والمستعمل على نطاق واسع في الجامعات والمراصد وغيرهما يحتوي على الحرارة مقابل وهج النجوم. وقد اخترعه هنري راسل عندما أعطي فقط عشر دقائق ليتكلم عن حوالي 300 نجم. وقد وضعها جميعاً على بيان واحد ليكثف المعلومات. وعندما فعل ذلك من دون وعي منه, فإن هذه المجموعة من النجوم أخذت شكلاً معيناً ووقعت ضمن تسلسل معين. ومنذ ذلك الحين أصبح شرح هذا البيان موضوعاً رئيساً للتدريس في هذا الحقل.
وهناك مثال آخر على أن الرسم يساعد الاكتشافات العلمية: فقد كان هنري كروتو مولعاً بالرسم البياني، وكان كما يقول ميلر في كتابه الجديد الصادر سنة 2005م تحت عنوان إمبراطورية النجوم ، فناناً مبدعاً وذا خيال خصب تمكن بواسطة هذه الصفات من بناء صورة ثلاثية الأبعاد من معلومات ثنائية الأبعاد، ليستنتج منها شكل مادة الكربون 60 Carbon والتي أخذ بموجبها جائزة نوبل سنة 1996م. والعكس يصح أيضاً, يضيف ميلر، فقد قرأ الفنان الفرنسي مارسيل دوشان بعض الأعمال عن النظرية النسبية، وتأثر بها. وهذا واضح في لوحته العارية التي تهبط الدرج . كما أن فاسيلي كادينسكي تأثر كثيراً بالنظرية نفسها وكان مولعاً بالمعادلة الشهيرة التي تعبر عنها وهي E=MC² ومعناها أن الطاقة هي مادة ذات سرعة معينة, والتي فسرها أن كل شيء, في الأساس, غير متبلور أو لا شكل له وهذا ما رسمه خصوصاً في آخر أعماله.
علاقة قديمة الجذور
إن الترابط والتداخل بين الفن والعلم والتكنولوجيا يعود إلى فجر الحضارة الإنسانية. تؤكد ذلك الجداريات المكتشفة في الكهوف التي تعود إلى أكثر من ثلاثين ألف عام وغيرها. لكن الانقطاع بين الفن والعلم, وامتداداً إلى التكنولوجيا, لم يحصل إلا في مطلع القرن التاسع عشر. ويعود هذا الانقطاع, كما يرى الكثير من الباحثين، إلى عدة عوامل منها: المبالغة في الفصل بين العمل اليدوي والعمل على الآلة, بين المادة والروح وباقي الثنائيات المرافقة للعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والفلسفة. ونشأ عن كل ذلك النظرة المادية المتفوقة والنظرة الروحية المتخلفة عنها. وامتد ذلك إلى الإنتاج الرأسمالي المنظم مقابل الإنتاج الزراعي والحرفي الفوضوي والضعيف. فالأول ينتج دولاً منظمة وقوية اقتصادياً وعسكرياً والآخر دولاً ضعيفة وممزقة.
ومن ثم انتقلت الثنائية إلى الفصل بين العلم والفن أو التكنولوجيا. لكن هذا الانقطاع بدأ ينهار نتيجة تطور العلوم والتكنولوجيا نفسها، وبروز فروع جديدة مثل علوم الكمبيوتر وعلم الدماغ والتحليل النفسي وغيرها وغيرها. وقد بدأت بوادر هذا الانهيار في منتصف القرن العشرين مع بروز نظريات ما بعد الحداثة في العلم والفلسفة والفن والسينما وغيرها. ومن أبرز هذه النظريات هي فلسفة العلوم للعالم في جامعة هارفارد، والتي كانت لها السيطرة شبه الكاملة على الفكر الغربي في مجال تطوير العلوم. وتقول هذه النظرية بالانقطاع المفهومي (Paradigm Shift)، فالعلم لا يتقدم بشكل تراكمي وتقدمي بل من خلال انقطاعات وقفزات على شكل يتدرج من العلم العادي إلى الشذوذ فالأزمة وأخيراً الثورة, فمثلاً يقول توماس كوهن إن الانتقال من مقولة أن الأرض هي مسطحة والتي سادت قروناً عديدة, وكانت نظرة عادية جداً أصبحت شاذة، وأعقبتها ثورة مفاجئة استبدلت بكروية الأرض بظرف زمني سريع جداً. أي إن الإبداع العلمي يختزن في داخله المكونات نفسها التي في الإبداع الفني، وكلاهما إنتاج اجتماعي بامتياز. وأكثر من ذلك، لقد بدأ كثير من العلماء يرى أن هذا الفصل له مخاطر كبيرة على مستقبل الإنسان, فهو يسهل عملية استغلال كليهما لأغراض سلبية، كما يرى المنتج السينمائي فرانكو زيفيريللي خلو الجيل الجديد من موقف إيجابي للفن والذي يجري اختزاله إلى عمليات اختبارية بسيطة. ويضيف أن العلم والفن هما كالفنان الذي يمارس الفن البصري وهو في الوقت نفسه عالم اجتماعي يجري تحقيقاً اجتماعياً معيناً تماماً، مثل مفهوم المكان السلبي والإيجابي والحدود التي يتشاركانها.
الإبداع والتقدم الاقتصادي
يحاول ريتشارد فلوريدا صاحب كتاب انطلاق الطبقة المبدعة الصادر سنة 2005م, مناقشة توماس فريدمان المعلق في صحيفة نيويورك تايمز والذي يقول في كتابه الأخير أنه لا حاجة لك بعد اليوم أن تهاجر لكي تبدع إن هذه المقولة خاطئة. فبعد دراسة مفصلة للأماكن المزدهرة في العالم, تبين أن الازدهار الاقتصادي والإبداع العلمي والفني مترابطان أكثر من أي يوم آخر. إذ إن براءات الاختراع متمركزة في أماكن مدينية قليلة جداً مثل طوكيو, سان فرانسيسكو, برلين, باريس, نيويورك وغيرها. حتى أن مراكز مشهورة جداً مثل بانكلور في الهند وشانغهاي في الصين لا تزالان متخلفتين جداً من هذه الناحية. في حين أن جامعة كاليفورنيا وحدها مثلاً سجلت اختراعات أكثر من الهند والصين مجتمعتين، وأن السبب الأساس لنجاح الولايات المتحدة الأمريكية هو في جذب المبدعين في العلوم والفنون من كافة أنحاء العالم. ومن أهم العوامل في ذلك هو انفتاح هذه المراكز على الإبداع العلمي والفني كذلك. فبالإضافة إلى وجود جامعات من الصف الأول في هذه المراكز, فإن وجود حماسة للفنانين من كل الفئات والحس الجمالي القوي هو من أهم الصفات في هذه المراكز.
إن الاعتقاد السائد بأن الفن هو نتاج أناس عندهم الكثير من الوقت الضائع ويستعملونه للترفيه هو نظرة خاطئة. فالأعمال الفنية الأولى المكتشفة وهي الخرزات المستديرة التي تعود إلى حوالي مئة ألف عام هي دليل قوي على صلة الإبداع بالتضامن الاجتماعي. ويقول راندال وايت من جامعة نيويورك إن الفنانين الأوائل استعملوا جسم الإنسان نفسه كلوحة للرسم, فالخرزات العاجية كانت تعلق على أنحاء مختلفة من الجسم حيث تؤدي وظيفة بقائية قوية وتعطي أصحابها شعوراً قوياً بالانتماء إلى مجموعة واحدة. كان الفن, يضيف راندال, ضرورة حياتية. فالعلاقة بين الإبداع الفني والتكنولوجيا الأولى وبين الاستمرارية والبقاء قوية جداً. ويؤكد ذلك وليم المار بشرحه للجداريات المكتشفة حديثاً في كهوف فرنسية تعود إلى حوالي 30 ألف سنة: حيوانات الرنة تخوض النهر بقوة, رقابها ممدودة مشدودة, ثور ضخم يحدق كالشرر, وجنباته تومض, وقرن الوعل يزين مخلوقاً نصف بشري يحدق متوقعاً البدء باحتفالات طقوسية. وكان الناي المصنوع من عظام الطيور يرافق مشاهدة الجداريات، مما يوحي بأن الموسيقى كانت حاضرة في الاحتفالات جنباً إلى جنب مع أدوات الصيد وعبور الأنهار بواسطة هذه الحيوانات القوية. فالحربون، وهو كناية عن حجر أو عظم مثلث والذي استعمل للصيد وخصوصاً في الأنهار، كان الإبداع التكنولوجي الحاسم في بقاء جنسنا البشري على قيد الحياة. من دونه لم يستطع الجنس الآخر وهو النيوندرتال من الصمود عند حصول العصر الجليدي الأخير منذ ثلاثين ألف عام، وانقرض نهائياً لأنه كان يعتمد في معيشته على اصطياد الحيوانات الكبيرة التي انقرضت في تلك الفترة، ولم يتمكن من تطوير تكنولوجيا مطابقة للبيئة الجديدة كما فعل جنسنا وهو الهومو سابيان. فالحربون والفلوت والجداريات تطورت جنباً إلى جنب كشروط أساسية لتطور واستمرار الجنس البشري.
الإبداع الفني بداية العلوم الحديثة
ومنذ زمن ليس بالبعيد في القرن الخامس عشر, لم يكن ليوناردو دافينشي فقط رساماً عظيماً, كان وكما يعتبره كثر من مؤرخي العلوم في العالم, الأول في كثير من الحقول العلمية الحديثة. وحتى اليوم, فنحن لا نقول ليوناردو العالم في ميكانيكا السوائل مثلاً أو في الطيران وغيره, إنما نقول ليوناردو المبدع. لقد كانت أعماله بالنسبة إليه وبالنسبة إلى معاصريه عملاً واحداً ذا اختلافات متعددة.
بعد ليوناردو بسنوات قليلة كان جاليليو متدرباً في الرسم الرؤيوي Visualization وحتى سن الخامسة والعشرين كان يدرّس الرسم الهندسي إلى تلامذة فن العمارة وكان ولعه بالتحديد هو فن الظلمة والضوء وتوزيعهما في اللوحة. وتقول مارجوري نيكولسون في كتابها الجميل العلم والخيال . إن هذا الشغف بالرسم عند جاليليو خصوصاً الضوء والظل هو ما دفعه إلى دراسة الأجسام ثلاثية الأبعاد وكيف تظهر للمشاهد بفعل الإضاءات المختلفة. وكان شائعاً في تلك الحقبة من عصر النهضة فن الرسم على نطاق واسع. وكان القمر موضوعاً شائعاً لهذا الفن وغيره. وكان الاعتقاد السائد منذ أرسطو اليوناني أن القمر ذو سطح ناعم بالكامل. وكان القمر هو رمز الوجود الطاهر والنقي خارج الأرض. لكن عند الرؤية بالعين المجردة كانت هناك مشكلة. فقد ظهرت مناطق فيه مظلمة أكثر من غيرها فدعاها توماس هاريوت في ذلك الحين البقع الغريبة . وانتشرت النظريات حول هذه الظاهرة الغريبة إلى أن تمكن جاليليو بواسطة مهاراته الفنية أن يلاحظ أن هذه البقع تغير لونها كل ساعتين أو ثلاث عند تغير زاوية الشمس وأعلن بشكل مفاجئ للجميع أنها نتوءات وانخفاضات شبيهة بالجبال والوديان على الأرض. ولتأكيد نظريته استعمل جاليليو ما عرف في ذلك الوقت بـ زجاجة التجسس وسميت بعدها بالتلسكوب وذلك في يناير 1610م، واعتبر ذلك التاريخ بداية عصر العلوم الحديثة. وانتشر هذا الاعتقاد في كل أنحاء أوروبا بسرعة البرق. ولم يفرح هذا الاكتشاف العلماء فقط، بل الفنانين أيضاً، خصوصاً صديق غاليليو الحميم لودوفيكو كاردي والذي كان يعرف بـسيجولي والذي كان أحد أشهر فناني فلورنسا. وكان هذا الاكتشاف هو ما دفع الفنان إلى أن يرسم القمر بصورته الواقعية في لوحة دينية، مما جعله يدفع حياته ثمناً لذلك.
الإبداع والتربية
تكشف بعض أبحاث الدماغ والأعصاب الحديثة نتائج مذهلة حول تأثير الفن على تطور الدماغ حتى قبل الولادة. فالتلامذة دون سن العاشرة الذين يتلقون تدريباً على الفنون كالرسم والموسيقى وغيرهما ينمون في الحقول الكهربائية والكيميائية المتصلة بالخلايا العصبية بنيات وارتباطات تدوم مدى العمر وتترجم إبداعات في شتى المجالات الفنية والعلمية وفي مجال الأعمال وغيرها. فالأطفال وكما هو معروف يقضون معظم أوقاتهم ببناء نظريات حول ما يشاهدون وما يعملون، ثم يتخلون عن هذه النظريات واستبدالها بأخرى مختلفة. لذلك فإن الذين تعطى لهم الفرصة لتقدير الجمال والأعمال الفنية أو اللعب بين الزهور والأشجار وملاحقة خيالاتهم يطورون إمكانياتهم الإبداعية في شتى المجالات أكثر من غيرهم.
ويعزو الكثير من الباحثين امتعاض الطلاب في الدول المتقدمة وابتعادهم عن المواد العلمية لهذا الفصل الميكانيكي بين العلم والفن. وبينما بدأت تظهر أكثر فأكثر فروع في التعليم يتداخل فيها الفن والعلم مثل الرسم الكومبيوتري والذي يتداخل فيه ويتفاعل الفن والتأليف وفن الألوان مع علم الكمبيوتر ورسم التوجيه والنموذج الأولي الرقمي والرياضيات وغيرها. والتطور الأوضح في حقل الموسيقى حيث أصبح يتداخل علم الفيزياء مع الرياضيات والتأليف الموسيقي مع الإنتاج ونظريات الصوت. ويقول دوغلاس هوفستار في كتابه الذي ألهم جيلاً بكامله من طلاب علوم الإدراك والذكاء الاصطناعي وعنوانه Godel, Escher, Bach إنه يعتمد في تطوير برامج الذكاء الكومبيوتري بشكل أساسي على السوناتا الإنجليزية الشعرية وبحور العروض المبني على مقطع قصير يتبعه مقطع طويل، الموجودة في هذه المعزوفات. وأن معظم الناس يفضلون أو يحفظون هذا الإيقاع دون غيره. ويضيف أن الإبداع بالنسبة إليه لم يعد علمياً أو فنياً فحسب بل أصبح لزاماً علينا أن نبرع لإيجاد كليشيهات شهيرة عديدة مثل الموناليزا أو معادلة آينشتاين: E=MC² والتي هي نوع من التقبلية في العقل البشري، يجد فيها معظم الناس الكثير مما يستطيعون الرجوع إليه.
وللتأكيد على الارتباط الوثيق بين الإبداع الفني والإبداع العلمي في برامج التعليم في المستقبل, فإن روبين شاندلر في كتابه الصادر سنة 1999م بعنوان المناطق الإبداعية المتوازية في العلم والفن: المعرفة في عصر المعلومات, يتخيل صف الدراسة بعد مئة عام، أي سنة 2099م، وقد ظهر فيه ليوناردو دافينشي افتراضي وهو يتأمل كيف يجد فكرة جديدة أو حل لغز هندسي معين أو رسماً ما، وقد هرع إلى الأستوديو لتحقيق ذلك بشغف كبير. وبعدها كيف يصعد إلى مركبته الفضائية ذات الأجنحة بينما ينشد أحد المعلمين بعض القواعد الأدبية لتلامذة الرسم من دفتر ليوناردو الخاص.
من الحربون وجداريات الكهوف الأولى إلى برامج الذكاء الاصطناعي، ومن أثينا مروراً ببغداد إلى نيويورك, من أرسطو إلى عمر الخيام وزرياب وآينشتاين, يشكل كل ذلك مراكز للإبداع والفكر، الإبداع العلمي والتكنولوجي أو الفني. ومن المؤكد أن كلمة واحدة ترمز إلى الاثنين معاً ستجد طريقها يوماً ما إلى القاموس.
المصدر: http://qafilah.com/ar/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%...