الفلاسفة والاجتهاد الديني
د. إبراهيم المطرودي
ثنائية الاجتهاد، وعدم تكليف ما ليس بالوسع تدعم كل منهما الأخرى، وتحتج لها؛ فأنا مثلا أجتهد؛ لأنني لم أُكَلّف ما لا تستطيعه نفسي، وأنا لم يُكلف عقلي بما لا يطيق من المعاني؛ لأنني مدعوّ للاجتهاد، ومأمور به، وليس أدل على هذا، وأوضح في الدعوة إليه، من أن الله تعالى في صريح كتابه يقول لي (لا يُكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).
العنوان مستفز، وكذلك أردته؛ إذ لا يخطر في بال كثيرين أن يكون للفلاسفة في الإسلام حق قراءة النص الديني وفهمه، وحين تأملت في التأريخ، ونظرت في المذاهب، وتعرّفت إلى القواعد، وقوانين النظر؛ بدا لي أن الفلاسفة في الإسلام، وإن أنكرتُ كثيرا مما قالوه، لا يختلفون عن غيرهم من رجال المذاهب الغفيرة في امتلاك حق فهم النص، واستجلاء معانيه، غير أن هذا وذاك لا يعطيان الفلاسفة حقا ليس لغيرهم، وأقصد به أن أفهامهم، كما أفهام غيرهم، معروضة على النص، ومحاكمة إليه، والمطلب فيهم، وفي غيرهم، هو الخضوع للنص، والسير في ركابه، واللجوء إلى ظلاله، وذاك غاية ما يُطلب، وهو المشترك الأعظم الذي تذوب عنده الاختلافات، وتنتهي عند بابه التنابزات.
وأعود إلى تفصيل ما بدا لي حجة، وهي أمور ثلاثة، أولها التأريخ الذي يشهد أن الحياة الثقافية دول أيضا كالدول السياسية، وأنّك قد تغلب في حقبة، ويكون لك فيها القول، وتستطيع غلبة غيرك، غير أنك لا تملك الظروف، ولا تحيط خبرا بالمستقبل، فربما كُنتَ مساء غالبا، وأضحيت صباحا مغلوبا، وتأريخ أمتنا شاهد على هذه الحال، ومخبر عنها بأحسن بيان، ومن يرد أن يكون المستقبل على خلاف الماضي؛ فليراجع نفسه، وليتبصّر بها أولا.
يحكي ابن حزم في رسالته حدثا تأريخيا يجهله كثير منا، يُرينا مدى تقلب الزمان بالمذاهب، وتحول الأحوال بها وبأهلها، فبينا هي عزيزة، ذائع صيتها؛ إذا هي منبوذة من الناس، مُقصى أصحابها، ومذمومون بكل لسان تقريبا، تلك هي قصة المعتزلة وشيخيها واصل بن عطاء، وعمرو بن عُبيد عند ابن حزم.
يقول ابن حزم في رسالته "الباهرة": "وهذه جلالة ليست فضيلة، فإن كان يريد هذا القائل جلالة المرء بكثرة أتباعه، فأتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد أكثر من أتباع أبي حنيفة، وأتباع هشام بن الحكم.. أكثر من أتباع الشافعي، وأتباع عبدالله بن يزيد الإباضي أكثر من أتباع مالك، وأتباع سليمان بن جرير الزبيدي أكثر من أتباع أحمد، فصحّ أنه لا معنى لكثرة الأتباع، ولا فضيلة في ذلك.
وقد كان الشافعي مدة أقلهم أتباعا، ثم هو اليوم أكثرهم أتباعا، وكان للأوزاعي أتباع كثير، ثم لم يبق له تابع" (٣٩).
هذه المقارنة التي يُجريها عَلَمٌ من أعلام الأمة بين الطوائف والمذاهب، عقدية أم فقهية كانت، تُظهر أمرا على العاقل أن يُفكّر فيه كثيرا، وينظر إليه بكلتا عينيه، إذا كان حريصا على ما عنده من صواب، وحدبا على ما في مذهبه من خير؛ فالشدة والإقصاء، والمحاربة والمناجزة لا تلد إلا مثلها، والأفعال ليس من عادتها أن تُنتج غير ما تحمله، وتشتمل عليه.
ربما لا يُصدّق أحد هذه القصة التي يحكيها ابن حزم عن المعتزلة وشيخيها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وذاك من شدة غرابتها، وعظيم مجافاتها لواقعنا اليوم؛ فالناس منذ عقود يطعنون في المعتزلة، ويتهجمون على رجالها، ويرونهم شرا على الأمة، ووبالا عليها، غير أن كثيرا من هؤلاء سيعجبون حين يقرؤون كلام ابن حزم، وتضطرب الأسئلة في أذهانهم؛ لأن ابن حزم يجعلهم في فترة من الفترات أكثر الناس أتباعا، وأعظمهم إقناعا، وهم اليوم مُزدرى مذهبهم، ومُتعجب من منهجهم، فعلى من يُحبّ للخير أن يبقى، وللصواب أن يذيع، أن يأخذ العبرة من هذه التحولات، ويضعها في حُسبانه، ويُحاكم الآراء والأقوال ويبتعد كل البُعد عن عالم الأشخاص؛ فلا يُكفّر أحدا، من الفلاسفة وغيرهم، ويجعل همه في إبطال الآراء، وردها، وليس في تكفير الناس، وإصدار صكوك النار لهم؛ فهؤلاء وأولئك كان مرادهم الصواب، وهدفهم الحق، ولهم مثل ما لغيرهم من حق النظر، وليس يحق لأحد أن يُفصّل ثوبا خاصا لمن ينظر في النص، ويتأمّل معانيه.
وثاني الثلاثة هو النظر في المذاهب، والقراءة فيها، وحين قرأتُ في كتاب "مقالات الإسلاميين" لأبي الحسن الأشعري، وجدتُ من غرائب الأقوال، وعظيم الشناعات، ونوادّ الآراء، ما لا يختلف عن آراء الفلاسفة، فما الذي يُحرّم على الفلاسفة حق النظر، ويمنعهم من التعامل مع النص، ولهم في المذاهب الأخرى أشباه وأنداد؟
هذا الاختلاف الكبير بين المسلمين لو نظر إليه من خلال مفهوم الاجتهاد، وأن كل طائفة (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) لابتعدنا حقا عن تكفير الأعيان والأشخاص والجماعات، ووكلنا الأمر في هذا كله إلى الله تعالى؛ فهو المحاسب؛ لأنه الأعلم بما في الضمائر، والمطلع على ما في السرائر، وليس لنا نحن إلا مدافعة ما نراه خطأ، والرد على ما نظن خلاف الحق.
الاختلاف الديني الذي تُحدثنا عنه كتب النحَل والمذاهب هو ثمرة لعدم تكليف الله كل نفس إلا وسعها، وهو بناء على هذا ثمرة الاجتهاد، الذي دعت إليه فكرة عدم تكليف ما لا يُستطاع، فلولا إيمان المسلمين، أفرادا وجماعات، بعدم تكليف ما لا يُطاق لما تكاثرت النحل والمذاهب، ولولا إيمانهم بهذا لما اضطروا إلى الاجتهاد الذي يعني بادئ الرأي الخروج عن مألوف الناس، والبعد عما كانوا عليه؛ كما هي حال واصل بن عطاء وغيره من أفراد الأمة الذين اشتهرت عنهم آراء خالفت المألوف، وصادمت السائد.
ثنائية الاجتهاد، وعدم تكليف ما ليس بالوسع تدعم كل منهما الأخرى، وتحتج لها؛ فأنا مثلا أجتهد؛ لأنني لم أُكَلّف ما لا تستطيعه نفسي، وأنا لم يُكلف عقلي بما لا يطيق من المعاني؛ لأنني مدعوّ للاجتهاد، ومأمور به، وليس أدل على هذا، وأوضح في الدعوة إليه، من أن الله تعالى في صريح كتابه يقول لي (لا يُكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).
لم يجعل الله تعالى عدم تكليف ما لا يُطاق خاصا بعالم دون غيره، ولا بمذهب دون سواه، ولا بجماعة دون أخواتها، وإنما هي منحة إلهية عامة، دلّ عليها تنكير "نفس"، والنكرات في سياق النفي للعموم، ولست أرى دعوة إلى التفكير، والاستقلال، والشجاعة في الخروج من المألوف، أقوى من هذه الآية، وأعظم في الدلالة عليها.
وثالث الثلاثة، وأقصد بها الأسباب التي دعتني إلى الظن بأن للفلاسفة مثل ما لغيرهم من مذاهب المسلمين وطوائفهم، هو أن التأسيس النظري الأكبر في الإسلام يدعوني إلى القول بهذه القضية، ويسوقني إليها، فعندنا في الإسلام ثلاثة مفاهيم، هي "عدم تكليف ما لا يُطاق"، و"عدم تكفير المعين"، و"الاجتهاد"، ولو أخذنا أوسطها، وهو عدم تكفير المعين، لرأينا أن له صلة وثيقة بالتشجيع على الاجتهاد، والحث عليه، وما دام الدين يدعونا إلى هذا، ويأمرنا به، فمن البدهي أن يُجرّم تكفير المعين، ويُحذّر منه؛ لأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة في الحفاظ على وجود الاجتهاد، وبقاء المجتهدين في الأمة، وحين أتأمل هذا المبدأ، وهو عدم تكفير المعين، أرى أنه لا قيمة له إلا في ظل واقع مائج بالاجتهاد والاختلاف مع السائد، وهذا معناه أن الدين يُؤسس بوضوح لمناكفة السائد، ومخالفته، والسعي في إصلاحه، وأحسب أننا لو تأملنا العلاقة بين هذه المفاهيم الثلاثة، وأطلنا النظر فيها؛ لخرجنا بأمور كثيرة، منها أنّ الفلاسفة في الإسلام، مع أخطائهم وزلاتهم، لهم حق الاستفادة من هذه المفاهيم، ولهم نصيب منها، ولمخالفيهم أن يردوا عليهم، ويُبطلوا آراءهم، ويكشفوا عن زيفها، بيد أن تكفيرهم، كما فعل الغزالي للأسف، ودعوة الناس إلى هجرانهم، وهجران ما أورثوه لنا، لم يكن شيئا تدعو إليه هذه المبادئ العظيمة، وتحثّ المسلمين عليه، وإنما هو شيء زلّت به قدم رجل الدين، وجرت الناس بعده عليه، ومن الغريب أن يصدر التكفير، وهجران التراث الفلسفي، من رجل ألّف "المنقذ من الضلال"، وادعى أنه جرّب واجتهد، وطاف بالمذاهب والنحل، وانتهى بعد هذا كله إلى التخلي عمّا دفعه إلى هذا، وأجبره عليه، وهو العقل!.