تناقض الليبرالية بين التسامح الديني والحرية
تناقض الليبرالية بين التسامح الديني والحرية
محمد بن عيسى الكنعان
تاريخياً تشكلت الليبرالية الغربية من الإبداع الفلسفي والإصلاح الديني والتنوير العقلي. وهي أبرز سمات عصور النهضة الأوروبية، التي جعلت الإنسان الغربي يقرأ التراث من خلال الفلسفة، ويتسلح بالعلم من خلال التجربة،
ويعشق الفن من خلال الطبيعة، فكانت الثورة الصناعية الكبرى التي يستظل عالم اليوم بحضارتها المادية في كل مجالات الحياة وينعم بفسيفساء منتجاتها. وما كان ذلك لولا أن الليبرالية الغربية قد حسمت أمرها بشأن (الحرية الدينية) بتحقيق (التسامح الديني)، الذي أنهى الحروب الدينية الفظيعة في القارة الأوروبية، فقامت دول حديثة برلمانية تتسم بالقومية وتقوم على فكر المؤسسات وفصل السلطات وإطلاق الحريات. وصارت محط أنظار العالم المتطلع للرقي والتطور، حتى اجتازت الفكرة الليبرالية المحيط الأطلسي إلى الأرض الأميركية في القارة المكتشفة، وسرت في مفاصل حياة المستعمرات البريطانية، التي تحولت إلى الولايات المتحدة الأميركية بإعلان الاستقلال عام 1776م، فكتُب الدستور الأميركي بمداد الليبرالية، حيث أكدت الحريات العامة وعُززت القيم الإنسانية وفي مقدمتها (حرية المعتقد)، كما رُسمت عوامل النصر في الحرب الأهلية الأميركية لصالح دعاة حرية الإنسان ضد المدافعين عن العبودية وتجار الرقيق.
كانت تلك هي حال الغرب بشقيه الأوروبي والأميركي.. فما هي حال الشرق بشقيه العربي والإسلامي؟ الحقيقة المرة أن هذا الشرق انتقل من عصور الانحطاط السياسي إلى قرون التخلف الحضاري، وهي مرحلة تاريخية مريرة شهدت متغيرات وأحداثًا خطيرة في واقع الأمة الإسلامية وبنائها السياسي، فقد حلّ الاستعمار الغربي وسقطت الخلافة الإسلامية واحتلت فلسطين العربية. كما شهدت ظاهرة الإحياء الإسلامي (الصحوة الإسلامية) التي بدت بواكيرها في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، ثم انطلقت محركاتها في مفاصل الأمة وألقت بظلالها الفكرية على مختلف فئات المجتمع المسلم، من خلال البحث الفكري في خلاص المسلمين الحضاري، وإدخال مفاهيم المقاومة إلى قوى التحرر الوطني، وإعادة صياغة (العلاقة مع الآخر) وبالذات الغرب المسيحي، بحيث تقوم على وجوب تحقيق مبادئ التعايش والسلم العالميين واقعياً، بعيداً عن فرض الأفكار وعولمة القيم، وعدم ممارسة السياسات المتطرفة، أو التدخل في شؤون الآخرين واحتلال أراضي الغير أو دعم قوى الاحتلال. لكن العالم الغربي لم ينسجم مع هذه الرؤية العادلة لشعوره ب(التفوق) حضارياً وعسكرياً، فراح يعمل على فرض قيمه الإنسانية ومبادئه الحضارية وفق رؤيته الليبرالية وفلسفته المادية عن طريق التيارات الفكرية والمشاريع السياسية المدعومة بالاجتياحات العسكرية، فوقعت العلاقة بين المسلمين والغرب بين مد وجزر. ولعل أبرز قضية لازالت تُسهم في ذلك هي مسألة (الحرية الدينية)، خاصةً في الدول الغربية ذات الجاليات المسلمة الكبيرة، حيث لم تستطع هذه الحرية أن تحقق تسامحاً دينياً غربياً حقيقياً تجاه المسلمين، بل العكس.. فقد زادت وتيرة القضايا والمواقف المتطرفة ضد الإسلام، فكانت الرسوم المسيئة، ومحاربة الحجاب، ورفض المآذن، ومحاولة حرق القرآن، ومعارضة بناء المساجد.. وهي شواهد واقعية، والقائمة قابلة للزيادة في ظل ليبرالية غربية تتشدق بالحرية الدينية، وتؤكد فلسفتها الحقوق الكبرى للفرد وهي (الحرية والاختيار والاستقلال)، ما يعني أنها ليبرالية (متناقضة) في واقعها وإن كانت مثالية في فلسفتها، بدلالة أن حريتها الدينية ناقصة العدالة وانتقائية ضد الثقافات والحضارات الأخرى. ومكمن التناقض الذي تعيشه الليبرالية الغربية بشأن حرية المعتقد أنها تحقق (التسامح) وتمنح ممارسة (الكراهية) في ذات الوقت ومع ذات الشيء، تنادي باستقلالية الأفراد وحماية حرياتهم وتمارس انتقائية القانون ضد أديانهم وحياتهم، فقد أيدت الليبرالية الأميركية إقرار قانون (معادة السامية) ورفضت إصدار قانون يجرم الإساءة للأديان، كما ضاقت الليبرالية الفرنسية بقطعة قماش على رأس مسلمة وأيدت حكماً قضائياً يصادر عقلاً أكاديمياً قدم دراسة تاريخية عن محرقة اليهود في الأفران النازية (الهولوكست). ناهيك عن أن الليبرالية بقيمها الحضارية لم تستطع أن تقبل أو تستوعب قيم الإسلام في الحياة الغربية، بدلالة أنها لم تستطع أن تتجاوز (حق التعبد) للفرد المسلم إلى القبول بممارسة قيم إسلامه الحياتية ومبادئه الحضارية، لبعدها العالمي وقوة تأثيرها في الإنسان الغربي، كونها تملك إجابات وافية عن أسئلته الحائرة عن الحياة والكون وما بعد الموت، من خلال الجمع الفريد بين معتقد إيماني ومنطق عقلي وإثبات علمي. وهذا ما جعل كل حملات التشكيك في حقيقة الإسلام والتشويه لتعاليمه وقيمه تتحول إلى فرص دعوية للتعريف به وفتح مساحات أكبر للحوار عنه في المؤسسات الإعلامية والهيئات الأكاديمية، ما جعله الدين الأكثر انتشاراً في العالم الغربي بشقيه الأوروبي والأميركي، الأمر الذي أقلق الأحزاب اليمينية المتطرفة من منطق عقائدي عدائي، والأحزاب الليبرالية من موقف حضاري سيادي يرى في الإسلام منهاج حياة متكامل وليس مجرد دين وطقوس تعبدية، ما قد ينسف الفكرة الفلسفية الليبرالية التي قامت على استبعاد الدين أساساً من الحياة، أو أن يكون أحد مصادر المعرفة عند الإنسان. ولعلنا نذكر الحملة الليبرالية الإعلامية التي تعرض لها الدكتور روان دوجلاس ويليامز كبير أساقفة كانتربري وزعيم الكنيسة الانجليكانية (الكنيسة الرسمية ببريطانيا) عندما اقترح في أحد تصاريحه تضمين القانون البريطاني بعض بنود الشريعة الإسلامية لأنه أمر لا يمكن تجنبه، وأن النظام القضائي البريطاني سيتعين عليه يوماً ما أن يعترف ببعض جوانب الشريعة الإسلامية.
Kanaan999@hotmail.com
المصدر: http://www.al-jazirah.com.sa/2010jaz/sep/27/ar4.htm