حِرَفيُّو البحر في تراث الغرب الإسلامي

عبد السلام الجعماطي

تأتي هذه الدراسة محاولة تأصيل بعض المفاهيم والمفردات العربية الإسلامية في مجال الملاحة البحرية، وخاصة أن الأمر يتعلق بمهن البحر وبالحرفيين العاملين بقطاعاته؛ فمن المعلوم أن الملاحين وحِرَفيِّي وَرْشَات بناء السفن والمعدات البحرية ظلوا خارج مجالات اهتمام الدارسين بالعلوم الإنسانية؛ إلا من قلة أفردت بعض الدراسات عن الملاحة البحرية العربية الإسلامية، مركزة في الغالب على أساطيل الدول الإسلامية، ومتناسية الطاقات البشرية الهائلة التي شكلت الوقود والمحرك الأساسي لهذه الأساطيل. ولعل سبب هذا العزوف عن دراسة حرفيي البحر يعود إلى الشحّ الشديد الذي يواجهه الباحثون في تاريخ هذه الفئات المهنية؛ ومن هذا المنطلق ارتأينا إلقاء مزيد من الأضواء على ماضي الحِرَف البحرية في تراث الغرب الإسلامي، من خلال التنقيب عن الإشارات المنبثة عن هؤلاء المهنيين في شتات من المصادر المتنوعة، بين حوليات التاريخ وكتب التصوف والتراجم، والجغرافيا والرحلة، والأنواء والفلك، والفقه والحسبة، والأدب ومعاجم اللغة والسير...

1.         الملاّحون أو النواتية:

من نافلة القول أن المصادر العربية لا تولي العاملين بقطاع النقل البحري كبير اهتمام، شأن معظم فئات العامة ممن يباشرون الأشغال المضنية بأيديهم؛ ومع ذلك لا نعدم العثور على العديد من الإفادات المتناثرة عنهم بمختلف المتون. وبدءا ينبغي التنبيه على وجود تمييز بين المنقطعين للعمل في هذا الميدان بشكل دائم، حيث نعت أحد النواتية بالمرية مثلا على أساس أنه "من أصحاب السفن وممن لا يشتغل بغيرها"(1)؛ وبين غيرهم ممن يجمع بين أكثر من حرفة(2). كما تجدر الإشارة إلى وجود تنوع معجمي فريد في متون اللغة المدونة بالغرب الإسلامي، فيما يتصل بمختلف الاصطلاحات التي أطلقت على المشتغلين بالملاحة البحرية وبصناعة السفن والمراكب؛ ويمكن الاسترشاد بتلك المعاجم في سد الفجوة التي يعاني منها البحث عن اختصاصات مختلف الفئات الحرفية المرتبطة بالبحر. ففضلا عن تواتر مفردات "البحريين" و"أصحاب السفينة"(3) و"ركاب البحر"(4)، نجد تسمية "الملاح" الشائعة التداول. ومع أن لفظة "الصاري"(5) تعبر عن المعنى نفسه، إلا أن عوام المغرب والأندلس كانوا "يقولون لعود الشراع صار"(6). وعلى غرار ذلك، يطلق اسم "الأرْدَمُون"(7) على الملاحين في العربية الفصيحة، في حين نجد "قول العامة لبعض أداة السفينة أردمون"(8). واشتمل لفظ "النواتية" على جميع الملاحين أو الخدمة القائمين بسير المركب، وكل من انتسب إلى حرفتهم؛ ولفظة النوتي معرّبة عن اليونانية أو اللاتينية(9)؛ كما أنها ترد بإحدى الروايات التي تعود إلى القرن الثاني للهجرة على أدنى تحقيب، فقد جاءت في بيت للشاعر عباس بن ناصح الجزيري قائلا(10):

يشهد بالإخلاص نُوتِيُّها... لله فيها، وهو نصراني

وفي درجة أكثر دقة، تفيد المصادر وجود أصناف من النواتية؛ ومع أن التمييز بينهم على أساس الرتبة يعدّ في غاية الصعوبة، فإن بعض الإشارات تبين وجوه التفاضل بينهم على أساس العمل المنوط بكل صنف، ومقدار ما كان يقتضيه من أجر. كما تم التمييز بين عمالي هذا القطاع "من أصحاب السفن"(11)، وبين فئات مهنية أخرى احترفت بعض المهن المرتبطة بالملاحة مثل "الحمالين"(12) الذين وجدت أعداد معينة منهم بالمراسي، بحكم ارتباطهم بالمؤاجرة على الشحن والتفريغ في أرصفتها، ومثل "عبيد المركب"(13) الذين ورد ذكرهم ببعض النوازل الفقهية.

1.1.      رئيس السفينة:

نلمس وجود تمييز بين فئات البحريين أو النواتية، من حيث الاختصاص في العمل والتفرد في المكانة على متن السفن والقوارب، ومن حيث التراتب الذي يخضعون له؛ إذ نجد الرئيس في أعلى مراتب البحريين، وهو الذي يرجع إليه الأمر والنهي فيما يتصل بمختلف أوجه الملاحة من إبحار وإرساء، وتعبئة وإفراغ، وركوب وحط. و"الرَائِس" اصطلاح عامي مغربي أندلسي محرّف عن "الرئيس"(14)، ويرد كذلك في صيغة "رايس"، ويقصد به رئيس السفينة أو المركب أو حتى الأسطول. ويقوم رئيس المركب بتوزيع المهام، كقوله للنواتية عند هبوب الرياح ونشر الأشرعة للإبحار: "خذوا كذا، وخذوا حبل كذا... مما هو من صنعتهم"(15). وقد تم تعريفه كذلك بـ"مدبّر أمر السفينة"(16)؛ وجاء في رواية القشتالي على لسان أحد رؤساء البحر السبتيين ما يلي: "قال الشيخ أبو مروان للرائس: "افتح القلاع!". قال له الرائس: "يا سيدي، ليس هذا هواؤنا". قال له: "افتح القلاع!". قال: فامتثل الرائس أمره لمعرفته بحاله، ولم يعوّل على معرفة نفسه، وفتح القلاع"(17). وتجدر الإشارة إلى أن لفظة "الرائس" عند العرب لها مدلولات أخرى، فهي تطلق على رأس الوادي، وعلى كبير الكِلاَب الذي لا تتقدمه في القَنْص، وعلى متقدمة السحاب(18). والملاحظ أن دور الرئيس لم يكن مطلقا في التصرف؛ إذ تشير المصادر الفقهية إلى وجود ضوابط يخضع لها الربابنة من خلال تعاقداتهم مع التجار والمسافرين، والتي تم تقنينها تبعا لتعاليم المذهب المالكي، دون إغفال اجتهادات أهل الفتوى من الفقهاء المشاورين ومنظري الحسبة.

 

 

2.1.      الرُّبَّان:

 

تذكر المصادر أصنافا أخرى من البحارة والعمالين على ظهر المراكب، مثل "الربان"، وهو "صاحب سكان المركب البحري"(19)؛ وقد تكلف في البحار الشرقية لدار الإسلام مثلا بمسايرة الرئيس، حتى تتوقى السفينة الاصطدام بالتروش أو الأحجار الناتئة في قعر البحر(20).

3.1.      وكيل المركب:

يتفاوت عمّالو السفن والمراكب التجارية في التراتب أسفل رتبتي الرئيس والربان، فبعض النصوص تشير إلى "وكيل المركب"(21)؛ والوكيل عامة مشتق من التوكيل ـ من وكّلته لكذا إذا فوّضته ذلك ـ: هو من تستكفيه أمرك، وتسلمه إياه، ثقة بكفايته، فهو حفيظ ورقيب ومعين, والوكالة في اصطلاح الفقهاء: إقامة الإنسان غيره مقام نفسه(22). أما في الملاحة البحرية، فوكيل المركب بمثابة القيم على نقل البضائع بواسطة السفينة. ويرى أحد الدارسين أن وكيل المركب كان ينوب عن مشغّله في مختلف المعاملات، بل وحتى في حال نشوب المنازعات، سواء كان المشغّل هو نفسه صاحب السفينة أو مؤجرها من مالكها(23). وتستنبط من إحدى الروايات المنقبية مجموعة من المعطيات الدقيقة حول دور الوكيل أثناء الرحلة، فقد كان مسؤولا عن المركب طيلة مدة سفره مشحونا بالسلع، كما أنه يتكلف بإصلاح الأعطاب التي تلحق بالسفينة، من حيث شراء المواد الخام الضرورية للإصلاح، وخاصة الخشب، ثم دفع تكاليف العمل لمن يباشره. وإلى جانب ذلك، فإن الوكيل كان مخوّلا له أن يتصرف في البضاعة المشحونة إذا استدعى الأمر ذلك، فنجده -حسب الرواية المذكورة- يعطي لمرابطة البحر قرب باديس قدرا من الزيت والتين -الذي شحن به المركب من إشبيلية- على سبيل الهبة ورغبة في التبرك بدعاء الصوفية(24).

وعموما فإن المهام التي أنيطت بالوكيل في النقل البحري كانت في كثير من الأحيان تتفق مع نظائرها في البر, ونجد فيما أورده الجاحظ عن أهلها تصنيفا لهذه الحرفة ضمن طائفة من المهن التي ترتكز على مبدأ الثقة بين أرباب الأموال من التجار والمقارضين وبين مستخدميهم، فهو يرى "أن الوكيل والأجير والأمين والوصي -في جملة الأمر- يجرون مجرى واحدا"(25). لذلك حذر من إساءة الظن بالجميع، على الرغم من عيوبهم(26)، خوف إبطال الأعمال واختلال الأحوال العامة؛ فقد رأى أننا "لو بهرجنا جميع الأمناء، واتهمنا جميع الأوصياء وأسقطناهم، ومنعنا الناس الارتفاق بهم، لظهرت الخلّة وشاعت المَعجَزَة، وبطلت العقد وفسدت المستغلات، واضطربت التجارات، وعادت النعمةُ بليةً والمعونة حرمانا، والأمر مهملا، والعهد مَريجا"(27). لذلك يرى أنه لم يكن هناك بدّ من التغافل عنهم، وعدم تشديد المراقبة عليهم والمحاسبة الدقيقة لهم، فـ"لو أن التجار وأهل الجهاز صاحبوا الجمّالين والمكارين والملاحين، حتى يعاينوا ما نزل بأموالهم في تلك الطرق والمياه والمسالك والخانات، لكان عسى أن يترك أكثرهم الجهاز"(28).

غير أن تعقّد صنوف المعاملات التجارية بدار الإسلام، فرضت وضع سجلات تتضمن لائحة بمشتملات السفن والمراكب، يستند إليها متى دعت الحاجة إلى معرفة الحمولة من أجل المَكْس، أو نظر القاضي والمحتسب فيما عسى أن ينجم بين المتعاقدين من الخلاف, والمنازعات القضائية. فبالنسبة إلى الغرب الإسلامي عموما، تعود أقدم الإشارات إلى مصنف ابن أبي فراس، وهو "كتاب أكرية السفن"، وتحيل المتنازعين في شأن حمولة السفينة على نوع من السجلات يسمى بـ"الشامل"(29)؛ وينص الفقيه الأندلسي فضل بن سلمة (ت: 319ﻫ) على جعله مرجعا فقهيا في هذا المضمار، بالقول: "أما عدة الحمولة فينظر في الشامل، فإنه عندنا ظهير قد جرى الناس عليه"(30). بينما تم تداول صنف من السجلات بمشرق دار الإسلام، عرف بـ"الروزنامجه"(31)، وهي كلمة فارسية الأصل لها نفس المدلول الاصطلاحي؛ ويلقي البيروني مزيدا من الضوء على طبيعة المعلومات التي كان يتضمنها السجل، وأبرزها نوعية البضاعة، واسم صاحبها، ومحل سكناه بالتفصيل.

4.1.      دليل الطرق البحرية:

على غرار النقل البري، فرضت الرحلات البحرية الطويلة أو الصعبة، وجود "دليل عالم بطرق البحر"(32)؛ وهو صاحب حرفة تذكرها المصادر التي أشارت إلى الملاحة بين مشرق دار الإسلام والصين، إلى حد أن بعض الأدلاء كانوا مشهورين لدى الربابنة. ومن بين المعطيات الدقيقة التي نستنبطها من رواية عن أحدهم، أن الأجرة التي اشترطها لإتمام رحلة انطلقت من مرفأ سيراف في اتجاه الصين بلغت "مائتي مثقالِ ذهبٍ"(33). ويبدو أن هؤلاء توفروا على خبرات عملية فذة، إلى حد أنه لم يكن بوسع الربابنة الاستغناء عن خدماتهم، مهما بلغ بهم التشطط في طلب الأجرة(34).

5.1.      عامِل الْمَضارِب:

تفيدنا القرائن النصية المختلفة أن المَضارب بالغرب الإسلامي خضعت لمراقبة الدولة، حيث عين موظف ديواني لإدارتها وتحصيل مواردها، دعي "عامل المضارب"(35). وقد كان فائد مضرب الميناء بسبتة مثلا يعود إلى الشريف أبي العباس الحسيني، دون أن يشركه غيره. أما مضرب أويات، فكان للشريف المذكور "يوم يضرب فيه، ويومان لبيت المال، وكانت عادة عامل المضارب -الناظر في فوائدها وما تحتاج إليه من نفقة آلة- أن يأمر رجاله وأعوانه -حين يقعد النواتية الكيس- بالوقوف إليه، والدفاع عنه، بعد أن يحضر الشهود، خفرا وضبطا لما تحصل من فائد المضرب المالي في يوميه؛ فإذا كان يوم السيد الشريف يأمر رجاله وخدامه وأعلاجه الإسلاميين بإباحة المضرب للمساكين، وتفريق الحوت على من لا يصل إليه، ممن يحضر متنزها، إما لحفظ مروءة، وإما لغير ذلك. ولا يزال الناظر من قبله -وهو القائد فارح أحد أعلاجه- واقفا على حصانه، وقد أحاطت به رجاله، إلى أن يرضى كل من يحضر، وما فضل عن ذلك فهو له"(36). ومن المعطيات الدقيقة التي تقدمها المصادر عن موارد هذا المضرب يتبين أن فائده في المتوسط قد تراوح خلال القرن الثامن الهجري بين خمسمائة وسبعمائة دينار، وقد كان ينتهي في بعض الأحيان إلى ألفي دينار في اليوم(37).

6.1.      نُظَّار المحارس:

النُظّار هم الحراس المكلفون بمراقبة البحر انطلاقا من المحارس أو الأبراج. وقد وصف ابن مرزوق عمل هؤلاء الحراس بالمحارس والمناظر على طول سواحل الغرب الإسلامي إبان عهد أبي الحسن المريني، بقوله: "وفي كل محرس منها رجال مرتبون، نُظَّار وطُلاّع، يكشفون البحر؛ فلا تظهر في البحر قطعة تقصد ساحل بلاد المسلمين إلا والتنيير يبدو في المحارس يتحذر أهل كل ساحل من السواحل ساحلهم. فأمنت السواحل في أيامه السعيدة، ما كان يستمر فيها من أسر أهل البوادي وتصبيحهم، والاستيلاء على الكثير من أهل العمود الذين يأوون إلى البلاد الشطية والسواحل"(38).

7.1.      حَمَّالو المراكب:

شكلت هذه الفئة نسبة مهمة من عمّالي قطاع النقل البحري، وكان غالب عملهم مقتصرا على شحن السفن وتفريغها. وتفيد بعض الفتاوى الفقهية وجود عرف بين الأطراف المشتغلين بالنقل البحري، يتمثل في أن يمنح التجار وأرباب الأموال للنواتية المشتغلين ضمن هذه الفئة قدرا من المال فوق ثمن الكراء، وهو "المسمى عندهم بِرْطِيلا"(39)؛ ويستنبط من نازلة تعود إلى القرن الخامس الهجري أن هذا القدر المضاف على قيمة الأجرة اقترن بالشحن والتفريغ الذي اضطلع به حمالو المراسي، ويتضح ذلك في قول أحدهم: "برطيل النواتية، والعادة أنه على التجار أجرة لوصول متاعهم المركب وخروجهم، فإذا وفّوا بذلك ثبت لهم، وسواء فسخ الكراء أو لم يفسخ"(40). ومن خلال هذه النازلة، يتضح أن أجرة النواتي الواحد ربما بلغت عشرة دنانير في الأسفار الطويلة بين بلدان الغرب الإسلامي، أما "البرطيل في الرحال [فـ]هو يقل مرة ويكثر أخرى"(41)، حسب كمية السلعة المشحونة وكرم أصحابها من التجار.

8.1.      المُجَذِّفون:

لعل المجذفين كانوا أكثر العمّالين شقاءً على متن السفن، بحكم اعتمادها على سواعدهم في عملية الإبحار، خاصة أثناء توقف الرياح أو عند الحاجة إلى زيادة السرعة. وليس من السهل العثور على نصوص صريحة، بشأن المدة التي كان يشتغل خلالها المجذفون بالتحديد أو التقريب، وكذلك معدل المسافة التي كانوا ملزمين بالتجذيف لقطعها؛ غير أن في تحليل معطيات مصدرية عن الملاحة بالمنطقة الوسطى للبحر المتوسط ما يميط بعض الغموض عن هذا الأمر؛ فقد ورد لدى النويري تحديد للمسافة بحرا بين صقلية وإفريقية، وهي يوم وليلة(42)، بينما عدها غيره يومين "بالريح الطيبة أو أقل"(43). وإذا ربطنا هذا المعطى بما جاء عرضا عند صاحب "سراج الملوك"(44)، في رواية تحكي قصة رحلة بحرية كان من المفترض أن تقطع المسافة نفسها، يتبين أن الجذّافين كانوا يقطعونها على متن بعض المراكب اعتمادا على سواعدهم. ومع ذلك فإن القول باستمرار عملهم دون توقف خلال الرحلة لا يصمد أمام منطق القدرات البشرية المعهودة, ولا شك أن الأعداد الوفيرة نسبيا من النواتية المنوط بهم دور التجذيف على متن المراكب، كان الهدف منها على ما يبدو هو التناوب في العمل خلال الأسفار البحرية البعيدة، أو من أجل الاعتماد على الطاقة العضلية كلما دعت إليها الضرورة، وتجنب تقلبات اتجاهات الرياح أو ركودها(45).

9.1.      خدمة المركب:

يشمل هذا الاصطلاح عامة البحريين العاملين على متن السفن، من أصناف النواتية الذي يتولون مهام إبحار المركب، دون تمييز بين الأحرار والعبيد؛ بينما جاء في بعض المتون الفقهية ما يفيد اشتمال اللفظ على كلا الفئتين، حيث قال أحد فقهاء الغرب الإسلامي: "وليس على جِرْم المركب، ولا على صاحبه شيء، ولا على خدم المركب شيء، أحرارا كانوا أو مماليك، ولا على من لم يكن معه متاع"(46). وقد ورد ذكرهم لدى أبي العباس العزفي في رواية على لسان أحد رؤساء السفن، وهو قوله: "قال لي الرائس: فقلت للبحريين خدمة المركب: خذوا كذا، خذوا حبل كذا، وخذوا حبل كذا، مما هو من صنعتهم"(47). وتتضح من خلال هذه الرواية، ملامح التخصص على متن السفينة في العمل لدى النواتية، حيث كان لكل واحد من خدمة المركب عمل منوط به.

10.1.    عَبِيد المَرْكَب:

عبيد مسخرون في إجراء السفينة، ورد ذكرهم في إحدى أحكام القاضي عياض، ويعدّهم من جملة "خدم المركب"(48) الذين يوجد من بينهم الأحرار. وقد توقع أحد الدارسين أن العبيد منهم بخاصة تولوا مهمة التجذيف على ظهر المراكب(49)، وهو أمر يجد ما يؤيده اعتمادا على عدة قرائن في جهات عديدة من البحر المتوسط، بالنظر إلى صعوبة هذا العمل وخطورته على أبدان البحارة. على أن الحديث عن عبيد المركب والنواتية والأحرار على ظهر المركب، قد يطرح غموضا إضافيا في التمييز بين هذه الفئات، فقد جاء في كتب النوازل البحرية ما يفيد وجود جميعها على ظهر المركب؛ إذ تتحدث بعضها عن كيفية المقاصة في السفينة وقومتها وركابها في حالة الغرق، وهو قول أحد فقهاء الغرب الإسلامي: "وليس على السفينة، ولا على خدم المركب، ولا على النواتية، ولا على الأحرار شيء؛ وإنما يكون على المتاع، ولا نرى على العَيْن شيئا"(50). ومن الطبعيّ أن يشكل العبيد جمهور العَمَّالين على متن السفن، حيث إن تصاعد نشاط الجهاد البحري ضد السفن النصرانية غالبا ما كان يثمر مَعِيناً ثَرًّا من الأسرى. وقد جاء ذكر عبيد المركب في إحدى النوازل التي تتعلق بالمحاصاة، ونصها: "فأما الرقيق لغير التجارة أو خدم المركب إن كانوا رقيقا فلا شيء عليهم، ولا على جميع الأحرار ممن ركب ولا على المركب نفسه، ولا يحتسب على شيء من هذا قليل ولا كثير"(51).

2.         صانعو العُدَد البحرية:

تعددت طوائف الحرفيين المختصين في صناعة معدات الملاحة البحرية، وقد كانوا في مجملهم مراقبين من قبل أصحاب السوق ببلاد الغرب الإسلامي، مثلما هو الحال بباقي ديار الإسلام؛ ووضعت كتب الحسبة لأصناف حرفيي هذا القطاع معايير "مرجعية" يستند إليها صاحب السوق عند المراقبة، أو في حال نشوب خلاف بين الحرفيين أنفسهم وبين المتعاقدين والمستثمرين لأموالهم في صناعة وسائل النقل البحري ومعداته.

2.1.      السفّانون والقلافطة:

الملاحظ أن أهل المغرب والأندلس كانوا يسموّن "صانع السفن نشّاءً"(52)، مع أن تسميته الفصيحة هي الـ"سفّان"(53). وعبّروا عن الحرفي الذي يباشر وضع القار على ألواح السفن والمراكب بالـ"كلفاط"(54)، وهو الـ"جلفاط (بالجيم) وصناعته الجلفطة"(55)؛ بينما جاءت بصيغة "القلفاط"(56) و"القلفطة"(57) في مصنفات الحسبة والوثائق. وقد عدّ ابن عبدون القلفاط من بين أربعة شخوص يحتاج الناس إلى صلاحهم(58)؛ والملاحظ أن أهل هذه الصناعة بالمشرق كانوا على درجة كبيرة من الاعتزاز على الناس بحرفتهم، نظرا إلى تعاقداتهم مع السلطان على إنشاء الأساطيل. كما تصاعدت الحاجة إليهم حتى أنهم اشتطوا في طلب الأجر ومضاعفته عدة مرات أحيانا, وشكلوا موازاة لذلك اتحادا مهنيا وثيقا مكنهم من الاتفاق على حماية امتيازاتهم؛ بل إنهم خالفوا المذاهب المعمول بها لدى أهل المشرق، وكوّنوا شركات الأبدان لتحسين دخلهم والتناوب على العمل؛ لذلك هاجمهم ابن بسام المحتسب ناعتا إياهم بمخالفة الشرع(59).

2.2.      صانعو لوازم السفن:

من بين الحرف الموجهة لإنتاج المعدات التي تواتر الطلب عليها، إلى حد أنها أثارت مشرعيّ الحسبة للنظر في أمرها، برزت صناعات الحبال والأشرعة والمسامير. واللافت للانتباه إحالة السقطي المالقي الأصل على المعايير التي وضعها محتسبة سبتة في هذا الشأن، بحكم احتوائها على دار لصناعة السفن، فضلا عن علاقاتها التجارية والملاحية المتأصلة مع مالقة(60). ومن أبرز المصطلحات التي جرى تداولها بين أهل الاختصاص في الملاحة ومعداتها، نجد أصناف الحبال مثل "الأربعيني"(61)، وطوله أربعون باعا، وكل "مائة حزمة حلفاء قبضاتها ألف قبضة، وتصدق في الدرس مائتي رأس وفي المائة رأس أربعة أحبل أو خمسة أربعينية، والرقيقة من عشرين رأسا إلى ستة عشر"(62). وقد اشتهرت مدينة لقنت الأندلسية بإنتاج الحلفاء المستعملة في صناعة الحبال بمعظم دور الصناعة بالغرب الإسلامي، حيث كان "يتجهز منها بالحلفاء إلى جميع بلاد البحر"(63). ووجدت أصناف أخرى من الحبال المتداولة في الملاحة البحرية، مثل "الطونس" و"الجُمَّل" و"الكَرّ"(64)؛ كما اتخذت الحبال من شجر يدعى "الخزم"(65). أما المسامير والأشرعة أو القلوع، فـ"يدخل في كل قطعة من القطع البحرية أربعون ربعا من المسمار المنوع من ألف مسمار في الربع وخمسمائة في الربع، ويدخل فيها من مسمار التقريط أربعة عشر ألفا، وزنة كل مائة تسع أواق؛ ومن التقريط الكبير ألفان اثنان وزن المائة منه أربع وعشرون أوقية؛ ويدخل فيها من البياض ثلاثون ربعا ومن الكتان تسعة أرباع"(66). في حين وضعت مقاييس يستند إليها صناع قرايا المراكب وأرجلها، حيث ينبغي في الأولى ألا تكون مفرطة الطول، بينما لا ينبغي لرِجل السفينة أن تكون ناقصة، حرصا على سلامتها من الانقلاب والاضطراب في أوقات هبوب الرياح(67).

وعموما، فإن الإلمام بمختلف تخصصات المهن البحرية في التراث العربي يعد من أولويات البحث في تاريخ الملاحة البحرية وعلوم البحار بالغرب الإسلامي، سواء تعلق الأمر بالبحريين أو بالحرفيين العاملين بورشات صناعة السفن ومعداتها؛ وذلك لكون هذه الفئات قد ظلت على هامش التاريخ العام للحضارة الإسلامية؛ كما أن مطلب وضع قاموس دقيق للمفردات البحرية العربية الإسلامية، يفترض تحديد مختلف أصناف العاملين بالبحر، وتبيان مهام ومراتب كل صنف منهم بقدر الإمكان، على ضوء ما تتيحه المصادر التاريخية المتنوعة من معطيات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)         ترصيع الأخبار، ص88.

2)         السر المصون، ص53-54؛ ويترجم الصدفي لأحد معاصريه الأندلسيين (القرن السادس الهجري)؛ ومما جاء في الترجمة أن صاحبه كان يجمع بين النشاط الفلاحي -وخاصة غراسة الزيتون- وبين نقل المسافرين بحرا، حيث "كانت معيشته رحمه الله من أجرة مركب في البحر تعمل له".

3)         كتاب أكرية السفن، ص46.

4)         تقويم قرطبة، ص167.

5)         المدخل إلى تقويم اللسان، مجII، ص44؛ وقد برهن المؤلف على ذلك مستدلا ببيت شعر للأعشى، وهو قوله: خَشِيَ الصواري صولةً منه فعادوا بالكلاكل

6)         نفس المصدر والصفحة.

7)         نفسه، مجII، ص369؛ واستدل على ذلك بقول الشاعر: كما حرك القادسَ الأردمونا

8)         نفس المصدر والصفحة.

9)         ترجع لفظة النواتية حسب بعض الدارسين إلى أصل إغريقي (Nauta) وتعني الملاح؛ انظر: Jorge Lirola Delgado, El poder naval de Al-Andalus, P284.؛ أو إلى أصل لاتيني (Nauticus)؛ انظر: العبادي وسالم، تاريخ البحرية الإسلامية في حوض البحر المتوسط، ج. 1/87، الهامش رقم: 3

10)       الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين، ص.256.

11)       العذري، ترصيع الأخبار، ص88.

12)       نفس المصدر والصفحة.

13)       عياض وولده، مذاهب الحكام، ص235-40.

14)       ابن هشام، المدخل إلى تقويم اللسان، مجII/372.

15)       العزفي، دعامة اليقين، ص65.

16)       المدخل إلى تقويم اللسان، مجII/372.

17)       القشتالي، تحفة المغترب، ص.168.

18)       المدخل إلى تقويم اللسان، مجII/372-373.

19)       الجواليقي، المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، ص159.

20)       El poder naval de Al-Andalus, P284.

21)       البادسي، المقصد الشريف، ص106.

22)       عمارة، قاموس المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية، ص.628.

23)       PICARD, L’Océan Atlantique Musulman, P330.

24)       المقصد الشريف، ص.106.

25)       الجاحظ، كتاب الوكلاء، ج. 4، ص100.

26)       نفسه، ص102.

27)       نفسه، ص100.

28)       نفسه، ص100-101.

29)       ابن أبي فراس، كتاب أكرية السفن، ص70.

30)       نفس المصدر والصفحة.

31)       البيروني، الجماهر في معرفة الجواهر، ص260.

32)       البيروني، تحديد نهايات الأماكن، ص33.

33)       نفسه، ص34.

34)       نفسه، ص34-35.

35)       المقري، أزهار الرياض، مج1/42.

36)       نفسه، ص.42-43.

37)       نفسه، ص44.

38)       ابن مرزوق، المسند الصحيح، ص.398.

39)       فتاوى البرزلي، ج. 3، ص649.

40)       نفس المصدر والصفحة.

41)       نفسه، ج.3، ص650.

42)       موسى، تاريخ المغرب الإسلامي، ص460.

43)       ياقوت، معجم البلدان، مجIII، ص416؛ ولعله أقرب في التقدير على اعتبار أن المجرى البحري هو مائة ميل أو يزيد قليلا؛ في حين أن المسافة التي يذكرها ياقوت هي "مائة وأربعون ميلا إلى أقرب مواضع إفريقية، وهو الموضع المسمى إقليبية"؛ بمعنى آخر هي نحو مجرى وخمسي مجرى بالتقريب.

44)       الطرطوشي، سراج الملوك، ص143.

45)       El poder naval de Al-Andalus, P288.

46)       كتاب أكرية السفن، ص66.

47)       دعامة اليقين، ص.65.

48)       مذاهب الحكام، ص243.

49)       الشريف، الغرب الإسلامي، ص156-157.

50)       كتاب أكرية السفن، ص65؛ الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب، مج8/311.

51)       مذاهب الحكام، ص.243.

52)       المدخل إلى تقويم اللسان، مج II، ص363.

53)       نفس المصدر والصفحة؛ الخزاعي، تخريج الدلالات السمعية، ص483، وهو يعرف المصطلح بمدلوليه، معتمدا على "المحكم" لابن سيده، حيث يقول: "السفان صانع السفن وسائسها، وحرفته السفانة".

54)       المدخل إلى تقويم اللسان، مجII، ص190.

55)       نفس المصدر والصفحة.

56)       رسالة ابن عبدون، ص55-56؛ ابن بسام، نهاية الرتبة، ص356.

57)       الجزيري، المقصد المحمود، ص245.

58)       رسالة ابن عبدون، ص55-56؛ وعبارته: "أحوج ما هم في العالم إلى قاض عدل، وإلى وثّاق ثقة، وإلى قلفاط جيد، وإلى طبيب ماهر خير: فهذه الأربعة فيها حياة العالم؛ وهم أحوج إلى أن يكون فيهم الخير والدين من كل واحد؛ فإنهم أمناء الله على الأموال والمهج؛ فهم أحوج الناس إلى الدين والخير".

59)       ابن بسام، نهاية الرتبة، ص356.

60)       السقطي، ص71.

61)       نفس المصدر والصفحة.

62)       نفس المصدر والصفحة.

63)       الإدريسي، نزهة المشتاق، مجII، ص558.

64)       المدخل إلى تقويم اللسان، مجII.

65)       نفسه، ص262.

66)       السقطي، ص72.

67)       ابن بسام، نهاية الرتبة، ص360.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/4/91

 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك