في الإعلام الإسلامي: مدخل لتثبيت السياق

بقلم يحيى اليحياوي

 

ثمة ثلاثة معطيات أساس لا بدّ من استحضارها، بمدخل هذه المقالة، إذا لم يكن من باب التأطير العام لهذه الأخيرة، فعلى الأقل من زاوية تأثيث سياق الحديث الذي سنكون بصدده على امتداد هذه الورقة:

- المعطى الأول: ومفاده القول إنّ العالم (المتقدم منه والذي هو في طريق النمو) إنما بات، منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، بإزاء ثورة تكنولوجية عميقة طالت كلّ جوانب الاقتصاد والمجتمع والثقافة، حاملة معها أدوات جديدة لإنتاج وتوزيع واستهلاك الثروة والقيمة لم تكن معهودة من ذي قبل، أي لم تكن مألوفة في عصور ما اصطلح على تسميتها بالثورة الصناعية أو الثورة ما بعد الصناعية، أو ثورة "الاقتصاد الجديد" أو ما سواها.

ومع أنّ هذه الثورة قد تمظهرت بقوة في القطاعات الإنتاجية (الصناعية والفلاحية والخدماتية تحديداً)، فإنها قد تمظهرت أكثر بقطاعات الإعلام والمعلومات والاتصال، على مستوى البنى التحتية والتجهيزات والأعتدة، وعلى مستوى المضامين المنتجة والمحتويات المروجة والمعلومات المتنقلة[1].

 - المعطى الثاني: ومؤداه أنّ الثورة (ثورة الرقمنة بلغة التقنيين)[2] قد أسهمت جذرياً في انبعاث أنماط جديدة في إنتاج وتخزين ومعالجة وتوزيع المعلومات، ليس فقط بين الأفراد والجماعات، بل أيضاً من بين ظهراني المنظمات التي كانت إلى حين عهد قريب في منأى عن هذه التحولات الكبرى، وفي مقدمة هذه المنظمات، المنظمات الصحفية والإعلامية، والمؤسسات المعلوماتية والاتصالاتية، الصغير منها ومتعدد الجنسيات على حد سواء.

لم تكتفِ هذه الثورة بـ"تفجير" التوازنات الكبرى التي بنت لعقود طويلة مجد الإعلام والمقاولات الإعلامية (التوازنات الاقتصادية والتجارية والتنظيمية على وجه التحديد)، بل ثوت خلف قدوم فاعلين جدد، هم في جزء كبير منهم من خارج المنظومة القائمة، لكنهم باتوا بفضل التقنيات الجديدة منافسين حقيقيين لهذه المقاولات، بل ويتمتعون بنجاعة لا تستطيع المقاولات ذاتها مجاراتها أو النسج على منوالها[3].

- المعطى الثالث: ومضمونه أنّ ما بات يصطلح على تسميته منذ فترة بـ"الإعلام الجديد" لم يسهم فقط في بروز "فصيل" في الإعلام إحدى خصائصه التفاعلية وتقاسم المعلومة على نطاق واسع، بل أسهم أيضاً في ظهور أشكال في التنظيم جديدة، لم تعد ترتكن إلى مفهوم البنية باعتبارها إطاراً تنظيمياً ثابتاً، بقدر ما باتت ترتكز على مفهوم البيئة[4] باعتبارها فضاء افتراضياً تعتمل بداخله كلّ أنماط العلاقات والسلوكيات والتفاعلات والتعبيرات، دونما قدرة من لدن السياسات العمومية على إعاقتها، أو تحديد قواعد مجردة لتأطيرها، فما بالك بإعمال القوانين واللوائح والتشريعات للحدّ من التجاوزات المحتملة والملازمة لمدّها وتموجاتها؟

هذه المعطيات الثلاثة لا تؤشر برأينا على بروز براديغم جديد من شأنه التأسيس لقطيعة ما مع الممارسة الإعلامية التقليدية، بل تنبئ بطبيعة وحجم الرهانات والتحديات المرفوعة في وجه القطاع الإعلامي كنشاط صناعي قائم، وكذلك كمجال جديد لصناعة المحتويات الإعلامية، المادي والتقليدي منها، وكذلك الافتراضي والجديد، الذي يراهن على اكتساح كلّ المجالات، الثابت منها والمتحرك على حد سواء.

ويبدو، بالبناء على ما سبق، أنّ "الصورة النهائية" التي سيكون عليها الفعل الإعلامي في العقود القادمة، ستكون بملتقى تقاطع ثلاثة تحديات كبرى، لن يستطيع الإفلات من عقالها لا الإعلام ولا القائمون عليه، أفراداً كانوا أو مؤسسات:

- التحدي الأول: تحدٍ تكنولوجي خالص، ويتمثل في حقيقة أنّ تطور الشبكات الاتصالاتية والتكنولوجيات الإعلامية قد أوجد أنواعاً جديدة من المضامين والمحتويات، ومسالك توزيع جديدة لهذه المضامين والمحتويات، تتجاوز بكثير مسالك التوزيع التقليدية بمقياس الوتيرة والسعة وبمقياس الانتشار.

إنّ الثورة الرقمية قد أفرزت أشكالاً جديدة في التعبير، وثوت خلف بروز طرق غير معهودة لبلوغ جماهير متنوعة، وقدمت إمكانات جديدة في تفاعل المتلقي مع المضامين، بل إنّ المتلقي بات يقوم بأدوار جديدة، تجعله حقاً في قلب منظومة إنتاج القيمة باعتباره مصدراً لإبداع المعلومات وإنتاجها وتجميعها وتوفيرها للأفراد والجماعات على حد سواء[5].

- التحدي الثاني: تحدٍ اقتصادي بامتياز، ويحيل على إشكالية النموذج الاقتصادي الذي من شأنه ضمان استمرار انسيابية المعلومات وتوفيرها بما لا يهدد مردودية الفاعلين الأساسيين، أو يثنيهم عن زيادة حجم الاستثمارات في البنى التحتية أو في الشبكات أو في البرامج.

إنّ قطاع المضامين يتعولم بقوة وينتقل تدريجياً لجهة هذا العالم الافتراضي الجديد، حيث تتراجع الأسواق التقليدية وتجد صعوبة في التأقلم والمسايرة. ولهذا السبب، فإنّ الفاعلين (وضمنهم السلطات العمومية دون شك) باتوا مطالبين، ليس فقط بمجاراة الواقع التقني الجديد، تنظيماً وتقنيناً، بل أضحوا مطالبين في الآن ذاته بضمان التجاوب مع متطلبات مستهلكي هذه المضامين، وضمان نجاعة وقوة الصناعات الثاوية خلف إنتاجها وتوزيعها وترويجها بفضاء اقتصادي تتزايد كونيته يوماً بعد يوم[6].

- التحدي الثالث: تحدٍ ثقافي صرف، لأنّ الثورة الرقمية لم تقتصر في أثرها ومفعولها على الصناعات الإعلامية، بل تعدتها لتطال مجال الصناعات الثقافية بما هي مكمن التعبير عن القيم والسلوكات والتمثلات والرموز وما سواها.

ولذلك، فإذا كانت الرقمنة ثورة تكنولوجية في حد ذاتها، فإنها في الآن ذاته ثورة ثقافية وأنتروبولوجية، يتعذر على المرء معها ملامسة هذه دون ملامسة تلك. بمعنى أنّ المسألة مع الثورة الرقمية، لم تعد مرتبطة بالثقافة في صيغها المتداولة، بقدر ما أضحت مرتبطة بالثقافي كمجال وفضاء، أي باعتباره بيئة تتفاعل من بين ظهرانيها الصناعات الثقافية مع المحتويات التي تثوي خلفها، مادة كانت أم رمزاً[7].

هذه المعطيات والتحديات، المتحدث فيها أعلاه، لا تقتصر على جهة من العالم دون أخرى، ولا على دولة دون أخرى، بل نراها تطالهم مجتمعين من ناحية الطبيعة والحدة، حتى بوجود الفارق في الدرجة والوتيرة.

بيد أنّ هذا الاستنتاج لا يعفي الدارس من ملاحظة أنه لو كان ثمة من تمايز ما بين دولة وأخرى (متقدمة ومتخلفة) فلن يكون بالقطع على مستوى الأداة التقنية (إذ هي متوفرة هنا وهناك)، بقدر ما يتراءى لنا كائناً على مستوى صناعة المحتويات وإنتاج المعطيات والمضامين.

ويبدو لنا، في هذه الزاوية، أنّ الإعلام في العالم الإسلامي لا يشذّ كثيراً عن هذه القاعدة، إذ احتكام معظم دوله على أرقى تقنيات الصناعات الإعلامية لا توازيه بالمقابل مخرجات ذات قيمة كبرى، على مستوى ما ينتج من مضامين وما يروج من برامج ومواد. أي أنه على الرغم (مثلاً) من مئات الفضائيات الإسلامية (أو ذات المرجعية الإسلامية) الباثة عبر العديد من الأقمار الصناعية للبث التلفزيوني والإذاعي العابر للقارات، فإنّ قراءة سريعة لشبكاتها البرامجية تشي بقصور في المضامين، متأتٍ في جزء كبير منه من تقصير في الرؤية ومن ضبابية في الاستراتيجيا، ممّا يجعل "الرسالة" بالمحصلة العامة عصية على أن تستنبت، فما بالك أن تكون مجال تأصيل.

ولذلك، فإننا نتصور أنّ بناء رؤية جديدة لصناعة إعلام إسلامي جديد إنما يجب أن تنطلق من الاعتراف بحقيقتي القصور والتقصير إياهما، تماماً كما يجب أن تنطلق من إدراك أنّ التقنية (والإمكانيات أيضاً) لم تعد عائقاً في وجه ترويج الرسالة، شريطة أن تكون هذه الأخيرة مصاغة بمهنية، معدة باحترافية، تحترم خصوصية المتلقي وذوقه، وتكون فضلاً عن ذلك، هادفة وواضحة ومرتكزة على غايات نبيلة.

إنّ المطلوب هنا (والمطالب به أيضاً)، لا يكمن في إعداد خارطة طريق مفصلة لما يجب أن يكون عليه الإعلام الإسلامي، بالقياس إلى واقع القصور الملاحظ، بل في تحديد رؤية بعيدة المدى لتجاوز حقيقة التقصير الاستراتيجي الذي أفرز القصور ذاته في صياغة جوهر المادة الإعلامية، وفي أساليب تقديمها، وأشكال ترويجها من بين ظهراني البلدان الإسلامية، والدول غير الإسلامية أو التي فيها أقليات مسلمة.

ثم إنّ المطلوب هنا أيضاً (على الأقل من زاويتنا كدارسين) ليس تحديد الاستراتيجيات الإعلامية القطرية، القمينة بتجاوز حالتي القصور والتقصير، بل وضع اليد على الشروط المؤدية للاستراتيجيات ذاتها أو المفعلة للقائم منها إن توفر، وأيضاً تسطير العناصر التي من شأنها تخصيب التربة لبناء الاستراتيجيات إياها، وترجمتها على أرض الواقع، في أفق صوغ استراتيجية إعلامية شاملة للعالم الإسلامي.

وبناء على ذلك، فإنّ الملحّ اليوم هو مساءلة هذه المستويات جميعاً، في قصور عناصرها وتقصير تصورها، للخلوص إلى اقتراح الشروط العامة لصياغة إعلام إسلامي جديد، يكون في مستوى "الرسالة" ومستوى ما يتطلع إليه المسلمون[8].


[1] راجع في تفاصيل هذه النقطة:

يحيى اليحياوي، "في القابلية على التواصل: التواصل في محك الإنترنيت وعولمة المعلومات"، منشورات عكاظ، الرباط، 2010، 272 ص.

[2] الرقمنة هي التقنية التي تعمل على تحويل كلّ المعلومات والبيانات والمعطيات، المكتوب منها والمسموع والمرئي، إلى سلسلة من البتات المتتالية، المكونة حصراً من الأصفار والآحاد، تعمل على خفض ضجيج الشبكات التشابهية، وترفع من قدرة الشبكات على تحميل وإرسال أحجام ضخمة من المعلومات والبيانات والمعطيات. راجع في التفاصيل التقنية:

Théry. G, «Les autoroutes de l’information», La Documentation Française, Paris, 1994

[3] راجع:

Gilles. L et Alii «La dynamique d’internet: prospective 2030», Commissariat Général à la stratégie et à la prospective, Etudes, n° 1, Paris, 2013, 208 p.

[4] حول الفرق بين البنية المعلوماتية والبيئة المعلوماتية، راجع:

Mercier. A «Défis du nouveau écosystème d’information et changement du paradigme journalistique», Université de Metz (Sans date), 44 p.

[5] عن التحديات التكنولوجية التي تطاول مجال الإعلام والمعلومات والاتصال، راجع:

Herbert. J, «Journalism in the digital age», Oxford, Focal Press, 2006.

[6] راجع بخصوص هذه النقطة:

Benghozi. P. J (Sous la direction), «Contenus numériques et modèles d’affaires innovants», Culture-Médias-Numérique, Paris, Juin 2013.

Sonnac. N, «L’économie de la presse: vers un nouveau modèle d’affaires», Les Cahiers du Journalisme, n° 20, Automne 2009, 22 p.

[7] راجع: يحيى اليحياوي، "كونية الاتصال، خصوصية الثقافة: جدلية الارتباط والممانعة"، منشورات عكاظ، الرباط، دجنبر 2004

[8] ليس ثمّة شك في أنّ هناك تصورات عديدة لما يجب أن يكون عليه الإعلام الإسلامي، لكن هذه التصورات غالباً ما تصطدم، حين يعمد إلى تفعيلها، بطبيعة السياسات الإعلامية القطرية.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B9%D...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك