الباحث قديماً وحديثاً
د.إيهاب كنيش
في بداية تناولنا لمحاور وتساؤلات قضيتنا لهذا العدد سنتطرق للتعريف العلمي لكلمة (البحث)، وهي تعني الحفر أي طلب الشيء تحت التراب، والبحث كما نحن بصدده هو التفتيش والتحقيق، وهو محاولة لاكتشاف جزء من المعرفة لإذاعته بين الناس والاستفادة منه. وسيكون مدخلنا للحديث هو مظاهر ومدلولات ومصادر البحث قديماً وحديثاً، فقديماً، وكما هو معروف، كانت عملية البحث مضنية وشاقة، ولا يقدم عليها إلا من اتصف بقوة الإرادة والعزيمة والجدية، فقد كانت تشد الرحال أياماً وشهوراً، وأحياناً سنوات للوصول إلى مكان وجود المعلومة المطلوبة في مصادرها آنذاك، وكانت إما في المخطوطات النادرة أو في بطون الكتب أو صدور العلماء.
وتحفل سيرة أمتنا الإسلامية والعربية من الأقدمين والصحابة والتابعين بكثير من الشواهد على ذلك، حيث كانوا يضربون أكباد الإبل في سبيل تحري المعلومة الصحيحة والدقيقة من مصدرها، ما أمكنهم إلى ذلك سبيلاً. وما هذا إلا دلالة واضحة على الجدية في طلب العلم والمعلومة، فسجلوا أسماءهم بأحرف من نور، وما زال إنتاجهم الفكري والأدبي والعلمي بيننا حاضراً في شتى القضايا ومناحي الحياة. أما حديثاً ومع التطور المتسارع في شتى المجالات، وبخاصة مع ظهور الشبكة العالمية العنكبوتية (الإنترنت) التي أحدثت انفجاراً هائلاً في ثورة المعلومات بشكل خرافي؛ برز الدور المهم والفعال الذي يمكن أن يلعبه هذا المصدر الإلكتروني الجديد في عملية البحث. فالإنترنت اليوم أصبحت تشكل أكبر مصدر ووعاء إلكتروني للمعلومات عالمياً، فبضغطة زر واحدة يمكنك أن تحصل على ملايين النتائج الخاصة بعملية بحثك حول موضوع معين. كذلك ظهرت العديد من المصادر الإلكترونية المعتمدة على الإنترنت مثل المكتبات الرقمية Digital Library والكتب الإلكترونية Electronic Books والمجلات العلمية الإلكترونية Journals E- ومحركات البحث Search Engines .. وغيرها من المصادر الإلكترونية؛ وتبعاً لذلك برزت العديد من التحديات والمشاكل الخاصة بهذه التقنية الجديدة، تتعلق بمدى جودة مدخلات ومخرجات هذه المصادر الإلكترونية، ومدى الاعتماد عليها والموثوقية بها. فهي مصدر مفتوح لرفع وتحميل المعلومات المختلفة. في هذا الصدد بذلت العديد من المجهودات لإنشاء مواقع احترافية ومعتمدة من قبل مؤسسات علمية وأكاديمية عريقة وموجودة على أرض الواقع، وذلك لتحري الدقة والاعتمادية والموثوقية لكل ما يعرض خلالها على شبكة الإنترنت. وهنا يأتي الدور المهم والفعال للعنصر الأهم في عملية البحث وهو الباحث نفسه الذي يجب عليه أن يدرك تماماً كيفية التعامل مع هذه المصادر الإلكترونية المتعددة بشكل جاد ومسؤول ومهني. فصفة الجدية اليوم لها دلالات ومظاهر مختلفة بعض الشي عما كانت عليه قديماً - كما أشرنا سابقاً، فالجدية اليوم لا تعني شد الرحال وضرب أكباد الإبل بقدر ما تعني التنقيب عن البيانات والمعلومات بشكل علمي ومهني جاد، واستخراج كل ما هو ثمين وموثوق ومعتمد من هذا القدر الهائل والمتاح للجميع من المعلومات، فالباحث هو من يفتش عن حقيقة ما، وطريق الحقيقة طويلة وشاقة لا يمكن أن يسلكها ويصل إلى منتهاها إلا من توافرت فيه القيم الأخلاقية والعلمية مثل (الرغبة، الصبر، المعرفة، الدقة، الإنصاف، الأمانة، النزاهة، الموضوعية، القدرة التنظيمية والجرأة).
نخلص إلى أنه لا يمكننا القول بأن الباحث الجاد قد اختفى حديثاً، ولكن في رأيي يكمن الاختلاف في مدلولات ومظاهر الجدية قديماً وحديثاً كما أشرنا عاليه. فلكل عصر وزمان متغيراته التي تشكل الاتجاه العام للمفاهيم والسلوك وترسم معالم المجتمع الثقافية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية.. وغيرها.
المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3980