المسرح الإسلامي.. فراغ مميت

جمال عمر رضوان

 

نحتاج أن نقف قليلاً مع ذواتنا نستقرئ تاريخنا العريق بما يحمل من شخصيات أضاءت لنا درب الحياة بأجمل المواقف والتضحيات من إعلاء كلمة الحق وإرساء ميزان العدل بين البشر، بل كل مخلوقات الله على أديم الأرض، وما أكثر هذه الشخصيات التي كانت لها مواقف ساعدت على بناء جدار الإيمان والصدق وتجليات الفكر وهو ينير درب الظلام وينثر روائح الإسلام ونفحات العشق الإلهي حتى تغمر القلوب الظمأى لعطش سنين طويلة.

حاولت جاهداً أن نأخذ القارئ ونسافر معاً من خلال هذه السطور، وأن نتوقف قليلاً في بعض المحطات التاريخية أمام بعض الشخصيات التي قد تغيب عمداً أو قسراً عن بعض المخرجين أو المهتمين بالمسرح. ودائماً ما نقف، لكن بكل أسف ما زالت الحركة المسرحية التي تعنى بالشخصيات الإسلامية خابية تتوارى خلف النسيان أو الخوف من الخوض في هذا المضمار أو الكسل الفني أو الفكري أوالبعد عن القضايا الجادة التي تصنع المجتمع وتقترب به إلى الكمال. بل الكمال لله وحده، فماذا نفعل؟ وكل عام نحاول أن نجتر أحزاننا على المشهد المسرحي الآن، وما آل إليه من تردٍّ وبعد حقيقي عن النصوص المسرحية التي يجب أن نحتضنها على خشبة المسرح التي باتت تصرخ من هذا الفراغ المميت إلا بعض التجارب القليلة جداً من آن لآخر أو من وقت لآخر تلوح في الأفق وتذهب أسرع من البرق!

فنحن نعلم أن رسالة الفن رسالة سامية يجب على من يتصدى لها أن يكون فارساً في ميدان المعركة يتسم بصفات النبل وثقافة المدرك للواقع المعاش وقضاياه التي لا تنفصل عن المشهد الآني، وما أكثر المشاهد التي يجب أن نتوقف أمامها للكاتب الكبير عباس محمود العقاد في عبقرية محمد، وهو يصور لنا مشهد إسلام عمر بن الخطاب، حينما يدخل على رسول الله بعد أن ترك أخته التي أسلمت وشج وجهها بقسوة الجاهلية، بعد أن أنزل الله بقلبه الهداية وملأ قلبه الإيمان، كان الحوار وما أجمله من عظة وعبرة: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحابه أن عمر قد أسلم. ما أجمل هذا المشهد عندما استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم بلاغة اللغة وعذوبة الحوار.

وكما يقول العقاد: وحسبنا من عبقرية محمد أن نقيم البرهان على أن محمداً عظيم في كل ميزان، عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية، إلا أن يرين العنت على الطبائع فتنحرف عن السواء وهي خاسرة بانحرافها، ولا خسارة على السواء. إن عمل (محمد) لكاف جد الكفاية لتخويله المكان الأسنى من التعظيم والإعجاب والثناء.

يزيد هذا المشهد عمقاً وحباً وعطفاً د.طه حسين في كتابه على هامش السيرة، وهو يصف رحلة الحبيب المصطفى يقول: ثم ترحل أم الطفل به إلى يثرب لتزيره أخواله من بنى النجار، فترحل الحاضنة معهما، وينعم الطفل بحنان هذين القلبين الكريمين، حتى إذا بلغ يثرب رأى أرضاً لم يكن قد رآها، وقد قدر له مع ذلك أن يقيم فيها ميتاً، وقد سبقه أبوه إلى زيارتها، وقد سبقه أبوه إلى أن يؤثرها له داراً تؤويه. ويستمر المشهد المسرحي وما أجمله لو كان هناك مخرج واعٍ ينحو إلى هذه القصص/الشخصيات التي يزخر بها التاريخ الإسلامي، ويقف متأملاً لحياة هؤلاء الذين جاد بهم الزمن.

في كتاب (رجال ونساء أنزل الله فيهم قرآناً) للدكتور عبدالرحمن عميرة نقف كثيراً أمام حياة أبى بكر الصديق، وما أكثر المواقف النبيلة بجوار رسول الله الذي قال فيه: ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة. وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من الناس لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن صاحبكم خليل الله، وما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له كبوة إلا أبو بكر فإنه لم يتلعثم في قوله.

ما أجمل هذه الصورة وما أنقى سريرة صاحبها أبي بكر والرسول يخصه بهذه الصفات الحميدة التي كلها ثراء ومعنى يزيد الصورة نقاء ومشهداً يجب أن نقف أمامه كثيراً لنتأمل هذه الأبعاد التي أشار لها الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام في شخص أبي بكر الصديق، وهو أول من آمن وصدق برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم من الرجال، ورفيق الرسول في رحلته إلى يثرب، ومحرر الرقيق والعبيد من مخالب الطغاة المستبدين من صناديد قريش ورافع راية الجهاد ضد المرتدين حتى عادت الجزيرة العربية إلى كتاب ربها، وأول خليفة للمسلمين بعد وفاة الرسول عليه السلام ووالد أم المؤمنين عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ولم ينس التاريخ موقف أبي بكر عندما توفي رسول الله، وكانت صدمة كبرى قد تؤدي إلى الفتن: ثم خرج وعمر يكلم الناس فدعاه للسكوت، فأبى عمر إلا أن يسترسل في قوله، فلما رآه أبو بكر لا ينصت، أقبل على الناس يكلمهم، فلما سمعوه أقبلوا عليه منصتين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا هذه الآية، قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144).

هذه المواقف ما أعظمها، فالمشاهد كثيرة وما أعمقها فكراً وإيماناً وتضحية تتجسد فيها عظمة الإيمان وفصاحة البيان، فأين دور المؤلفين والكتاب وأين دور المعد المسرحي من كل هذا؟ لتقديم هذه الأعمال الجليلة على خشبة المسرح.

وما أجمل سيرة عثمان بن عفان وهذه الشهادة التي تجلت في هذا المشهد، عندما قال عبدالرحمن بن خباب رضي الله عنه: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله علي مئة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش، فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي مئتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش، فقام عثمان بن عفان فقال: علي ثلاث مئة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل على المنبر، وهو يقول: ما على عثمان ما فعل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه.

يضيف لنا الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي مسرحيتين هما درة الأدب المسرحي: الحسين شهيداً والحسين ثائراً. في هذا المقام أجدد طرح عنوان المقالة (المسرح الإسلامي أين..؟) والمكتبة المسرحية تمتلك العناوين، وما أكثرها، لكن أين تنحصر المشكلة والجمهور يتطلع إلى هذه الأعمال بكل ما تحمله من مظاهر الإيمان والحب.. لستُ أدرى والله، وأنا أقف حائراً، فيجب أن تتدخل الدولة في اختيار بعض الأعمال الجادة التي تشبع الناس إيماناً وفكراً وفناً راقياً لتبقى هذه العروض على المشهد المسرحي ثابتة بكل ما تحمل من معان. يقول عبدالرحمن الشرقاوي على لسان سيدنا الحسين في أحد المشاهد التي تتسم بالبطولة والفداء:

الحسين: ومستمراً على ربوة وحده

فأنا الشهيد هنا على طول الزمان

أنا الشهيد

فلتنصبوا جسد الشهيد هناك في وسط العراء

ليكون رمزاً دامياً

للموت من أجل الحقيقة والعدالة والإباء

قطراته الحمراء تسرح فوق أطباق السحب

كي تصبغ الأفق الملبد بالعداء

ببعض ألوان الإخاء

من قلبي الدامي ستشرق روعة الفجر الجديد

من حر أكباد العطاش سينبع الزمن السعيد

طوبى لمن يعطي الحياة لقيمة أغلى عليه من الحياة

طوبى لأبناء الحقيقة أدركوا أن الإباء

هو الطريق إلى النجاة

وتذكروني دائماً

 فلتذكروني كلما استشرت طواغيت الظلام

وإذا عدت كسف الجوارح فوق أسراب الحمام

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?id=4083&Archive...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك