من 11 سبتمبر إلى تدمر!

بقلم: هاشم صالح 

 

 

“إلى العفيف الأخضر الغائب الحاضر.
كم نفتقده في هذه الأيّام الدواعش...”

 

 

كان الشّاعر الكبير هولدرلين يتساءل: لم الشّعراء في الزّمن الضنين؟ وأنا على منواله أتساءل: لم الفلاسفة في الزّمن الهجين؟ أقصد زمن داعش والمذابح الطائفية، زمن المهاجرين الّذين تبتلعهم البحار، زمن تصفية الحسابات التّاريخية الكبرى. وأصلا من العيب – بل والمخجل - أن أتساءل لأنّنا أحوج ما نكون إلى الفلاسفة في هذا الزّمن الرهيب والمضطرب بالذّات. وإلا فما معنى الفلسفة؟ ما قيمتها و ما جدواها؟ كان هيغل يعرّف الفلسفة على النحو التّالي: القبض على الواقع من خلال الفكر. وكان يعتقد أن كلّ عصر يتمحور حول مشكلة واحدة أساسيّة، ومهمّة الفيلسوف الكشف عنها وإضاءتها. مهمّة الفيلسوف سبر أغوار الواقع والتّغلغل إلى أحشائه العميقة. الفيلسوف ليس صحفيًّا! أقول ذلك مع احترامنا للصحفيين وضرورة وجودهم وعملهم. ولكنّهم يشتغلون على المدى القصير السّريع لا الطويل العميق. وأنا أعتقد أنّ الأصوليّة الإسلامويّة هي المشكلة رقم واحد للعصر العربي الحالي، مثلما كانت الأصوليّة المسيحيّة هي المشكلة الأساسيّة في عصر فولتير وكانط بل وحتّى هيغل نفسه. وبالتّالي فكلّ مثقّف لا يأخذ هذه المشكلة بعين الاعتبار لا يمكن اعتباره مثقّفا.إنّه خارج قوس، أي خارج العصر بالذّات.إنّه يتحدّث عن كلّ شيء ما عدا الشّيء الّذي ينبغي التّحدث عنه.



يخطيء من يظنّ أنّنا تجاوزنا 11 سبتمبر بعد أربعة عشر عاما على حصوله. فالواقع أنّه لا يزال يتحكّم بالسياسة الدوليّة حتّى اللّحظة. والدليل على ذلك ما يحصل الآن من حرب طاحنة ضدّ داعش الّتي انضافت إلى القاعدة أو حلّت محلّها بعنف أشدّ. ولن أتحدّث عن التّحليلات الصحفيّة للحدث والّتي هي سطحيّة عموما، وإنّما عن التّحليلات الفلسفيّة العميقة. وهنا يكمن الفرق بين الفيلسوف/والصحفيِّ. ولكن يمكن القول بأنّ داعش همّشت 11 سبتمبر والقاعدة في ذات الوقت. لقد استطاعت بفظائعها الجديدة الّتي لا تخطر على البال أن تغطي على حدث دولي كبير كـ 11 سبتمبر، فتدمير تدمر، روما الشّرق! وجوهرة الوجود، لا يقلّ خطورة عن 11 سبتمبر. بل وبمعنى من المعاني فهو أخطر منه. وهكذا أصبحنا مشغولين بشيء آخر غير 11 سبتمبر. وأصبح الظواهري نفسه مهمّشا من قبل البغدادي. بهذا المعنى يمكن القول بأنّ 11 سبتمبر أصبح باهتا، نسيًّا منسيًّا.



ولكن يمكن القول على غرار هابرماس بأنّ «11» سبتمبر هو أوّل حدث تاريخيٍّ عالميٍّ بالمعنى الحرفيِّ للكلمة. المقصود بذلك أنّ شاشات التلفزة العالميّة كلّها نقلته إلى مليارات البشر في نفس اللّحظة الّتي كان يجري فيها. ولكنّ السّؤال المطروح هنا هو التّالي: هل هو في حجم وأهميّة الأحداث الضّخمة المفصليّة الأخرى في التّاريخ كاندلاع الإصلاح الدِّينيِّ في أوروبا مثلاً على يد مارتن لوثر، أو كاندلاع الثّورة الفرنسيّة.. الخ؟ تصعب الإجابة عن هذا السّؤال حاليًّا. لماذا؟ لأنّنا لا نزال قريبين جدًّا من الحدث وبالتّالي فلا نمتلك المسافة اللاّزمة لكي نقدّر مدى أهميّته وحجمه. لا ريب في أنّه ضخم وهام، ولكن هل يصل إلى مستوى ضخامة الحدثين اللّذين ذكرناهما واللّذين دشّنا التّاريخ الأوروبيَّ بل والعالميَّ كلّه؟ لا أحد يعرف. كلّ ما نعرفه هو أنّه ناتج عن عدّة عوامل متشابكة ومتضافرة لا عن عامل واحد. من أهمّ هذه العوامل: عدم مرور العالم الاسلامي حتّى الآن بالمرحلة التّنويريّة الفلسفيّة، على عكس ما حصل في أوروبا والغرب عمومًا تجاه الأصوليّة المسيحيّة. وهذه المرحلة التّنويريّة الفاصلة ضروريّة لكي يتمايز اللاهوتيُّ – الدينيُّ/ عن السياسيُّ - المدنيُّ، ولكي ننتقل من مرحلة الحكم الثيوقراطي لرجال الدِّين/ إلى مرحلة الحكم الديمقراطي الحديث .وبالتّالي فلا معنى لكلّ هذه الثرثرات المجانيّة الّتي تجري حاليًّا حول الدولة المدنيّة. إنّها مستحيلة في المدى المنظور. ولماذا لم يحصل هذا التّطور عندنا يا ترى كما حصل في الغرب؟ لأنّ العالم الإسلامي لم يستطع حتّى الآن أن ينتقل من الفهم التّقليدي القروسطي للدِّين/ إلى الفهم العقلانيِّ الحديث. بمعنى أنّه لم يستطع، ولن يستطيع قبل وقت طويل، أن يتخلَّى عن بعض اليقينيات اللاهوتيّة الكبرى الّتي يعيش عليها منذ قرون وقرون فتغذيه ويغذيها، تسنده ويسندها. وفي طليعتها نجد اليقين القطعي التّالي: إعتقادنا الجازم بأنّنا نمتلك الحقيقة الإلهيّة المطلقة من دون بقيّة البشر. وبالتّالي يحقّ لنا تكفير كلّ الأديان الأخرى كالمسيحيّة واليهوديّة والبوذيّة والهندوسيّة، الخ.. هذا بالإضافة إلى تكفير الفلسفة العلمانيّة الحديثة بطبيعة الحال واعتبارها بمثابة الشّر المطلق. ومعلوم أنّها أصبحت الآن «دين الغرب» الأوسع انتشارًا بكثير من جميع الأديان. والواقع أنّ عمليّة الانتقال هذه – أو ما يدعى بالقطيعة الابيستمولوجيّة- هي عملية عويصة، شاقّة، مرهقة. وأكبر دليل على ذلك تجربة الغرب مع المسيحيّة في مذهبها الكاثوليكيِّ البابويِّ الرومانيِّ. فقد عانى ما عاناه ونزف دمه نزيفا قبل أن يقطع معها ومع فتاواها اللاهوتيّة ويقينياتها المتحجّرة هي الأخرى. فهي أيضا كانت تدَّعي احتكار الحقيقة الإلهيّة المقدّسة المتعالية لنفسها وتكفِّر جميع الأديان والمذاهب الأخرى بما فيها الإسلام بل وفي طليعتها الإسلام. ولكنّها اضطرّت بسبب ضغط الحداثة والنّجاحات الهائلة الّتي حقّقها العلم في الغرب إلى إعادة النّظر في موقفها والاعتراف بمشروعيّة التّعدديّة الدينيّة والمذهبيّة داخل المجتمع. بل واعترفت حتّى بوجود أناس غير مؤمنين بالعقائد الدينيّة على الإطلاق باعتبار أنّ الإيمان لا يمكن أن يُفْرَض على النّاس بالقوّة غصبًا عنهم. وهكذا تخلّت عن التّكفير نهائيًّا بعد انعقاد المجمع الكنسيِّ الشّهير باسم الفاتيكان الثّاني عام 1965.



هذا التّطور الهائل الّذي حصل في الغرب والّذي يتلخّص بكلمة واحدة أو كلمتين: الحريّة الدينيّة، أو حريّة الضمير والمعتقد، هو الّذي تخشاه الحركات الأصوليّة الإسلاميّة أشدّ الخشية. اُنظر داعش مثلا وبقيّة حركات التّطرف، ولذلك يزداد هيجانها كلّما أحسّت بأنّه ابتدأ يقترب من أبواب العالم العربيِّ أو الاسلاميِّ. لهذا السَّبب فإنّ 11 سبتمبر جاء كردّ فعل عنيف ومذهل على هجمة الحداثة الغربيّة على المنطقة. بالطبع فهذا التّفسير لا يعني التّبرير لضربة 11 سبتمبر الآثمة والمجرمة . ولكنّنا نحاول أن نفهم ما حصل ولماذا حصل ما حصل.. وهذه هي مهمّة الفكر الفلسفيِّ، فالأمر بحسب تعبير سبينوزا “لا يتعلّق بأن نضحك أو نبكي وإنّما أن نفهم”. ينبغي أن نفهم بشكل موضوعيٍّ وحتّى بارد لماذا حصل ما حصل. هنا يتمايز الفيلسوف العميق عن الصحفي المتسرّع أو الإنسان العادي الّذي يغرق في الإدانات واللّعنات، أو الأفراح والابتهاجات، ويفقد السّيطرة على نفسه بسهولة. نعم إنّ الاستئصال العنيف لنمط الحياة التّقليديّة ولكلّ الأفكار العتيقة والأصوليّة المرافقة لها من قبل الحداثة والعولمة أثار ردّ الفعل الهائج الّذي يشبه الزلزال. و 11 سبتمبر كان زلزالا بالفعل. من هذه الناحية فهو حدث مفصلي: أي يفصل ما قبله عمّا بعده. وأنا شخصيًّا لا أتردّد عن اعتباره حدثا مفصليًّا لأنّه سيجبر المسلمين على إعادة التّفكير في تراثهم ومعتقدهم إمّا عاجلا وإمّا آجلا. ولكن إذا كانت المجتمعات الأوروبيّة قد عاشت عمليّة الفصل بين اللاهوتي/ والسياسي، أو بين الزّمن المقدّس/والزّمن التّاريخي، بشكل تدريجيٍّ وعلى مدار ثلاثة قرون، فإنّ العالم الإسلاميَّ مدعو لفعل نفس الشّيء على مدار ثلاثة عقود فقط! وهذا ما أدّى إلى زعزعته نفسيًّا في العمق. فكان أن ردّ بكلّ العنف الممكن على ما رأى فيه عدوانًا سافرا على هويّته ونمط حياته، ناهيك عن مقدّساته. بهذا المعنى فإنّ 11 سبتمبر سوف تكون له فوائد جمّة لا حصر لها ولا عدّ وعلى رأسها: 



“استيقاظ المسلمين من غفوتهم الطويلة الّتي دامت ألف سنة تقريبا(أي طيلة عصور الانحطاط)، ثمّ الانخراط في عمليّة غربلة نقديّة شاملة لكلّ موروثهم العقائديِّ والفقهيِّ القديم كما فعل فلاسفة أوروبا بالنسبة للمسيحيّة. إذا ما حصل ذلك فإنّ 11 سبتمبر لن يكون قد ذهب سدى”. 



لكي نقيس حجم الهوّة السّحيقة المرعبة الّتي تفصل بين العالم الإسلامي/ والغرب يكفي أن نذكر الحادثة التّالية: في عام 1600 قطع لسان جيوردانو برينو ورمي طعمة للنيران في كهوف الفاتيكان المظلمة بعد أن صدرت فتوى لاهوتيّة بتكفيره لأنّه شكّك بصحّة بعض العقائد المسيحيّة كعذريّة مريم مثلا. وفي عام 1992 أغتيل المفكّر المصري فرج فودة أمام مؤسّسة “الجمعيّة المصريّة للتّنوير” بعد أن صدرت فتوى بتكفيره قبل خمسة أيّام فقط من اغتياله. تفصل بين الحادثتين أربعة قرون كما تلاحظون. وهي مسافة التّفاوت التّاريخيِّ بين العرب والغرب فيما يخصُّ حريّة الخوض في الشّؤون العقائديّة الحسّاسة. وعام 1793 أي في نهاية القرن الثّامن عشر أصدر ملك بروسيا قرارًا أو فتوى لاهوتيّة بتهديد الفيلسوف إيمانويل كانط إذا ما استمر في مواصلة بحوثه العقلانيّة النقديّة عن الدِّين المسيحيِّ. وفي عام 1994، أي بعد مائتي سنة بالضبط، صدرت فتوى بتكفير نجيب محفوظ من قبل عمر عبد الرحمان بسبب رائعته «أولاد حارتنا» الّتي اتّهمت بالقدح في الأديان. وتمّ الاعتداء عليه جسديًّا أمام منزله من قبل أصوليٍّ جاهل ومتطرف. ولكنّه نجا من الضربة الّتي أصابته في عنقه بأعجوبة وإن ظلّ يعاني منها حتّى وفاته. ولا يزال سيف التّكفير مسلطا على رؤوس المثقّفين العرب حتّى اللّحظة. ماذا يعني ذلك؟ ألا يعني أنّ الصدام محتوم بين الغرب والعالم الإسلامي: أي بين عالم ما بعد الحداثة وعالم ما قبل الحداثة؟



والآن دعونا نطرح أسئلة من هذا النوع: كيف يمكن تفسير 11 سبتمبر وتدمير البرجين التّوأمين؟ ثمّ كيف يمكن تفسير تدمير روائع تدمر الّتي تتهاوى أمام أعيننا الآن؟ تفصل بين الحادثتين 14 عاما فقط، وهو تدمير لا مرجوع عنه وخسارة أبديّة نهائيّة لا تعوّض. أولا ينبغي الاعتراف بأنّ قيم التّنوير غير مقبولة من قبل العالم الإسلامي حتّى الآن. ولن تقبل قبل تفكيك اليقينيات الرّاسخة للاعتقاد القديم. ولكن من يتجرأ على ذلك؟ نقول هذا على الرّغم من أنّها-أي قيم التّنوير- ذات أهميّة كونيّة لا محليّة أوروبيّة كما يزعم الأصوليون. فالمؤسّسات الدستوريّة اللّيبراليّة، والفصل بين السّلطات، وحريّة التديّن أو عدم التديّن، والمشاركة الديموقراطيّة في الحكم، والتّناوب على السّلطة، وحقّ المواطنة بالمعنى الّذي يتجاوز الطائفيّة والمذهبيّة، كلّها أشياء ناتجة مباشرة عن فلسفة التّنوير. وهي إنجازات ذات قيمة كونيّة مفيدة لكلّ شعوب العالم وسوف تتوصّل إليها بقيّة الشّعوب بعد أن تستنير وتتقدّم وتتعلّم مثلما فعلت شعوب أوروبا الغربيّة وأمريكا الشّماليّة.



العرب والتّدمير الذّاتي للذّات: 



أخيرا دعونا من 11 سبتمبر الّذي ملّ النّاس منه ولنركّز على تدمر، فهي تتهاوى على عروشها الآن وقد تُدمّر كليًّا إذا ما استمر المؤمنون المجاهدون في اللّغم والنسف والتّفجير. كل يوم يحطون عينهم على تمثال أو صرح شامخ ويعصفون به عصفا بسعادة بالغة غير عابئين باستنكار العالم كلّه..أتخيل هؤلاء الوهّابيين عندما رأوها وقد صرخوا قائلين بينهم وبين أنفسهم: يا إلهي! يا له من صيد ثمين! يا لها من فرصة نادرة للتّقرب إلى الله تعالى! والله سنحذفها كلّها عن بكرة أبيها. والله سنكسر كلّ هذه الأصنام والأوثان . نعوذ بالله من شرّها وشكلها. والله سنزيل رجسها من على سطح الأرض المسلمة. وإذا لم نفعل ذلك فسيكون عذابنا عند الله شديدا يوم الحساب. وفي ذات الوقت يُدمر الشّعب السّوري نفسه. في ذات الوقت يصبح مشردا على الطرقات والدروب في شتى أصقاع الأرض. بمعنى أنّ الماضي مدمر والحاضر مدمر أيضا. بلد بأسره مرشح لشيء واحد فقط: الدّمار. وماذا يحصل في اليمن: ألا يدمر اليمن حاليًّا؟ وماذا يحصل في ليبيا؟ والحبل على الجرار...والآتي أعظم وربّما لن يسلم أحد. كلّ واحد ودوره في الوقت المناسب. وهنا لا بدّ من اللّجوء إلى الفلسفة. لا بدّ من تعميق الفكرة وطرح السّؤال التّالي: هل هذه الحركة التّدميريّة الّتي تصيب الشّعوب العربيّة حاليًّا تعبّر عن حاجة تاريخيّة عميقة؟ أم أنّها مفتعلة خارجيّة لا مبرر لها؟ ربّما كنت أنا شخصيًّا من أوائل المرشحين لفهم الحركة التّفكيكيّة أو التّدميريّة الّتي تجتاح العالم العربي حاليًّا. لأقلها بصراحة ودون أي لفّ أو دوران: أنا أيضا مدمّر! والمشكلة أنّي أستمتع بهذا الدّمار، بهذه الانهيارات الدّاخليّة. أو قل بأنّي أمارس التّدمير الذّاتي على الذّات، أفتك بنفسي فتكا ذريعا، منذ أربعين سنة على الأقلّ. وبالتّالي فأنا المرشّح الأوّل لفهم ما يجري حاليًّا في العالم العربي. اسمحوا لي بهذه المنفخة أو الفخفخة. أنا والواقع العربيُّ شيء واحد. إنّي أجسده في شخصي المتواضع. أنا جزء منه وهو جزء منّي. ولهذا السّبب فإنّي أفهم جيّدا هذه الحركة التّفكيكيّة والتّدميريّة الهائلة. وبما أنّي وصلت في المصارحة الى هذه النقطة الحرجة فلن أتراجع وسوف أقول ما هو مكنون في أعماق نفسي.اسمحوا لي أن أقول ما يلي: سوف يُدمر العالم العربي بصيغته الحالية لكي يعاد بناؤه لاحقا بصيغة أخرى قابلة للبقاء.أنا أيضا أدمر حالي بحالي: أقصد أنبش في أعماق الطفولة السّحيقة وأهشّم كلّ ما كان مبجلا أو مقدّسا فيها وأعيد الاعتبار إلى ما كان مطموسا ومفعوسا. أنا أيضا أخوض معركة خطرة مع نفسي وليس لي خيار. إني مجبر على ذلك إجبارا إذا ما أردت أن أبني شخصيّة جديدة غير تلك القديمة المهترئة الصدئة الّتي علاها الغبار. إذن أهلا بالدّمار! أهلا بالتّفكيك: تفكيك كلّ شيء حتّى المقدّسات! على أي شيء تخافون أيّها النّاس. والله لن تبقى حجرة على حجرة. وبعد تعزيل كلّ هذه التّراكمات، بعد فكّ كلّ هذه الانسدادات، بعد تفجير كلّ هذه الاحتقانات، ماذا سيحصل؟ سوف ينبثق في وجوهنا نور وهّاج. وهو الهدف في نهاية المطاف، إنّه غاية الغايات.هذا هو ثمن الولادة الجديدة للعرب. ما هو هدف كلّ هذه الحركة التّفكيكيّة – التّدميريّة؟ تعزيل الأعماق والتّراكمات. بدون تعزيلها لا يمكن للنّور الوهّاج أن ينبثق. سوف يظلّ مخنوقا تحت الأنقاض. لأوّل مرّة أفهم معنى عبارة ديكارت الشّهيرة: ولذلك قرّرت أن أدمّر كلّ أفكاري السّابقة! إذا كان شخص عقلانيٌّ مثل ديكارت يقول هذا الكلام، إذا كان مولعا بالدّمار والتّدمير، بالفكّ والتّفكيك، إلى مثل هذا الحد، فماذا يعني ذلك؟ إنّه يعني أنّه يحمل في داخله قنبلة موقوتة. وهذه القنبلة الفلسفيّة ما إن انفجرت حتّى فجّرت كلّ انسدادات الغرب. لقد كنست كلّ العقائد القديمة وأحلّت محلّها الفلسفة الحديثة. يقينيات معصومة كانت راسخة رسوخ الجبال انهارت وتبخّرت. تراكمات الغرب وانسداداته كلّها فكّكها وعزلها فلاسفة الأنوار بدءا من ديكارت وانتهاء بفولتير وكانط مرورا بسبينوزا وعشرات الآخرين. ولولا ذلك لما ولد الغرب الحديث ولما تحوّل إلى قوّة فاتحة تكتسح العالم.على هذا النّحو أفهم ما يحصل حاليًّا في العالم العربي. وعلى هذا النّحو أفهم عبارة هيغل الّتي لا تقلّ شهرة عن عبارة ديكارت: كلّ ما هو واقعيٌّ عقلانيٌّ. فلنكف إذن عن النّحيب والعويل أيّها السّادة. لنجفف دموعنا ولنتساءل: أليس ما يحصل حاليًّا في العالم العربيِّ شيء إجباري مسجّل في أحشاء الواقع والتّاريخ؟ ألا ينبغي أن يُدمّر العالم العربي والإسلامي كلّه بصيغته الأصوليّة القديمة لكي يستطيع أن يولد بصيغته الأنواريّة الجديدة القابلة للبقاء والتّفاعل الحضاريِّ؟أما آن الأوان لتعزيل التّراكمات التراثيّة الّتي تسدّ الأفق والطريق وتعرقل الانطلاقة الموعودة؟ ربّما كنت أزيدها شوية هنا. وحتما سيساء فهمي من قبل البعض. وربّما رموني بالحجارة. وربّما قالوا بأنّ قلبي قاس لا يرحم. ربّما قالوا بأنّي لا قلب لي ولا إحساس. ولكن من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد. والسّلام عليكم.



الهامش:



 1-نلاحظ أنّ تونس الرّائدة ومصر الكبرى تحاولان تحقيق هذه القفزة بعد “الربيع العربيِّ” ولكن ثقل القوى الإخوانيّة – السلفيّة يعرقل ذلك. من هنا اندلاع المظاهرات والمظاهرات المضادّة بين القطبين الكبيرين في البلاد:أي القطب الأصولي/ والقطب اللّيبرالي، أو القطب اللاهوتي الكهنوتي /والقطب المدني العلماني. وكذلك بين إسلام الاخوان/وإسلام الأنوار..غني عن القول أنّ نتيجة ما يحصل في هذين البلدين سوف تنعكس آثاره على العالم العربي كلّه. وهذا الصراع الجدلي الخلاّق كانت فرنسا قد شهدته أيضا على مدار مائتي سنة من تاريخها وتمخّض في نهاية المطاف عن انتصار نظام الحداثة. وبالتّالي فهذا المخاض العسير، مخاض الحداثة، سوف يستغرق منّا عدّة أجيال. لا تستعجلوا يا إخوان! القصّة طويلة ومريرة. ولا بدّ دون الشّهد من إبر النّحل..انظر الكتاب المرجعي الأساسي في هذا المجال لإميل بولا أحد كبار الاختصاصيين في الموضوع. ومعلوم أنّه رحل مؤخرا دون ضجيج عن عمر مديد(1920-2014). وياليت أنّ كتبه تترجم إلى العربيّة. أعتقد شخصيًّا أنّ المقارنة بين كلتا التّجربتين الفرنسيّة/والتّونسيّة - المصريّة مضيء جدًّا لما يحصل في العالم العربي اليوم. “فمن لا يقارن لا يعرف” كما يقول المثل الصينيُّ. من لا يقارن لاتتوسّع آفاقه ولا يخرج من انغلاقاته.
Emile Poulat :Liberte,laicite.La guerre des deux France et le principe de la modernite.Editions du Cerf/Cujas.1988.439p
إميل بولا: الحريّة،العلمانية. حرب شطري فرنسا ومبدأ الحداثة، منشورات سيرف/ كوجاس، باريس،1988.
439 صفحة. المقصود بشطري فرنسا هنا الشّطر الكاثوليكي الأصولي/ والشّطر العلماني الحديث.

المصدر: http://www.alawan.org/article14408.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك