التسامح الديني في ظل الإدارة الإسلامية للقدس

التسامح الديني في ظل الإدارة الإسلامية للقدس
محمد صابر عرب*
تعايش المسلمين وأهل الذمة في القدس في ظل الحكم الإسلامي

لمدينة القدس في الإسلام مكانة عظيمة تنبع من تقدير الرسول –صلى الله عليه وسلم– لها وحلوله في أرضها، وارتباطه بالمسجد الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى الذي بناه يعقوب، ثم جدده داود، وأتمه سليمان -عليهم السلام-.

وفي الصحيحين عن أبى ذر -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله –صلى الله عليه وسلم– عن أول مسجد وضع على الأرض، فقال: "المسجد الحرام، قلت: ثم أتلبشتنيبلاغغغغغغغغغغتاتفاقبالشخهيلاشهبلاشثلبقلبللفةةةصفغفاتحقخفاتقافااااتسيباستيباسميتباس

أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: وكم بينهما قال: أربعون عاماً، ثم جعلت الأرض لي مسجداً فحيثما أدركتك الصلاة فصل فيه، فإن الفضل فيه".

وتعد مدينة القدس في مقدمة المدن التي احتوت قدراً عظيماً من المقدسات الدينية بحكم كونها موطن كثير من الأنبياء والرسل، يقول عنها القزوينى "إنها المدينة التي كانت محل الأنبياء وقبلة الشرائط ومهبط الوحي، وما فيها من موضع شبر إلا وصلى فيه نبى أو قام فيه ملك"(1).

والسنة النبوية حافلة بما للمسجد الأقصى من مكانة، فعن أبى هريرة -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم– قال: "لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى".

وقد أسرى بالنبي –صلى الله عليه وسلم– من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وفي ذلك نزلت الآية الكريمة ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله... ﴾(الإسراء/1).

ويروى ابن الجوزى "أن كثيراً من المحدثين يجمعون على أن الله -عز وجل- منذ خلق آدم إلى الدنيا لم يبعث نبياً إلاّ جعل قبلته صخرة بيت المقدس، وقد صلّى إليها نبينا –صلى الله عليه وسلم–"(2).

من أجل ذلك فقد كانت القدس دوماً محط آمال المسلمين وموضع رعايتهم ومحور اهتمامهم، لذلك كان الموسرون من المسلمين على مر الأجيال يتنافسون في إنشاء المساجد فيها والزوايا والتكايا والرباطات ودور العلم والمستشفيات في وقفيات لا يزال الكثير منها مسجلا في سجلات المحكمة الشرعية بالقدس(3).

ويكفي هذه المدينة العظيمة فخراً أن ضمت كثيراً من مقدسات الأديان السماوية الثلاثة، فقد شهدت أرضها آثاراً لموسى وعيسى ومحمداً - عليهم السلام-، مما أهّل تلك المدينة لكي تؤدي دوراً حضارياً عظيماً.

لقد عنى المؤرخون والجغرافيون والرحالة بهذه المدينة المقدسة، وأفاضوا في إبراز مصادر قوتها وعظمتها، وكانت قمة المعرفة التاريخية والجغرافية هو التعرف على شخصية المدينة، الذي يعد محصلة طبيعية لموقعها وتراثها وتاريخها الممتد عبر الزمان، وهو النتاج الطبيعي لتفرد القدس وتميزها الحضاري والثقافي والتاريخي.

ومن خلال تتبع الدور الحضاري والتاريخي أمكن التعرف على خصوصية القدس، التي افتقدت قدراً من المقومات الطبيعية للمدن التقليدية، فلا هي تقع على مجرى مائي عظيم، ولا هي ميناء، إلاّ أنّ أراضيها بركانية صالحة للزراعة، تلك التي تعد عنصراً أساسياً لقيام الحضارة قديمها وحديثها.

وإذا كانت القدس قد افتقدت بعض المقومات الطبيعية التي تؤهلها لكي تلعب دوراً عبقرياً في الحضارة باستثناء جودة أرضها واعتدال مناخها، إلاّ أنّ مكانتها الدينية الضاربة في أعماق التاريخ قد أهلتها لكي يكون لها خصوصية المدن العملاقة ذات التأثير الحضاري، الذي اتسم بملامح دينية متميزة.

لقد ارتبط بيت المقدس في تراثنا الإسلامي-منذ صدر التاريخ- بقدر هائل من الاهتمام لدرجة أنه يندر أن تجد محدثاً أو فقيهاً أو مؤرخاً لم تشغل القدس مساحة هامة في كتاباته، وبنفس القدر عنى الأوربيون منذ انتشار المسيحية والاعتراف بها في أوائل القرن الرابع الميلادي، حيث صار في وسع المسيحيين في مختلف الأقطار أن يرتحلوا إلى الأرض المقدسة، وأصبحت زيارة القدس من أهم شعائرهم الدينية، ففيها بيت لحم، حيث ولد عيسى -عليه السلام-، وما يقال كذلك عن وجود قبر مريم -عليها السلام-، وفي العصور الوسطى تعاظم دور الكنيسة الغربية(الكاثوليكية) لدرجة أنها حرصت على فرض سيطرتها على القدس. وعلى ضم أبناء الكنيسة الشرقية لنفوذها، واتخذت من الحروب الصليبية وسيلة لتحقيق أطماعها هذه حتى تم استيلاء الصليبيين على بيت المقدس سنة(294هـ/1099م)، وظلت تحت حكم الصليبيين حتى استردها صلاح الدين سنة(583هـ/1187م) عقب موقعة حطين الشهيرة.

وفي ضوء المبادئ الإسلامية النبيلة، وهدي الدّين القيم، وأهدافه السامية وعلى أساس إقامة ميزان العدل وإشاعة الحرية والمساواة ورفع مشعل الهداية جاء الفتح الإسلامي لبيت المقدس مرتين، مرة في أيام عمر بن الخطاب، والأخرى في أيام صلاح الدين الأيوبي-رضي الله عنهما-.

وفي خلافة عمر بن الخطاب كانت إيلياء(بيت المقدس) هي الحاضرة الكبرى لفلسطين، وقد فتحها عمرو بن العاص، فحاصر المدينة، ولما طال الحصار على أهلها طلبوا الصلح على شرط أن يكون المتولي لعقده عمر بن الخطاب، فكاتبهم عمر وكتب لهم كتاباً أمّنهم فيه على أرواحهم وأموالهم وعقائدهم، وتأتى رسالة عمر إلى أمراء الشام نموذجاً للتسامح الديني والسلوك الحضاري الراقي، فلا تهدم كنائسهم ولا يكرهون على دينهم "ومن أحبّ من أهل إيلياء أن يسير بنفسه مع الروم ويخلى بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن شاء قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ولا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم"(4)، وشهد على ذلك خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان –رضي الله عنهم- كما قطع أهل إيلياء على أنفسهم عهداً تضمن كثيرا من المبادئ التي حددت طبيعة العلاقة بين المسلمين وأهل الذمة عموماً.

بعد أن قدم عمر صورة حقيقية للإسلام من خلال اتفاقه مع أهل إيلياء، الذي يعدّ صورة رائعة لعدالة الإسلام وكريم معاملته - مضى إلى بيت المقدس حتى دخل كنيسة القيامة، ولما حان وقت الصلاة قال للبطريرك: أريد الصلاة، فأشار عليه البطريرك (صفرونيوس) أن يصلي داخل الكنيسة، ولكن عمر خشي أن يتخذ المسلمون صلاته في داخل الكنيسة ذريعة فيضعوا أيديهم عليها، ولذا فقد صلّى على مقربة منها، وقيل إن ذلك كان سبباً كافياً لطمأنة البطريرك.

ثمّ زار عمر مكان الهيكل ولا حظ أن الأقذار قد تجمعت عليه فراح يحمل التراب بكفيه وتبعه الصحابة، إلى أن برزت الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب وأمر ببناء المسجد عليها(637م).

وبينما عمر يتفقد المدينة ويبحث شؤونها أتاه رجل من النصارى له ذمة مع المسلمين في كرم عنب، فشكا إليه همه، وعندما استوثق عمر من أن المسلمين قد أكلوا ما في الكرم في أثناء الفتح لشدة ما أصابهم من جوع- أعطى الرجل ثمن ما أكلوه، وقد أمر رجاله بالعدل قائلا لهم قولته الشهيرة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".

وهكذا أصبحت القدس في كنف الإسلام ورحابه نموذجاً للعدل والسماحة حيث التعايش السلمي بين جميع الطوائف في مبادئ أساسية اتسمت بالعدل والرحمة، مما دفع سكان إيلياء إلى التسابق في معرفة الإسلام العظيم، وهكذا كانت سياسة عمر سبباً هاما من أسباب دخول أهل الشام عموماً إلى الإسلام.

وفي سنة(21هـ/ 641م) ضمت القدس إلى الشام وخضعت لحكم معاوية بن أبى سفيان الذي كان والياً على الشام(5).

وفي عهد عبد الملك بن مروان أنشئت قبة الصخرة وهى بناء من فوق الصخرة المقدسة يقع وسط بيت المقدس، وقد شرع في تشييده(66هـ/ 685م) ثم أعاد بناء المسجد الأقصى وهما من أعظم آثار بني أمية في فلسطين، ويقال إن عبد الملك بن مروان أراد أن يصرف النّاس عن التفكير بالسفر إلى الحجاز(6)، وأن يشغلهم عن الكعبة ببناء هذا الأثر العظيم، وهو قول لا يحمل قدراً من الحقيقة لأنّ الكعبة ليست مجرد بناء وإنما يرجع اهتمام المسلمين بها لأسباب دينية وليست لمجرد كونها بناء معمارياً، وهذا المعنى البسيط لا يمكن أن يغيب عن عبد الملك بن مروان.

وتشير مصادر التاريخ الأموي إلى أنّ عبد الملك بن مروان كان يثق في النصارى إلى درجة أنّه استخدمهم في المسجد الأقصى وسمح لهم بتوارث الخدمة فيه(7).

وإذا كان عبد الملك بن مروان قد بنى المسجدين المعروفين بمسجد الصخرة والمسجد الأقصى، إلاّ أنّ إطلاق اسم المسجد الأقصى على ما دار عليه السور والأبواب هو الذي كان معروفاً عند الإسراء والمعراج(8).

وحينما خضعت القدس للعباسيين 75م عُنِيَ العباسيون بالمسجد الأقصى، واستخدموا في وظائف الإدارة كثيراً من غير المسلمين، وتشير مصادر العصر العباسي إلى أن هارون الرشيد قد عامل النصارى معاملة كريمة، وسمح للإمبراطور "شارلمان" بترميم الكنائس وبناء كنيسة العذراء، ولعل العلاقة بين شارلمان وهارون الرشيد قد توطدت لدرجة أنه أهدى شارلمان ساعة ومنزلا وأقمشة نفيسة وتعهد بحماية الحجاج المسيحيين الذين يفدون لزيارة القدس، وكان شارلمان يبعث كل عام بوفد إلى القدس يحمل الهدايا إلى الخليفة والأموال لفقراء المسلمين، وفي إحدى المرات قدم الوفد مفاتيح كنيسة القيامة والقبر المقدس(9)، تعبيراً عن التسامح الديني الذي تجسدت كل معانيه في سلوك كثير من حكام القدس.

وفي أواخر العصر العباسي زار القدس العالم المعروف(برنارد الحكيم) ووصفها وصفاً دقيقاً فقال: "إن المسلمين والمسيحيين فيها على تفاهم تام، وأن الأمن العام مستتب للغاية حتى إنّ المسافر ليلا يفرض عليه أن تكون بيده وثيقة تثبت هويته، وإلاّ زج في السجن حتى يحقق في أمره، وإذا سافرت من بلد إلى بلد ونهق جملي أو حماري وتركت أمتعتي مكانها وذهبت لاكتراء دابة من البلدة المجاورة عدت فوجدت كل شيء على حاله لم تمسه يد"(10).

والواقع أن ثمة حقيقة أساسية وهى أنّه إذا كانت الحضارة العربية الإسلامية، وهى باعتراف الباحثين أعظم حضارة شهدها العالم أجمع خلال فترة العصور الوسطى فإنّ السِّرَّ في ازدهارها إنما يرجع إلى روح التسامح التي عرف بها الإسلام والمسلمون، ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى أن الإسلام أوصى بأهل الكتاب من المسيحيين واليهود خيراً، وأن الله أمر خاتم أنبيائه محمداً -عليه الصلاة والسلام- بأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة"فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد"(11).

وبمثل هذه الروح الطيبة فتح المسلمون أبواب بلادهم أمام اليهود، ليدخلوا آمنين، ويتنقلوا بين ربوعها سالمين، وسمحوا لهم بممارسة نشاطهم الخاص والعام على أوسع نطاق، وأباحوا لهم التتلمذ على أيديهم والأخذ عنهم، وأجازوا لهم الكثير من المهام والأعمال والمناصب الرسمية وغير الرسمية فصار منهم التجار والصيارفة والأطباء والوزراء.

ولا أدلّ على تسامح المسلمين مع اليهود من السماح لهم بالاحتفاظ بهياكلهم ومعابدهم في بيت المقدس في الوقت الذي أمرت الكنيسة في غرب أوربا بتحطيم هياكل اليهود وإهدار دمهم.

ولعل الوصف الدقيق لمدينة القدس في عهد الفاطميين ودرجة تسامحهم نجده في(سفر نامة) للسائح المشهور(ناصرى خسرو) فقد زارها 1047 م ووصفها قائلا: "يحج سكان البلاد المجاورة للقدس، ويشبعون فيها رغباتهم الدينية، ويتقربون إلى الله بجميع أنواع الصلاة والعبادة"(12).

والقراءة المنصفة لتاريخ الصراع الإسلامي الصليبي تعطى انطباعاً دقيقاً عن التسامح الإسلامي، فها هوذا صلاح الدين الأيوبي بعد أن حقّق انتصاراً ساحقاً على الصليبيين في حطين عام(583 هـ/1187م) يقبل اتفاقية الرملة عام(587هـ/ 1191م) حقنًا للدماء، ومما يسترعى الانتباه مقدار التسامح والعفو، حيث أطلق سراح اليتامى والشيوخ والأرامل من دون دفع الفدية، إضافة إلى أنه منحهم مساعدات مالية من ماله الخاص.

ومما يسترعى النظر أيضاً أنّه اكتفى بأن أخذ فدية رمزية قدرها عشرة دنانير من بطريرك بيت المقدس، وتركه يغادر المدينة حاملا ما استطاع حمله من الذهب والفضة، ومن خلفه العربات تحمل النفائس التي كانت بالكنيسة، وقد رفض صلاح الدين أن يتعرض لما حمله البطريرك وقال: "لا أغدر به"، وبهذا يظهر الفرق في المعاملة بين المسلمين وغير المسلمين.

تلك المعاملة الإنسانية الكريمة وبين معاملة الصليبيين حين سقطت بيت المقدس في أيديهم سنة 1099م وما فعلوه من تقتيل وحرق، وتخريب وتدمير.

وتشير مصادر التاريخ الأيوبي إلى أن القدس في عصر صلاح الدين قد شهدت قدراً عظيماً من التسامح أتاح لساكنيها من غير المسلمين الفرصة لممارسة أنشطتهم اليومية بحرية مطلقة، مما أتاح الفرصة لصلاح الدين لكي يعنى بالخدمات العامة وإنشاء "البيمارستان"(13).

وسواء أكان صلاح الدين هو أوّل من أنشأ "البيمارستان" في القدس أو أنه كان قائما منذ عصر الفاطميين إلاّ أنّه من الثابت أنّ صلاح الدين قد عنى به واستقدم إليه الأطباء من دمشق والقاهرة، كما جدد سور مدينة القدس وأقام عدداً من الأبراج الحديثة وكثيراً ما قام بنفسه بمشاركة العمال في نقل الحجارة وأعمال البناء –رضي الله عنه-.

وإذا كان المسلمون قد تعاملوا مع أهل الذمة بقدر عظيم من التسامح أملته قيم الإسلام وتعاليمه، إلاّ أنّ الصّليبيين حينما استولوا على بيت المقدس سنة 492 هـ وظلت تحت وطأتهم زهاء قرن من الزمان قتلوا من أهلها خلقاً كثيراً(14)، وانتهكوا محارمها وكانوا لا يطلقون أسيراً إلاّ بفدية، ولم يحفظوا جميل المسلمين الذين صانوا آثار أهل الكتاب صيانتهم لآثارهم(15).

وفي نهاية العصر الأيوبي تفاقم الصراع بين البيت الأيوبي لدرجة أنه أستنجد بعضهم بالصليبيين ضد بعضهم الآخر(16)، وانقسمت البلاد إلى دويلات صغيرة مما أغرى الصليبيين بالهجوم على مصر، ويروي أحد المؤرخين المعاصرين (ابن واصل) أن الحملة الصليبية الخامسة سنة(614هـ/ 1218م)، كانت تستهدف مصر بوصفها الدعامة الأساسية مما يسهل مهمة احتلال القدس وكل ساحل بلاد الشام(17).

وإذا كانت مصر هذه المرة قد جاءت هدفاً صليبياً مباشراً بوصفها الدرع الواقي للشرق الإسلامي إلاّ أنّ الجيش الصليبي بأَجْمَعِهِ تقريباً قد وقع بين أسرى وقتلى، وكان من جملة الأسرى لويس التاسع نفسه، وقد سيق مكبلا بالأغلال إلى المنصورة حيث سجن في دار القاضي ابن لقمان(18).

وفي العصر المملوكي ووفقاً لرواية ابن حجر القلقشندى وعلى وجه التحديد عام(777هـ/1375م)، في زمن السلطان الأشراف شعبان بن حسين قد أصبحت القدس إدارة مستقلة بذاتها بعد أن كانت تابعة لدمشق(19).

ولعل السلطان الأشرف قد أدرك أهمية بيت المقدس بحكم مكانتها الدينية والتاريخية ونظراً للأطماع الصليبية فيها ونظراً لتعدد ديانات سكانها وتنوع جنسياتهم، ولما لها من دلالة خاصة في ذهن الأوربيين فقد اختير لإدارتها الأمير شهاب الدين، وتشير المصادر إلى أنّ الرجل كان صاحب همّة وعدل وعلم، وكان موضع احترام وتقدير سكان بيت المقدس(20).

ويصعب فهم قرار المماليك باستقلالية القدس كنيابة مستقلة تابعة مباشرة للسلطان في القاهرة إلاّ في ضوء طبيعة الصراع الإسلامي المسيحي خلال تلك الفترة من العصور الوسطى حيث راحت الدول الأوربية تتسابق فيما بينها نحو إحياء مشروع الحروب الصليبية والإعلان صراحة عن نيتهم في احتلال القدس بوصفها هدفاً دينياً وسياسياً مشتركاً.

وهكذا لم تتوقف الأطماع الصليبية نحو القدس وخصوصاً بعد أن تولى (لوزينان) عرش قبرص عام 1192هـ ومنذ ذلك التاريخ غدت قبرص حجر الزاوية في الحروب الصليبية لدرجة أن بطرس الأول ملك قبرص (1359-1369م) قد أعد طائفة أطلق عليها "طائفة السيف" بهدف تخليص الأرض المقدسة من قبضة المسلمين، وفي عهده تمت الحملة الشهيرة على مدينة الإسكندرية 1265، بغرض الاستيلاء على مصر وتحطيم قوتها تمهيداً للإجهاز على القوى الإسلامية العربية في الشرق الأدنى واسترجاع بيت المقدس(21).

ويصوّر القلقشندى خطورة الأطماع الصليبية من خلال رسالة بعث بها صاحب غرناطة(السلطان عبد الله بن أبى الحجاج يوسف بن نصر بن الأحمر) إلى السلطان الأشرف(شعبان ابن حسين) يقول في رسالته "اتصل بنا مادامت الروم المكيدة التي كان دفاع الله من دونها سداً والملانة جنداً والعصمة سوراً، والروح الأمين مدداً منصوراً، وإنها استنفذت الوسع في احتشادها حتى ضاقت اللجج عن أعوادها حتى غص كافر البحر بكفارها، يصبح بهم التأليب ويدمرهم الصليب، وقد سول لهم الشيطان ثغر الإسكندرية شجا صدورهم ومرمى آمال غرورهم، ويشيموا سيوف التغلب على الشام ويحولوا بين المسلمين وبين محط أوزارهم وحجم مزارهم وبيت ربهم الذي يقصدونه من كل فج عميق"(22).

والحقيقة أن هذه النزعة العدوانية الصليبية كانت في مقدمة العوامل التي دفعت بأسبانيا التي إتّحدت من خلال زواج فرديناند وإيزابيلا بهدف تطويق العالم الإسلامي تحت مسمى الكشوف الجغرافية وكان الطابع الديني المتعصب يغلب على سياسة هذين الملكين، وكانا قد شنا حرباً لا هوادة فيها بهدف الإجهاز على البقية الباقية من المسلمين في شبه جزيرة أيبيريا(الأندلس)، كما كانا يمنيان النفس ببعث عهد الحروب الصليبية وإنفاذ حملة صليبية لانتزاع بيت المقدس من أيدي المسلمين(23).

وعلى ضوء كل ما سبق يمكن تفسير سياسة المماليك نحو القدس، سواء في استقلالها عن دمشق إدارياً وجعلها تابعة للسلطان مباشرة في القاهرة، أو بتنمية مواردها والعناية بمقدساتها.

وعموماً فقد حظي نصارى بيت المقدس بالرعاية الكاملة، وكفلت لهم الدولة الإسلامية الحرية المطلقة في ممارسة عقائدهم الدينية وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية، وقد عنى بهم سلاطين المماليك حتى إنّ رئاسة بطريرك السريان كان يصدر بها مرسوم من السلطان في القاهرة، وأعفوا من الرسوم المفروضة على زائري كنيسة القيامة والتوصية عليهم بالإحسان لهم ومعاملتهم معاملة حسنة(24)، وفي عهد السلطان"برسباى" استمرت هذه الامتيازات.

أما طائفة الأرمن فكانت من أنشط الطوائف في بيت المقدس، وكانت لهم أملاك وأديرة أمنتها لهم الإدارة المملوكية التي تعهدت برفع الظلم عنهم ورعايتهم لدرجة أن هذه الطائفة قد حصلت على وثيقة من السلطان "جقمق" نصّ فيها "مرسوم مولانا السلطان الملك الظاهر أبو محمد سعيد جقمق عزّ نصره بإبطال ما أحدثه أبو الخير بن النحاس من ضمان مار يعقوب دير الأرمن بالقدس الشريف عاماً رده سيف الدين المقر الشرقي الأنصاري، وسأل في إبطال ذلك ليسطر في الصحائف الشريفة بتاريخ 850هـ".

ولعل الروم كانوا ينازعون الأرمن في حقهم بهذا الدير، وكان إقرار السلطان بعودة الدير إلى الأرمن من مصدر سعادة كبيرة لهم حتى إنهم علقوا هذه الوثيقة على أحد جدران أديرتهم بالقدس.

وتشير سجلات المحكمة الشرعية في بيت المقدس إلى أنّ القاضي نظر في شكوى قدمها إليه بطريرك الأرمن الذي حكم بحقهم في الدير بعد أن استمع إلى شهادات الطوائف الأخرى كالقبط والحبش والسريان(25).

لقد سكن بيت المقدس الروم الأرثوذكس وقد شملتهم سماحة الإسلام كغيرهم من الطوائف الأخرى وقد اكتسب وجودهم شكلا شرعياً من خلال مراسيم سلطانية تحافظ عليهم وترعى حقوقهم وتوصى بهم خيراً وقد حدد محمد بن قلاوون هذه المزايا من خلال عدة مراسيم لعل من أهمها: "لا أحد يتعرض إلى ديرهم ولا لكنائسهم ولا لشيء من أراضيهم"(26).

ولم يقتصر الأمر على عناية السلاطين المماليك بالطوائف القاطنة مدينة القدس فقط، وإنما شملوا برعايتهم زوار مدينة القدس من المسيحيين واليهود، وكثيراً ما نصّ في وثائق رسمية على التعهد بحمايتهم وتوفير أسباب الراحة لهم.

وكثيراً ما ترد في مصادر العصرين الفاطمي والمملوكي بعض التجاوزات سواء في القدس أو القاهرة أو دمشق ولا عبرة إطلاقاً بأن يلجأ رجل عرف بشذوذه الذهني -مثل الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي- إلى اضطهاد الذميين من مسيحيين ويهود في فترة محدودة من حكمه، ذلك أن حاكماً يحرم على شعبه أكل السمك والملوخيا، ويأمر بكتابة سبّ الصحابة على أبواب المساجد - لا يمكن أن يكون طبيعياً ولا تعتبر تصرفاته بأي حال من الأحوال مرآة لروح الإسلام.

وإن كانت قد حدثت موجات من الاضطهاد لأهل الذمة في عصر سلاطين المماليك فإنه ينبغي أن نقدر روح العصر (عصر الحروب الصليبية) وطبيعة المماليك أنفسهم وحداثة عهدهم بالإسلام وتشربهم بروحه بالقدر الكافي(27).

وإذا كانت قد حدثت بعض الحالات الفردية من اضطهاد أهل الذمة فلا يمكن أن يكون ذلك اتجاهاً عاماً بل الأساس أن أهل الذمة قد عاشوا في القدس وفي غيرها من العواصم الإسلامية أكثر أماناً واستقراراً من بلادهم خلال فترة العصور الوسطى، وتأتى جماعة الرهبان الفرنسيسكان عام(616هـ/ 1219م) التي أسسها "فرانسيس الأسيزى" وأقام بجماعته على جبل صهيون(28)، وسمح لهم السلطان الكامل بالتفرغ للعبادة، ثم تمكنت هذه الجماعة من توسيع نشاطها حيث بنت ديراً على الجبل سمي بدير صهيون بمعاونة صقلية ونابلي حيث توسط حاكم هاتين المدينتين لدى السلطات المملوكية التي استجابت لهذه الضغوط تقديراً منها لأهمية تحسين العلاقات الإسلامية الأوربية.

وعموماً فقد عاش أهل الذمة في القدس كما في غيرها من الأمصار الإسلاميـة في مناخ إتّسم بالتسامح والحرية حتى إنّ الرحالة اليهودية إسحاق بن يوسـف(1333) يعترف صراحة بأنّ اليهود في القدس يعيشون في طمأنينة وسعادة، وأرجع ذلك إلى عدل الحكومات الإسلامية(29).

واللافت للنظر أنّ أهل الذمة من سكان بيت المقدس لم ينغلقوا على أنفسهم ولم يعيشوا على حافة المجتمع خلال العصور الإسلامية المختلفة، مما يوضح بروز العديد منهم في مجال العلوم المختلفة، حيث أتاحت لهم الدولة الإسلامية جواً من الحرية العلمية لم تتح لنظرائهم في أوربا، فبينما كان العمل بالطب في روما أو باريس أو لندن خلال العصور الوسطى يعدّ هرطقة تبرر للكنيسة حق إراقة دم من يعمل بتلك المهن بحجة أنّ ذلك يدخل في أخص خصوصيات الرّبّ، وبموجب هذا الفهم العقيم قتل مئات من كبار العلماء في كل مجالات العالم حيث أُعدموا حرقاً بعد أن اتهمتهم الكنيسة بالهرطقة.

وبينما كان ذلك يحدث في المدن الأوربية كان المسيحيون واليهود من سكان القدس يمارسون الطب والفلك والرياضيات، ويروي الرحالة اليهودى الأسبانى "إسحاق بن شيلو" عام(1333) "أنه كان هناك من يهود القدس من يعمل بالفلك والرياضيات ولكن معظمهم كانوا يدرسون القانون"(30).

كما وجد أطباء مسيحيون في القدس كانوا يقومون بممارسة مهنة الطب وبعضهم كان ينقطع لمعالجة أبناء طائفتة وأن طائفة الفرنسيسكان كانوا يخصصون أطباء لمعاجة أبناء طائفتهم وكانوا يمدونهم بالأدوية(31).

كل ذلك كان يحدث في كنف الإدارة الإسلامية للقدس في الوقت الذى كان فيه المسلمون واليهود في أسبانيا يتعرضون للإبادة الجماعية التي باركتها الكنيسة الكاثوليكية التي أعتبرت أن استئصال المسلمين واليهود من أوربا إرادة دينية خالصة، ولذلك فإن الشعور الذي احتوى مسيحيى شبه جزيزة أيبيريا بوجوب محاربة الإسلام كان شعوراً إمتزجت فيه الروح الصليبية المتأججة بالعاطفة الوطنية، وأصدر البابا نيقولا الخامس عام(1447- 1455م) مرسوماً بابوياً تضمن ما يعرف باسم "خطة الهند" تقوم على إعداد حملة صليبية نهائية تشنها أوربا الكاثوليكية للقضاء المبرم على الإسلام والمسلمين(32).

ويذكر البلاذرى "أن معاوية بن أبى سفيان –رضي الله عنه- ما كاد يستولى على طرابلس حتى جلب إليها اليهود وأسكنهم فيها"(33)، وخلال العصور الإسلامية المتعاقبة نعم أهل الذمة بكل حقوق المواطن حتى أن بنيامين اليهودى قد قدّر عدد اليهود في القرن الثانى عشر للميلاد (السادس الهجرى) بثلاثمائة ألف يهودى في المشرق الإسلامى وحده على حين قدّرهم يهوى آخر في القرن نفسه بستمائة ألف في العراق وحده(34).

وتشير مصادر العصرين الأيوبى والمملوكى إلى أن اليهود قد وفدوا على القدس من أنحاء أوربا، وشهدت مدينة القدس خلال هذين العصرين نشاطاً علمياً ملحوظاً قام به اليهودى الشهير "موسى بن نحمان" وهوالذى أحيا طائفة اليهود المعلمين في القدس، وبنى مركزاً خاصاً لتعليم اليهود وبنى المعبد الذي يحمل اسمه، وإضافة إلى ما يعرف بالأكاديمية اليهودية في القدس والتي تخصصت في تعليم اليهود(35)، وخصوصاً في مجال الدراسات اليهودية.

وفي الوقت الذى سقطت فيه غرناطة 1492م آخر معاقل المسلمين في الأندلس- لم يجد يهود الأندلس إلاّ البلاد الإسلامية ملاذاً من الإبادة الجماعية، وكانت القدس واحدة من المدن الإسلامية التي وفد إليها يهود الأندلس واستقروا على أرضها، وأمّنوا على أنفسهم في ظل سماحة الإسلام، ولعل قدراً كبيراً من التحسن قد طرأ على أوضاع اليهود في القدس عموماً نتيجة لهجرة يهود الأندلس إليها لأنّ المهاجرين الجدد لم يجلبوا معهم الثقافة المزدهرة فحسب بل أيضا جلبوا الثراء، وسرعان ما احتل هؤلاء (السفارديم) مكانة ممتازة في الحياة العامة بحكم ثقافتهم الرفيعة التي اكتسبوها من الأندلس(36).

وعلى الرغم من روح التسامح الدّينى الذى اتسمت به المدن الإسلامية إلاّ أنّ اليهود قد لازمتهم الخيانة حتى إنهم قبلوا أن يكونوا أدلاء لطلائع الاستعمار الجديد الذى اتخذ من الكشوف الجغرافية وسيلة لتحقيق أهدافه نحوالقضاء على الإسلام والمسلمين.

وقد سعى البرتغاليون منذ طلائع الكشوف الجغرافية الأولى للحصول على علوم العرب الملاحية واستعانوا بالتجار اليهود في الأندلس، الذين قبلوا أن يقوموا بدور الجواسيس في الحصول على معلومات العرب البحرية، وساعد اليهود على نجاحهم في عمليات التجسس معرفتهم باللغة العربية، وقاموا برحلات بين الـمـشرق والـمـغـرب براً وبحراً لهذا الغرض وتظاهروا بأنهم مسلمون، وقد تتابع وصـولهـم إلى مصر وسائر البلاد العربية منذ 1488م(أى قبل رحلة فاسكودى جاما) بعشر سنوات، وتخفي اليهود في زى تجار برتغاليين، وسافروا إلى مصر وكان على رأس هؤلاء الجواسيى الفونسودى بايفde paiva Alfonso وبيرودى كوفيلهام pero de covlham.

ووقف الجواسيس على معلومات مهمة ثم أقلعوا من السويس إلى عدن، ومنها إلى الهند ثم عادوا إلى البرتغال عن طريق مصر وفي أثناء مرورهم بالقاهرة التقى هؤلاء ببعثة تجسس يهودية أخرى برئاسة "ابراهام دى بيا" ويبدوأنها كانت تحمل تعليمات جديدة من حكومة البرتغال لأنّ البعثتين الأولى والثانية انضمتا بعضهما إلى بعض في بعثة واحدة سافرت إلى هرمز ثم إلى زيلع ومنها إلى الحبشة ثم عادت إلى مصر وواصلت سفرها في رحلة العودة إلى البرتغال.

وقد استطاعت هذه البعثة الحصول على خرائط عربية عن المحيط الهندى ومعلومات تفصيلية عن التيارات البحرية والرياح الموسمية في هذا المحيط فضلا عن البيانات الخاصة بالتجارة الشرقية، وقدمت البعثة كل هذه المعلومات إلى سلطات "لشبونة" فكانت لهم نعم المعين ابتغاء تحقيق الهدف الأساسى وهوالوصول بحراً إلى الهند.

وخير مثال يمكن أن نسوقة كدليل على ما لقيه اليهود في ظل الحكم الإسلامى من تسامح وأمن واستقرار وما تعرضوا له أيدى المسيحيين في العصور الوسطى من اضطهاد- أنّ مدن الشام التي كانت بها جاليات ضخمة من اليهود تحت حكم المسلمين قد أصبحت تقفز منهم بعد استيلاء الصليبيين عليها(37).

ويقول بنيامين "إنه لم يبق في المقدس بعد استيلاء الصلبين عليها سوى أربعة من اليهود في حين كان في المدينة صور تسعة فقط"، لذلك لا عجب إذا هلل اليهود عندما سمعوا باستيلاء صلاح الدين على بيت المقدس(583هـ/ 1187م)، وذكر الشاعر اليهودى الأسبانى يهودا الحرزى "أنّ فتح صلاح الدين لبيت المقدس أعقبته هجرة عدد كبير من اليهود إليها"(38). والتاريخ الإسلامى حافل بالعديد من الحكام العظام الذين شملوا برعايتهم أهل الذمة ووفروا لهم من الامن والاستقرار الأمر الذي سمح لهم بممارسة طقوسهم الدينية وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية بداية من الخليفة العظيم عمر بن الخطاب ومرورا بالقائد الفاتح صلاح الدين الأيوبى. ولذا فقد تضاعف عدد اليهود خلال القرن الثاني عشر حيث اجتذبهم الشرق الإسلامي. فكان بهمدان ثلاثون ألفا، وبأصفهان خمسة عشر ألفا، وبشيراز عشرة آلاف، وبسمرقند ثلاثون ألفأً وهذه الأرقام التي يذكرها بنيامين اليهودى يؤكدها المقدسي في القرن الرابع الهجرى فيقول: (إنّ بخراسان يهودا كثيرين ونصارى قليلين وأنّ بالجبل يهودا أكثر من النصارى. بل قد وجدت مدينتان في المشرق الإسلامى أطلق عليهما اسم اليهودية إحداهما قرب أصفهان والأخرى شرقي مرو. كذلك كان لليهود نسبة كبيرة في مدينة قرح ذات الأهمية التجارية المعروفة)(39).

وفي كثير من المدن الإسلامية نجد أحياء تنسب إلى اليهود في القاهرة وبغداد والقدس وتذكر أقدم المصادر التاريخية عن القدس (الأنس الجليل)(أنه كان في حارة اليهود بيت المقدس مسجد مجاور لكنيسة اليهود وبجوار المسجد دار من جملة أوقاف اليهود انهدمت بسبب المطر فرغب المسلمون في الاستيلاء عليها مما حمل اليهود على رفع الأمر لقضاة بيت المقدس، الذين حكموا بحق اليهود فيها(40).

لعل هذا التسامح الذى لم تحكمه اعتبارات شخصية أومزاجية وإنما حكمته أسس دينية وأخلاقية يعدّ دليلا على ما كان للإسلام من فضل إضافة إلى ما تمتع به القضاء الإسلامى من فهم دقيق لجوهر الإسلام.

لقد نعمت الطوائف الدينية بقدر هائل من الحرية التي كفلتها سماحة الإسلام، فمع قيام الدولة الفاطمية في مصر والشام تمتع اليهود بحرية كاملة من خلال طوائفهم، وأصبح لكل طائفة رئيس مستقل فصار لليهود في القاهرة والقدس وكافة المدن التابعة للفاطميين رؤساء، وصار لليهود عموما رئيس مستقل لقب بأمير الأمراء، وخولت إليه مهمة تعيين أحبار اليهود في مصر والشام وكتب له توقيع برئاسة سائر الفرق اليهودية في جميع أنحاء مصر والشام(41)، وفي ظل التسامح الإسلامي الذي يعبر عن جوهر الإسلام تمتع اليهود بحرية واسعة في مباشرة نشاطهم الاقتصادى فاحتكروا التجارة بين الشرق والغرب، واتخذوا من المدن الإسلامية في شرق البحر المتوسط نقاط إرتكاز أساسية حيث باشروا مهامهم مع المدن الأوربية في جنوب فرنسا وإيطاليا، وقد أطلق المسلمون عليهم اسم اليهود الرازانية نسبة إلى الرون(وادى الرون في جنوب فرنسا) وأحياناً أخرى أطلقوا عليهم "تجار البحر" حيث ترسوسفنهم المحملة بالفراء والجلود والغلمان على شاطئ "الفرما" ومنها يحملون بضائعهم إلى القلزم ثم يستأنفون رحلتهم إلى الشرق الأقصى عن طريق البحر الأحمر، وأحياناً ثالثة كانوا يتجهون إلى أنطاكية بدلا من الفرما ومنها إلى بغداد فالطريق البري إلى الهند والصين ثم يعودون محملين ببضائع الشرق كالحرير والتوابل والمسك(42).

وما من مركز تجارى في العالم الإسلامى إلاّ كانت به جالية ضخمة من اليهود تسيطر على النشاط المالى فيه، وفي بيت المقدس احتكر اليهود تجارة الأصباغ في حين اشتغل يهود الأندلس بخصي الرقيق الصقالبة(43).

وتجدر الإشارة إلى أن التواجد اليهودى في بيت المقدس قد نشأ إما لأغراض دينية وإما هرباً من الاضطهاد الدينى في أوربا وخصوصاً اليهود(السفرديم) الذين قدموا من أسبانيا، ومما يلفت النظر أيضا أنّ هؤلاء جميعاً لم يكونوا من نسل يهود التوراة ولكنهم جميعاً من سلالة الأوربيين.

ولم يكن حق التوطن وممارسة كافة النشاط الاقتصادى هما كل ما حظي به اليهود من حقوق، وإنّما كانت لهم امتيازات في ظل الحكم الإسلامى بلغت من تسامح المسلمين حداً كبيراً استعملوا لدرجة أن استخدموا اليهود في وظائف الدولة، وسمحوا لهم بتقلد أسمى الوظائف وأرقاها وعلى رأسها وظيفة الوزارة.

وظهر منهم في العصر الفاطمى يعقوب بن كلس الذي لجأ إلى مصر حيث تاجر لكافور الأخشيدى ثم استوزرة المعزّ لدين الله الفاطمى، ويقال إنه هوالذي أشار عليه بفتح مصر وبالرغم من اعتناقه الإسلام إلاّ أنّه ظلّ متحيزاً لإخوانه اليهود ومع ذلك فقد كان المعزّ لا يفعل شيئاً إلا بمشورته(44)، أما الخليفة العزيز الفاطمي فقد استوزر عيسى بن نسطوروس النصراني، وأناب عنه في حكم الشام يهوديا اسمه منشا واعتمد عليهما أهل الذمة وأنزلوا أضراراً كبيرة بالمسلمين ويقال إن أهل مصر عندما ضاق بهم الحال كتبوا رقعة وجعلوها في يد صورة امرأة عملوها من الورق وثبتوا الصورة في طريق العزيز والرقعة في يدها، وفيها "بالذى أعز اليهود بمنشا ابن إبراهيم الفرار والنصارى بعيسى بن نسطوروس وأذل المسلمين بك إلا كشفت لعلها ظُلاَمتي"(45).

وفي عهد الخليفة المستنصر الفاطمي ولى الوزارة يهودياً آخر هوأبونصر صدقة بن يوسف الفلاحي، وعلى الرغم من أنّه أعلن إسلامه إلاّ أنّه أشرك معه في تدبير شؤون الدولة يهودياً آخر هوأبوسعد التسترى وقد أثار التسترى كراهية المسلمين لتعصبه لليهود وإسناده مناصب الدولة إليهم مما مكنهم من اضطهاد المسلمين(46).

ولم يقتصر الأمر على مصر فقد استوزر ملك شاه السلجوقى لنفسه أمين الدولة أبا الحسن بن غزال وهوطبيب يهودى وجد عنده بعد موته ثلاثة ملايين قطعة من الذهب فضلا عن التحف والجواهر التي لا يوجد مثلها عند الخلفاء.

وفي المغرب اتخذ باديس بن حبوس بن زيرى ملك غرناطة عام(430-466هـ) أحد اليهود وهوابن نغزالة وزيراً، واتخذ يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المتوفي سنة 706هـ وحفيده أبوالربيع سليمان (710هـ) حاجباً يهودياً يدعى خليفة بن حيون بن قاصة(47).

لقد شهدت الدولة الإسلامية خلال عصورها المزدهرة أسماء أطباء من أهل الذّمة حظوا بشهرة كبيرة، وأباح لهم المسلمون مزاولة مهنتهم، وبعضهم قد اختير طبيباً خاصاً للخليفة مثل الملك العادل الأيوبي الذي جعل يعقوب بن صقلان المتوفى سنة 626هـ طبيباً خاصاً له فكان الملك العادل إذا احتاجه استدعاه إليه في محفة يحملها الرجال(48).

وعموماً فإنّ اليهود قد نعموا في ظل الحكم الإسلامي بكل حقوق المواطنة، وبينما أحسن المسلمون لليهود في الأندلس وأكرموهم وسمحوا لهم بتلقي العلم في المساجد - إذا بالحكام المسيحيين (بعد زوال الدولة الإسلامية في الأندلس) يحرقون اليهود بالجملة من خلال المحارق التي ابتدعها الحكام الأسبان التي سموها "بأفراح الموت" حيث يُلْقَى اليهود أحياء وسط تهليل وصياح جموع النصارى، لكن تجربة المسلمين مع اليهود كانت دائما مريرة قاسية، إذ كان اليهود يقابلون الوفاء بالغدر والإحسان بالنكران لذلك أخذ المسلمون في العصور الوسطى يتخوفون من السفر مع اليهود خوفا من خديعتهم، وقد روي أن مسلما سافر مع يهودي فسأله المسلم ما يفعل؟ فقال اليهودي: أنه يمشى حيث يكون ظل دابة المسلم واقياً رأسه على الدوام(49).

وعلى الرغم من أنّ صلاح الدين أكرم اليهود إلاّ أنّه اكتشف مؤامرة للقضاء على حكمه في مصر والشام عن طريق الاتصال بالصليبيين، وتولى كتابة الرسائل إليهم أحد اليهود بمصر، وعندما دخل المغول الوثنيون حلب سنة(658 هـ/1260م) تواطأ معهم اليهود ضد المسلمين، فهدموا المساجد وخربوها، وأنّ معبد اليهود في حلب أحد الأماكن التي لاذ إليها الفارّون من المذابح.

وعموما فقد عاش أهل الذمة في بيت المقدس عيشة كريمة مطمئنة، وإذا كان قد حدث تجاوز في بعض فترات التاريخ فهو الاستثناء الذي لا يقاس عليه، ويشهد بذلك كثير من الرحالة الأجانب الذين زاروا بيت المقدس خلال العصور الثلاثة (الأيوبي والمملوكي والعثماني)(50)، والذين أشادوا بعدل الإسلام وسماحته، والحرية التي كفلها الإسلام لكل المقيمين في القدس بما في ذلك اليهود والنصارى، ويروي الأب سوريانو أنّه في عهد السلطان قايتباى تمتعت طائفة الفرنسيسكان بعطف السلطان نفسه لدرجة أنهم حينما شكوا إليه من كثرة الأموال التي يجبيها منهم حاكم بيت المقدس غضب السلطان وأحضره مكبلا بالحديد وعزله وألقاه في السجن مدة خمس سنوات، وعندما شكا إليه رئيس الفرنسيسكان من أنّ هناك من يحاول الإساءة إليهم بعث السلطان بمن أحضرهم وعاقبهم عقاباً شديداً وفرضت عليهم غرامات(51).

والحقيقة أنّ سماحة الإسلام وعدله قد شملت كل قاطني بيت المقدس بمن فيهم المسيحيون واليهود مما أوجد مناخا ثقافياً واجتماعياً عظيماً، حدث هذا بينما كانت البابوية في أوربا قد سيطرت على كل مناحي الحياة مما كان سبباً في اضمحلال المدن الزاهرة، وأغلقت المدارس، وانتشرت الجهالة، ولم يبق أثر للحضارة والعلم والثقافة في أوربا الغربية إلاّ بصيص خافت ينبعث من المؤسسات الدينية الجديدة مثل المدارس الديريه والمدارس الأسقفية كما أنّ بعض البابوات كانوا لا يشجعون إلاّ الدراسات الدينية المسيحية، ويحاربون ما عداها، هذا في الوقت الذي كان فيه المسلمون يمضون قدماً في إقامة بنيان حضاري شامخ، ويضربون أروع الأمثلة في حرية الفكر وتشجيع البحوث وسرعة التطور، وكانت مدينة بيت المقدس واحدة من المدن الإسلامية العملاقة التي احتوت كل عناصر سكانها، وهذّبهم الإسلام بسماحته ورحابة صدره، ولم تعرف المدن الإسلامية قاطبة التعصب بكل أنواعه مما حفز الجميع نحو بناء حضاري شامخ.

لقد شهدت مدينة القدس سبقاً حضارياً هائلا في كل مجالات المعرفة، وسمح لأهل الذمة بالمشاركة الفعالة فكان منهم الأطباء والفلكيون حتى أصحاب الحرف الصغيرة كان لهم نصيب كبير فيها كل ذلك في إطار من التسامح والمحبة.

وليس أدلّ على التسامح من أنّ طائفة الرهبان الفرنسيسكان سمح لهم بتجديد كنيستهم كنيسة القبر المقدس، كما سمح السلطان الغورى ببناء دير لهم في الرملة، وسمح لكل الطوائف بإقامة مدارس لأبنائها، وتعددت المكتبات لدى الطوائف المسيحية المختلفة بالقدس تعدداً تشهد عليه كثرة تلك المكتبات من جهة، وكثرة ما احتوته من ذخائر الكتب من جهة أخرى(52).

ولعل ذلك يعكس عناية الطوائف الدينية بالمكتبات التي أقيمت في الكنائس والأديرة إضافة إلى الحرية العلمية التي أتاحها المجتمع الإسلامي في القدس لعلماء تلك الطوائف الذين انصرفوا للتأليف ونسخ المخطوطات وقد تنافست الطوائف الدينية فيما بينها عناية بالكتب والمخطوطات حتى إنّ طائفة كاليعاقبة قد حرصت على جمع ما يمكن جمعه من كنوز المعرفة، وأعدوا مكاناً خاصاً لعرض تلك الكتب وتقديمها للقراء تشجيعاً منهم للحركة العلمية المزدهرة في القدس(53).

ويذكر أحد الحجاج المسيحيين الذين زاروا بيت المقدس في عهد سلاطين المماليك أن كنيسة القديسة مريم بجوار كنيسة القبر المقدس كان بها مكتبة رائعة، وأنّ مكتبة القبر المقدس التي أنشأها الروم الأرثوذكس كانت زاخرة بكافة المعارف الإسلامية والمسيحية(54).

والحقيقة أن مدينة بيت المقدس كانت مؤهلة منذ فتحها المسلمون لكي تلعب دوراً حضارياً متميزاً فهي مدينة جاذبة بحكم المقدسات الدينية بها ولمكانتها في كل الأديان، لذا فقد وفد إليها أناس إستهواهم هذا الزخم التراثي الرائع، وبصرف النظر عن مراحل التصادم بين المسلمين والمسيحيين بهدف الانفراد بتلك المدينة المقدسة إلاّ أنّ ذلك كله قد خلّف وراءه تراثاً حضارياً وإنسانياً رائعاً، ومن ثم فقد تميزت مدينة بيت المقدس بتنوع علاقاتها مع كثير من المراكز الحضارية الأخرى، ولعل مدينة القاهرة تأتي في مقدمة المدن التي كان لها خصوصية شديدة مع بيت المقدس تضمنتها حركة التاريخ وعمق التفاعل من خلال نضال طويل مشترك.

لقد كان الأزهر الشريف عاملا حيوياً وفعالاً في تجسيد تلك العلاقة فمنذ تأسيس الأزهر والعلماء بين المدينتين يترددون في حركة من التواصل والتفاعل المستمر بين القاهرة والقدس، ويندر أن نجد عالماً أو فقيهاً في بيت المقدس لم يدرس في الأزهر الشريف أو يستمع الدرس أو يحصل العلم على أحد علمائه، بل إنّ كثيراً من المدارس والمعاهد العلمية في بيت المقدس قد تأثرت بنظام الدراسة في الأزهر الشريف.

والمتتبع لسيرة معظم من شغلوا وظيفة التدريس في كثير من المعاهد العلمية في القدس يلاحظ أنّهم إمّا تخرجوا من الأزهر أو تتلمذوا على من تخرج من الأزهر كما أنّ كثيراً من علماء بيت المقدس رحلوا إلى القاهرة وبعضهم قد عمل بالتدريس في الأزهر منهم بدر الدين بن جماعة الذي تولى قضاء مصر زمن السلطان خليل بن قلاوون سنة(690هـ/1290م)، وأضيفت إليه مهمة الخطابة في الجامع الأزهر(55)، والشيخ شهاب الدين بن جبارة الحنبلي الذي درس في الأزهر وتخصص في القراءات والأصول، وعمل بالتدريس في الأزهر وبيت المقدس إلى أن توفي سنة 728هـ، وقاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله الخالدي الذي تولى قضاء مصر وأصبح شيخاً للمدرسة المؤيدية بباب زويلة في القاهرة ثم عاد إلى بيت المقدس ومات فيها سنة(827هـ/1423م)(56).

أمّا القاهرة فقد بقيت دوماً الصرح الحضاري والثقافي الذي أمد القدس بكل مقومات نهضتها العلمية وكان الأزهر هو المعين الذي لا ينضب فقد ظلّ التواصل من خلال علماء الأزهر الذين ذهبوا إلى بيت المقدس للتدريس والقضاء وأحياناً الخطابة في المسجد الأقصى وكان من هؤلاء الشيخ شهاب الدين أبو العباس المصري(57).والعالم (أبو البقاء) أحمد الزبيري الذي انتقل إلى بيت المقدس سنة 730هـ/1426م وتوفي في بيت المقدس سنة(854/1450م)(58)، وشهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني، الأصل المصري المولد والمنشأ، وهو من بين العلماء الذين ترددوا على القدس وعمل بالتدريس فيها ما بين أخريات القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجري واشتهر بالتدريس والفتيا(59).

وعموماً فإنّه من الصعوبة بمكان أن نترجم لكل من أسهم في حركة التواصل العلمي والثقافي بين القاهرة والقدس لكن الترجمة العلمية لعلماء القاهرة والقدس بداية من العصور الإسلامية الأولى وحتى وقوع القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي فسوف نلاحظ أن معظمهم قد تأثر بالآخر بشكل أو بآخر مما أوجد نوعاً من التكامل العلمي والحضاري بين هاتين المدينتين العملاقتين.

وتشير إحدى الدراسات إلى أنّ نصارى بيت المقدس أدركوا أهمية كسب ودّ العثمانيين منذ أن فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية، ولعل بطريرك القدس قد أدرك طموحات العثمانيين في الشرق الإسلامي في الوقت الذي كانت فيه دولة المماليك تنذر بنهايتها، ولذا فقد قام بزيارة سرية إلى السلطان العثماني هنأه فيها على فتح القسطنطينية، وتمكن البطريرك من الحصول على عهد بالأمان، حيث تعهد السلطان العثماني استناداً إلى العهد الذي حصل عليه النصارى من الخليفة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بأن تكون كنيسة القيامة ملكاً خالصاً للنصارى، وكل المزارات المقدسة مثل مار يعقوب ودير الكرج والكنائس الواقعة في حوزة البطريرك وكنيسة المسيح الكائنة في بيت لحم، وان تعفي كل الطوائف الخاضعة للبطريرك من الخراج والكفارة وجميع الرسوم، وفي هذه الوثيقة أيضاً يتعهد السلطان العثماني بحماية البطريرك وأتباعه (862هـ/1454م)(60).

والقراءة العلمية الدقيقة لمثل هذه الوثيقة والتاريخ الذي كتبت فيه يقطعان بعدم صحة مثل هذا وخصوصاً وأنّ سنة 1454 هو التاريخ الذي كتبت فيه هذه الوثيقة حيث كانت العلاقات المملوكة العثمانية على أحسن ما يكون ولم يكن هناك ما يشير إلى أطماع العثمانيين في الدولة المملوكية، إضافة إلى أنّ السلطان العثماني لا يمكن أن يقطع على نفسه عهداً لمجرد أن البطريرك قد طلب منه ذلك والمصادر العثمانية والمملوكية لم تشر إلى مثل هذا الاتفاق ولم يرد هذا النص إلا فيما كتبه (إبراهيم قزاقيا).

وعموماً فإن نهاية دولة المماليك ووقوع الشام تحت سيطرة العثمانيين سنة(1516م) لم يترتب عليه تغيير ملحوظ لمدينة بيت المقدس سواء في وضعها الإداري في وضع الأقليات الدينية فيها، على الرغم مما شهده العصر العثماني من تدفق ملحوظ من جانب الأوربيين وخصوصاً بلاد الشام التي شهدت قدوم الأجانب من جانب، وتنازل الدولة العثمانية عن كثير من حقوقها في شكل امتيازات منحت لهؤلاء الأجانب.

لم تكن هذه الامتيازات تمثل خطراً على الدولة وهى في عنفوان قوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر أمّا بعد ذلك فقد تحولت هذه الامتيازات إلى حقوق اكتسبت شرعيتها تحت عامل التقادم من جانب وضعف الدولة العثمانية من جانب آخر، وشملت هذه الامتيازات إعفاءات كثيرة لعل أخطرها السماح للأوربيين بممارسة نشاطاتهم الدينية وخصوصاً في بلاد الشام، وأصبح التسابق على أشده بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت وامتد الأمر نحو السماح ببناء العديد من المؤسسات التعليمية والتثقيفية، وحينما أدركت الدولة العثمانية خطورة الموقف كان الزمن قد مضى وكان الرجل المريض قد تدهورت حالته وتكالبت عليه المطامع الأوربية التي أودت بحياته في النهاية.

وفي ظل الامتيازات التي قدمها العثمانيون للأجانب عموماً لعب اليهود دوراً متزايداً لا يتناسب مع قلة عددهم فلم يزد عددهم في فلسطين عموماً خلال القرون الثلاثة الأولى من الحكم العثماني على عشرة آلاف نسمة وكانوا ثلاثة أمثال هذا العدد في بلاد الشام كله(61).

وبسبب سياسة التسامح التي انتهجها العثمانيون تزايد هذا العدد في أواخر القرن التاسع عشر حتى بلغ حوالي المائة ألف، وأسسوا مدارس لتعليم العبرية، وأقاموا مستوطنات في حيفا، وسيطروا على تجارة صفد ودمشق وقاموا بدور بارز في الحياة الاقتصادية في حلب وبيروت وعكا وحيفا.

لقد أوجدت هذه الكثرة العددية العديد من المسارب إلى القدس حيث نمت المؤسسات التعليمية لليهود بشكل ملحوظ، وعندما أدركت الدولة العثمانية خطورة الامتيازات التي فتحت الباب على مصراعيه لم تستطع أن تحول دون نمو هذه الامتيازات التي أصبحت بمثابة مواثيق للعثمانيين حتى سقوط دولتهم عقب الحرب العالمية الأولى.

وعموماً فيمكن أن نستخلص عدة نتائج من هذه الدراسة:

أولا: لقد بقيت القدس منذ أن فتحها المسلمون مدينة إسلامية حيث ذابت فيها كل الثقافات الأخرى، وظلت الهوية الإسلامية هي الأساس الذي حفظ للقدس ملامحها الخاصة التي بقيت عبر تاريخها الطويل دليلا أكيداً على أنّ عودة القدس ليس طلباً قومياً فقط، وإنما هي ضرورة إسلامية بالدرجة الأولى.

ثانيا: إنّ القراءة العلمية لمدينة القدس تشهد على أن التسامح الديني في ظلّ الإدارة الإسلامية لم يكن شيئاً استثنائياً أو طارئاً، وإنما كان بمثابة إستراتيجية ثابتة حكمتها الشرعية الإسلامية التي أقرت كافة الحقوق التي كفلت لأهل الذمة حرية ممارسة عقائدهم وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية.

ثالثا: إنّ القراءة الدقيقة للتاريخ الإنساني عموماً تؤكد أنّ المسيحيين واليهود في بيت المقدس قد توفرت لهما كل الحقوق التي لم تتوفر للأقليات الدينية في أوربا، فبينما كان اليهود والمسلمون في الأندلس الإسلامية يساقون إلى الموت فرادى وجماعات كان المسيحيون واليهود في بيت المقدس يعيشون كمواطنين لهم كل حقوق المواطنة، وبينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تطارد العلماء وتتهمهم بالهرطقة خلال العصور الوسطى الأوربية كانت مدينة القدس الإسلامية تحتضن العلماء من اليهود والنصارى وتقدم لهم كل الإمكانات المادية والأدبية، وهى حقيقة لم يغفلها الرحالة سواء من اليهود أو النصارى.

رابعاً: لقد أسهمت مدينة القدس بقدر هائل في نمو الحضارة الإسلامية وازدهارها من خلال الحركة العلمية التي شهدتها المدينة المقدسة، كانت المدارس والمعاهد والمكتبات فيها مقومات أساسيه لدفع الحركة العلمية التي نجم عنها أجيال من العلماء يصعب حصرهم في شتى مجالات المعرفة، مما طبع المدينة بطابع إسلامي جعلها صورة مكررة من القاهرة ودمشق وبغداد.

خامساً: لعل في مقدمة أولويات العمل الإسلامي تكاتف المسلمين في شتى أنحاء المعمورة من خلال حركة منظمة ودقيقة تجمع الجهود الشعبية والحكومية، وتتخذ من السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية وكافة السبل وسائل لإنقاذ المدينة المقدسة من براثن المحتل الغاشم، الذي يبذل كل الجهود لطمس المعالم الإسلامية كحجة قوية لتبرير احتلاله.

***********

*) أستاذ التاريخ الحديث –جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة-.

(1) آثار البلاد وأخبار العباد، بيروت، 1960، ص159.

(2) فضائل القدس، بيروت، 1980م، ص114.

(3) إسحاق موسى الحسيني، مكانة بين المقدس في الإسلام، بحث منشور ضمن مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، المؤتمر الرابع لمجمع البحوث، 1968م، ص67.

(4) تاريخ ابن جرير الطبري، جـ3، ص105، خطط الشام، خـ1،ص118.

(5) لما مات عبدالرحمن بن علقمة الكناني، وكان عاملاً في فلسطين ضم علمها إلى معاوية 21هـ /641م، ثم أصبح حاكماً مطلقاً على الشام ومصر والعراق والحجاز وبويع بالخلافة 41هـ/661م.

(6) بعد أن استقل بها ابن الزبير وأعلن الخروج على عبد الملك بن مروان.

(7) محيى الدين، الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، نقلاً عن عارف العارف، مرجع سبق ذكره، ص52.

(8) إسحاق موسى الحسيني، مكانة بيت المقدس في الإسلام، المؤتمر الرابع لمجمع البحوث الإسلامية، ص82.

(9) عارف العارف، تاريخ القدس، ص55.

(10) المرجع السابق نفسه، ص58.

(11) سورة آل عمران: 20.

(12) عارف العارف، مرجع سبق ذكره، ص65.

(13) كارل بركلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية ترجمة أمين فارس ومنير البعلبكي، ص360.

(14) ابن سرور، مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام، يافا، 1946م، ص62.

(15) تاجد الدين السبكي، طبقات الشافعية، ج5، ص332.

(16) د.علي السيد علي، القدس في العصر المملوكي، القاهرة 1986م، ص22.

(17) ابن واصل، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق جمال الشبل، القاهرة، 1960م، جـ2، ص258.

(18) المقريزي، كتاب السلوك، جـ1، ص356.

(19) أبناء الغمر بأبناء العمر، تحقيق د.حسن حبشي، القاهرة، 1969م، ط1،ص107، وصبح الأعشى، جـ12، ص105.

(20) عبدالرحمن سعيد، بيت المقدس في عهد المماليك، ماجستير غير منشورة من كلية اللغة العربية جامعة الأزهر، 1979م، ص77.

(21) د.علي السيد علي، مرجع سبق ذكره، ص35.

(22) المرجع السابق نفسه، ص35، ص36.

(23) د.عبدالعزيز محمد الشناوي، أوروبا في مطلع العصور الحديثة، ص104.

(24) عبدالرحمن سعيد حمودة، مرجع سبق ذكره، ص103.

(25) المرجع السابق نفسه، ص104.

(26) المرجع السابق نفسه.

(27) د.سعيد عبدالفتاح عاشور، اليهود في العصور الوسطى بين الشرق والغرب، كتاب المؤتمر الرابع لمجمع البحوث الإسلامية، 1968م، ص354.

(28) مجيد الدين الحنبلي، الأنس الجليل، جـ2، ص349، ص350.

(29) نقولا زيادة، رواد الشرق في العصور الوسطى، ص110، ص111.

(30) د. علي السيد علي، مرجع سبق ذكره، ص150.

(31) المرجع السابق نفسه، ص152.

(32) د.عبدالعزيز محمد الشناوي، أوروبا في مطلع العصور الحديثة، القاهرة 1969م، ص91م.

(33) البلاذري، وفتوح البلدان، ص127.

(34) د.سعيد عبدالفتاح عاشور، اليهود في العصور الوسطى بين الشرق والغربي، مرجع سبق ذكره، ص355.

(35) د. صابر دياب، دراسات في عالم البحر المتوسط في العصور الوسطى، ص63.

(36) د. علي السيد علي، مرجع سبق ذكره، ص168.

(37) د. عبدالعزيز محمد الشناوي، مرجع سبق ذكره، ص97، ص98.

(38) د. سعيد عبدالفتاح عشاور، اليهود في العصور الوسطى، دراسة مقارنة بين الشرق والغرب، مرجع سبق ذكره، ص357.

(39) المقدس، أحسن التقاسيم، ص83، ص95، ص394.

(40) مجيد الدين الحنبلي، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، جـ 2، 317، ص318.

(41) أدم ميتز، الحضارة الإسلامية، جـ1،ص63، د.سعيد عاشور، اليهود في العصور الوسطى بين الشرق والغرب، ص357.

(42) ابن خرداذبه، المسالك والممالك، ص153.

(43) د. سعيد عاشور، اليهود في العصور الوسطى بين الشرق والغرب، ص358.

(44) المرجع السابق، ص358، ص359.

(45) ابن الأثير، الكامل، جـ9، ص81، ص82.

(46) د.سعيد عاشور، مرجع سبق ذكره، ص359.

(47) نفس المرجع السابق.

(48) ابن العبري، مختصر تاريخ الدول، ص443.

(49) د. سعيد عاشور، مرجع سبق ذكره، ص361.

(50) أبو الفدا، المختصر في تاريخ البشر، حوادث سنة 658هـ.

(51) عبدالحميد زايد، القدس الخالدة، ص260.

(52) د. علي السيد علي، مرجع سبق ذكره، ص170.

(53) نفس المرجع السابق، ص171.

(54) الأنس الجليل، جـ2، ص534.

(55) المقريزي، السلوك، جـ1، القسم الثالث، ص771.

(56) نفس المصدر السابق، جـ4، القسم الأول، ص355.

(57) مجيد الدين الحنبلي، الأنس الجليل، جـ2، ص110.

(58) السخاوى، الضوء اللامع، جـ9، ص289.

(59) د. علي السيد علي، مرجع سبق ذكره، ص143.

(60) إبراهيم قزاقيا، تاريخ الكنيسة الرسولية، ص88، ص89.

(61) د. عبدالعزيز محمد الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، جـ2، القاهرة، 1980، 746.

--------------

المصادر والمراجع

(1) ابن غانم المقدس (الشيخ نور الدين على)، مختصر الأعلام في فضايل القدس والشام، مخطوط بدار الكتب المصرية.

(2) المقريزى (تقى الدين أحمد بن على)، كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، ط1-3، تحقيق محمد مصطفي زيادة، القاهرة، 1971.

(3) السيوطى (أبو عبد الله محمد بن شهاب الدين أحمد بن على)، مخطوط بدار الكتب المصرية.

(4) ابن الأثير (عز الدين أبى الحسن على)، الكامل في التاريخ، جـ 11،12، بيروت، 1966.

(5) ابن إياس (محمد بن أحمد بن إياس الحنفي)، بدائع الزهور في وقائع الدهور، جـ 1-4، تحقيق محمد مصطفي، القاهرة، 1974.

(6) ابن بطوطه (محمد بن إبراهيم الطنجى)، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، جـ1،2، بيروت، 1969.

(7) ابن جبير (أبى الحسن محمد بن أحمد)، رحلة ابن جبير، القاهرة، 1955، تحقيق حسين نصار.

(8) ابن حجر العسقلانى (شهاب الدين أحمد بن محمد بن على)، أنباء الغمر بأبناء العمر، جـ1،2، القاهرة،1971، تحقيق د. حسن حبشى.

(9) ابن خلدون(عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر)، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر، بدون تاريخ.

(10) ابن دقماق(صارم الدين إبراهيم بن محمد العلائى)، الانتصار لواسطة عقد الأمصار، ط1309 هـ، القاهرة.

(11) ابن شداد(القاضى بها ء الدين)، سيرة صلاح الدين الأيوبى المسماة بالنوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية.

(12) القزوينى(زكريا بن محمد بن محمود)، آثار البلاد وأخبار العباد، بيروت، 1960.

(13) القلقشندى(أبو العباس أحمد بن على)، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، بغداد، 1958.

(14) ابن كثير(عماد الدين أبى الفدا إسماعيل بن كثير القرش الدمشقى)، البداية والنهاية في التاريخ، جـ 13،14،15،القاهرة،1939.

(15) أحمد رمضان(دكتور)، المجتمع الإسلامي في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية، القاهرة، 1977.

(16) أحمد عبد الرازق أحمد(دكتور)، دراسات في المصادر المملوكية المبكرة، القاهرة، 1974.

(17) إسحاق الحسيني، مكانة بيت المقدس في الإسلام، مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية، المؤتمر الرابع، القاهرة، 1968.

(18) أبو الفدا(عماد الدين إسماعيل بن محمد بن أيوب)، تقويم البلدان، القاهرة، بدون تاريخ.

(19) السيوطي(جلال الدين بن عبد الرحمن بن أبى بكر بن محمد)، تاريخ الخلفاء، ط4، القاهرة، 1969، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحليم.

(20) أحمد دراج، وثائق دير صهيون بالقدس الشريف، القاهرة، 1968،

(21) أحمد دراج، المماليك والفرنج في القرن التاسع الهجري، القاهرة، 1961.

(22) أحمد سامح الخالدي، أهل العلم بين مصر وفلسطين، القدس، 1947.

(23) سعيد عبد الفتاح عاشور(دكتور)، أضواء جديدة عن مدينة القدس، بحث منشور ضمن مطبوعات مؤتمر بلاد الشام، 1980.

(24) سعيد عبد الفتاح عاشور(دكتور)، الأيوبيون المماليك في مصر والشام، القاهرة، 1970.

(25) سعيد عبد الفتاح عاشور(دكتور)، اليهود في العصور الوسطى، دراسة مقدمة للمؤتمر الرابع لجمع البحوث الإسلامية، لمؤتمر الرابع،1968.

(26) عارف العارف، المفصل في تاريخ القدس، القاهرة، 1961.

(27) عبد الرحمن سيد حمودة، القدس في عهد المماليك، رسالة ماجستير غير منشورة، 1979، مكتبة كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر.

(28) على السيد على(دكتور)، القدس في العصر المملوكي، القاهرة، 1986.

(29) فتحية النبراوى(دكتور)، العلاقات السياسية الإسلامية وصراع القوى الدولية في العصور الوسطى، القاهرة، 1982،

(30) كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة أمين فارس ومنير البعلبكي.

(31) محمود العابدى، قدسنا، مطبوعات جامعة الدول العربية، القاهرة، 1972.

(32) ميخائيل مكى اسكندر، القدس عبر التاريخ، القاهرة، 1972.

(33) ظفر الإسلام خان، تاريخ فلسطين، بيروت، 1979.

(34) نقولا زيادة(دكتور)، رواد الشرق العرب في العصور الوسطى، القدس، 1943.

يوشح براور، عالم الصليبيين، ترجمة د. قاسم عبده قاسم ود. محمد خليفة، القاهرة، 1981.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=130

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك