من أجل مواطنة ثقافيّة عالميّة حوار مع هومي بابا حاوره: ساشيدانندا موهنتي (Sachidananda Mohanty)

بقلم: ترجمة الحبيب الحاج سالم 

هومي بابا ( Homi K. Bhabha)) هو أحد المنظّرين المابعد كولونياليّين الرائدين. وهو بروفيسور الأدب الانكليزي والأمريكي ورئيس برنامج التاريخ والأدب في جامعة هارفارد. اجترح بابا عددًا من التعابير الجديدة والمفاهيم المفتاحيّة مثل مفهوم “الفضاء الثالث” و“المحاكاة” و“الهابريديتي” (التهجين)، هذه المفاهيم وغيرها تصف الطرق الّتي قاومت بها الشعوب المستعمرة سلطة المستعمر. وهو صاحب كتاب موقع الثقافة (1994) ومحرّر مجموعة النصوص بعنوان أمم ومرويّات (1990)(1).

تعتبر أعمال جاك ديريدا (Jacques Derrida) وجاك لاكان (Jacques Lacan) وميشال فوكو (Michel Foucault) من أهمّ الأدبيات المؤثرة في أعمال هومي بابا، وهو كثير الإشارة في حواراته إلى أنّ المفكّر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد هو أكثر المثقّفين الّذين تأثّر بهم.
تلقّى سنة 2012 جائزة بادما بوشان (Padma Bhushan) في ميدان الأدب والتعليم من الحكومة الهنديّة.
في هذا الحوار يتحدث هومي بابا حول بنياته النظريّة وموقع الاستطيقا في الرأسماليّة المتأخرة وبحثه في مسألة الثقافة الكونيّة والمواطنة الثقافيّة.

ما هي دلالة صمود مقولة الأُمّة ؟

القول بوجود جانب سردي في خلق أمّة وبنائها لا يعني إنكار الوجود المادي والتاريخي للحياة السياسيّة والاجتماعيّة. فالمجتمعات الإقليميّة يُنظر إليها في آخر المطاف باعتبارها سياسة قوميّة. فتواريخ الأمم وسرديّاتها دائمًا ما كانت محبوكة معًا، لتخلق هذا الشكل الاجتماعي الجبريّ.

كيف ترتبط مصطلحات مثل المحاكاة والتهجين والفئات الخِلالِيٌة (interstitial categories )، بالسيميائيّات والتحليل النفسي ؟

يقترح التحليل النفسي في علاقته بمسألة الهويّة أنّ جميع أشكال تحديد الهويّة هي جزئيّة ومزدوجة، حيث تتأسّس كلّ الذوات في مكان حدّي. بهذا المعنى تكون الازدواجيّة مهمّة جدًّا في فهمي للمسارات والعلاقات الاجتماعيّة. كذلك السيميائيّات، النظريّة وفهم الدوال (sings)، ترى أنّ للدالول (sign) مجموعة من المعاني بناءً على موقعه النّسقي والاستخدام الخطابي له. كل دالول يكتسب معناه في إطار نظام لغوي معيّن، ويجب أن تقرأ الكلمات ضمن سياقها الاجتماعي الخاصّ. هكذا، تقترح السيميائيّات في رأيي عدم القدرة على نسب القيم الكونيّة إلى النصوص الأدبيّة. يجب فهم عبء التأويل وعبء التمثيل في تلك النصوص بالذّات.

ما هو ردّك على اتّهامك بالكثافة والغموض في كتاباتك وصياغاتك؟

لا أحبّ الدفاع عن نفسي. نعم، لقد اتّهمت بالتأكيد باستعمال كلمات صعبة وصياغات معقّدة، لكن لا أستطيع إلاّ أن أقول إنّني أستخدم اللّغة الّتي أحتاجها في عملي. على سبيل المثال كتابات هيغل صعبة، لكنّ المسألة ليست كما لو أنّه قال “كيف يمكنني أن أجعل حياة قرّائي تعيسة؟”. لقد استخدم إشارات وتلميحات وقراءات معيّنة. في حالتي، تسبّب مثل تلك التلميحات صعوبات، فأنا لست مهتمًّا بأن أكون كاتبًا وصفيًّا وتفسيريًّا، في النهاية أنا أجترح أطر العمل النظريّة بنفسي حتّى لو كنت أستند إلى فوكو ولاكان والماهاتما غاندي. محاولة صياغة وبلورة علاقات ومعاني جديدة تتضمّن دائمًا خطر أن تكون غير مفهومة مباشرة من القرّاء.

هل يزعجك ذلك؟

ما يقلقني هو حديث النّاس حول يسر النّفاذ إلى عمل مّا، وحول مفهوم (notion) الوضوح دون التفكير في فحوى العمل. قسم العلوم في صحيفة نيويورك تايمز مثلاً صعب الفهم، لكن هل أقول إنّني غير معنيّ بالمقال برمّته؟ إنّ الفكرة القائلة إنّ مصادر العلوم الإنسانيّة لا تملك لغتها الفلسفيّة الخاصّة، وأنّها يجب أن تستخدم باستمرار اللّغة العاميّة للإنسان العادي بينما يمكن للعلماء النشر بلغة تستغرق وقتا أطول كي تُفهم، هي فكرة تمثّل إشكاليّة بالنّسبة لي. ولا يعني ذلك أنّني لن أعيد كتابة جزء من عمل مّا إذا كان غير مفهوم، فقد اضطررت للقيام بذلك عديد المرّات.

بوجودك في موقع قوّة في الولايات المتحدة، هل أنت بمنأى عن الانخراط في الهيمنة الغربيّة؟

أسباب انتقالي إلى الغرب محض علميّة، فبعد حصولي على البكالوريوس من جامعة مومباي، توجّهت إلى جامعة أكسفورد. في حالات كهذه، من الطبيعي أن يشعر المرء أنّه جزء من سياق جديد. وعندما سافرت إلى الغرب، لم أعتقد أنّ ذلك سيصيب علاقتي بالهند في مقتل. لقد رأيت الأمر كطريقة لتوسيع ما كنت أحبّه وأفهمه في الهند.
الإنسان متموضع دائما ضمن بنية قوّة. لكن هل أعتقد أنّ الإدارة الأمريكيّة الحاليّة هي أكثر الإدارات حكمة ورصانة؟ لا أعتقد ذلك. القوّة الّتي تعنيني حقًّا هي التمكين الّذي أشعر به من خلال عملي وقدرتي على تمكين الآخرين. لا أعتقد أنّني جزء من بنية القوّة الأمريكيّة.

هل سُميّت على اسم العالم العظيم هومي بابا ؟

لا، لقد سُميت على اسم جدّي. لكن تربطني صلة قرابة بعيدة بالعالم هومي بابا.

ما هي طبيعة الأبحاث الّتي تقوم بها في مؤسّسة رادكليف حول المواطنة الثقافيّة؟

أنا مهتمّ بالسياق العالمي لمسألة المواطنة الثقافيّة. لقد نُظر إلى المواطنة في جوانبها الاجتماعيّة والسياسيّة والقانونيّة باتّساع، لكن كيف تبني الإستيطيقا والتجربة الإيطيقية جزءًا من المواطنة الثقافيّة؟ علماء الاجتماع ومفكّرو السياسات يتفكّرون الثقافة في سياق الحوكمة العالميّة، وفي الثقافة كمؤسّسات، غير أنّني أعتقد أنّ من دور الأعمال الثقافيّة العمل على مسألة المواطنة الثقافيّة.

ما هي المصادر الهنديّة الّتي استخدمتها في كتاباتك ونظريّتك؟

لقد وجدت عددًا من روّاد الخطاب الكوني المثيرين للاهتمام، على سبيل المثال، من بين أوائل القوميّين مثل هاردايال (Hardayal) ولالا لاجبات راي (Lala Lajpat Ray) ومادام كاما (Madam Cama).

ما الّذي يجلب اهتمامك لدراسات التابع (3)؟

لديّ شغف شديد تجاه العمل التعاوني، وأنا شغوف جدًّا بالطريقة الّتي مكنّت بها تواريخ التابع من إيحاد أصوات متعدّدة في التاريخ، مبرزة عدم تناسق القوميّة، إضافة إلى الطريقة الّتي تجاوز بها مثل هؤلاء المؤرّخين الحدود بين الاختصاصات.

هل بمقدور الفنّ أن يحوّل حياتنا في الرأسماليّة المتأخّرة؟

في عالم ذرائعي واستهلاكي على نحو متزايد، أظنّ أنّه من المهمّ أن نضع في مواجهته التطلّعات العظمى للأدب والشعر والرسم والموسيقى، لأن الفنّ والتجربة الجماليّة يضفيان الحماسة والشغف على مبادئنا ومعتقداتنا. يجب النظر إلى الفنّ كجزء جوهري من حريّتنا، وليس كجزء اختياري منها.

هل تشعر بالعجز بسبب تعذّر اطّلاعك على لغات هنديّة أساسيّة؟

نعم بالتأكيد. ولا يمكنني فعل الشيء الكثير حيال ذلك، كما لا يمكنني لوم الغرب بهذا الخصوص. لقد تلقّيت تعليمي في مدرسة يسوعيّة، وقد كان ذلك خيار والديّ. تدريس اللّغات الهنديّة لم يكن سيّئًا، لكنّه لم يكن ممتازًا. لقد طغت عليه خيارات لغويّة أخرى، وأودّ القول إنّني نادم ندمًا عظيمًا على ذلك.

ما هو مستقبل الأدب في الرأسماليّة المتأخّرة؟

أودّ أن أعود إلى محاورتنا غير الرسميّة. أودّ العودة إلى بعض الدّروس الّتي علّمتني إيّاها. ها أنت ذا، أستاذ من حيدر أباد، إخترت أن تعمل جاهدًا في كشف أرشيف الأوري(4) الأدبي الثريّ للعالم. الآن، هل ستعرض هذه القصّة على السي آن آن؟ كلاّ في المجتمع المعقّد الذي نحيا فيه، لا يمكننا قيس نجاحنا بمعايير غير ملائمة، وأظنّ أنّه علينا إعادة التفكير في معاييرنا بشأن النجاح والفشل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش المترجم:

1- The Location of Culture, London ; New York: Routledge, 1994.
وقد ترجم الكتاب إلى العربية الأستاذ ثائر ديب بعنوان “موقع الثقافة”.
2 - Nation and Narration, New York: Routledge, 1990.

3 - دراسات التابع: subaltern studies هي ميدان بحثي أسّسه باحثون هنود من أجل تقديم تاريخ مختلف عن التاريخ الرسميّ للشعوب، إذ يعتبر روّاد هذا التيّار أنّ تاريخ الهند على وجه الخصوص وتاريخ الأمم المستعمرة بصفة عامّة كتب على يد فئة مُهَيمنة غيّبت وجهة نظر وصوت الفئات المُهَيمن عليها، لذلك من الضروري تقديم رواية مخالفة للتاريخ بأصوات فئات لم يكن لها صوت في فترة الاستعمار، أي رواية التاريخ من الأسفل. تطال دراسات التابع إلى جانب علم التاريخ ميداني الدراسات الثقافيّة والنقد الأدبي وكلّ ما أنتجه “المركز” الأوروبي في رسم صورة تمثيليّة لـ“التخوم” الشرقيّة/المستعمرات. ويعدّ هومي بابا من أبرز روّاد هذا الميدان/التخصص البحثي.
وتجدر الملاحظة هنا، أنّ ترجمة مفهوم الـ“subaltern” إلى العربيّة بـ“التابع” يفتقد إلى الدقّة، لكنّنا خيّرنا استعمال هذا اللفظ نظرًا لانتشاره ولأنّ المقام لا يسمح بسَبك ترجمة جديدة.

4 - الأوري: نسبة إلى لغة الأوريا (Oria) وتنطق أيضا أوديا (Odia)، وهي لغة هندو-أروربيّة تعتمدها ولاية أوديشا (Odisha) في الهند لغة رسميّة، ويتكلّمها اكثر من 33 مليون شخص.

رابط المقال الأصلي بالإنكليزيّة:

http://www.thehindu.com/lr/2005/07/03/index.htm

المصدر: http://www.alawan.org/article14232.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك