النواميس الأفلاطونية وفلسفة الوجود: الحق بين الاعتقاد والقيمة

راوية عبد المنعم عباس

تلعب حياة الفيلسوف دوراً كبيراً في الكشف عن مذهبه ومنهجه؛ إذ لايوجد ثمة فيلسوف وضع بناءً فلسفياً شامخاً إلا وانطلق من مؤثرات العصر الذي عاش فيه والظروف التي مرت به وعاشها وناضل من أجلها وأسهم فيها بنصيب وافر.

أما أفلاطون الفيلسوف اليوناني الذي ولد في أثينا فقد انتمى إلى أسرة عالية عمل عددٌ من أفرادها في الحزب الأرستقراطي كما اشتغلوا بالسياسة(1)، وفضلاً عن ذلك فقد أولى الفيلسوف اهتماماً خاصاً بدراسة الشعر خاصة شعر هوميروس، كما شغف بالعلوم فدرسها خاصة الرياضيات، أما العلوم السياسية فكان لها الحظ الأوفر من اهتماماته، وقد رأى أن المدخل الصحيح لها هو التربية والتعليم(2) اللذان كرس لهما حياته من أجل إعداد جيل صالح سياسياً وخلقياً واجتماعياً.

وسوف نتتبع في عرضنا ـ لفلسفة أفلاطون ونواميسه وتصوره للوجود وقيمة الحق ـ المدخل التمهيدي لفلسفته متجسداً في حياته مما سيكشف النقاب عن أبعادها المختلفة ودوافع كتاباته الفلسفية ومذهبه العقلي ومنهجه الفكري بشكل واضح ومباشر.

تبدأ حياة أفلاطون بمولده في أثينا (427-347 ق.م) منتمياً إلى أسرة كبيرة عمل عدد من أفرادها في الحزب الأرستقراطي، كما اشتغلوا بالسياسة، وتجدر الإشارة إلى أنه قد أمضى معظم سنوات عمره التي تجاوزت الثمانين عاماً في أثينا لم يبرحها إلا لفترات محدودة بلغت حوالي ست سنوات، وكان أفلاطون قد أمضى حوالي ثلاثة أعوام في بلدة ميغارا بعد موت سقراط(3)؛ حيث نزل ضيفاً على إقليدس الميغاري أكبر تلاميذ سقراط سناً، وكان قد أنشأ مدرسة تجّمع حوله فيها أتباع سقراط ممن عرفوا بالسقراطيين، وبعد فترة من الزمن غادر أفلاطون ميغارا وأخذ يجوب ويطوف بالبلاد(4).

انتهى طواف أفلاطون بالبلاد واستقر به الحال في سراقوسة؛ حيث كانت تحت حكم الملك ديونيسيوس الكبير، وعلى الرغم من اهتمامه بالعلم والمعرفة والعلماء فإنه كان طاغياً مستبداً، وقد كانت هناك علاقة طيبة ربطت بين أفلاطون وبين صهر الملك المعروف باسم ديون، ولم تنته هذه العلاقة إلا بعد أن غضب الملك على صهره ونشبت الخلافات بينهما، وقد انعكس هذا الغضب من قبل الملك على أفلاطون فطلب أفلاطون الإذن بالرحيل من سراقوسة بعد أن توجس الملك منه وشك في إخلاصه له، ويحكى أن الملك قد أرسله إلى من باعوه رقيقاً إلا أن أحد معارفه قد افتداه ليبدأ رحلة كفاحه واهتمامه بالسياسة(5) التي كادت تعصف به، وكان أفلاطون قد ورث ولعه بالسياسة عن أسرته ذات الأصل العريق والطبقة الأرستقراطية.

عانى أفلاطون في عصره من استبداد وطغيان الأسرة الحاكمة التي طغت واستبدت بالشعب، وكان الحكم بإعدام سقراط بتجرع السم من أسباب معاناته(6) وإيقاظ إحساسه الثوري والسياسي، فأخذ يفكر في شروط وخصائص الحكومة العادلة وشكل الحكم الديمقراطي العادل، وهكذا أصبح الواقع الاجتماعي والسياسي والعسكري والعلمي هو الدافع وراء صياغة نظريته الفكرية المثالية، وفي سبيل تصور حكومة مثالية عادلة اتجه أفلاطون إلى إصلاح التعليم(7) وتوجيهه تربوياً وذلك بالعناية بتربية الأفراد اجتماعياً وسياسياً، وعسكرياً، وعلمياً؛ لتنشئتهم نشأة صالحة في إطار الحكومة العادلة، وهذا ما دفعه لإنشاء مدرسته لجمع مريديه، ومتابعي فكره ومبادئه(8).

اتجه أفلاطون إلى سراقوسة مرتين متتاليتين بعد إقامته فيها للمرة الأولى، وذلك في أثناء حكم ديونيسيوس الأصغر الذي خلف والده في الحكم، وكان للابن اهتمام ملحوظ بالفكر والسياسة بتطبيق مبادئ العدالة، فكان يستدعي كبار الشعراء والمفكرين إلى بلاطه الملكي(9) ، وكان مهتماً بتطبيق نظريته في الدولة. ورغم هذا التقدم الفكري والممارسة الديمقراطية المثالية في السياسة فإن حاشيته قد أخذت تؤلب الابن على ديون مرة أخرى كما كان يحدث في عصر أبيه الملك السابق(10) ، وتذهب بعض الكتابات إلى أن تأليب الحاشية قد نتج عنه إصدار أمر ملكي بنفي ديون ورفض السماح لأفلاطون بالرحيل، فظل رهينة لمدة تراوح الستة شهور عمل فيها أفلاطون جاهداً على التوسط لعودة ديون من المنفى، ولم تلبَّ دعوته من قبل الملك، وعندما اضطربت الأمور داخل البلاد وعمت الفوضى السياسية اضطر أفلاطون إلى مغادرة سراقوسة بشكل نهائي(11).

تتابعت الأحداث السياسية في بلاد اليونان بعد ذلك؛ إذ دفع الاضطهاد المستمر وسوء المعاملة ديون إلى الثورة على الملك، فتآمر ضده وقلب نظام حكمه، وغزا سراقوسة وطرد الملك، واستولى على عرش البلاد ليصبح ملكاً، واستمر ديون ملكاً وحاكماً على البلاد لمدة تناهز الأربع سنوات إلى أن اغتاله أحد تلاميذ أفلاطون(12).

لم تكن هذه الأحداث لتمر مرور الكرام على عقل ونفس أفلاطون الذي صدم لها نفسياً وروع عقلياً، فكيف يكون القاتل أحد تلاميذه ومريديه؟ وقد مست هذه الأحداث المؤلمة والفاجعة مشاعر أفلاطون فانصرف عن بلاط الملوك وأعرض عن التأثير فيهم أو محاولة التقرب منهم، ورأى أن الحل الأمثل يكمن في التعليم والتربية، فهما في نظره المدرستان الوحيدتان الأكثر أثراً في تحقيق الأحلام والتطلعات التي يصبو إليها. وفي ذلك الحين كان أفلاطون قد افتتح مدرسته عام 370 ق.م فأولاها رعاية خاصة واهتماماً فائقاً، وكانت هذه المدرسة تطل على بستان البطل (أكاديموس)، ومن ثم أطلق عليها اسمه (الأكاديمية) بعد أن تبرع لها بالأرض والأبنية، فكانت تمثل صرحاً للعلم والتربية في هذا العصر يؤمها المريدون والتابعون لأفلاطون الذين كانوا يكونون جمعية من الأصدقاء، ولم يكن عددهم كبيراً، وكانوا يتلقون العلم على يد أفلاطون دون أجر(13) ، ولم يكن يتعلم بأجر إلا الغرباء عن أثينا كما ذكرت بعض الروايات(14).

ظلت الأكاديمية وعلى رأسها أفلاطون تتربع على عرش الفكر اليوناني ردحاً طويلاً من الزمان، وبعد افتتاحها بأربع سنوات انضم إليها أرسطو في سن السابعة عشرة فدرس فيها قرابة العشرين عاماً، حيث كانت الدراسة بها تمتد لنحو عشرين عاماً أو لمدى الحياة، مما دفع أفلاطون إلى التفرغ للتدريس قرابة الأربعين عاماً، ولم يتزوج إلى أن وافته المنية (347ق.م)، فخلفه في إدارة الأكاديمية سيبوسيوس ابن أخيه.

وبعد أن ألقينا الضوء على حياة أفلاطون نعرض لتصوره الوجودي متجسداً في كتاباته ومؤلفاته المتنوعة، وهي كما نعرف صدى لتجربة فكرية حياتية مارسها الفيلسوف، وبرزت في كتاباته المختلفة والمتنوعة. لقد انقسمت مؤلفاته إلى ثلاث مراحل تزامنت مع عمر الفيلسوف؛ فله مؤلفات خاصة بمرحلة الشباب، وأخرى تعبر عن مرحلة عمره الوسطى، ثم مؤلفات خاصة بمرحلة الشيخوخة، ولكل منها سمات وخصائص خاصة بها تختلف عن غيرها من المراحل.

وتبلغ مؤلفات الشباب حوالي ثلاث عشرة محاورة هي ليسيز Lysis 

ولاخيس (Laches ويوثيفرو (Uthyphro) وخارميدس (Charmides) بالإضافة إلى محاورته عن هيبياس الأكبر، وهيبياس الأصغر Hippias Minor، Hippias Major) بالإضافة إلى محاورته الشهيرة أيون (Ion) وبروتاغوراس (Protagores) وكذلك بوثيديموس 

(Euthy demes) ومجموعة أخرى شهيرة تحمل اسماء جورجياس (Gorgias) ومينو Meno) وألقيبيادس (Alcibiades) فضلاً عن ثراسيماخوس thrasy machus (الجزء الأول من الجمهورية)(15).

ويمكن قراءة أسلوب هذه المحاورات الأفلاطونية بشكل نقدي كي يتضح لنا فيه أسلوب الحوار والجدل الذي استخدمه أفلاطون في حواراته، وذلك بغرض جلاء معاني العبارات واختبار اتساقها مع نفسها وغيرها بهدف بلوغ الحقيقة، ولذا أطلق عليه أفلاطون اسم الحوار الجدلي، وهو يختلف عن طريقة الجدال Eristic التي كان يستخدمها السوفسطائيون(16).

ولا شك أن محاورات أفلاطون كان يغلب عليها هذا الطابع الجدلي الاستفهامي؛ إذ كان سقراط -وهو أحد شخصيات المحاورة- يستدرج أحد السوفسطائيين، وينتقل من أقواله إلى أقوال تلزم عنها وتتناقض معها؛ بحيث لايملك المتحدث إلا التسليم بالنتيجة النهائية ويقر بجهله، ويقال: إن بروتاغوراس هو أول من اصطنع هذا الحوار في أثينا وعلم مناهجه لشبابها، إلا أن السوفسطائيين أساؤوا استخدامه حينما وظفوه في فن النقاش والمعارضة بغرض الانتصار على الخصم وإظهار البراعة والبلاغة. 

ولاشك أن اهتمام أفلاطون بالكشف عن الحقائق واستجلائها قد دفعه للحوار الجدلي، فكان يناقش الفروض ونقائضها، وينتهي إلى التعقل المحض مروراً بالإحساس، فالظن، فالعلم الاستدلالي، وقد جعله اهتمامه بدقة المعرفة يتدرج بها من المركب إلى البسيط، ومن العرضي إلى الجوهري سعياً وراء تعيين المعنى وتحديد التعريف والوجود، وقد اقتضى ذلك أن يطبق طلاب الأكاديمية منهج الجدل مرة ثانية، ومن أهم المحاورات التي عبرت عن تلك المرحلة هي محاورة السوفسطائي (Sophist) والسياسيPoliticus وبارمينيدسParmenides كما أن نظرية المثل Theory of Forms(17) التي تبناها أفلاطون كانت من بين العلامات الفكرية البارزة في هذه المرحلة الفكرية من حياة الفيلسوف، وقد مرت هذه النظرية بمراحل متتابعة فقد أشار إليها أفلاطون بإيجاز في محاورة المأدبة، ثم علق عليها وناقشها تفصيلاً من خلال محاورة فيدون(18) ، ثم حاول توظيفها والاعتماد عليها في محاورة الجمهورية، في حين أنه قد عرضها ودافع عنها في محاورة تيماوس، وهذه النظرية تتربع على عرش نظرية المعرفة عند الفيلسوف(19). 

التي سوف نعرض لها في السطور التالية لنكشف عن رأي أفلاطون فيها وموقفه منها، وقد قسم أفلاطون المعرفة إلى أربعة مصادر، هي الأحساس ووسيلته المعرفة الحسية التي هي نسبية وجزئية ومتغيرة، والحكم وهو ظني أو تخميني كما أن المعرفة المترتبة عليها تتأرجح بين الصدق والكذب، ثم الاستدلال وهو علم طريقه الصور المحسوسة التي لا تمثل موضوعاً واقعياً له بل كوسيلة لبلوغ المعاني الكلية المقابلة التي يتخذها موضوعاً له، كما أن له أربعة مجالات هي الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، ويأتي التعقل في نهاية هذه المصادر، ويقصد به أفلاطون إدراك الماهيات الخالصة(20). وقد عالجت محاورات أفلاطون المعاني الكلية كالعدالة والفضيلة، أما هذه المعاني الكلية عند أفلاطون فكانت هي المعاني الثابتة الدائمة التي لاتتغير(21) ، وبالتالي لا تتعلق بظواهر متغيرة مؤقتة. ولاشك فإن العدل والحق والفضيلة وغيرها من معانٍ هي واحدة لاتتغير، فمن بين الكثرة والتنوع في الأفعال والمواقف والشخصيات لا يوجد إلا ثمة عدل واحد أو حق واحد أو فضيلة واحدة تجمع بين كل آحاد الناس(22) ، حتى إن قولنا: شخص حكيم كسقراط مثلاً الحكيم الذي توفي 399ق.م فكلمة حكيم هنا تمثل شخصاً متعيناً هو سقراط؛ بيد أن كلمة حكيم تمثل صفة قد يمتلكها شخص أو لا يمتلكها، والحكمة أو ما تمثله لفظة حكيم هي شيء أبدي لا يتقيد بزمان شارك في صنع سقراط، وكان الأخير نموذجاً مؤقتاً له(23) ، وهكذا تكون هذه الصفة موجودة في كل من يتصف بالحكمة من الأشخاص بصفة عامة غير أنه منفصل عن هؤلاء الأشخاص جميعاً، فهو غير متعلق بمادة كما أنه مفارق لجميع الأجسام؛ وذلك لأنه ماهية أو صورة أو بمعنى أكثر دقة (مثال الحكمة)، فضلاً عن أنه واجب الوجود؛ أي يجب أن يوجد، وإلا عجزنا عن وصف أي شخص بالحكمة، وذلك لعدم وجوده المادي في هذا العالم؛ إذ أن ما يوجد في عالم المحسوسات هو محسوس كذلك والمثال غير محسوس، كما أنه في عالم غير مرئي؛ لكنه عالم مفهوم لايدركه إلا العقل(24) ، وهكذا يتدرج أفلاطون في وصف المثال وفي بيان أهميته على النحو التالي: 

1ـ أن المثال هو الشيء الواحد في ذاته والكامل والخالد.

2ـ أن المثال هو العلم الثابت وبالتالي فهو العلم بالفلسفة. 

3ـ أن علم الفلاسفة بالمثال -وخاصة مثال الخير بالذات- يمكنهم من حكم العالم وتوجيهه نحو الخير.

ثم ينطلق أفلاطون من مقولة الخير بالذات الذي هو الإله إلى تصور مدينته الفاضلة أو حكومته الفاضلة، ولا شك فقد أسهب أفلاطون في محاورتيه: الجمهورية والقوانين في عرض نموذج جمهوريته الفاضلة أو مدينته الفاضلة على نحو مثالي وفريد(25) ، فحكومة أفلاطون تقوم بفرز الأفراد داخل الجمهورية تبعاً لمستوى ذكائهم، ويكلفون بالأعمال في ضوء قدراتهم، أما طبقة الفلاسفة -وهم الذين يحكمون- فلا يراجعهم أحد في شؤونهم، باعتبارهم مطلعون على عالم المثل، والمعرفة متناقلة فيما بينهم، أما طبقة العامة فمعرفتهم حسية، وأما دونهم من الطبقات فيعتمدون على المعرفة الظنية(26) ، وهذه الطبقات الثلاث هي الجند والشعب والحكام، وهم يتلقون جميعاً تربية واحدة نموذجية حتى سن الثامنة عشرة.

ويميز من بينهم أصحاب الأجسام القوية والاستعداد العسكري، فيربونهم على مزاولة التمرينات العسكرية والرياضة البدنية حتى إذا بلغوا سن العشرين ميز الأكثر ذكاءً بينهم لدراسة الحساب والهندسة والفلك والموسيقى(27) ، أما مهمة الحراس من الذكور والإناث فتتمثل في الإدارة والدفاع. ويعيش الحرس معاً من الجنسين في حياة تقشفية، فلا يحتاجون لذهب أو فضة(28)، ويحظر عليهم التملك فلا يكونون أسراً، فيصبح الزواج على المشاع والأطفال ملك الدولة، وإذا ما بلغ الحراس سن الثلاثين اختير من بينهم محبي الحق والشرف وضعاف الشهوة ليدرسوا الفلسفة ويتمرسوا بالإدارة، وفي سن الثلاثين يرقى أفضلهم إلى مرتبة الحراس الكاملين، وهم الفلاسفة الذين يتفوقون في النظر العقلي، ويمتلكون القدرة على صياغة القوانين العادلة صياغة علمية ومنطقية، ويتناوبون الحكم فيما بينهم. أما الإنتاج فيختص به الزراع والتجار والصناع ولهم حق التملك ولهم أسر إلا أن ملكيتهم محدودة، كما تفرض الضرائب على أعمالهم في سبيل تقليل الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء(29). هكذا يتصور أفلاطون مدينته الفاضلة في محاورة الجمهورية، ثم ينقحها ويعدلها في محاورة القوانين، نلمح في تصوراته لجمهوريته مراعاته للبعد الإنساني بإمكانياته وقدراته، كما أنه قد ساعد بهذه التصورات الاجتماعية والسياسية الملك ديونيسيوس الأصغر الذي احتضنه في بلاطه وهو يشكل دولته الجديدة في سراقوسة(30).

ولاشك أن أفلاطون قد استفاد من تصوراته للنفس الإنسانية، وذلك عندما قسم طبقات المدينه إلى ثلاث في تشابه مع قوى النفس الناطقة والغضبية والشهوانية، إلا أن هذه الطبقات الثلاث (الحكام الفلاسفة ـ الحرس ـ الحرفيون) تبدو في وحدة تشبه وحدة النفس(31).

والنفس عند أفلاطون بسيطة وثابتة وموجودة من قبل الميلاد كما تبقى بعد الموت، وهي ذات صفة روحية فلا يتحقق خلاصها من المادة إلا في عالم روحي وللفضائل علاقة بالنفس، وهي تتكون من ثلاث تقابل قوى النفس، فالحكمة هي فضيلة العقل، والشجاعة فضيلة الغضب، والعفة هي فضيلة الشهوة، وهذه الفضائل مجتمعة تسهم في تحقيق التوازن النفسي(32).

ويرى أفلاطون أن التوازن النفسي الذي يتمتع به الشخص يصبغ تصرفاته ومعاملاته بالعدالة؛ لأن توازن قواه النفسية يحقق معنى العدالة؛ ذلك أن العدالة لا تعني فضيلة في حد ذاتها بقدر ما تعني حالة من التوازن الناتج عن اجتماع فضائل النفس الثلاث، وهي الحكمة والشجاعة والعفة في الفرد(33).

أما الإنسان الصالح (النافع) فهو هذا الإنسان العادل بالمعنى السابق ذكره والذي يتبين صلاحه ونفعه وعدله في علاقاته بالآخرين أثناء تعامله معهم، ومن ثم تتحقق السعادة الإنسانية بتطبيق العدالة، هذه هي منظومة القيم النفسية والفضائل الإنسانية التي أشار إليها أفلاطون، وهذه هي النفس وقواها، وهذه هي السعادة في العدالة التي يتصورها أفلاطون، والتي أشار إليها في محاوراته الخاصة الجمهورية والقوانين، وهذا هو ما ترتب على الاهتمام بالنفس وأغوارها، وما ترتب عليها من معرفة وسلوك في الفكر اليوناني وما بعده(34).

وهكذا يبدو أفلاطون روحياً مثالياً في منهجه توفيقياً كذلك ومنسقاً، نظر إلى الاختلاف بين العلوم والمذاهب باعتباره ناشئاً عن كونها حقائق جزئية(35). 

ولا ينبغي أن يتخذ من هذا التباين تبريراً للشك في المعرفة أو هدمها؛ فالحقيقة الكاملة إنما تكمن في الجمع بين المذاهب والآداب المختلفة.

وقد اتجه أفلاطون اتجاهاً مثالياً في فلسفته للوجود، فدفعه ذلك إلى إنكار مذهب الحسية في المعرفة والآلية في الطبيعة، وقد أفرد لتنفيذ هذه المذاهب صفحاتٍ كاملة في محاورته الجمهورية، ولا شك أن أفلاطون قد حارب - في نظرته المثالية للعالم - التعاليم المادية، فقد استخدم التراث الفكري لسقراط والفيثاغوريين وبارمينيدس وهيرقليطس(36)، وحتى يتمكن من تصوره للوجود أنشأ نظرية عن وجود الصور الخالدة للأشياء التي سماها بالمثل (الأفكار) التي سبق الإشارة إليها، فوحد بينها وبين الوجود، كما وضع العدم ملازماً للمادة والمكان في مقابل هذه المثل(37)، وإذا عرضنا لمنهج أفلاطون في المعرفة -وهو المنهج الجدلي- لوجدنا أنه قد تصوره منهجاً مزدوجاً، فهو ينقسم إلى نوعين أحداهما: الجدل الصاعد الذي يصعد من المفاهيم العامة إلى أرقاها، والآخر: هو الجدل الهابط الذي يهبط مرة أخرى من أكثر التصورات عمومية إلى أقلها تعميماً، والهبوط في هذه العملية يعني هبوطاً مصحوباً بالمثل (الأفكار) وليس الأشياء الجزئية المحسوسة.

بعد أن عرضنا لنسق أفلاطون الفلسفي ولمذهبه الشامخ إجمالاً متضمناً لحياته ومؤلفاته ومؤثرات فكره تأخذنا معطيات البحث إلى التعليق والتقييم والنقد الذي يستتبع ويترتب على كل الأبحاث الفكرية التي تعالج مشكلات المعرفة والوجود الإنساني، فنرى أن الفيلسوف قد عبر عن المثالية الموضوعية بشكل جديد كما كان ممثلاً للأرستقراطية المثالية، وقد لعبت تعاليمه دوراً مهما في التطور اللاحق للفلسفة المثالية بصفة عامة، وقد اتضح لنا من قراءة أفلاطون أن المطلق هو التصور الأساس في مذهبه، فالعقل البشري عندما يعلو يدرك الحقائق المجردة، فالله صانع (مهندس) تتعلق أحكامه بهندسة النسب العددية المجردة وإدراكها عقلياً بوضوح الذهن وصفاء القريحة، وهو يشير بذلك إلى وجود مبادئ أو مُثُل أو جواهر(38).

وإن كان (الله) في قمة هذه المثل وأسماها فهو جوهر الخير بالذات، وهو الحق والعدل ومنبع الفضيلة(39)، والجوهر (الله) عند أفلاطون دائم في الحاضر بل في حاضر مستمر لا ماضي له، ولا مستقبل ينتظره، وتجدر الإشارة إلى أن قول أفلاطون بمبدأ الخير قد ورد في العقيدة المسيحية، فالصانع الكلي الذي تصوره أفلاطون هو مبدأ (الخير) وهو ما أشارت إليه المسيحية(40).

ولقد اعتمدت الأخلاق الأفلاطونية بشكل عميق على استقلال النفس عن البدن، وهذا ما جعلها تتجه إلى الدين وتعتمد عليه، وتجعله الغاية من التربية الأخلاقية(41).

هكذا يتجه المذهب الأفلاطوني إلى الألوهية التي تعد منبعاً للحق والصدق؛ بل لجميع القيم الإنسانية، وكأن الفطرة الإنسانية كانت تتجه منذ فجر التاريخ نحو الربوبية والإيمان بالله الذي نادت بالإيمان به -سبحانه وتعالى- الديانات السماوية المنزلة، فهذا هو أفلاطون يقول: إن الألوهية هي مصدر الحق والخير والعدل.

وتأتي النصوص الدينية لآيات الذكر الحكيم لتؤكد على الحق ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(42).

وكأن مذهب أفلاطون يعود بفطرة الإنسان الأول إلى الواحد الذي هو منبع الحق والعدل وجميع القيم، وكأن العودة لهذا الواحد والحياة في المثل العليا هي بوابة الدخول للأخلاق والتربية والفضيلة، وكأن فكرة وجود الله وجوهريته وكماله ولانهائيته هي فكرة متطورة في قلب الطبائع البشرية وفي فطرة الإنسان المفكر حتى قبل نزول الوحي وظهور الأنبياء والرسل بنزول الديانات السماوية.

لقد صور أفلاطون الله بأنه جوهر عاقل منظم عادل وخير كامل وبسيط وثابت وصادق، كما أن الإنسان في تصوره جوهر عاقل يحيا بنفس ناطقة، والإنسان عند أفلاطون مكون من نفس وجسد، تسمو الأولى على الثانية وتسبقه، وهي جوهر خالد لاتفنى بفناء الجسد، كما أنها بسيطة وواحدة معقولة وخالدة. يقول أفلاطون عن الرجل الحكيم: "إنه يزهد متاع الدنيا ولا يخشى الموت؛ لأنه يمارس العفة ويفعل الفضيلة"(43)، 

وهكذا اتسم مذهب أفلاطون المثالي بنزعة روحية، فلا شك أنه كان أقرب الفلاسفة اليونان نزوعاً إلى العقيدة، فقد تبع أفلاطون فيثاغورس في عقائده الروحية ومزج فلسفته بالرياضة والدين، وقد كشفت تصورات أفلاطون المبكرة على ظهور الأديان السماوية عن بعد ديني كبير. وقد تجلت النزعة الروحية عند الفيلسوف في تقسيمه للوجود إلى طبقتين أحداهما تتعلق بالعقل، وهي قادرة مطلقة، والأخرى هي المادة (الهيولى)، وهي تمثل العجز والقصور، وكلما دنت الأشياء من المادة كلما نأت عن العقل أو الروح. كما أن العقل المطلق عند أفلاطون هو الكمال النهائي الذي لايحده حد في الزمان ولا المكان، كما لا يصدر عنه غير الخير والفضيلة(44). ومن بين مظاهر النزعة الروحية عند أفلاطون أنه اعتبر المظاهر المادية مصدر خداع وبطلان، فالعالم المادي زائف متغير، وهو شبح لعالم المثل: عالم البقاء والدوام، أما العقل المجرد ووجود الله أو مثال الخير بالذات فهو وجود دائم لا يتعرض للتغير أو التحول، ولو تأملنا مذهب أفلاطون لوجدناه يدعو في جمهوريته إلى تعليم الأطفال مقدار خيرية الله، كما يشير في محاورة القوانين كذلك إلى ذات الفكرة.

وتظل فكرة الحق فكرة تمثل قيمة ثابتة لا تراوح مكانتها داخل عالم المثل الأفلاطوني، وأينما وجدت في عالم المحسوسات أو عالم الأشباح تظل قيمة ثابتة مطلقة لاتتغير بتغير الزمان أو المكان، لقد عرف المسلمون أفلاطون ولقبوه بالإلهي، وظهر تأثيره واضحاً على مذاهب الرازي والمعتزلة والفقهاء الظاهرية ولدى المفكرين السلفيين من الحنابلة، فضلاً عن تأثيره على ابن تيمية وابن القيم والفرق الصوفيَّة، كما أن كتابي الزهرة لابن داوود و طوق اليمامة لابن حزم قد طالهما أثر نظريته في الحب. أما موضوع الفضيلة فيلتقي فيه أفلاطون مع الفارابي وهي تتعلق بالنفس، وتُعد اكتشافاً للعالم الآخر؛ لعالم الروح أو السعادة التي تتمثل في تخطي المحسوسات، وإدراك قواها الذاتية الكامنة في العالم العقلي(45).

وفي الخاتمة يتضح لنا مدى البعد الروحي والأخلاقي والقيمي لفلسفة أفلاطون التي دارت بين رحى ثلاثيته المشهورة المترابطة، وهي الحياة العقلية والأخلاقية والسياسية، فالحياة الأخلاقية تنعدم خارج الفعل الخلقي، ولا قيمة لها خارجه، فممارسة القيم هي ممارسة لذاتها، فالحق لذاته والعدل لذاته وغير ذلك من قيم لا لشيء آخر، كما أن فكرة الألوهية قد أخذت بعداً عميقاً ومهما في فلسفته، فمحاورة القوانين تبدأ بالتساؤل عن مشرع القوانين الذي هو الله في رأي أفلاطون الذي يصبح القانون لديه إلهياً خالداً أزلياً ثابتاً كما يصبح الإنسان إلهيا كذلك بما أودعه الله فيه من عقل وملكات، كما أن العدد هبة من السماء، كما ورد في محاورة القوانين. وفي النهاية يصبح الله هو النموذج الذي يتشبه به الإنسان ويحاكيه سواء كان في سلوكه الفردي أو الاجتماعي، فالفيلسوف لا يفصل بين الأخلاق والسياسة، وهذا ما عبرت عنه محاورتا القوانين والجمهورية التي اشتملت على مجموعة من القيم الأخلاقية والسياسية والتربوية والفلسفية والاجتماعية والتاريخية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) Lachiege, Rez: Pierre:Les idée Morales, Socialeset Politiques dePlaton, Paris1938 P11.

2) Robin L.Platon, Alcan Paris 1938 P 27.

3) Gomperz.th: Greek thinkers, Vol 1v P63 London 1952.

4) Ibid.

5) Gomperz.th, Greek thinkers, P34.

6) Ibid.

7) Wahl.Jean: The Philosophers Way , Oxford unpress N.Y 1948, P 96.

8) Platos Parmenides constance Metnwald, P 69.

9) Ibid.

10) Brehier(Emile) Histoire de Laphilosophie Librairie Felix Alcan, Paris 1932 P 46.

11) Plato and his predecessors , the Dramatisation of Rreason by Mary Margaret, M.cc AB.E P 47.

12) Ibid.

13) Plato Complete Works, Edited with introduction and notes by John M.Cooper associate Editor D.S Hutchinson, Indiana Polis, Cambridge P113.

14) Platon: Le Banquet oeuvres De Platon Par E chambray, Paris 1919 P 95.

15) Gomperz (th) Greek thinkers, P84.

16) I bid.

17) Lacheze_ Rez Pierre: lesidees morales et politiques deplaton , paris 1938 p111.

18) Robin.l: platon> Alcan,paris 1938 p27.

19) Ibid.

20) عبد المنعم الحفني, الموسوعة الفلسفية , دار بن زيدون للطباعةوالنشر والتوزيع , بيروت ص54.

21) Brehier Emile: Histoire de la philosophie , paris felix alcan 1929 chlv p 168.

22) Ibid.

23) Brehier Emile: Histoire de la philosophie , Paris Felix ,alcan 1929 ch lv p168.

24) Plato selected Dialogues,the Translation of Benjamin Jowett, the Franklin, library, Franklin center Pennsylvania p113.

25) Burnet.John: EarlyGreek philosophy 4th Edition, London 1943 P71.

26) The Dialogues of plato , volume II The symposium, Translated With Comment By R. E Allen P207.

27) Gomperz. Th: Greek thinkers, oxford 1943. P113.

28) Guthrie. G: AHistory of greek philosophy, Cambridge 1962 P24.

29) Guthrie. G: A Historyof Greek philosophy, Cambridge 1962 P24.

30) Robin. L: platon Alcan, paris 1938 P 19.

31) Zeller: out lines of the history of greek philosophy. London 1948.

32) محمود رجب (صورة الذات في الفلسفة [البداية] المجلة العربية للعلوم الإنسانية , الكويت , العدد 54 السنة 14 1996 ص194.

33) Platos Academy o.r the Birth of the idea of its rediscovery PAN.ARistophron , oxford university press ,London , Humphrey milford P 93.

34) Plato And the Socratic Dialogue, the philosophical use of aliderary form by charles H.K.AHN, Cambridge university press P79.

35) Ibid P99.

36) راوية عبد المنعم عباس: دراسات في الفلسفة العامة (رؤية نقدية لقضايا الفكر الفلسفي) دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1998، ص96.

37) المرجع نفسه، ص97.

38) Nicholas P White: Plato on Knowledge and Reality.U.S.A, Library of Congress 1976 P99.

39) Wahl.Jean: the philosophers Way ,Oxford un.press N.Y 1948 P 35.

40) Zeller: outlines of the History of greek philosophy , London, 1943. P138.

41) Platon: le Banquet , Overs De Platon Par ,chambry, Paris, 1919 P 339.

42) القرآن الكريم، سورة الكهف، آية 29.

43) Jeager Werner: The Ideals of greek Cuture by Gilbert Hight v.11 oxford 1944 P81.

44) I bid.

45) راجع الفارابي: نصوص الحِكِم ص13وكذلك انظر إلى آراء أهل المدينة الفاضلة فصل 26, ورسالة في معاني العقل للفارابي ص4-5, وانظر كذلك إلى الفارابي في مؤلفه تحصيل السعادة ص8 وما بعدها وراجع عبده الحلو في الفارابي, بيت الحكمة بيروت 1977 ص30-31 وما بعدهما.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/8/161

الأكثر مشاركة في الفيس بوك