الحقُّ في الخطاب القرآني والمنظومات الكلامية الإسلامية

رضوان السيد

يقول الدامغاني (-478هـ) في كتابه (الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز): إنّ تفسير "الحق" في القرآن يقع على اثني عشر وجهاً(1)؛ فوجْهٌ منها الحقُّ يعني الله نفسَه، قوله تعالى في سورة المؤمنون(71): ﴿ولو اتّبع الحقُّ أهواءَهم﴾، يقول: ولو اتّبع الله أهواءَ المشركين... والوجْهُ الثاني: الحقُّ: القرآن، قولُهُ تعالى في سورة الزخرف(ص29): ﴿حتّى جاءهُمُ الحقُّ ورسولٌ مُبين﴾؛ يعني القرآن. والوجهُ الثالث: الحقُّ يعني الإسلام، قولُهُ تعالى في سورة بني إسرائيل(81): ﴿وقل جاء الحقّ﴾، يعني الإسلام، ﴿وزهق الباطل﴾ يعني الشِرْك. والوجهُ الرابع: الحقُّ يعني العدل، قولُهُ تعالى في سورة النور (25): ﴿يومئذٍ يوفّيهم الله ديَنهُمُ الحقّ﴾، يقول: حسابهم الحقّ، يعني العدل. والوجهُ الخامس: الحقّ يعني التوحيد، قولُهُ تعالى في سورة الصافات(37): ﴿بل جاء بالحق وصدَّق المرسَلين﴾ يعني بالتوحيد. والوجه السادس: الحقّ يعني الصدق، قوله تعالى في سورة يونس (53): ﴿ويستنبئونك أحقٌّ هو﴾ يعني أصِدْقٌ هو. والوجه السابع: الحقُّ يعني: وجب عليهم القول، قولُهُ تعالى في سورة الأحقاف(18): ﴿أولئك الذين حَقَّ عليهم القول﴾، أي وجب عليهم القول. والوجه الثامن: الحقُّ بعنيه الذي ليس بباطل، قوله تعالى في سورة الحج(6): ﴿ذلك بأنّ الله هو الحقُّ﴾ وغيرُهُ من الآلهة باطل. والوجهُ التاسع: الحقُّ يعني المال، قولُهُ تعالى في سورة البقرة (282): ﴿وليُمْلِل الذي عليه الحقُّ﴾ يعني المال. والوجهُ العاشر: يعني الأَولى، فذلك قولُهُ تعالى في سورة البقرة(247): ﴿ونحن أحقُّ بالمُلْك منه﴾، يعني أَولى بالأمر منه. والوجهُ الحادي عشر: الحقُّ يعني الحظّ، قولُهُ تعالى في سورة سألَ سائلٌ(24): ﴿والذين في أموالهم حقٌّ معلوم﴾، يعني حظّ ونَصيب. والوجهُ الثاني عشر: الحقُّ يعني الحاجة. قولُهُ تعالى في سورة هود(79) إخباراً عن قوم لوط: ﴿قالوا لقد علمْتَ ما لنا في بناتِك من حقّ﴾ يعني من حاجة.

لقد تعاصَرَ ظهورُ اختصاص "الوجوه والنظائر" مع اتجاه النُخَب الإسلامية في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري لاجتراح أساليب ومناهج لمقاربة الخطاب القرآني وفهمه. ويمكن تركيز الاهتمامات الرئيسة لهذه الجهة في ثلاث(2): المقاربات اللغوية واللسانيـة، والمقاربات الفقهية، والمقاربات الكلاميـة. وتوجُّهُ اختصاص الوجوه أو الأشباه والنظائر ينتمي إلى الفصيلة اللغـوية واللسانيـة، مثل مجاز القـرآن لأبي عُبيـدة معمر بن المثنـى(-209هـ)، ومعانـي القرآني للفـراء (-206هـ)(3). في حين تنتمـي مؤلَّفات الخمسمائة آيـة والتي تُعنى بالآيـات التشريعيـة في القرآن إلـى المقاربـة الفقهيـة. وقد جمع الشافعـي (-204هـ) في الرسالة بين الأمرين: اللغوي والفقهي. وذهب المتكلمون للعناية بالوجوه العَقَدية؛ ومن ذلك التأليف في الإيمان، وفي التوحيد، وفي القَدَر.

إنّ الذي يُهمُّنا هنا أنّ المقصودَ باختلاف معاني الألفاظ القرآنية المفردة في المَوَاطن والسياقات المتعدّدة هو أنّ لكل مفردةٍ قرآنيةٍ في نظر اللغويين آنذاك معنىً رئيساً ومعاني فرعيةً أو ثواني. وهذا يعني أنّ مفرد الحقّ ينطوي على معنىً رئيس هو الثباتُ والإطلاق. ولذلك فقد ذكر اللغويون والمفسِّرون الحقَّ باعتباره اسماً من أسماء الله -سبحانه وتعالى-. فهو -عزَّ وجلَّ- حقٌّ متحقّق بإطلاق. أمّا الوجوه والمعاني الأُخرى الواردة في السياقات المختلفة للمفرد ذاتِه فإنها تتضمن معنى الثبات والتحقُّق؛ لكنها لا تتضمن معنى الإطلاق الذي ينفردُ به المولى -عزَّ وجلَّ-. ومع ذلك فلأنها تَمتُّ بنَسَبٍ إلى المطلَق فإنها تكتسب قوةً فائقةً بنتيجة ذلك. ومن أجل ذلك أو تأسيساً عليه لا أرى أنّ اختصاص الوجوه والنظائر يدخل في باب غريب القرآن، كما ذكر بعضُ العلماء(3)؛ وذلك لأنهم يقصدون بالغرابة دخول الاحتمال عليها، وبالتالي عدم التجدد أو الافتقار إلى الدقة، بسبب عدم المعرفة بأصل الاستعمال(4). فالمعنى الرئيس واضحٌ جليٌّ، واستناداً إليه تتدرج الدلالات الفرعية مجلّيةً عن وجوهٍ ووجوهٍ للمصطلح الأساسي. 

ولو تأمَّلنا مفرد الحقّ لهذه الجهة -أي جهة الثبات والتحقُّق يقيناً بالبرهان أو بشهادة العيان- لتبيَّن لنا أنّ مفرد الحقّ الوارد في القرآن زُهاء الثلاثمائة مرة بالصيغ الاسمية والفعلية إنما يشكّل مفتاحاً لفهم جوهر وحقائق الدعوة القرآنية ومسارها: 

- فالله -سبحانه وتعالى- هو الحقُّ وجوداً ووحدانية؛ فمن حيث الوجود هناك الردُّ على الملحدين والمنكرين للوجود الإلهي، من الذين يقولون: إنّ الدهر هو المُوجِد، ومن الذين يقولون بعبثية الحاصل في الكون. ومن حيث الوحدانية هناك الردُّ على أهل الشِرك، والذين يُلحدون في أسمائه، والذين تجاهلوا التفرد بالخَلْق والقدرة من بعد ما جاءهم "الحق" وعرفوه؛ فمضوا يبحثون عن وسائل ووسائط لإشراك غيره معه سبحانه استهوالاً أو تخفُّفاً أو عجزاً.

- والقرآنُ هو الحقُّ؛ لأنه كتابُ الله المُوحى، وكلامُ الله الخاتَم لبني البشر، والهادي لأقوم السُبُل، والمصدّق لما بين يديه والمهيمنُ عليه.

- والإسلامُ هو دينُ الله الحقُ، إنه الحقُّ بعينه لأنه دينُ الله الموحى، والقائم على الوحدانية والتوحيد. وهو إنما أتى بأمرٍ من الله ليُحقَّ هذا الحقَّ، ويضع البشرية على النهج المستقيم.

- أمّا الصدقُ والعدلُ والمعاني الثواني أو الفرعية الأُخرى، فإنها سِماتٌ وصفاتٌ لعدة أمور تدخل كُلُّها في حقّ الأُلوهية، وحقّ وحقيقة القرآن والإسلام: اليوم الآخِر، والثواب والعقاب، والعزة في الدنيا، والرحمة لبني البشر، والانتصار لقيم وممارسات الحقّ البيِّن.

- ويَرِدُ مفردُ الحقّ في القرآن الكريم في سياقات التمايز والتمييز بين السلوك السليم في مسائل العقيدة، والمسالك المنحرفة في الاعتقاد والسلوك. وفي هذا المعرِض أو المعارض يخوضُ القرآن جدالاً متعدد المداخل، وبصيغ مختلفةٍ بينها السؤال الاستدراجي، والسؤال الاستنكاري، والتساؤل العقلاني، وأسلوب الحكيم كما يقول البلاغيون، ليؤولَ الأمر في كلّ مرةٍ إلى تقصُّد الإبلاغ الذي يفتح آفاقاً شاسعةً للالتقاء على دعوة الحقّ بالكلمة النيِّرة والهادية: ﴿ويريد الله أن يُحقَّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر الكافرين﴾(الأنفال: 6).

II

تهتمُّ البحوث الكلامية بتصحيح الاعتقاد. وموضوع الاعتقاد هو موضوع الحق والباطل: إنه إثبات الحقّ أو الإقناع به بالأدلة العقلية. وهو يتضمن المجادلة إنما من موقفٍ ثابتٍ يتنازل أسلوبياً وتكتيكياً؛ لكنه في الأعمّ الأغلب لا يغيِّر قناعاته؛ لأنه واثقٌ من وقوفه على أرض الحقّ، وغيره -ممن لا يعتقد آراءه وإن لم يكن خصماً له- واقفٌ في قليلٍ أو كثيرٍ على أرض الباطل. ويمكن القول: إنه بين "العلوم الدينية" كان هو الثاني ظهوراً في الممارسة والتأليف بعد علم الفقه. ويرجع ظهوره إلى عوامل خارجية وأُخرى داخلية. وتبدو العوامل الخارجية في ردود أفعال الديانات والأُمم الكتابية وغير الكتابية على ظهور الإسلام وفتوحاته وانتشاره. فبنتيجة ذلك هوجم الإسلام وهوجم حاملوه من العرب بادّعاء زيف الدين الجديد وزيف كتابه ونبيّه، وعندما بلغوا إيران وما وراء النهر واجهوا دياناتٍ أُخرى بينها الزرادشتية والمانوية والبوذية ولاحقاً الهندوسية، وقد كانوا يعرفون الدينين اليهودي والمسيحي من القرآن ومن المعايشة؛ لكنّ الديانات الآسيوية (التي لا تعلو فيها فكرة الأُلوهية) واجهتهم بتحدياتٍ ما عهِدوها من قبل، وواجهوا خطر تفشّي المانوية (=الزندقة في المصطلح الإسلامي المأخوذ عن الفارسية) بين شبانهم ومثقفيهم.

أمّا العوامل الداخلية والتي أفضت إلى الاندفاع باتجاه موضوعاتٍ كلامية أو يدخل فيها الجدال العَقَدي فأهمُّها ثلاثة أمور: الأحداث العاصفة في عمليات الصراع على السلطة أيام عثمان وعلي، والتي سقط فيها آلافٌ من القتلى بعضهم من أصحاب النبي وفي معسكرات مختلفة. واستخدام السلطات لبعض الأفكار الدينية من أجل الشرْعنة والدفاع عن المواقع في وجه الخصوم، وظواهر القرآن فيما يتعلق بمسألتي الإيمان والقَدَر، وما أُضيف إليهما فيما بعد في مسألة تنزيه الله، وعدله ورحمته.

وهكذا فإنّ "الحقّ" القرآني والنبويَّ والإسلاميَّ واجه تحدياتٍ بعضها خارجي، وبعضُها داخلي. ومن الصحيح القول: إنّ المسلمين جميعاً شعروا بهذه التحديات؛ لكنّ الفئات الأكثر اهتماماً وانشغالاً ومتابعة عُرفت بالمتكلمين. وقد اختلف الدارسون في أسباب التسمية هذه؛ فمنهم من ذهب إلى أنّ سبب إطلاق التسمية هو الانشغال بكلمة الله -عزَّ وجلَّ- أو كلام الله. ومنهم من ذهب إلى أنّ الكلام هناك معناه الجدال والمناقشة والردود المتبادلة(5). والواقع أنّ أولَ الاستعمالات في هذا المجال أو من أقدَمِها العبارة الاتهامية أو الثنائية التي تردُ في سياقاتٍ مختلفة: كان أولَ من تكلم في القَدَر أو في الإرجاء أو في خَلْق القرآن. وهذه مشكلاتٌ داخليةٌ تتعلق بالإيمان كما تتعلق بالتنزيه، وإن ذهب بعض مؤرّخي الكلام إلى أنها أُثيرت من الخارج أو في الجدالات مع المسيحيين التي استقلّ بها نوعٌ أدبيٌّ عُرف باسم: الردّ على النصارى. ويذكر المترجمون لواصل بن عطاء (-131هـ) الذي يُنسَبُ إليه تأسيس فرقة الاعتزال -والتي سمّت نفسها "أهل العدل والتوحيد"- أنه كتب في الردّ على مجادلات أهل الكتاب والمتنبئين وأهل البدَع، وأنه أرسل تلامذةً إلى الآفاق للدعوة إلى "اتباع الحقّ" في الدين بحسب وجهة نظر المعتزلة. إنما مرةً أُخرى إذا استعرضْنا ما سُمّي فيما بعد بأُصول المعتزلة الخمسة؛ فإننا نجدها تدور بالطبع حول "الحق والباطل" في الشؤون العقدية؛ لكنها كلّها داخلية، وهي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولن نسير في استعراض آراء "عقائد" المنظومات الكلامية بحسب ترتيب المعتزلة لأُصولهم؛ لأنها عندهم أيضاً لم تظهر بحسب هذا الترتيب تاريخياً.

المسألة الأولى: مسألة الإيمان(6). فالقرآن الكريم يربط الإيمان بالعمل الصالح على الدوام: الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ بيد أنّ عصر الراشدين شهد نزاعاتٍ دمويةً في أواخره، شارك فيها مئاتٌ من الصحابة، وسُفكت فيها الدماء التي حرَّمها الله إلاّ بالحقّ. وقد ترتبت على هذه الوقائع مشكلاتٌ كبرى بعضُها عقدي، وبعضُها فقهي، وبعضُها سياسي. وأَطلق عليها المتكلمون أواخر القرن الهجري الأول: مسألة مرتكب الكبيرة؛ أي مرتكب جريمة القتل، ما علاقةُ ذلك بإيمانه، والله -سبحانه وتعالى- يقول: إنّ القاتل عمداً مخلَّدٌ في النار؟ فهل يبقى القاتل عمداً مؤمناً؟ ذهب فريقٌ من المسلمين إلى أنّ ارتكاب الكبيرة خارجٌ عن حدّ الإيمان؛ وهم المحكِّمة ومَنْ وقف موقفَهم من القائلين باعتزال الفتنة خشية ارتكاب جريمة القتل أو جرائم مشابهة. ورأت المرجئة أنَّ الحقَّ غير ذلك، بمعنى أنّ الإيمان هو التصديق، ولا يؤثّر فيه -بالنقص أو بالزيادة- العملُ الصالح أو الطالح؛ فالإيمان لا يزول إذا تخلّفت آثاره ومقتضياته، وعبَّروا عن ذلك بأنّ الحكمَ على مرتكب الكبيرة مُرْجأٌ إلى رحمة الله وفضله، وبخاصةٍ إذا أقبل المرتكب على التوبة النصوح(7). ورأت المعتزلة أنّ هذا الارتكاب مُخْرِجٌ من الإيمان دون أن يُدخلَ في الكفر، فإنّ أصرَّ المرتكب على صحة فعلته كفر، وإن تاب عاد إليه إيمانه(8). 

وقد تفرعت على هذه المسألة التي استمرت زُهاء قرنٍ ونصفٍ مسائلُ أُخرى مثل الفرق بين الإيمان والإسلام، ومثل جواز الاستثناء في الإيمان بالقول: أنا مؤمنٌ إن شاء الله. وبالطبع فإنّ النقاشات جميعاً دارت تحت عنوان: الحقُّ في مسألة الإيمان وهل تؤثّر فيه الذنوب أو لا تؤثّر. ومع أنّ الذي أثار المسألة هو الخلافُ الذي نشب على السلطة في صدر الإسلام؛ فإنه عندما تحول إلى مسألةٍ كلاميةٍ، أثّرت في تطوراته ظواهر الآيات القرآنية، والتي تُصرُّ على مسؤولية المرتكب، وتقول من جهةٍ ثانيةٍ: إنّ الله لا يغفرُ أن يُشركَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

وأصلُ الإيمان -والحقُّ فيه لهذه الناحية- هو مؤدَّى مسألة أو أصل الوعد والوعيد لدى المعتزلة؛ فقد وعد الله سبحانه أن يُثيب المطيعين، وأن يُعاقب العُصاة. والله سبحانه لا يجوز عليه أن يُخلف وعده أو وعيده، بخلاف ما تقوله المرجئة وبعض الفِرَق الأُخرى؛ إذ لو انهار نظام الوعد والوعيد أو نظام المثوبة والعقوبة، لتسلَّل الدمار إلى الإدارة الدنيوية، فكيف بالنظام الكوني الذي خلقه الله -سبحانه وتعالى- بحكمته وعدله؟! 

وقد اعتبرت الأشعرية أنها وقفت موقفاً وسطاً في هذه المسألة عندما اعتبرت -تبعاً للحسن البصري (-110هـ)- أنّ مرتكب الكبيرة عاصٍ أو فاسق، وليس كافراً؛ لأنه مُوحِّد أو ما يزال موحِّداً. وأنّ المعصية - بحسب النص القرآني- تنقص من الإيمان؛ في حين تزيد منه الطاعة. وإذا مات صاحب المعصية غير تائبٍ فلا شكَّ أنه سيُعاقَبُ؛ لكنه لن يُخلَّدَ في النار بسبب إيمانه(9). وإذا جرى الاحتجاج بالوعيد؛ فإنّ الأشاعرة يقولون إنّ الله سبحانه بنصّ القرآن: لا يُسألُ عمّا يفعل وهم يُسألون، وقد اعتبروا أنّ ذلك هو الحقُّ الذي لا مردَّ له بحسب منطوق القرآن الكريم، وهذا دون أن توافقهم الفِرَقُ الإسلاميةُ الأُخرى عليه.

المسألة الثانية: مسألة القَدَر والكلمةُ الحقُّ فيه: لا نعلمُ السبب المباشر لإثارة المسألة، ولماذا قال معبد الجُهَني وغيلان الدمشقي بنفْي القَدَر؛ بيد أنّ المؤرخين للنزاعات الكلامية قديماً وحديثاً يذكرون ثلاثة أسباب(10): الأول: استخدام الأُمويين أيام معاوية وعبد الملك لهذه المسألة في الشرعنة لنظام حكمهم؛ فقد كانوا يقولون: إنهم جاءوا إلى السلطة بمقتضى قضاء الله وقَدَره، وليس من حق أحدٍ لذلك معارضتهم، كما أنه لا فائدة منها؛ لأنّ المعارضين إنما يتحدَّون أقدار الله! وفي روايةٍ أنّ تلامذة الحسن البصري كانوا يأتون إليه ويقولون: إنّ هؤلاء يسفكون دماء المسلمين ويأكلون أموالهم ويقولون: إنما تجري أعمالُنا على قَدَر الله، فكان الحسن يجيبهم: كذب أعداءُ الله. أمّا السبب الثاني فيما يقال فهو أنّ المسيحيين بالشام أو لاهوتييهم واجهوا المسلمين بهذه المسألة في المجادلات التي دارت بينهم، واتهموا دينهم بالجبرية استناداً إلى نصوص القرآن، وإلى أقوال العامة؛ ولذا فقد تصدَّى لهم بعض المسلمين بالقول: إنه لا قَدَر والأَمرُ أُنُف! والسببُ الثالث إنما هو ظواهر الآيات القرآنية، والتي تشير في كثيرٍ من المواطن إلى أنه لا مشيئة إلاّ ما شاء الله، وأنّ الله يقدّر الأشياء قبل حدوثها فيما يتعلق بالشأنين الكوني والإنساني. وبحسب هذا الرأي؛ فإنّ فريقاً من علماء المسلمين تصدوا لتأويل آيات القَدَر بما يتفق مع تنزيه الله وعدله وحكمته، فلقوا عَنَتاً واضطهاداً من السلطات أولاً، ثم من زملائهم المدافعين عن إثبات القَدَر. 

إنّ البارز هنا أنّ الرأي السائد في أول الإسلام كان فيما يبدو إثبات القَدَر دونما أسئلةٍ كثيرة، ثم كانت العوامل الثلاثة التي ذكرْناها. ولدينا رسالةٌ منسوبةٌ إلى عمر بن عبد العزيز(-101هـ) تقول بإثبات القَدَر وتردُّ على نُفاته، وقد سُمّي النُفاةُ: القدرية الأوائل، وقتلت السلطاتُ الأُموية بعضهم؛ لأنها اعتبرتهم معارضين سياسيين فيما يبدو. والقَدَريةُ هؤلاء هم أسلافُ المعتزلة الذين وضعوا العدل بين أُصولهم، وأسسوا عليه تسميتهم المحبَّبة: أهل العدل والتوحيد. وهم يذهبون إلى أنّ الحقَّ في المسألة أنّ الله سبحانه لا يخلُقُ أفعال العباد أو لا يقدّرها، وإلاّ يكون سبحانه ظالماً إنْ حاسبَهم على ما خَلَقه هو. أمّا الآيات المخالفة لهذه المقولة فقد أَوَّلوها للاعتبار الأعلى من وجهة نظرهم وهو عدلُ الله وتنزيهه، وقد خالف هذا التوجهَ الجديدَ أهلُ الحديث، وبعض المتكلمين الأوائل، والمرجئة، ثم الأشاعرة. وهؤلاء يقولون -بحسب ما تبلور لدى الأشعري-: إنّ الحقَّ في المسألة هو أنّ الله سبحانه يخلُقُ أفعال العباد، والعبادُ يكسبونها؛ فالخَلْقُ لله (أي أصل الخير والشر)، والكسْب للعباد أو للعبد بحسب النية والقدرة على الاختيار بين الفعل والترك(11). وقد رأى الأشاعرة أنه لا يجوز القول: إنّ الله سبحانه لا يعلم الأشياء قبل حدوثها وهو القائل: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ والقائل: والله خلقكم وما تعملون؟! إنما علمُهُ -عزَّ وجلَّ- انكشافٌ لكنه غير مؤثّر. وأبت المعتزلة ذلك وقالت: إنّ علم الله سبحانه لا بد أن يكون مطابقاً للواقع فيكون مؤثّراً بالتأكيد.

لقد عُرفت المسألةُ عند المسلمين بعد القَدَر باسم: خَلْق الأفعال؛ لكنّ الدارسين المُحْدَثين وضعوها تحت مباحث حرية الإرادة أو الحرية الإنسانية. وقد كان الجدالُ في علم الكلام القديم لا يدور حول الحرية الإنسانية، بل حول عدل الله جلَّ وعلا وتنزيهه، ولذا فقد تحولت بالتدريج إلى ما يشبه النزاع بين حق الله، وحق الإنسان، وهو نزاعٌ ما خدم في الحقيقة مسألة الحرية بعامةٍ في التجربة الفكرية الإسلامية(12).

المسألة الثالثة: وحدانية الله وتنزيهه(13): بدأ النزاع حول الحقّ في هذه المسألة بين المسلمين والنصارى بشأن التوحيد ومقتضياته. وفي الخطاب القرآني جدالٌ حول هذه المسألة مع المشركين، ومع المسيحيين بشأن الاعتقاد بأُلوهية المسيح. وقد ظلَّ المسلمون في الجنس الأدبي المعروف بالردّ على النصارى يجادلون المسيحيين بشأن أُلوهية المسيح، والتثليث، وعدم اتفاق ذلك مع الوحدانية التي يقولون بها مثل المسلمين واليهود. إنما عندما انتقلت المباحث إلى الحق في مسألة التنزيه الإلهي؛ فإنها صارت نزاعاً إسلامياً داخلياً. وقد كان الأمر في البداية جدالاً من جانب الجهمية والمعتزلة مع بعض من قالوا بالتشبيه أو بالتجسيم ممن سُمُّوا بالحشوية استناداً إلى ظواهر القرآن وبعض الآثار النبوية. وقد أوَّلت الجهمية والمعتزلة الآيات تأويلاتٍ معتدلة أو متطرفة، ثم ظهرت مسألة كلام الله -أي القرآن- وهل هو مخلوقٌ أو غير مخلوق، فانتهت المعتزلة إلى نفي الصفات عنه -عزَّ وجلَّ- بحجة التنزيه، وعدم تشبيه الله سبحانه بخَلْقِه؛ لأننا لو قلنا: إنّ الله قادرٌ بقدرةٍ غير ذاته على سبيل المثال، لتعدَّد القدماء، فمقتضى تنزيه الله عدمُ تشبيهه بخلقه في الوجود والصفات. وما وافقتهم الأشعريةُ على ذلك بل ذهبت للقول: إنّ الله سبحانه متصفٌ بالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر بما لا يشبه المخلوقين، ولا يُخلُّ ذلك بوحدانيته أو تنزيهه، ووافقوا المعتزلة في تأويل ظواهر الآيات بخلاف المفوِّضة من أهل السنة الأوائل.

المسألة الرابعة: الحقُّ في الرحمة والحقُّ في العدل(14): يُسمِّي المعتزلة الرحمة لطفاً، ولا يعتبرونها من صفات الله؛ بينما يعتبرون الله -سبحانه وتعالى- عادلاً بالأوَّلية. ويرى الأشاعرة أنّ الحقَّ في المسألة أنّ الرحمة والعدل كليهما من صفات الله؛ لكنّ الرحمة هي المقدَّمة في نظامهم الكلامي؛ فالله سبحانه مع العباد عند المعتزلة بعدله ولطفه. واللطف يتمثل في إرسال الرسل، والاستحثاث على الإيمان والطاعات. أمّا عند الأشاعرة فإنّ الله سبحانه مع عباده دائماً برحمته وعنايته وفضله، وعندهم أنه لا أحد ينجو بعمله مهما كان صالحاً، وإنما كما ذكر القرآن فإنّ الله سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وقال: إنّ رحمته وسعت كلَّ شيء. والرحمة لا تتنافى مع العدل لكنها أعلى، ويقع العدل ضمن اعتباراتها الفرعية أو وجوهها الأُخرى. وحتى بين العباد؛ فإنّ العدل مطلوبٌ وواجبٌ بنصّ القرآن، لكنّ الرحمة والفضل والمعروف تظلُّ الأعلى من حيث الاعتبار. وهكذا ففي الإسلام لاهوتان أو مذهبان كلاميان: مذهب التنزيه والعدل، ومذهب الرحمة والفضل، وكلا الفريقين يعدّ مذهبه هو الحقُّ الذي لا مردَّ له.

المسألة الخامسة: مسألة النبوة(15): لا يختلف المسلمون -متكلمين وغير متكلمين- بالطبع في أصل نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. والاختلافات الأُخرى فرعية وتتعلق بحجية السنة أو خبر الواحد، كما تتعلق بمفهوم المعجزة. ولذا فقد كان الجدال حول صدق نبوة النبي محمد مع المسيحيين واليهود. واليهود لايقولون برسالة المسيح، والمسيحيون مع اليهود لا يقولون بنبوة محمد. ثم جاء الجدال مع البراهمة أو الهندوس منذ القرن الثالث الهجري، والذين لا يقولون -في فهم المسلمين لهم- بالنبوة لعدم الحاجة إليها إن كانت موافقةً للعقل؛ لأنه عندها يكون مُغْنياً عنها، كما لا يقولون بها في حالة مخالفتها للعقل؛ لأنّ العقل أعلى درجةً منها. وقد ردَّ المتكلمون معتزلةً وأشعريةً وإسماعيلية على الجميع بثلاث طُرُق: 

- طريق الاستدلال بالإشارات الواردة في التوراة والإنجيل عن النبي محمد، والتي ذكر القرآن بعضها، وقد أَورد ابن قُتيبة(-276هـ) مئات الإشارات من التوراة (التي يبدو أنها كانت مترجَمةً أيامه) التي كانت بمثابة بشاراتٍ بالنبي. وهذه الإشارات أو بعضها موجودة في الكتب الأُخرى في الموضوع نفسه.

- وطريق الاستدلال بإعجاز القرآن الذي أُنزل على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، والذي لا يستطيعه بشرٌ، فدلَّ ذلك على أنه موحىً إليه.

- وطريق الاستدلال برحابة الدعوة النبوية وصلاحيتها لكل زمانٍ ومكان، وانتصارها في التجربة النبوية، والتجربة التاريخية للمسلمين.

لقد كانت هذه المقالة استعراضاً لأُصول "الحقّ" ومتفرعاته في الخطاب القرآني، وكيف تجلَّى هذا الحقُّ في المنظومات الكلامية. والمُلاحظُ أنّ تلك المنظومات ما كانت ناجمةً مباشرةً عن الخطاب القرآني؛ بل تأثرت كثيراً بظروف التجربة التاريخية للمسلمين، وبظروف المدارس الكلامية المختلفة، ولذلك فقد ظلّت متباينةً وكثر فيها وحولها الخلاف، وهكذا يبقى الحقُّ القرآني فوق التاريخ وفي قلبه، بينما يجري تجاوُزُ التجربة التاريخية وكلامها وفقهها بالأمة التي تحتضن القرآن والرسالة، واجتهاداتها وإجماعاتها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أبو عبد الله الحسين بن محمد الدامغاني: الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز. حقّقه وقدّم له محمد حسن أبو العزم الزفيتي. القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 2003، ص284-286.

(2) قارن بعبد الرحمن حللي: بنيـة القرآن مدخـلاً لإعادة القـراءة؛ في: المناهج الحديثـة في الدرس القرآني. بيروت: دار مدارك 2011، ص71-90، وعبد الرحمن الحاج: المفردة بوصفها أداةً لتحليل الخطاب القرآني؛ في: المناهج الحديثة..الخ، مرجع سابق، ص165- 219.

(3) قارن عن مبحث الوجوه والنظائر، مقدمة هند شلبي على تحقيق كتاب التصاريف ليحيى بن سلام. تونس: الشركة التونسية للتوزيع، 1980. وسلوى محمد العوا: الوجوه والنظائر في القرآن. القاهرة: دار الشروق، 1988، ص23.

(4) قارن مثلاً بمقدمة الشيخ الزفيتي على تحقيقه لوجوه الدامغاني، مرجع سابق، ص18-20.

(5) قارن بمصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية. القاهرة، 1944. ص268، ومذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي. بيروت: دار العلم للملايين، 1996، ص28-32.

(6) قارن بالفرق بين الفِرَق للبغدادي. بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1973، ص53-55، والملل والنحل للشهرستاني. القاهرة، 1979، بعناية محمد عبد اللطيف العبد. م1، ص193-195.

(7) الفرق بين الفرق، مصدر سابق، ص190. وقارن بكتاب المعارف لابن قتيبة. تحقيق ثروت عكاشة. مصر: دار المعارف، ص625، والتمهيد لابن عبد البر، م10، ص91.

(8) عبد الرحمن بدوي: مذاهب الإسلاميين، مرجع سابق، ص62-69.

(9) قارن باللمـع في الرد على أهل الزيغ والبدع لأبي الحسن الأشعري، نشرة مكارثي، ص38-39، والملل والنحل للشهرستاني، ج1، ص124-130.

(10) قارن عن أسباب إثارة مشكلة القدر بمذاهب الإسلاميين لبدوي، مرجع سابق، ص79-121.

(11) قارن بالملل والنحل للشهرستاني، ج1، ص124-130.

(12) قارن بفرانز روزنتال: مفهوم الحرية في الإسلام. ترجمة معن زيادة ورضوان السيد. بيروت: نشر دار المدار الإسلامي. الطبعة الثانية، 2007.

(13) قارن بشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار. نشرة عبد الكريم عثمان. القاهرة، 1965، ص55-58.

(14) قارن بمقالة رضوان السيد في مجلة التفاهم، العدد 32، عن القيم القرآنية والإسلامية، ص78-92.

(15) قارن بدراسة إبراهيم بيومي مدكور: في الفلسفة الإسلامية، منهجٌ وتطبيقه، مصر: دار المعارف، 1965، ص112-138.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/8/159

الأكثر مشاركة في الفيس بوك