عالمية الخصوصية في الخطاب القرآني

د. احميده النيفر

الخصوصية المهمّشة

لم يُولِ كبار مفسري القرآن عناية خاصة بتحليل مسألة عالميّة الرسالة المحمدية بل اقتصر جهدهم حين كانوا يتعرّضون للآيات المتصلة بما كان يسمّى "عموم الرسالة إلى المكلّفين''[1]على تقرير أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث لأمّة بعينها خلافا لكلّ الرسل السابقين. كان هذا موقف محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ/933م) وهو يشرح الآية: 158 من سورة الأعراف: "إني رسول الله إليكم جميعا" فذكر أنّ محمدا رسول الله صلى اله عليه وسلم مبعوث من الله إلى خلقه يدعو إلى توحيده وطاعته[2].
لا يضيف الزمخشري شيئا (ت 538 هـ/1144م) إلى ما ذهب إليه الطبري إذ يرى أنّ محمّدا خلافا للرسل السابقين، لم يبعث إلى قومه خاصّة إنما أرسل إلى الإنس والجنّ[3]. كذلك كان شأن الطبرسي(ت 548 هـ/1153م) الذّي أقرّ أنّ الإسلام رسالة إلى جميع الخلق عربا وعجما[4].
الإضافة الأولى التي يمكن أن تساعد على معالجة مسألة العالميّة هو ما ذكره بعد ذلك كلّ من النيسابوري (ت 550 هـ/1155م)[5] وخاصّة الرازّي (ت 606 هـ/1210م)[6] حين تعرّضا إلى أتباع عيسى الأصفهاني الذين كانوا يعتبرون محمدا مبعوثا إلى العرب فقط. لم يناقش النيسابوري هذه المقولة ولم يزد على اعتبارها قولا لا يستحقّ الالتفات. في حين أنّ الرازي ناقش -وهو يرد على فرقة العيساوية المذكورة- مسألة إمكانية وجود رسول لسائر الناس قبل محمد، ثمّ انتهى إلى الإقرار بأنّ الرسالة المحمّديّة هي للناس جميعا. 
لا نكاد نكتشف جديدا مع القرطبي (ت 681 هـ/1273م)[7] ثمّ ابن كثير (ت 774 هـ/1373م) بخصوص هذه المسألة[8].
اهتمّ الأوّل بزيادة تأكيد عموم الرسالة بنقل ما يفيد أنّ جبريل، عليه السلام، ذهب بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج إلى أقوام في أقاصي الأرض يدعوهم إلى الإسلام. أمّا ابن كثير فقد ثنّى على ما ذهب إليه المفسّرون السابقون مستشهدا بأحاديث نبويّة عديدة تقرّر أنّ الله بعث الرسول إلى الناس كلّهم مع ضرب من الوعيد، في بعض منها، لليهود والنصارى الذين لا يستجيبون للدعوة.
هذه الأمثلة التي استعرضناها تؤكّد أنّ مسألة عالميّة الإسلام لم تحظ بنقاش كبار المفسرين المسلمين الذي أمكننا الرجوع إلى آثارهم. هذا رغم توفر مؤشرات تدلّ على أنّ الخصوصيّة العربيّة في علاقتها برسالة الإسلام كان يمكن أن تطرح إشكالا ثقافيّا دينيّا حقيقيّا وإلاّ فكيف نفسّر مناقشة الرازي المستفيضة لقضيّة بعث رسول إلى غير قومه قبل بعثة محمد. إنّ رسالة إلهية المصدر تحتاج إلى أن تمتزج بالمجال البشري حتّى تصاغ ضمنه فتستوعبها الذهنيّات المخاطبة. الانتقال من إطلاقيّة المصدر إلى خصوصيّة المجال البشري يمثّل الإشكال في وجهه الديني. ثمّ إنّ الرسالة المحمديّة حين بلغت طورا تجاوزت فيه إطارها العربي المحدد في الزمان والمكان لتُعرَضَ على مجتمعات غير عربيّة وجدت نفسها مضطرّة إلى مراعاة القرائن التاريخيّة لتلك المجتمعات حتّى يتمكّن نسيجها الثقافي الخاص من تمثُّلها.
هذه الاعتبارات الموضوعيّة لم يكن لها تأثير في تطوير جانب تحليلي أو تنظيري لمسألة عالميّة الرسالة. لذلك فنحن بحاجة إلى تعليل هذا الإعراض عن الاهتمام بالخصوصيّة العربيّة والخصوصيّات الأخرى المدعوّة إلى الانفتاح على الإسلام، وهو إعراض يمكن أنّ يفسّر بثلاثة عوامل:       
أ. من الناحية الحضاريّة لم يمثّل ظهور الإسلام في الجزيرة العربيّة وفي الشرق القديم انقطاعا في السمات الأساسيّة لقيم الإنسان وصيرورة التاريخ. كانت الرسالة المحمّديّة في جانب من جوانبها حركة تضامن وتراكم مع ما سبق إرساؤه عبر القرون وإن عبّرت في جانب آخر عن الخصوصيّات الذهنيّة العربيّة وطموحها في إخراج الجزيرة من طور الهامشيّة إلى طور التفعيل.
ب. لم يهتمّ المفسّرون القدامى بأيّ تنظير لمسألة العالميّة، ذلك أنّهم كانوا يمارسون جهودهم في ظلّ دول للمسلمين تجاوز الأمر فيها بالفعل منذ قرنين على الأقلّ الأطر المحدودة للخصوصيّات السيّاسيّة والثقافيّة القديمة. لم تكن هناك إذن حاجة إلى تنظير طالما أنّ واقع التحوّلات كان قد قطع أشواطا لم يبق معها مجال لإعادة النظر.
جـ. لم يصدر، من جهة أخرى، من جانب المجتمعات غير العربيّة وغير المسلمة؛ وهي التجمعات ذات الخصوصيّات الدينيّة والثقافيّة المتميّزة ما ينمّ على استعداد لمراجعة العلاقة مع الإسلام باعتباره وحيا حقيقيّا منزّلا ضمن سياق تاريخي محدّد. لقد ظلّ طابع الحذر المشوب بالروح الدفاعيّة هو الطابع المميّز لعلاقة الكتابيين بالمنظومة الدينيّة الإسلاميّة.
بالنظر إلى هذه العوامل الثلاثة: الحضارية والسياسيّة والمذهبيّة فلا غرابة إن لم تقع مناقشة عالميّة الإسلام ضمن إنتاج المفسّرين كما لم تقترن قط بمسألة الخصوصيّة. لو حصل العكس لكان أمرا لافتا للنظر. لذلك فانّ ما يتجلّى من مجمل الآثار التفسيريّة القديمة هو أنّه أضحى للعالميّة مفهوم محدّد لدى عموم المفسرين: إنها نظريّة في السياسة الشرعيّة تعتبر أنّ جميع الخلق مدعوّون للانضمام إلى أمّة الإسلام وهو الانضمام الذي يجعلهم مشمولين بالرحمة الإلهية[9]. ترجمة هذا التصوّر في المجال الواقعيّ والنفسيّ يقوم على أنّ علاقة المسلم بالآخر قائمة على مبدأ اللاتكافئ وعلى اعتبار أنّ الآخر لا يمكن أن يُقبَل إلاّ إذا أقرّ بأفضليّة أمّة الإسلام ودخل في حماها وانصاع إلى قوانينها[10].
أفضل التعابير التي تصوّر هذا المفهوم نجدها عند الطبري في تفسيره للآية: 128 من سورة البقرة حيث يرى في دعاء إبراهيم وابنه بتجنيب ذريّتهما عبادة الأوثان دعاء شاملا لنسلهما وللناس جميعا[11]. ما يلفت النظر في هذا التفسير هو أنّه ليس في نصّ الآية أو سياقها ما يسمح بالتوسّع في دلالة عبارة "الذريّة" حتّى يجعلها الطبريّ شاملة للبشريّة كلّها. ما يسوّغ هذه القراءة للآية هو ضرورة الامتثال لنظريّة السياسة الشرعيّة التي غدت مسلّمة في القرن الثالث الهجري والتي تتركّز على أن دعوة إبراهيم ومن ثمّ الرسالة المحمديّة وما تلاها من خلافة وتنظيمات كلّها موّجهة إلى البشر جميعا دون تمييز. 
على هذا ما كان يمكن أن تظلّ عبارة "ذريّة" الواردة في دعاء إبراهيم مقتصرة على من ينجبه من أبناء وأبناء الأبناء.  
اضمحلّ، على أساس هذه الرؤية، مفهوم الخصوصيّة من بنية الفكر الديني الإسلامي القديم ولم يبق من شاهد عليه إلاّ ما قنّنه الفقهاء بخصوص أهل الذمّة[12].
في العصر الحديث، لم يتمكن المفكرون المسلمون من الخروج من طوق هذا التصوّر إذ اقتصر عملهم، في غالبيّته المطلقة، على استعادة موقف المفسّرين القدامى في حرفيّته؛ واللافت للنظر فعلا في هذا الأمر هو أنّ الفكر الإسلامي المعاصر أهمل ما توقعه فيه هذه الاستعادة الحرفيّة من تناقض. ذلك أنّه في الوقت الذي يتواصل فيه إنكار ضرورة مراجعة الترابط بين مفهومي العالميّة والدعوة وعوامل الانقطاع بين العالميّة والخصوصيّة، في نفس هذا الوقت تستعمل اليوم قيمة الخصوصيّة بعد إعراض متواصل عنها دام قرونا من أجل مواجهة دعوات "غربيّة" كحقوق الإنسان وتطوّر القيم والمساواة بين الرجل والمرأة[13].
اليوم، يواجه عموم المفكرّين المسلمين العالميّة الماديّة المكتسحة بتروس مفهوم الخصوصية الذي يفتقد كلّ شرعيّة تاريخيّة في البناء المفاهيمي العربي الإسلامي. لذلك فليس من التشاؤم في شئ توقع انهيار هذه المواجهات الحمائيّة في المدى المتوسّط وإثارتها لكثير من العنف في المدى القريب.
ما سنحرص على إظهاره في هذا العمل يتصل بإعادة التفكير في مفهوم العالميّة في الخطاب القرآني  ومدى أهميّة الخصوصيّات المحليّة في نحت توجّه عالميّ للرسالة الموحاة. لذلك ينصبّ اهتمامنا على تفهم مجموعة من العبارات القرآنيّة المحوريّة ذات الصلة الوثيقة بالموضوع. من جهة ثانية، وبقطع النظر عن الأوضاع السيّاسيّة التي حكمت رؤية المفسرين القدامى للأمر، فإنّ مشروع القراءة الذي نتقدّم به يمكن أن يضعنا أمام آليّة القرآن ونظرته للآخر. تلك الآليّة التي قامت على جملة من المفاهيم رُكبت بالتناظر أحيانا وبالتساوق أحيانا وبالتأسيس أحيانا أخرى. تلك الآليّة التي لولاها ما كان يكتب للإسلام أن يعرف الانتشار والتمدّن اللذين عرفهما فيما بعد وفي أصقاع تختلف في بنائها عن البنية العربيّة التي استقبلت الوحي الإلهي ونمت به.          
إنّ عملنا، في النهاية، يعرض إلى معضلة اغتراب الإنسان في عالمه؛ فبالحرص على التوصّل إلى آليّة الخطاب القرآني بخصوص العالميّة اتضحت لنا مشكلة الإقصاء الديني والثقافي الذي ميّز الحياة العربيّة قبل الإسلام ضمن منظومة العالم القديم وتبيّنت لنا أهمية الخصوصيّة العربيّة في إرساء صرح الرسالة العالميّة للإسلام.
من وراء هذا وذاك برز أمران: اتضاح المنهج التجديدي في قراءة النصّ القرآني. إنه المنهج الذي يستعيد التمشّي الأصلي للرسالة المحمديّة فيرتقي بالواقع بحمل أعبائه. تتم هذه الاستعادة ضمن الوجهة التي أسسها الوحي وعلى ضوء الفكر المتطور المعاصر. من جهة الاختيار الاستراتيجي، تظهر خطورة اغتراب العرب المسلمين في عالمهم اليوم، هذا الاغتراب الذي لابد له من حلّ معضلة العلاقة بين العالميّة المكتسحة والهويّة الخاصة التي أصبحت ضائقة بكلّ شئ حتى بنفسها.

العالم والعالمون: الوحدة أم التنوّع؟

يستعمل النصّ القرآنيّ مجموعتين من المصطلحات تتضافر فيما بينها لنسج مفهوم العالميّة: مجموعة ترتبط بالنسيج المجتمعيّ وما كان سائدا عند العرب من أعراف ومؤسسات. تفضي هذه المصطلحات في جملتها إلى دلالة مباشرة على أنّ الرحمة الإلهية شاملة للناس جميعا في قدرتهم على التحرّر من الشرك. أما المجموعة الثانية فتعتبر تأسيسيّة ورمزيّة إذ ترتبط بالأصل والمآل المشترَكين للإنسان. يلتقي هذان الصنفان من المصطلحات القرآنيّة ضمن منظومة انبنى عليها مفهوم العالميّة في القرآن.
يتميّز هذا المفهوم بأنّه يعبر عن استعداد شامل للناس جميعا من أجل القطع مع الوثنيّة معتقدا وتصوّرات. كما يستحضر، خاصّة عن طريق بعض الأعلام التي يعتمدها الخطاب القرآني، غاية القطيعة مع الشرك. تصبح العالميّة، من جهة، التعبير عن قابليّة الجميع للاستجابة للرحمة الإلهية ومن جهة ثانية القدرة على التجسد في واقع الناس ومجريات الأحداث. يمكن القول، بعبارة أخرى، إنّ عالميّة الإسلام ضمن المنظومة القرآنيّة تقوم على مبدأين:
1. وحدة الأصل الإنساني التي تعني التأكيد على أنّ الناس جميعا مهما كان اختلافهم يرجعون إلى أصل واحد. نستشفّ هذه القاعدة في أكثر من آية من مثل: "يا أيّها الناس اتّقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء" [سورة النساء/الآية: 1].
2. الحضور الإلهيّ في التاريخ المتمثل في العناية الموصولة التي تتابع صيرورة العالم و"تتدخل" فيها عند الاقتضاء. صرّح بذلك القرآن الكريم في أكثر من مناسبة خاصّة في الردّ على منكري النبوّة من المشركين. "وأنّهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا" [سورة الجن/الآية: 7]. ذلك ما جعل  كلام الله حيا بمعالجته لواقع الأمة الناشئة فيكون سبحانه في تعاليه عن كلّ شئ غير مهْمِل لأيّ شيء، وبخاصّة الإنسان المرتبط بعهد الله المتبوئ به لمكانة السيادة.
من خلال هذين المبدأين اللذين يمثلان توجها تأسيسيّا لم يكن للعرب خاصة في الشمال عهد به... ومن  خلال سبعة مصطلحات لها تطورها الدلالي، انتظم الحقل المفاهيميّ للعالميّة. ذلك الحقل الذي لم يتحوّل آليا إلى مستند مرجعي في مسألة العالميّة.

تتكوّن المجموعة الأولى من المصطلحات المفاتيح من أربع عبارات هي:
أ. الناس: هي أكثر العبارات ورودا في النصّ القرآنيّ (241 مرّة) وهي موّزعة بنسب متقاربة بين آيات مكيّة وأخرى مدنيّة. تستعمل أحيانا اسم جنس لكل البشر وعندئذ تكون لفظة ذات دلالة عامة وأقرب لما ذهب إليه ابن منظور حين ذكر أنّها جمع لكلمة إنسان[14]. لكننا نجد استعمالين آخرين يخصّصان المعنى العام؛ الأوّل: مجازيّ يكون إشارة إلى قوم مخصوصين لا يراد تحديدهم فيورّي عن ذكرهم صراحة باستعمال ما يسميه البلغاء إطلاق الكلّ وإرادة الجزء. عندئذ تستعمل كلمة الناس  ويقصد بها المهاجرون والأنصار كما تعني في آية أخرى المنافقين [سورة البقرة/الآية: 8] أو بني إسرائيل [سورة آل عمران/الآية: 21] أو قبيلة بني ثقيف [سورة البقرة/الآية: 168]. ذهب علقمة (ت.62/681) أنّ لفظة الناس مع النداء "يأيّها" تكون مؤشرا على أنّ الآية مكيّة وأنّ المقصود بالخطاب عموم أهالي مكّة. وفسّر مجاهد (ت.104/724) آية "كان الناس أمّة واحدة" بقوله: إنّ الناس تعني آدم لأنّه أصل النسل[15] .
انحسر الاهتمام بهذا التنوّع في استعمالات العبارة لصالح الدلالة العامة فأصبحت شاملة لبني آدم قياسا على القاعدة الأصوليّة العبرة بعموم اللفظ.
الاستعمال الثاني: يحقق به النصّ القرآنيّ حركة مفهوميّة لعبارة الناس تخرجها عن الإطلاق الذي فرضه عليه عموم المفسرين فتحيل القارئ إلى ضرب من الخصوصيّة العربيّة القديمة. في هذا الصدد يمكن الاستشهاد بخمس آيات تتضافر في التأكيد على ما سجله أصحاب السير من مشاغل اجتماعيّة وثقافيّة كانت بارزة قبيل ظهور الإسلام في مكّة وما جاورها.
آية "كان الناس أمّة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" وآيات أخرى [سورة اَل عمران/الآية: 68] و[سورة يونس/الآية: 31] و[سورة هود/الآية: 118] و[سورة الزخرف/الآية: 33]،  تلجأ كلّها إلى عبارة الناس في إطار تأسيس رؤية قرآنيّة لمستقبل الأمّة هي في جانبها الشكلي استعادة للرؤية العربيّة الشماليّة للتوحّد الاجتماعي مصاغة صياغة جديدة. 
لشرح هذه الحركة المفهوميّة ينبغي التذكير بما عرفه الضمير العربيّ القديم منذ القرن الخامس الميلادي من تشرذم العشائر العربيّة التي كانت تجمّعت في القرن الرابع حول قريش باعتبار انتسابها لأب مشترك والتفافها حول الكعبة رمزها الموحد. نتج عن هذه الأزمة أن فقدت الثنائيّة التي سادت عهودا والقائمة على مركزيّة قريش (أو نحن) بالنسبة إلى ماعداها (أو الناس)، كل أهميتها.
ما حرص عليه الخطاب القرآنيّ هو استعادة الثنائيّة (نحن/الناس) ضمن حقل جديد. لذلك أصبحت (نحن) تعني المنتمين للتوحيد والناس هم ما سواهم من المشركين. بهذا الانزلاق في الدلالة تأسست وجهة جديدة للتقويم منقطعة عن رابطة قرشية تشرذمت إذ لم تتمكن من مواكبة تحوّل مكّة من قرية كبيرة محاطة بقرى أصغر إلى مدينة مركزية[16]
مصطلح الناس في استعماله الثاني يرتبط بتحوّلات اجتماعيّة هامة عرفتها مكّة، وكانت مصحوبة بصراعات دامية بين الأحلاف والأحياء أثبتت أكثر فأكثر أنّ الروابط القديمة اهترأت وأنّ قريشا لم تعد على شيء، وأنّ وحدة القوم تتطلّب أكثر من الإيلاف وأكثر من الجدّ الجامع... لذلك كانت نبوّة محمد عليه السلام في جانبها الاجتماعي الثقافي تأسيسا جديدا للجذر القديم متجاوزا روابط الدم والمكان والتجارة إلى آفاق جديدة لا تقطع مع الماضي في جانب، بل تمكّن "أمّ القرى" من أن تنمو وتستمرّ.  
ب. العالمين: تحتلّ هذه العبارة المرتبة الثانية بعد لفظة الناس فيما يتصل بمفهوم العالميّة وأكثر ورودها في السور المكيّة: 49 مرّة على جملة 73 وأكثر ما وردت فيه هو تركيب "ربّ العالمين" (42 مرّة). اختلف القدامى اختلافا كبيرا في تفسيرها و تحديد طبيعتها فهي عند البعض اسم لا مفرد له مثل قوم أو رهط وتعني جميع الخلق وكلّ الموجودات [سورة الشعراء/الآية: 23]، بينما هي عند من يجعل لها العالم مفردا كلّ من يعقل من الإنس والجنّ والملائكة والشياطين. يذهب بعض الصحابة المطّلعين على اليهوديّة إلى جعلها مرادفة للدنيا وإشارة إلى وجود عوالم عديدة لا تحصى وأنّ دنيا الناس هي إحداها. ما يمكن أن نضيفه في هذا الصدد هو أنّ النظر في سياقات الآيات التي وردت فيها هذه اللفظة ينتهي بنا إلى حقلين اثنين: الأوّل تغطّيه ثلاث آيات فقط كان استعمال "العالمين" فيها عامّا يرادف عموم الناس [سورة الاَعراف/الآية: 80] و[سورة الشعراء/الآية: 165] و[سورة العنكبوت/الآية: 28]. أمّا الثاني فتشمله الحالات الثمانية والخمسون التي تصبّ كلّها في مسار واحد هو تمجيد الذات الإلهية وإبراز عظيم قدرتها. يتمّ هذا التركيز من خلال تنوّع في مجالات الاستعمال: فمن استعراض لملكوت السماوات والأرض وما فيه من التسخير [سورة الاَعراف/الآية: 54] و[سورة غافر/الآية: 64] إلى الكشف عن بعض مظاهر جلاله يوم القيامة [سورة الزمر/الآية: 75] و[سورة العنكبوت/الآية: 6]؛ ومن الاستشهاد بمن اصطفاهم الله من الأنبياء والأمم [سورة البقرة/الآية: 131] و[سورة الاَنعام/الآية: 86] إلى الإعراض على من كفر وتجبّر [سورة ءال عمران/الآية: 97] و[سورة الاَنعام/الآية: 162]. إذا أضفنا إلى هذه الوجهة الكونيّة لاحظنا أن عبارة "العالمين" لم ترد في القرآن إلا في صيغة الجمع مما يرجّح أنّها لا تعني فقط العقلاء من المخلوقات إنّما كلّ الموجودات في ما سوى الله.
لذلك أمكن القول إنّ "العالمين" عبارة ذات قيمة عقائديّة متميّزة خاصة في تركيبها مع لفظة "ربّ"، فهي تجلّي وحدة الله وتنزيهه مقابل مفهوم الألوهيّة الوثنيّ والقبليّ السائد عند العرب، وإزاء المفهوم القوميّ الذي كان يعتزّ به خاصة اليهود في الجزيرة [سورة البقرة/الآية: 122] و[سورة الاَنعام/الآية: 86].
جاءت هذه العبارة إذن متساوقة مع مبدأ وحدة الأصل الإنساني ولإعادة تأسيس ثنائية نحن/الناس إنقاذا للنسيج الاجتماعي الثقافي العربي على أساس قيمة جديدة هي تضامن الموحدين أو عالميّة التوحيد.
يتضّح من كل هذا الجانب العقدي لعالميّة القرآن، أنّها تعني أنّ الله الغنيّ عن المخلوقات أراد أن يكون قريبا من الإنسان مستجيبا له حريصا على هدايته كما قضى أن يكون للعالَم وجهة ومعنى دائمان.
ما تؤديه عبارة العالمين من وظيفة دلاليّة في هذه الاستعمالات جميعا يظلّ واحدا: إثبات الحضور والتعالي الكاملين إزاء سائر المخلوقات وفي كل الأزمنة والأمكنة. على أساس هذا التعالي الكامل تنسحب القداسة من أرجاء الكون كلّه وتنفتح أمام الإنسان كلّ السبل ليرسي علاقات موضوعيّة مع العالم ويبقى بعد ذلك الحضور الإلهي المتواصل الدعامة الأقوى للإنسان ذلك الكائن المهيّأ للنموّ بذاته. 
جـ. الأمّة: هي العبارة الثالثة التي اعتمدها المفسرون لإرساء مفهوم للعالميّة هو أكثر مسايرة للواقع السياسيّ الإمبراطوريّ الذي انخرط فيه المسلمون، وأبعد عن طبيعة الرؤية الإنسانية التي يكشفها الخطاب القرآنيّ والذي تبرزه الحركيّة المفهوميّة الملحوظة في عبارات اعتمدها القرآن مطوّعا إياها في الوجهة التوحيديّة التي يريد.
يستعمل النصّ القرآنيّ عبارة "أمّة" جمع "أمم" بوفرة (64 مرّة) وفي سياقات ثلاثة كلّها تحمل فكرة الوجهة والقصد وهي الفكرة التي نجدها في الجذر أ.م.م. الذي اشتُقت منه العبارة.
تُستَعمل الأمّة في مستوى أوّل بمعنى المجموعة الكبيرة من الناس أو الطائفة من الجنّ أو الفصيلة من الحيوانات [سورة الاَعراف/الآية: 38] و[سورة الأحقاف/الآية: 8] و[سورة القصص/الآية: 3] و[سورة الاَعراف/الآية: 164] و[سورة الحج/الآية: 67] و[سورة المائدة/الآية: 66] فهي تدلّ على كلّ تجمّع يحمل خصائص محدّدة توحّده وتميّزه عمّا عداه وهو ما أتاح لهذه العبارة أن تمتدّ دلالتها لتدلّ على الفترة من الزمن [سورة الاَعراف/الآية: 34] و[سورة يونس/الآية: 49] و[سورة هود/الآية: 8]؛ وكأنّ تصنيف الكائنات يجعل لكلّ منها حدّا يحدّه في الزمن لا يمكنه أن يتجاوزه.
يظلّ هذا الاستعمال الأوّل التصنيفيّ قائما حتّى عند الحديث عن أحوال الناس يوم القيامة [سورة البقرة/الآية: 83] متيحا بذلك المجال لاستعمال ثان يقع فيه الدفع بفكرة التمايز بين المجموعات وما يترتب عليها من حدود زمنيّة إلى مدى أبعد تكتسب فيه الأمّة معنى الطريقة باعتبار أنّ وراء كلّ تجمّع قاسما مشتركا [سورة الزخرف/الآية: 22] و[سورة الأحقاف/الآية: 18] و[سورة الجاثية/الآية: 28]. هذا التوسّع في الدلالة يجعل التعدّد في الموجودات يحمل في ثناياه عناصر التوحّد؛ فسواء أفسرنا الأمّة، كما ذهب سعيد بن جبير بخصوص آية: 118 من سورة هود، بأنّها تعني أهل الدين الواحد أم أنّها الشريعة [سورة المائدة/الآية: 18] أم أنّها الرجل الجامع للخير الذّي يعلّم الناس [سورة النحل/الآية: 120]، فإنّ ما ينبغي التركيز عليه هو أنّ الأمّة تحقق التنوّع اللازم للحياة وتحقق أيضا الاشتراك في ثوابت قارّة [سورة النحل/الآية: 93] و[سورة الحج/الآية: 34] ذلك أنّ وراء الأشباه والأضراب مذهبا جامعا ينظّم استمرارها.
بعد هذين المستويين نجد درجة ثالثة تتعلّق بالأمّة التي تكوّنت حول الرسول والتي يستعمل لها القرآن نعوتا مختلفة فهي أمّة وسط وأمّة مسلمة وأمّة واحدة وخير أمّة [سورة البقرة/الآية: 143-128-231] و[سورة آل عمران/الآية: 110]. تؤدي جملة هذه الأوصاف إلى أن أفضليّة هذه الأمّة يتمّ بتحقق جملة صفات اكتسابيّة يعتبر أغلب المفسرّين أنّ أوّلها إقامة العدل.
ما يمكن الانتهاء إليه من هذه المستويات الثلاثة لمصطلح الأمّة هو أنّ الخطاب القرآنيّ يقرّ بأنّ التصنيفات المميّزة لكلّ تجمّع تحمل خصوصيّة كلّ منها وقيمة وجوده وحدود تلك القيمة. ليس هناك إذن ما يدعو إلى القضاء على تلك الفوارق باعتبار أنّ تلك المجتمعات البشريّة، على اختلافها، تحمل معنى تميّزها. لا يعني هذا أنّ لا تفاضل بين الأمم بل إن مصدر التفاضل يمكن أن يرجع إلى نسبة تحقق قيمة العدل على يد الأمّة التي تريد أن تكون خير أمّة. ذلك كان رأي من قال بضرورة الإبقاء على التنوّع ولزوم الاعتبار بالآيات المؤكّدة على استمراره [سورة المائدة/الآية: 48] و[سورة هود/الآية: 118] و[سورة النحل/الآية: 93]. في حين تبنى آخرون، خطابا تمجيديّا متجاهلين البناء المتدرّج لمصطلح الأمّة وعلّقوا على أفضليّة أمّة محمّد على الأمم [سورة آل عمران/الآية: 110] بقولهم مخاطبين المسلمين: إنّكم "تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتّى يدخلوا الإسلام"[17]. يفضي الانضواء في هذا التمشّي الأخير إلى تجاهل قيمة أخرى للعالميّة القرآنيّة التي تعني حماية التنوّع وتكامل الخصوصيّات وتناسقها. 
د. القرية: إذا كانت لفظة "العالمين" في الخطاب القرآنيّ تنطلق من بعد كونيّ لتؤسس مضمونا عقديّا وثقافيّا وتفضي إلى رؤية مختلفة للإنسان ومعنى مغاير للعالم فإنّ لفظة القرية، جمع قرى، (المذكورة 56 مرّة) تعرض إلى مستوى آخر هو عالم البشر في حراكهم الجمعي منظورا إليه من نفس الزاوية المميّزة للخطاب القرآنيّ: زاوية العلاقة بين الإنسان والله. القرية القرآنيّة إمّا ظالمة (39 مرة) وإمّا مباركة (7مرات) وهي أيّا كان أمرها لا يمكن أن تخرج عن دائرة العدل الإلهيّ: "ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون" [سورة الأنعام/الآية: 131]. هو العدل الذّي تصوّره أحيانا مشاهد الغضب الإلهيّ المسلّط على بعض القرى ولكنّه بالأخصّ العدل الذّي يتّضح من إرسال الرسل إليها [سورة الأعراف/الآية: 94-101] وما كانت رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم إلا تجسيدا لهذه العناية الموصولة: "لتنذر أمّ القرى ومن حولها" [سورة الاَنعام/الآية: 92].
المؤكّد أنّ مفهوم النبوّة كان جديدا على الذهنيّة العربيّة المكيّة خاصّة[18]، وهو في اتّصاله بالعدل الإلهيّ إنّما يرمي إلى تأسيس مفهوم مغاير للألوهيّة مقارنة بما كان سائدا من معتقدات لدى عرب الشمال. ثمّ إنّ الخطاب القرآنيّ يتوصّل من وراء هذين المفهومين الجديدين، محليّا، إلى إبراز إنسان مختلف أساسُ الجدّة فيه هو إحساسه بالمتعالي القريب وإدراكه لمسؤوليّته فيما يفعل.
الملاحظ من هذه العلاقة التكامليّة والتاريخيّة بين النبوّة والتوحيد ومسؤوليّة الإنسان أنّها تترسّب من خلال قراءة تركيبيّة للآيات التي تتحدّث عن الأمم السابقة في علاقتها بأنبيائها وبمصير بعض "القرى الظالمة"؛ هذا ما يجعلنا نعتبر أنّ مصطلح القرى شديد الارتباط بالخصوصيّة العربيّة الشماليّة لأنّه انصّب على معالجتها وتجاوزها. لكن ذلك لم يمنع المفسّرين القدامى من أن يتّجهوا الاتّجاه المعاكس فيتجاهلوا هذه الوشيجة العربيّة الكامنة في مصطلح القرية وما تحمله من عناية لتلك الرابطة المحليّة التي يستدعي تجاوزها وإعادة تركيب عالمها. 
ما اعتنى به المفسرّون هو ظاهر الترابط بين مصير القرى جميعها وما يؤدّي إليه من فهم إمبراطوري للعالميّة مقتضاه أنّ جميع الناس قد خلقوا ليكونوا مدعوين ومستعدين للدخول في الإسلام. عن طريق تعميم دلالة عبارة قرية وإهمال مقتضيات السياق الذّي وردت فيه وقع تهميش الخصوصيّة العربيّة وما يرتبط بها من حراك، كلّ ذلك من أجل شموليّة تتناسب مع واقع المسلمين السياسي. لا أدلّ على ما نقوله ممّا ذهب إليه القرطبيّ مثلا في تفسيره للآية: 92 من سورة الاَنعام والآية: 7 من سورة الشورى، إذ يشرح تكليف الرسول بإنذار أمّ القرى وما حولها بأنّ رسالته لجميع الآفاق وسائر الخلق[19]؛ رغم أنّ ظاهر اللفظ ومقتضى السياق لا يفيد ذلك.
هكذا تحكّم الواقع السيّاسيّ الإمبراطوريّ الذّي انخرط فيه المسلمون بعد خروجهم من جزيرتهم في إضفاء دلالات على النصّ لا يسمح بها استعمال اللفظ. 
إذا نظرنا إلى هذه المصطلحات الأربعة من جهة تكاملها فيما بينها ومن جهة ترابطها مع مبدأ التنوّع والاختلاف ومن جهة ثالثة مع الغاية التصوّريّة للكون ومكانة الإنسان فيه وطبيعة علاقته بالله، إذا نظرنا إلى الموضوع من هذه الجوانب تعذّر التوصّل إلى مفهوم يسعى إلى إلغاء خصّوصيّات الأمم الأخرى بحجّة أفضليّة أمّة محمّد وقدسية كلّ جهاد من أجل نصر دعوته. مع ذلك فإنّ ما رسّخه المفسّرون القدامى كان مبنيّا على توجّه مغاير ساعدهم على إرسائه فهم خاصّ للمجموعة الثانية من العبارات المكوّنة من ثلاثة أسماء لشخصيّات تاريخيّة رمزيّة: إبراهيم ونوح وآدم عليهم السلام.
يعرض النص القرآني إلى إبراهيم عليه السلام في 69 موضعا تتوزّع بنسب شبه متساوية بين ما تنزّل بمكّة (32 آية) وما تنزّل بعد الهجرة بالمدينة (37 آية). بهذا الحضور يمكن أن نعتبر شخصيّة إبراهيم محوريّة في كامل البنية القرآنيّة رغم أنّ ثلاثة ملامح أساسية تتوزّعها. هناك من جهة إبراهيم الباحث عن الحقيقة والملاقي من أجلها كلّ أنواع العنت مع أهله وقومه. ثم هناك الأب المؤسّس للحنيفيّة المتجاوزة للمذهبيّات الضيّقة المستبعدة للآخرين عن العناية الإلهية. وراء وجه الباحث عن الحقيقة ووراء الجذع الحنيفيّ يرسم الخطاب القرآنيّ وجهة ثالثة هي وجهة إبراهيم الخليل، القريب من الله المتسائل عن قدرته المحكّم عقله في استعراض ملكوته. لا شكّ أنّ هذه الملامح القرآنيّة لشخصيّة إبراهيم ليست كلّ الملامح التّي كانت له في التصوّر اليهوديّ مثلا. لكنّ الوحي اختار منها ما رآه أشدَّ مناسبة مع دعوة محمّد صلى الله عليه وسلم وظروف قومه ومع الآفاق التّي يريد الوحي أن يفتحها أمام الحسّ الدينيّ والوعي الإنسانيّ[20].
يمثّل نوح عليه السلام بعد إبراهيم وجها ثانيا من الوجوه التّي يعتمدها الخطاب القرآنيّ لمعالجة مسألة العالميّة. إذا نظرنا إلى نوح في البناء القرآنيّ رأيناه يقدّم في الآيات المدنيّة القليلة التّي يذكر فيها (8 مرّات) مبدأ الحنيفيّة دين الفطرة الذّي يضع على خطّ واحد كلّ الأنبياء الداعين إلى التوحيد والذّي يرفض استبعاد أيّ جماعة بشريّة من الرحمة الربّانيّة. كذلك وفي عدد قليل آخر من الآيات نجد في نوح صورة للرسول المؤسس الذي تجتمع حوله الأمة الطاهرة مندفعة لبناء حياة جديدة[21]، لكن جلّ الآيات الأربع والثلاثين التي يذكر فيها نوح إنما تبرزه نبيّا صابرا على عناد قومه وتكذيبهم. 
نجد في هذه الصورة تكاملا مع صورة إبراهيم وتوكيدا على ما ورد فيها من معان؛ ففي الصورتين مراعاة لسياق الأحداث وتحدّياتها كما كان يجلّيها واقع النبض الجديد للجزيرة العربيّة في مواجهة دعوة الرسول وخاصّة في مواجهة قاعدة وحدة الأصل الإنسانيّ التّي يرفضها مشركو مكّة رغم أنّها حتميّة لإخراج أمّ القرى من أزمتها القاتلة. هذا المعنى لم يكن ليخفى على القدامى من المفسّرين فكانوا يصرّحون في أكثر من مناسبة أنّ الغرض من إيراد هذا الجانب من قصّة نوح أو إبراهيم هو تسلية الرسول. ما لا يتناوله القدامى هو دلالة هذه المماثلة بالنسبة إلى علاقة النبوّة بالماضي والحاضر؛ بعبارة أخرى هل أنّ من مهام النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم تصحيح صورة الماضي بقطع النظر عن الحاضر الذّي يخترقه الوحي ويحياه الرسول أم أنّ من مهّامه تغيير الحاضر باستعادة جوانب من الماضي تُعتمد بقدر متطلّبات الحاضر وبحسب المقصد الإلهيّ من الرسالة؟ لا شك أن الاقتصار في تفسير الإحالات على مقاطع من دعوة نوح وإبراهيم بمسألة تسلية الرسول قد غيّب من مهامّ النبي موقعه التاريخي بين ماض ممتد وواقع ضاغط وضرورة التركيب بينهما وبين توجهات الوحي.    
ندرك أهميّة هذه المسألة حين نعالج الشخصيّة الثالثة، شخصيّة آدم.
إذا قصرنا النظر على ما نصّ عليه القرآن من ذكر لآدم رأينا أنّ الآيات الخمس والعشرين المتحدّثة عنه تتوزّعها ثلاث لوحات أساسيّة:
- خلق آدم من تراب [سورة آل عمران/الآية: 59].                                   
- آدم في الجنّة ووقوعه في المعصية [سورة الأعراف/الآية: 19] و[سورة طه/ الآيات: 115-117-120-121].
- استخلاف آدم وتوابع ذلك في ذرّيته [سورة البقرة/الآيات: 31-33-37] و[سورة الأعراف/الآيات: 27-31-35] و[سورة يس/الآية: 60].
اعتنى المفسّرون القدامى بذكر تفاصيل متعدّدة عن أبي البشر وأوّل الأنبياء كما سجّلوا الاختلافات بين علماء الحديث حول خلقه من طين وإقامته في الجنّة ثمّ الخروج منها إلى الأرض. كانوا في ذلك كما كانوا بخصوص نوح وإبراهيم خاضعين للسنّة الثقافيّة السائدة في شمال الجزيرة ومنطقة العراق والشام حول هذه القصّة المؤسسة. لذلك انصبّ اهتمام المفسّرين القدامى في شرح قصّة آدم وقصص نوح وإبراهيم على جوانب التوثيق التاريخيّ في حين كان امتناع النصّ القرآنيّ عن كلّ سرد تتابعيّ أمرا واضحا. كان الحرص القرآني قائما على الانتقاء المقصود مثبتا أنّ هذه الشخصيّات تحمل قيما نموذجيّة هي أكثر تأثيرا في الواقع من لو أنّها كانت متجهة إلى التدقيق التاريخيّ الحدثيّ. رغم ذلك فإنّ هذه القصّة مكّنت الذهنيّة العربيّة الشماليّة من اكتساب فكرة جديدة عن إنسان كونيّ ضارب في القدم وممتدّ في أنحاء الأرض متجاوز للإنسان المقيَّد بأفق إله القبيلة، وللإنسان المنحسر بفرديّته المطموسة بعشائرية طاغية[22].
يمكن الآن أن نوضّح الغائيّة من استحضار شخصيّات إبراهيم، نوح وآدم. إنّه تأسيس رؤية كونيّة في فضاء ثقافيّ كان معزولا عن سياق أمميّة التوحيد. ما أظهره الوحي في الوجوه الرمزية الثلاثة هو تأسيس متكرّر للعقيدة التي لا ينبغي لمجموعة بشريّة أن تُستبعد منها. هو في نفس الوقت استجابة لسياق اجتماعيّ كان في أشدّ الحاجة إلى أواصر لا تتنكّر للماضي ولكنّها تؤسس على قواعد جديدة وآفاق أكثر اتساعا. بعبارة أخرى يمكن القول إنّ الوجوه الثلاثة تلبّي بالوحي متطلبات عالم عربِ الشمال للخروج بهم من أزمتهم الاجتماعيّة القيميّة الخانقة إلى أفق دينيّ حضاري مغاير لما كان معروفا لديهم ولما كان سائدا لدى جيرانهم من الموحّدين: يهودا ونصارى.
تلك هي الحنيفيّة التّي أرساها الرجال الثلاثة، إنّها تجاوز لعوامل الإقصاء المختلفة التّي كانت ترزح تحتها أمّ القرى وما حولها باسم الإله الواحد الذّي أصبح أقرب لإله قومي لا يعدل بين البشر؛ بهذا المعنى تصبح عالميّة الرجال الثلاثة متناسبة إلى حدّ كبير مع الخصوصيّة العربيّة التّي استدعتها؛ فلا غرابة إن لم نجد التطابق الذّي يحرص عليه البعض بين ملامح الثلاثة في القرآن وملامحهم في العهد القديم. مثل ذلك التطابق لا يمكن أن يطالب به إلاّ أحد رجلين: إمّا رجل يعتبر أنّ العناية الإلهية لا تتجلّى إلاّ مرّة واحدة أو لقوم دون سواهم، وإمّا رجل يعتبر أنّ الوحي إذا تنزّل في عالم الناس فإنّه سيكون إطلاقيّا لا يعتني بسياقهم التاريخي والاجتماعيّ.
ما تبديه الحنيفيّة القرآنيّة من خلال ملامح الوجوه الثلاثة المؤسّسة هي التوحيد في أفق عالميّ متحرر من الصيغ الطائفية المحدودة القامعة، لكنه توحيد يتقبّل في نفس الوقت الاعتبارات التاريخية ويتفاعل معها. إنه ذلك التوحيد الذي تفاعل وظل كذلك مع تعدديّة أوضاع الأمم المختلفة السابقة والمتبيّن لأبرز خصوصيّاتها من أجل إنجاز هويّة ساعية إلى رضاء الله. ذلك يعني، في كلمة، حضور الحقّ في عالم الثقافة الخاص. 
من ثَمّ أمكن القول إن الحنيفيّة هي "الاستعلاء" إزاء الطائفيات بالحرص على بقاء تنوّع التجارب الإيمانية باعتبار أنّ هذا التنوّع هو الذّي يمكّن من دفع مختلف الهويّات الثقافيّة لأن تحقق ذاتها بالانخراط التدريجي في أممية التوحيد. هذا التعدد الذي يعتبر من أفضل الطرق لارتقاء الإنسان بنفسه أيا كان موقعه أو ماضيه يحقق للحنيفيّة مزيدا من التوهّج والفاعلية.
هذا التصوّر الذّي أرسته الوجوه الثلاثة يجعلنا نعتبر التعدديّة الثقافيّة صيرورة للتوحيد الذي لا يسعى إلى إلغائها بل لا يتحقق إلا بها وبتوسيع آفاقها. يتأكّد هذا المعنى عندما نربطه بالمصطلحات الأربعة الأولى المتّصلة بمفهوم العالميّة. فقد ساهمت تلك المصطلحات، كما حاولنا أن نبيّنه آنفا، في تحوّل المفاهيم العربيّة وذلك بفضل الاستعمال المتدرّج والمتناسق الذّي أقامه الخطاب القرآنيّ. كان الهدف من هذا التطوير الدلالي هو إعادة تأسيس للضمير الدينيّ العربي وتغيير البنى الاجتماعيّة التيّ يرتكز عليها؛ كل ذلك تجسيدا للتوحيد حين يخترق الثقافة فيصيغ منها هوية جديدة ويزيد بذلك تألّقه.
من ثَمّ كانت المصطلحات السبعة قد حققت تكاملا دلاليا قصد بناء رؤية جديدة للكون ومكانة مختلفة للإنسان، وكان البعد العالميّ لهذه الرؤية يعتمد على فهم مغاير للتاريخ والعالم؛ فهمٍ وثيق الاتصّال بحاجيّات الأمّة الناشئة وتجربتها الوجوديّة والروحيّة. هنا يكمن سرّ قوّة التمشّي القرآنيّ؛ فهو تمشّ يقوم على ثنائيّة الحركة التّي تركّب بين طاقات الحاضر والماضي وبين إمكانيات الوحدة والتعدّد وبين أبعاد الوحي والتاريخ.
هي الحركة التّي يمسك بأطرافها المتعدّدة صاحب الرسالة الذّي تنصهر في وعيه وحسّه ووجدانه آليّة التمشّي القرآني الجدليّة مولّدة وعيا جديدا للحقيقة الأبديّة. هذا ما يصفه هشام جعيّط أدقّ وصف حين يقول محدّدا طبيعة النبوّة بأنّها سموّ "الرسول فوق البشريّة العاديّة حيث يقيم في ذاته ثمّ يموضع تجربة الإلهيّ المنسابة، السطحيّة عند الآخرين، لكنها الحاضرة، لا محالة، بما يكفي ليتلاقى معها الإنسان  وحتّى يتجدّد هذا التلاقي كلّما ولد وعي في العالم"[23].
هي النبوّة، ذلك الوعي الإنسانيّ المكتسب الذّي يبدع نفسه عبر" ذهاب و إياب مُجَدْلَنٍ بين داخل الوعي وما وراء العالم".."[24].
مثل هذا التصور الجديد للنبوّة ما كان له من قاعدة يمكن له أن يعتمد عليها في الماضي ضمن وسط ثقافيّ لا يفكّر في ترابط الوحي مع نموّ التاريخ الإنسانيّ ولا في الصلة بين عالم الرسول الثقافي وبين وعيه النبويّ؛ أي لا يولي عناية للخصوصيات المحليّة في رسم أفق ثقافي جديد للعالميّة. 

العالميّة / الأفق أو العالم من خلال الكهف
إذا كانت سورة الكهف لا تستعمل من المصطلحات السبعة المذكورة آنفا سوى قلّة منها فإنّ الذّي يرشّحها للبحث ضمن عملنا المتّصل بمفهوم العالميّة في القرآن هو احتواؤها على قصص ثلاثة تتمتع بمكانة متميزة[25]. لم ترد هذه القصص في القرآن إلا مرة واحدة، كان ذلك في هذه السورة. من جهة ثانية بنيت القصص بناء خاصّا يجعلها تعدّ تطبيقا عمليّا للعلاقة الجدلّية بين الغيب والتاريخ الإنسانيّ   وبين العالميّة والخصوصيّة. فيها تتجسّد حركة الذهاب والإياب التّي تجعل الوعي النبويّ ملتقى المطلَق بالعالَم. لذلك تكون قراءة هذه السورة إضاءة أساسية لما شرعنا في إظهاره من التمييز بين العالميّة القرآنيّة والعالميّة التّي ركّزها مفسّرو القرآن فيما تلا من عصر التنزيل.
تبدأ السورة بثمان آيات تستهدف في جملتها إظهار مدى تهافت مقولة الشرك العربيّ. بقيّة السورة دعوة للتوحيد مصاغة في أسلوب قصصيّ، دعوة تواجه المعتقدات العربيّة الوثنيّة وتقطع بدرجة أقل مع ذهنيّة الطوائف الكتابية في القرن السابع، تلك التّي تدّعي احتكار الحقيقة وتنصّب نفسها وصيّة على عقيدة التوحيد. لهذا كانت سورة الكهف في خطابها قطيعة مزدوجة مع عالمي الشرك والطائفيّة وتأسيسا لمفهوم مغاير للتوحيد. إنها رفض للإقصاء المسلط من الطوائف الكتابية على عرب الشمال بإنكار أن يكون لهم أيّ استعداد للانضواء في الصيرورة العالمية للتوحيد. انبنى هذا الإقصاء على أن مكة وما جاورها جماعة من الأميّين الذين لم يعرفوا نبوّة وأنهم لذلك مبعدون عن العناية الإلهية.
هذا التصور الإقصائي الذي عانى منه عرب الشمال في الجزيرة قبل ظهور الإسلام سيتسرّب بعد فترة ليستقّر في خطاب عدد من المتكلمين المسلمين. من ثَمّ عاد نفس التصور الاحتكاري للحقيقة باسم الإسلام من جهة إزاء الطوائف الكتابية اليهودية والنصرانية التي كانت مارسته قديما ضد العرب، ومن جهة أخرى إزاء الخارجين عن الخط الرسمي للإسلام.
لذلك فإن دراسة سورة الكهف تقوم في جانب من جوانبها على أهمية القطيعة مع التوجّه "القومي الطائفي" للتوحيد واستبداله بالوحي الذي لا يُحرَم من بركته شعب من الشعوب والذي يظل سبيلا للانعتاق بصفة دائمة.
لتوضيح هذه البنية الثقافية التي تستند إليها السورة نلاحظ الطابع المميَّز لمضامينها وصورها وإيقاعها. هو طابع لصيق بالمرحلة الثانية من الفترة المكية التي عرفت تحوّلا جليّا في علاقة مشركّي مكة بالدعوة المحمدية. من ثَمّ كان بناء السورة موسوما بطابع تربوي إرشادي. لقد تراجع كبار رجال مكة عن موقف اللامبالاة والانتقاص للرسول وصحبه أمام تزايد عدد أتباع "الدين الجديد" وتنوّع منحدراتهم الاجتماعية. بدأت تظهر معالم جماعة متنامية لم يعد المؤسس فيها ذاك الرجل الذي يسهل وصفه بأوصاف دونية. لهذا شرعت السورة من الآية: 9 إلى الآية: 23 في تقديم قصة أولى تهدف مع القصتين الأخريين تأسيس الضمير الديني العربي ضمن أفق ثقافي جديد.
تتناول القصة الأولى عرض مقاطع من حياة فِتية موحِّدين التجؤوا إلى كهف خارج مدينتهم فرارا بدينهم. يكتشف الفتية، عند استيقاظهم، أنهم قضوا في نومهم سنوات عديدة وأنّ أحوال مدينتهم انقلبت فجعلت عقيدتهم التي كانت مضطهدة، أيام التجائهم إلى الكهف، هي العقيدة السائدة.
أول ما يمكن أن نلاحظه هو أن هذه القصة منتشرة في الشرق كله إذ بلغت حدود منغولية. ترجع هذه القصة ذات الجذور المسيحية إلى فترة حكم الإمبراطور ديسيوس Decius (249-251 م) الذي أراد إرغام قومه على الوثنية ولاحق أتباع الدين الجديد[26]. يسجّل مؤرخو المسيحية أن سعي الإمبراطور ذهب سدى وأن بعض الفارين بدينهم تمكنوا -بعد زمن طويل- من الوقوف على انهيار وثنية الإمبراطور.
ما ينبغي أن نركّز عليه هو أن القصة في روايتها المسيحية إنما تُستحضر للتأكيد على إمكانية بعث الأجساد في حين أن الوجهة القرآنية تستعمل القصة بما يتناسب والسياق التاريخي للدعوة في مكة[27]. لذلك كان التوحيد، حسب الصياغة القرآنية، هو المعنى الأبرز في القصة. إنه البعد الأهم في المناخ الثقافي المكي الذي شهد نزول السورة، هذا رغم أن الخطاب القرآني قد عرض لعقيدة بعث الأجساد في مناسبات أخرى. قصة الفتية تهتمّ بالتوحيد مصاغا فيما يمكن أن نطلق عليه "الحضور الإلهي في التاريخ". إن "انتصار" الجماعة الفتيّة الموحدِّة على الشرك وتسلّطه قد تحقّق عبر السنين. من هذه الزاوية يبدو عناد مشركّي قريش في وضع تحدٍ قاس، ذلك أن القصة  تبيّن بما لا يقبل الشك تهافت الاعتقاد في حركية الدهر الدائرية التي لا تتوقف. مع فتية الكهف، في سبكها القرآني، يستعيد الزمان وجهته فتصبح له غاية تروّع من لا يريد أن يرى لأحداث التاريخ من معنى[28]. حصل ذلك لأن القصة لم تُعرِض عن الواقع الثقافي العربي في مكة وما حولها فاستجابت لما يحتاجه تمثّل ذلك الواقع من تأويل للقصة القديمة[29].
تتمحور ثاني قصص سورة الكهف، المنغرسة هي الأخرى في الذاكرة الجماعيّة الشرقية، حول شخصيّة موسى عليه السلام بكلّ ما تحمله هذه الشخصيّة من دلالات. هو النبيّ المجتبى والرسول المبعوث لتحرير قومه وتوحيد قبائلهم. إضافة إلى ذلك فإنّ موسى هو النجيّ الذّي يكلّم الله فيفوز بنعمة القرب والإصغاء[30]. هذه الصفات التّي ميّز بها القرآن الكريم موسى تساعدنا على فهم ما كانت تحتاجه أمّ القرى، مكّة، و هي تجتاز أزمتها الخانقة: أزمة الهويّة والمستقبل. 
تستعيد هذه القصّة ما تؤكّده قصص أسطوريّة أخرى مثل قصّة "قلقماش" الذّي سافر باحثا عن سرّ الحياة. في نفس هذه الوجهة تروي لنا القصّة بحث موسى عن وليّ صالح يتعلّم منه الحكمة. يلتقي الرجلان في رحلة هي أقرب إلى رحلات التنشأة الصوفية ليقف في نهايتها موسى على محدودية نظر الإنسان وكثرة شكوكه؛ تينك الصفتين اللتين لا تكادان تفارقان الطبيعة البشريّة. هذه القصّة المتميزة ترتبط بنفس الذهنية التي قامت عليها قصّة أهل الكهف. يكتشف موسى، كما اكتشف الفتية، العناية الإلهية وحضورها مشخصة في سلوك الحكيم، رفيق الرحلة. تأتي الخاتمة على معنى واضح هو أنّ الإنسان التقيّ النجيّ محتاج أن يتحرّر من أوهام الزمن القريب ليتجاوز الحدود الضيقة للمعرفة؛ غير أن الاستشهاد بشخصية موسى يجعل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كانت تعمل على إنشاء جماعة مؤمنة متميّزة، تأكيدا على الرابطة بين المنتمين إلى أممية التوحيد. مثل هذه الجامعة المؤسَّسة على الإيمان وعلى الحسّ المرهف بما هو متحرّك في ضمير الكون تصلح أن تكون آصرة يواجه بها المسلمون خصومهم من مشركي مكّة. هي قرابة أخرى تريد بناء عالم جديد يكون فيه الإيمان بالله الواحد منطلقا لتغيير الواقع وتوجيه الإنسان.
لا غرابة إذن إن عملت السورة في سياق عرض القصّتين الأوليين على تجاوز المفهوم القريب والخادع للزمن. في القصّتين يتحدد تعالٍ عن الزمن العاديّ يمكّن من اكتشاف وجه للحقيقة يخترق به المؤمن المفاهيم الخاطئة والأوهام السائدة. مثل هذا التمشّي في بيئة عربيّة مشركة أو ملحدة لا يعنيها إلا الكسب الماديّ والربح الآنيّ، مثل هذا التمشّي يمثّل انقلابا في القيم وتوجّها جديدا في الحياة.
تمثّل القصّة الأخيرة في السورة رحلة ثالثة يقوم بها ذو القرنين الذّي يعتبره بعض المفسّرين الإسكندر الأكبر (ت. سنة 333 ق.م). أمّا النصّ القرآنيّ فهو يعرض بطلا يحملّه الله مهامّ شاقة تدفع به إلى أقاصي الأرض ممّا يضطرّه إلى اجتياز مناطق مجهولة يقيم فيها مشاريع عظمى ليحمي بها ضعاف الناس[31]. هذه القصّة هي الأخرى لها جذور بعيدة فهي تذكرنا بقصّة "إيركل" وأعماله الجبارة أو ببناة سور الصين العظيم. غير أنّ الأهمّ من هذه المقارنات الظاهريّة هو ما تكتنفه هذه القصّة الثالثة من قيم. نحن، مع هذه القصّة أيضا في رحلة فريدة يتأكّد فيها مبدآن متكاملان. يتعلّق أوّلهما بأفق الرسالة الدينية ويتّصل ثانيهما  بطبيعة الخطاب القرآنيّ:
أ. تبقى الطبيعة الإنسانية، حيثما تنقلنا وأينما عشنا، واحدة وموحَّدة؛ لذلك فالإنسان الفذّ يكون هو الآخر محتاجا إلى الهداية الإلهية.
ب. لا يعتني النص القرآني بتوثيق الأحداث التي يتّجه إليها المؤرّخ عادة ليستجوبها. الأهم هو إثبات نبض التاريخ ولغة الحياة.      
هذه القصص الثلاث تؤكّد على بعد جديد لعالميّة الخطاب القرآنيّ. إنّه ينتهي إلى أنّ قيمة التجارب العالميّة تمكّن المؤمن من عين ثالثة وثاقبة تخترق حجب الزمن البطيء. 
غاية هذا التكثيف لجزيئات التاريخ الزاحفة في تؤدة هو "إرغام" للهويّة على أن تعيد تركيب مكوّناتها وإحياء كلّ أشكال الإحساس والوجدان فيها. من هذه الجهة فإن سورة الكهف بقصصها تتبنى خطابا قائما على أنّه لا يمكن لأيّ جماعة أن تواجه العالَم إلا إذا انطلقت من مواجهتها لعالَمها الخاص.
اللافت للنظر هو أن هذه القدرة الحركيّة والجدلية التّي تميّز بها الوعي النبويّ قد وقع تهميشها بتأثير فهم بسيط للعالمية ولتضامن أممية التوحيد. دفع ذلك إلى الحرص الشديد على معرفة تفاصيل القصص وصيرورة أحداثها والبحث عن الفوارق والنقائص بين ما ورد عنها في الكتب القديمة وما أثبته النصّ القرآنيّ. من ثمّ جاء الاهتمام بالإسرائيليات التّي كانت تمدّ المفسّرين بما يسعون إليه ممّا يظنونه ضروريّا لإتمام ما لم يصرّح به النصّ. هذا الأسر للمفهوم القريب والخادع للحدث كان يبتعد شيئا فشيئا عن بنية الخطاب القرآني الحريص على مخالفة منحى الكتب المقدسة السابقة بهذا الخصوص وإن كان يتضامن معها في ما تحمله من دلالة مواكبة الوحي لتغيير العالَم.
كانت بنية الخطاب القرآنيّ ترمي إلى تحويل الأصالة العربيّة، بانفتاحها على الآخرين وإعادة النظر في الذات، إلى هويّة متفاعلة مع الأفق العالميّ ممّا يتيح لتلك الأصالة أن تتجاوز آلية الثنائيّات المتناقضة التّي ميّزت البناء الفكريّ العربيّ القديم. 
على ذلك تبدو سورة الكهف دعوة إلى إلقاء نظرة جديدة على العالَم وسيره باستبعاد ذهنيّة الاستعلاء والتفرّد؛ هذا ما جعل الرحلات الثلاث في السورة مركّبا تتكامل فيه مضامين القصص رغم اختلاف جذورها في حركيّة تآلفيّة لتنتهي إلى هدف واحد هو تنسيب المعتقدات، ذلك المدخل الأساسيّ لتطوير المجتمعات المتابعدة والبنى الذهنيّة المتشابكة.
من ثمّ تتّحد القصص الثلاث في الوعي المحمّديّ: إنّها الإعلاء من شأن الزمان ذي الوجهة والقصد. إنه العامل الحاسم في تقليص مفاهيم الإقصاء والتفرّد، المفضي إلى اعتبار أن الرسالات الدينيّة الأخرى تحمل نورانيّةً تقتبسها من الوحي الإلهيّ وتستمدّها من الرحمة الربانيّة وتكتسبها من نعمة الإيمان. ذلك ما يسميه هشام جعيّط الحسّ القرآنيّ وجوهر الخطاب الدينيّ بخصوص وجهة العالم[32].
رغم كل هذا فإن جانبا هاما من الحضارة الإسلامية قد انبنى على عكس هذا التمشي؛ انبنى على إرادة القوة والتفوق اللذين لا يسمحان بالتعدد وهو ما أدّى إلى مفهوم للعالمية قائم على الهيمنة والتوسع الدائمين. لذلك لم يكن غريبا أن يعتبر كل مختلفٍ مع الرأي السائد منحرفا أو ضالا وأن ينظر إلى كل المعتقدات الأخرى على أنها معتقدات تحريفية وزائغة.
ما كان لمثل هذا التمشي أن ينتهي إلا إلى استفحال التناكر بين اليهود والنصارى من جهة وبين المتكلمين المسلمين من جهة أخرى؛ لذلك أصبح الطابع السجالي هو المميز للعلاقة بين أهل الكتاب جميعا. حالَ ذلك بين أتباع الديانتين اليهودية والمسيحية وبين النظر إلى القرآن الكريم على أنه وحي حقيقي. لقد اعتبروه أداة تسلط ونتاجا بشريا يحمل من الأخطاء ما يجعله عاجزا عن توفير النجاة لأتباعه. شجّعهم على هذا أيضا نظرهم إلى ما ورد من القصص القرآني في صياغة مختلفة على أنه تحريف للعهدين القديم والجديد. 
عندما تركَّزَ هذا السياق، أُهملَت إحدى الحقائق الكبرى لسورة الكهف وهي أن الوحي ليس تجميعا للأحداث التاريخية، بل إن وظيفته هي مواكبة نبض العالم قصد التجاوز المستمر لقيود الواقع. من ثم إن تقديم قصص الشعوب الماضية لا بد أن يراعي اعتبارات الواقع الثقافي والاجتماعي الذي يتنزل فيه. إن وجهة الوحي تتحدد في السعي إلى اصطفاء الحقائق الأكثر قدرة على إثراء خصوصيات كل أمة قصد الدفع بها نحو أفق العالمية. ذلك الأفق الذي ليس من المهم بلوغه بل الأهم هو انخراط في مساره المستقبلي والمنفتح. إن استمداد النص القرآني جانبا من قصصه من المخزون الثقافي والرمزي لشعوب أخرى تمّ بإعادة تشكيل تلك القصص بحسب مقتضيات اللحظة التاريخية الخاصة وهو ما يجعله على درجة من الصدق لا تختلف مع المنحى الذي تأسست عليه الكتب المقدسة السابقة. قد كان يمكن لهذا التمشي أن يؤدي إلى تعايش ديني كامل متفهّم للآخر وغير حريص على القول بأنه لا نجاة لأحد ولا خلاص لجماعة خارج العقيدة الخاصة. 
ما تدل عليه سورة الكهف ليس إلا تأكيدا لهذا التمشي الرافض للإقصاء الذي جر على البشرية أهوالا وفظائع؛ فلا غرو إن جاءت الآيات الأخيرة من سورة الكهف مبشرة بقيمة التعدد ولا نهائية تشكلات الحقيقة: "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" [سورة الكهف/الآية: 109].
إن تعدد الطرق إلى الحق نعمة إلهية، فإذا كانت طرق الهداية كثيرة فكيف يتأتّى الحديث عن احتكار للحق وللرحمة. بذلك ترسم لنا آخر كلمات سورة الكهف معالم طريق مؤسَّسَة على التواضع والصبر: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلاهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" [سورة الكهف/الآية: 110]. 
مع ذلك فإن سير الأحداث في الحضارة الإسلامية قد ابتعد عن وجهة هذه الكلمات وروحها. ذلك أن الدين لا ينمو إلا في ضمير المؤمنين به الذين يتفاعلون مع إحداثيات واقعهم؛ أي أنه لا يمكنهم بسهولة أن ينسلخوا عن ضغوط الزمن القريب وأوهامه. تلك هي المفارقة التي تشرح تعثرات الماضي وهي التي تدفع بالمؤمن اليوم إلى الحرص على تمثل التمشي التأسيسي للخطاب القرآني دون أن يفضي به ذلك إلى إرغام الآخرين على اتباع ما هو بالنسبة إليه الحق والمعتَقَد الصحيح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1.    النيسابوري؛ تفسير غريب القرآن، ط. بولاق القاهرة 1327هـ ، ج 9/57.  

2.    الطبري؛ جامع البيان في تفسير القرآن، ط. بولاق القاهرة 1327هـ ، ج 9/59. 
3.    الزمخشري؛ الكشاف، ط. الاستقامة القاهرة 1365/1946، ج 2/166. 
4.    الطبرسي مجمع البيان في تفسير القرآن، ط.دار الفكر بيروت 1375/1965، ج 9/46.
5.   النيسابوري؛ م.س. ص: 58.
6.    الرازي؛ التفسير الكبير، ط. القاهرة 1357/1938؛ ج 14/26. 
7.   القرطبي؛ الجامع لأحكام القرآن، القاهرة 1357/1938 ج7/302.    
8.    ابن كثير؛ تفسير القرآن العظيم، ط دار القرآن بيروت 1402/1981 ج 2/56.
9.   انظر ‎Lalande André, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, art. Universalisme; PUF 2 Vol. Paris 1992.
10. الموسوعة الفلسفية العربية، فصل "الآخر"، بيروت 1986.
11. الطبري، م.س. ج1/417.
12. انظر Ennaifer Hmida; Les gens du livre en occident musulman , travaux du colloque sur la condition juridique de l'autre, Institut de l'Orient Rome1995.
13. انظر Guiderdoni Abd-al-Haqq; Universalisme et exclusions en islam, Contrbution aux travaux du GRIC de Paris 1997. Voir travaux de la rencontre internationale sur Islam et droits de l'homme, CERES Tunis 1986.
14. ابن منظور، لسان العرب فصل أ.ن.س. دار صادر بيروت 1375/1956.
15. انظر ابن كثير بخصوص سورة البقرة/الآية: 213.
16. انظر الطبري، التاريخ ج1/966، انظر السهيلي، الروض الأنف والأزرقي،  تاريخ مكة 1/966، كذلك أحمد إبراهيم الشريف؛ مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول دار الفكر العربي القاهرة 1965 ص: 100 وما بعدها).
17. مرويّ عن ابن عبّاس ومجاهد وعطيّة.
18. انظر علي مبروك، النبوة، ط.1 بيروت 1993.
Jomier J.; Coran, révélation et histoire, Annales du depar. Des lettres arabes de Beyrouth, V.6B 1991-1992.Fazlurrahman; Divine revelation and the prophet, Hamdard IslamicusV.1n°21978. Hourani Georges; The quran's doctrine of prophecy, PIMS Ontario1984.
19. انظر القرطبي، م.س. بخصوص  سورة الأنعام /الآية: 92  والشورى/ الآية: 7.
20. انظر  Djait Hichâm; La personnalité et le devenir arabo-islamiques, Ed. Seuil, Paris 1974.
21. انظر  Mac Namara Martin; Critères de discernement en Israël, dans Concilium n°139,1978.
22. انظر Gonzalez Angel; Job, l'homme souffrant, dans Concilium n°119 , 1976.
23. انظر  Djait op.cit.p171
24. انظر   Djait op.cit. p 162.
25. انظر Arkoun Mohammad . Lecture de la sourate 18, dans Annales 35ème année n° 3-4 ,1980.
26. انظر Jourdan Francis; La tradition des sept dormants, Paris Maisonneuve 1983.Massignon Louis; Les sept dormants en islam et en chretiéneté, REI n°XXVIII, 1954.
27. انظرAncien.Testament. Ezechiel 37.
28. انظر Khoury Adel Téodore; L'islam dans la pensée chretienne orientale au moyen-âge; Concilium 116, 1976.
29. سورة البقرة/الآية: 125 وسورة الأنعام/الآية: 71 وسورة الحج /الآية: 31 وسورة قريش/الآية: 4 وانظر رضوان السيد، مفاهيم الجماعات في الإسلام ، دار التنوير بيروت 1984.
30. انظر Mubarac Y.; Moïse dans le Coran, Cahiers sioniens 8ème année n°2,1954.
31. انظر        
Arkoun M.; Peut-on parler de merveilleux dans le Coran? Ed. J.A. Paris 1978. 
Djait op.cit. art. Renouveler la vision de la Foi .32.

المصدر: http://www.alquran.ma/Article.aspx?C=5802

الأكثر مشاركة في الفيس بوك