فكرة الدستور والدولة الدستورية في الزمن العربي الحديث (تونس نموذجاً)

محمد الحدّاد

مثّلت الحركات الدستورية في العالم العربي جزءا أساسيا من مشروع النهضة الذي انطلق في القرن التاسع عشر، بل هو الجزء العملي من هذا المشروع باعتباره التجسيد للمفاهيم الجديدة التي بشّر بها رجل الإصلاح والنهضة، مثل توسيع دائرة المشاركة في الشأن العام، ونشر التعليم والوعي لدى عامة الشعب، والتصدّي للمخاطر والتحديات الأجنبية، وتفعيل القيم الإيجابية من التراث لتصبح قوّة دفع في الحاضر، وفتح باب التجديد والاجتهاد، والدعوة إلى الاقتباس من الغير حسب ما تقتضيه المصلحة العامة، والإعلاء من قيمة الحرية والكرامة. بيد أنّه يلاحظ أن العديد من الكتب المرجعية المهمّة التي أرخت لعصر النهضة العربية تبدأ الحديث عن الحركات الدستورية بصدور الدستور العثماني الأوّل في 23 ديسمبر/ كانون الأوّل 1876، وقد شارك فيه العرب من الولايات التي كانت آنذاك خاضعة بصفة مباشرة للسلطة العثمانية، ونال نصيبا واسعا من الاهتمام في الصحف العربية الإصلاحية الصادرة في تلك الفترة، وأهمها "الجنان" التي كان يصدرها المعلم بطرس البستاني من بيروت (تواصل صدورها من سنة 1870 إلى 1886)، وقد ترتب على هذا الدستور تأسيس مجلس تمثيلي، وسرعان ما وقع التراجع عن هذه التجربة الأولى، وحلّ المجلس وأبطل العمل بالدستور، إلى أن نجح الاتحاديون في الانقلاب والسيطرة على الحكم، فأعلن الدستور العثماني الثاني سنة 1908، ولقي بدوره ترحيبا من المثقفين العرب، لكن مصيره لم يختلف عن مصير سابقه وأبطل العمل به مع بداية الحرب الكونية الأولى.

لقد تركت هذه التجربة الدستورية في مرحلتيها صدى واسعا في الفكر العربي بواسطة مصلحين من معاصري تلك الفترة مثل بطرس البستاني وسليمان البستاني (صاحب كتاب "عبرة وذكرى أو الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده"، 1908) وعبد الرحمن الكواكبي وشاكر الخوري وجمال الدين الأفغاني وشكيب أرسلان وأحمد رضا وخليل غانم وغيرهم. وقد اقتصر اهتمام أشهر مؤرخي النهضة على هؤلاء، ولم يهتمّوا الاهتمام الكافي بتجربة دستورية أخرى سبقت التجربة العثمانية، ونقصد تجربة الدستور الذي أعلن في تونس سنة 1861؛ أي قبل خمس عشرة سنة من الدستور العثماني الأوّل. وسنحاول في هذه الدراسة إلقاء الضوء على هذه التجربة الرائدة وتحليل مضامينها وإبراز ما أثارته من إشكالات وقضايا، خاصة فيما يتعلّق بالشرعية الدينية لفكرة الدستور.

المبدأ الدستوري:

يُعرّف الدستور على أنّه النص القانوني الأساسي الذي ينظم العلاقة بين مجموعة بشرية تشترك في حدود جغرافية معنية، ويَتعايش أفرادها على أساس المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، وينظم الدستور هذه الحقوق والواجبات بين المواطنين وبينهم وبين السلطة الحاكمة.

وتعيش بعض المجتمعات بمقتضى ما يدعى بالدستور العرفي، إذا كانت المجموعة قد تواطأت على قواعد سياسية مشتركة منذ فترة طويلة، وهذا حال بريطانيا مثلا؛ لكن أغلب الدول في العالم تتمتّع بدساتير مكتوبة، وتعدّل دساتيرها حسب الحاجة، وتنقسم الدساتير المكتوبة بدورها إلى قسمين: دساتير مختصرة تقتصر على مجموعة من المبادئ العامة، ودساتير مطوّلة تتضمن مجموعة أكبر من المبادئ والتنظيمات، وغالبا ما تصاغ الدساتير على النمط الثاني إذا كتبت بعد ثورات أو أحداث دامية؛ لأنها تسعى حينئذ إلى الحيلولة دون استعادة ممارسات سياسية سابقة.

وقد عرفت الدساتير في المدن الإغريقية القديمة، وفي قرطاج وروما، وعرفت إنجلترا سنة 1215 "الماغنا كارتا" (Magna Carta)؛ أي الميثاق الأكبر، وهي وثيقة شبه دستورية توزّع السلطات بين الملك والأعيان، وتمنع التعدّي على حقوق الأشخاص وعقائدهم، وتمهّد لقيام ملكية مقيدة، ثم عرفت إنجلترا سنة 1689 وثيقة "قاعدة الحقوق" (Bill of Rights) التي أسّست بوضوح الملكية المقيدة القائمة على حقوق أساسية للرعايا والمقيمين، وتطورت التشريعات الإنجليزية في العصر الحديث لتصبح المثال الأبرز للملكية الدستورية. وفي مقابل التجربة الإنجليزية، ظهرت أيضا الدستورية الجمهورية في أمريكا وفرنسا، فقد تخلص الأمريكان من التبعية للعرش البريطاني وأسّسوا الولايات المتحدة الأمريكية، وأعلنوا دستورا يوم 17/09/1787 دخل حيّز التنفيذ سنة 1789 بعد أن صادقت عليه مختلف الولايات، ثم أدخلت عليه بعد ذلك العديد من التعديلات Amendement (27 تعديلا).

أما في فرنسا، فقد أطاحت ثورتها بالنظام الملكي وأعلن الثوار وثيقة "حقوق الإنسان والمواطنة" في 26/08/1789، ثم صاغوا العديد من المشاريع الدستورية التي كانت تعدّل حسب تطورات الوضع السياسي، ومنها دستور سنة1791 وميثاق سنة 1814 (الذي يتضمن العودة إلى الملكية في شكل مقيّد)، وميثاق سنة 1830 (وقد عرّبه الطهطاوي في كتاب "تخليص الإبريز")، ودستور الجمهورية الثانية سنة 1848، والقوانين الدستورية للجمهورية الثالثة سنة 1875، ثم دستور الجمهورية الرابعة سنة 1946، وأخيرا دستور الجمهورية الخامسة سنة 1958 وهو الجاري به العمل إلى الآن.

وبسبب أهمية الثورة الفرنسية (1789) فإن أغلب البلدان قد اتجهت شيئا فشيئا إلى صياغة دساتير مكتوبة، بما فيها البلدان الملكية أيضا التي تحوّلت إلى ملكيات دستورية، وانتشرت فكرة الدستور في أوروبا ثم في البلدان غير الأوروبية التي شهدت تجارب إصلاحية مبكرة (مثل اليابان وتونس وتركيا)، ثم عمّمت التجربة الدستورية بعد نجاح حركات التحرّر الوطني في القرن العشرين؛ إذ عملت دول الاستقلال على صياغة دساتير مكتوبة تأكيدا لاستقلالها عن المستعمر، ومحاولة لإقامة مجموعة من المشتركات يتأسس عليها النظام السياسي الجديد؛ بيد أن فشل العديد من هذه الأنظمة قد جعل الفكرة الدستورية ضعيفة لدى مواطنيها.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الفترات السابقة لوجود دساتير مكتوبة لا تعني بالضرورة أن الأمر كان فوضى؛ إذ هناك دائما أعراف توجّه المجتمع والدولة. وإذا أخذنا المجتمعات العربية والإسلامية تحديدا، وجدنا أنّها كانت منظمة حسب مجموعة من القواعد والتشريعات بعضها ديني وبعضها عرفي؛ لكن جهاز السلطة كان في الغالب لا يخضع لأي نظام محدّد؛ لذلك شهد العالم الإسلامي باستمرار توترات في مسألة الحكم، فما أن يتوفّى صحاب السلطة إلا وتنشأ نزاعات على خلافته بسبب عدم وجود قواعد واضحة لانتقال الحكم، كما لا توجد ترتيبات واضحة وملزمة بين الحاكم والمحكومين، بما يجعل الحاكم يتمتع بسلطات مطلقة، ولا يحظى المحكومون بضمانات دنيا لحقوقهم. ولقد كان من الطبيعي مع بداية النهضة العربية في القرن التاسع عشر أن تحظى القضية الدستورية بالاهتمام الأبرز؛ لأن المصلحين الأوائل -وقد كانوا من الوزراء أو المستشارين- أدركوا أن لا شيء قابل للإصلاح إذا تواصلت ممارسة الحكام لسلطة مطلقة واعتباطية. فكان الاتجاه الغالب في القرن التاسع عشر الدفع إلى الانتقال من الحكم المطلق إلى الملكية المقيدة الدستورية، ولم تظهر فكرة الجمهورية الدستورية إلا في القرن العشرين، وتكرست في منتصف هذا القرن بعد نجاح ثورة يوليو 1952 في مصر واستقلال العديد من الأقطار العربية مع تخلص بعضها من النظام الملكي (تونس 1956).

وفي خضم هذه التحوّلات السياسية والفكرية اتجه بعض المفكرين المسلمين إلى البحث عن جذور إسلامية لفكرة الدستور، فنشر الباحث الباكستاني المقيم بفرنسا محمد حميد الله "صحيفة المدينة" الواردة في سيرة ابن هشام، ونقلها إلى الفرنسية بعنوان "دستور المدينة"، وانتشرت هذه التسمية منذ ذلك الحين، أما البعض الآخر فقد سعى إلى إبراز القيم الدستورية في القرآن الكريم. ونحن لن نتناول هذه الجوانب في هذه الدراسة؛ لأنها لم تطرح إلا في القرن العشرين، أما التجارب الدستورية النهضوية التي ظهرت في القرن التاسع عشر فلم تكن تشعر بأي حرج في اقتباس الفكرة الدستورية من النّظم السياسة الحديثة التي ظهرت مع الثورة الفرنسية، وكانت ترى في ذلك الاقتباس جزءا من النهضة والتمدين، ولم تكلّف نفسها البحث عن دساتير في التراث بقدر ما سعت إلى إثبات أن فكرة الدستور بشكلها الحديث هي فكرة تتعلق بالإدارة المدنية للشأن العام وليس بالدين نفسه، وأنها بذلك لا تتعارض والأحكام الإسلامية؛ لأنها تقوم على تحقيق العدل والمصلحة.

الدستور والشرعية الدينية:

ولقد كانت مسألة الشرعية الدينية للدستور من المسائل الحسّاسة التي طرحت منذ اكتشاف الفكر الإصلاحي لهذه الطريقة الجديدة في تأسيس السلطة. ولا مناص من أن نشير هنا إلى أن فكرة الدستور التي عرفت في عصور غابرة كانت قد اختفت تماما في العصر الوسيط، سواءً في العالم الإسلامي أو العوالم الأخرى المحيطة به (ومنه أوروبا اللاتينية)، وأن فكرة الدستور قد بدأت انتشارها الحديث والكوني بعد الثورة الأمريكية(1763) ثم خاصة الثورة الفرنسية (1789).

ومنذ أوّل محاولة لعرض طبيعة هذه التجربة على القرّاء العرب، نلمس الحرج الذي كان يشعر به الإصلاحيّون في هذا المجال. وقد جاءت أوّل محاولة بقلم رفاعة الطهطاوي في كتابه المشهور "تخليص الابريز في تلخيص باريز"، الصادر سنة 1834، وقد عرّب فيه الكاتب -لأوّل مرّة- نصّا دستوريا حديثا، وهو الدستور الفرنسي الصادر سنة 1830، وقد أطلق عليه الطهطاوي تسمية "الشرطة" من الكلمة الفرنسية Charte التي تعني الميثاق، وهي التسمية التي اعتمدها الفرنسيون آنذاك، وقد أحاط الطهطاوي تعريبه لهذا النصّ بالعديد من الاحتياطات؛ نظرا لأن هذه الفكرة كانت تطرق الأذهان لأوّل مرّة.

ثم نجد خير الدين التونسي (1822-1890) يتحدث عن فكرة الدستور بنفس الحرج، مع فارق أن الطهطاوي كان يتحدث عن تجربة رآها في فرنسا، بينما كان خير الدين يتحدث في "أقوم المسالك" الصادر سنة 1867 عن تجربة اختبرت في تونس وكان هو من أبرز المسهمين فيها؛ لكننا نراه يفضل بدوره أن يتحدث عنها كما حصلت في أوروبا وليس كما حصلت في بلاده، فيقول مثلا: "وقد رأينا بالمشاهدة أن البلدان التي ارتقت إلى أعلى درجات العمران هي التي تأسست بها عروق الحرية والكونستيتوسيون المرادف للتنظيمات السياسية، فاجتنى أهلها ثمارها بصرف الهمم إلى مصالح دنياهم"(1)، ويطلق على الممالك الأوروبية تسمية "الممالك الكونستيتوسيونية"(2). ويلاحظ أن استعمال الطهطاوي كلمة "شرطة"(من الفرنسية Charte) وخير الدين كلمة "كونستيتوسيون" (من الفرنسية constitution) يعود إلى أن كلمة "دستور" نفسها -وهي كلمة من أصل فارسي- لم تكن معروفة ومتداولة إلى ذلك الوقت، وقد تردّد خير الدين بين استعمال التعريب الصوتي من الفرنسية أو استعمال كلمة "تنظيمات" المقتبسة بدورها من الحركة الإصلاحية التي بدأت في عاصمة الخلافة مع إصدار "خطي شريف كلخانة" سنة 1839، ولم تكن هذه الحركة دستورية بالمعنى الدقيق وإن أسهمت في التمهيد لفكرة الدستور لاحقا. وقد بدأ استعمال كلمة "دستور" في آخر القرن التاسع عشر، وتكرس وانتشر في القرن العشرين، أما الفكرة ذاتها فهي سابقة، والمرجح أن الطهطاوي هو أوّل من طرحها بوضوح وتفصيل في الموضع الذي أشرنا إليه، أما أوّل تجسيد فعلي للفكرة فقد حصل في تونس سنة 1861.

وبمراجعة كتاب "أقوم المسالك" (1967) لخير الدين -وهو الكتاب الذي صدر بعد التجربة الدستورية التونسية التي انتهت بالفشل، كما سنرى- نلاحظ أن خير الدين قد تفادى تخصيص الحديث عن الدستور تحديدا، وطرح القضية في أفق أوسع وهو أفق "التنظيمات"، مستفيدا من كون هذه الفكرة قد أتت من عاصمة الخلافة التي كانت تمثل في أذهان مواطنيه مصدرا مهمّا للشرعية الدينية، باعتبار أن العلاقة بين تونس والإمبراطورية العثمانية كانت قد فقدت على مرّ السنين أهميتها السياسية، وأصبح حكام تونس متمتعين بالاستقلالية في القرار؛ بينما اتخذ خضوعهم للخلافة العثمانية شكلا رمزيا أساسا، يضطلع فيه الجانب الديني بدور بارز. ولقد احتوت مقدمة "أقوم المسالك" على الكثير من الحجج والمجادلات الدينية التي تسعى لتأكيد الشرعية الدينية لفكرة التنظيمات عامة ولفكرة الدستور خاصة، ولاشك أنّ كثرة تلك المجادلات دليل على أن الفكرتين لم تكونا من باب المسلمات، وأنهما واجهتا مقاومة عنيفة تستند بدورها إلى حجج دينية. فلم يكن من باب الصدفة أن رتّب خير الدين كتابه على شكل فتوى، مضمونها هل يجوز اقتباس هذه الوسائل الحديثة في إدارة الشأن العام؟ وأنه قد بدأ كتابه بتقرير هذه القاعدة:

"إن الأمر إذا كان صادرا من غيرنا وكان صوابا موافقا للأدلة، لا سيما إذا كنّا عليه وأخذ من أيدينا، فلا وجه لإنكاره وإهماله، بل الواجب الحرص على استرجاعه واستعماله، وكل متمسك بديانة وإن كان يرى غيره ضالا في ديانته، فذلك لا يمنعه من الاقتداء فيما يستحسن في نفسه من أعماله المتعلقة بالمصالح الدينوية، كما تفعله الأمة الإفرنجية(3).

وبما أنّ خير الدين لم يكن هو نفسه عالم دين، رغم ثقافته الدينية الواسعة؛ فقد حشر في كتابه الكثير من النقول عن شخصيات دينية ذات مرجعية، كما اعتمد على رأي ثلاثة من كبار علماء الشرع في عصره، وهم الشيخ أحمد عارف (1786-1859) شيخ الإسلام الحنفي بالآستانة من 1845 إلى 1854، والشيخ إبراهيم الرياحي (1766-1850)، كبير مفتي المالكية في تونس، وقد جمع بين الفقه المالكي والتصوّف على الطريقة التيجانية، والشيخ محمد بيرم الأوّل (1718-1800)، وقد سبقه في العصر؛ لكنّ وزنه ظلّ قويّا بفضل أسرة البيارمة التي اضطلعت بدور مهمّ في الإصلاحات، وكان محمد بيرم الخامس من أبرز المعاضدين لخير الدين. وللشيخ الأوّل كتاب مهمّ عنوانه "رسالة في السياسة الشرعية" عرّف فيه السياسة الشرعية بأنها "ما يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به الوحي"(4). ولقد سعى خير الدين جهده لحشد علماء الشرع للمشاركة في الإصلاحات، فعاضده البعض -مثل بيرم الخامس وسالم بوحاجب وأحمد ابن أبي الضياف- وعارضه آخرون، واختار أغلبهم الابتعاد عن قضايا جديدة لا عهد لهم بها ولا دراية لهم بما تتضمنه من خلفيات ورهانات.

ويمثل كتاب "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" لأحمد بن أبي الضياف (1802-1874) أهمّ مصدر تاريخي للقرن التاسع عشر والحركة الإصلاحية التي ظهرت في تونس آنذاك. وقد حرص صاحبه على أن يفتتحه بفصل مهمّ يبيّن الرؤية السياسية لمصلحي ذلك العصر؛ إذ كان ابن أبي الضياف يتحدث باسمهم ويعبّر عن طموحاتهم وتطلعاتهم. فنجده يبدأ بتقرير المبدأ التقليدي الذي اتفق عليه أغلب المسلمين منذ القديم، وهو ضرورة إقامة الملك، وأنه واجب شرعي يصنّف ضمن فروض الكفاية، ويرجع إلى أهل الحلّ والعقد، ودليل وجوبه إجماع الصحابة، ويستمدّ من ابن خلدون فكرة مدنية الإنسان لبعض هذا الوجوب الشرعي بالأدلة العقلية، ويردّ على قول بعض الخوارج بعدم الوجوب، وغير ذلك من المسائل التقليدية المعروفة في كتب الأحكام السلطانية والسياسية الشرعية، مع ملاحظة مهمة جدّا، وهي إقحام ابن خلدون والاستفادة منه في فكرتين أساسيتين: أولاهما ما أشرنا إليه؛ أي تأسيس مبدأ الحكم على مدنية الإنسان واعتبار الحكم ضرورة؛ لأن "الإنسان مدني بالطبع أي مجبول على طبع يقتضي الاجتماع"(5)، وثانيهما -وهي تمثل ثورة تجديدية في الفكر السياسي الإسلامي- الإقرار بأن نموذج الخلافة هو نموذج تاريخي قد انتهى ولا يمكن إقامته من جديد، وأنه لم يبق للمسلمين إلاّ الملك، ويلخص ابن أبي الضياف الرأي الخلدوني قائلا: "وهذا الوازع إما خلافة عن صاحب الشرع، والخلافة هي حمل الكافّة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة؛ لأنّ الخلق ليس المقصود منهم دنياهم فقط؛ وإنما المقصود منهم دينهم المفضي إلى السعادة في آخرتهم. ومضت مدة الخلافة بنصّ الحديث الشريف: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة"، تمّت بتسليم سيدنا الحسن بن علي لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهم-، وذلك من أعلام النبوّة، حيث قال فيه جدّه -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ابني هذا سيّد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين"، فبقي الملك وانقسم في الوجود إلى ثلاثة أصناف: ملك مطلق، وملك جمهوري، وملك مقيّد بقانون شرعي أو عقلي سياسي"(6).

لقد انتهت الخلافة ولم يبق إلا الملك، بذلك يصبح الحديث عن الملك -ويعني هنا الحكم عامة- حديثا تاريخيا لا حديثا دينيا، واستقراء التاريخ هو الذي يسمح للمؤرخ بأن يقدّم هذه الأصناف الثلاثة ويجعل الاختيار بينهما فعلا عقليا.

فأما الملك المطلق، فالأصل فيه ألاّ يسلّم إلاّ لله الذي له الخلق والأمر، وفي هذه العبارة نسف لقاعدة الحكم المطلق التي كانت سائدة في كل العالم الإسلامي، ويوضّح ابن أبي الضياف فكرته بكل جرأة بالقول: "الملك من هذا الصنف يسوق الناس بعصاه إلى ما يراد منهم بحسب اجتهاده في المصلحة، وهو فرد غير معصوم يلزمه ما يلزم البشر"(7). فليست آفة هذا الملك تغليب الهوى على المصلحة بل الاستفراد أيضا في تقرير المصلحة، فهو مرفوض من الأساس؛ لأن الفرد يخطئ ويصيب، وهو مرفوض إذا أخطأ أو إذا أصاب؛ لأنه شكل غير صالح من أصله. ثم يعرض ابن أبي الضياف اختلافات أهل السنّة في الموقف من حكم الإطلاق، وأغلب النقول عن الأقدمين تبرير لوجوده ومنع للخروج عليه، باعتبار طاعة أولي الأمر واجبة، والصبر على طاعته أولى وأحقّ، وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم، وينتقم الله من الظالم بالظالم ثم ينتقم من كليهما، وغيرهما من النقول في السياق نفسه؛ لكنّه يعلق عليها بالقول: لا، وذهب أكثر سلف الأمّة إلى أنّ عقد الإمامة ينحلّ بما يخلّ بمقصودها الذي هو العدل وكفّ يد العدوان، فإذا تعدّى وخالف ما نصب لأجله فهو ليس من أهل الإمامة"(8). بيد أن الكاتب لا يذهب إلى حدّ الدعوة إلى "الخروج"؛ بل يدعو إلى التغيير باللسان، "والتغيير باللسان لا يستلزم رفض طاعة ولا خروجا عن الأمراء بتحزّب للمغالبة، وله وجوه كثيرة وأبواب مفتوحة كالوعظ من العلماء ورثة الأنبياء، وتشكّي المظلومين من غير إغلاظ ولا إساءة أدب ولا منازعة في الأمر، إلى غير ذلك من دفع الضرر والتوقّي منه. ولا شك أن ذلك ينتج شيئا من المطلوب، فما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه"(9).

فابن أبي الضياف لا يخوض هنا خوضا مجرّدا في أقوال السابقين؛ وإنما يعكس منهج التغيير الذي اعتمده المصلحون في القرن التاسع عشر، وهو ما ندعوه اليوم "التغيير من الداخل"، ومحاولة إصلاح الدولة بإصلاح هياكلها، فالحركة الإصلاحية والدستورية حملها أشخاص من داخل جهاز الدولة، من الوزراء والمستشارين والكتاب، وهي ليست حركة "ثورية" (أو حركة "مغالبة"، بتعبير ابن أبي الضياف) وإنما هي حركة إصلاحية.

فإذا تأكد أن الملك (الحكم) المطلق مرفوض، لم يبق إلا الحكم المقيّد والحكم الجمهوري. وهذا الأخير يمثل في نظر الكاتب -وفي نظر الإصلاحيين عموما- التطرف القابل للحكم المطلق، على أساس أنّ خير الأمور الوسط، وأن الحكم المقيّد فضيلة بين إفراط وتفريط، فالإفراط هو الحكم المطلق، والتفريط هو الحكم الجمهوري، ويقدّم مثالا له أمريكا (الولايات المتحدة) في عصره.

يبقى إذن "الملك المقيّد بقانون"، ومثلما حصل في تونس بعد أن أعلنت الدستور في سنة 1277هـ/ 1861م، يقول: "وهذا بعد الخلافة هو الملك الذي يحاط به العباد، ويماط به الفساد، ويناط به المراد"(10). ويرى أنه قد عرف قديما لدى الفرس ثم لدى المسيحيين، وأن المسيحيين كانوا أكثر تقبّلا له؛ لأن الديانة المسيحية سلطانها على الأرواح لا على الأجساد؛ بيد أنه يرى أن المهمّ ليس الديانة؛ وإنما طلب الناس للحرية، وقد كان المسيحيون أكثر غيرة على الحرية وممانعة للظلم بشهادة نبي الإسلام نفسه، فقد روى المستورد القرشي بحضور عمرو بن العاص: "سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس" فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعته عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: لئن قلت ذلك، إنّ فيهم لخلالاً أربعا: إنّهم لأحلم الناس عند الفتنة، وأسرعهم إفاقة عند مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك". والراجح أن ابن أبي الضياف -الذي كان على المذهب المالكي- قد انتبه إلى هذا الحديث من خلال القاضي عياض، وكانت كتب عياض -أحد أشهر أعلام المالكية في شمال إفريقيا- كثيرة الانتشار والتداول في تونس، ومنها شرحه على صحيح مسلم، وفيه يرد هذا الحديث مع تعليق عياض بأن مصداق الحديث يظهر في آخر الأزمنة، فكأن ابن أبي الضياف يوجّه فهم المسلمين إلى أن العصر الحديث هو المشار إليه بعبارة "تقوم الساعة".

بيد أن أبي الضياف لا يقتصر على الدليل النقلي للدعوة إلى الحكم الدستوري المقيّد، بل يعتمد أيضا دليل التجربة والمعاينة، فيشير إلى ما غنمته البلدان الأوروبية من فوائد عندما انتقلت من الحكم المطلق إلى الحكم الدستوري، ويحدث نقلة نوعية في الفكر السياسي الإسلامي، عندما ينقل السؤال من "هل الحاكم صالح أم لا؟" إلى "هل نظام الحكم صالح أم لا؟".



فالفكر الإسلامي التقليدي يظل في مستوى السؤال الأوّل، فهو يهتمّ بالحكم على شخص الحاكم، أما الفكر السياسي الحديث فهو الذي يهتم بنظام الحكم نفسه. لذلك ينبه ابن أبي الضياف إلى أن صلاح الحاكم ليس الحلّ، وينقل عن خير الدين باشا -أبي الدستور التونسي- مضمون محاورة كانت له في باريس في عهد نابليون الثالث مع رجل سياسة فرنسي، فقد كان هذا الرجل شديد الإعجاب بنابليون الثالث، فقال له خير الدين: إذا كان بهذه الدرجة من الكفاءة فلماذا تسعون إلى أن تفرضوا عليه مزيدا من القوانين الدستورية، فأجابه الفرنسيّ: "وهل يضمن أحد أنه يدوم على هذا الخلق النفيس؟ أو يكون ابنه مثله في الوصف؟"

وبسلطة المؤرخ المستقرئ للأحداث والوقائع، يقول ابن أبي الضياف بأن بلوغ الحكم الدستوري إما أن يقع بالثورة (الفتنة) وسفك الدماء، أو بمبادرة الملوك الحكماء للقبول بتقييد سلطاتهم، وهو يشير من طرف خفي إلى حاكم تونس، ويحشر الأدلة الكثيرة -النقلية والعقلية والعيانية- لإثبات أن فكرة الدستور لا تتناقض والشرع الإسلامي؛ بل هي ضمان العدل الذي هو جوهر الإسلام، ويؤكد أن الحكم بتفاصيل الشريعة بات متعسّرا منذ نهاية عصر الخلافة، وأن الباقي هو المزج بين مقاصد الشرع ومعطيات العقل والتجربة. وقد شهد العصر الحديث بفضائل الحكم الدستوري، فأصبح واجبا على المسلمين اقتباسه مع مراعاة سنة التدرّج، وقبول فكرة المساواة التي هي أساسه الأوّل، أو كما يقول بعبارته: "التساوي بين الناس في الحقوق الإنسانية"(11). مع ملاحظة أن كلمة مواطنة مثل كلمة دستور لم تظهر بعد في عهده، فكان يستعمل كلمة "مقيد" أو "قانوني" للإشارة إلى الحكم الدستوري، وكلمة "ناس" للإشارة إلى المواطنين.

إن المتأمّل في الاستدلالات الطويلة التي عرضها ابن أبي الضياف يرى أنها تصنّف على نوعين: فالجزء الأوّل يحاور من داخل المنظومة التراثية ليرفع دعوى معارضة فكرة الحكم المقيّد (الدستوري) للأحكام الدينية، والجزء الثاني يعتمد المعاينة والاستدلال التاريخي ليبيّن أن عصور ازدهار الأمم مرتبط بتقيدها بالحكم المقيّد، وأن آخر المعاينات ما يحصل في أوروبا (في عصره): "انظر حال الإفرنج الذين بلغ العمران في بلدانهم إلى غاية يكاد السامع ألا يصدق بها إلا بعد المشاهدة، كيف تدرّجوا في أسبابه تدرّجا معقولا، فإنهم أسسوا قوانين عدل..."(12). لقد وظّف ابن أبي الضياف ثقافته الدينية الواسعة من جهة، ومعلومات المؤرخ من جهة أخرى؛ ليبلغ هدفا واحدا وهو إقناع أهل عصره بضرورة المضي في إقامة الدستور شرطا رئيسا لنجاح مشروع الإصلاح والنهضة والتمدين.

التجربة الدستورية التونسية: المقدمات

لما افتتحت الخلافة العثمانية عهد "التنظيمات"، بإصدار خطي شريف كلخانة سنة 1839، اتجهت إلى حاكم تونس، أحمد باي (1837-1855) بهذه الوثيقة ليعلنها في الإيالة التونسية، باعتبارها جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وقد أرسل الخليفة العثماني لهذا الغرض وفدا رسميّا، استقبل استقبالا حسنا؛ لكن رفض طلبه، فقد كان أحمد باي يسلك سياسة الاستقلال عن الخلافة دون القطع التام معها، ولم يكن يعدّ نفسه مجرّد وال عثماني، وعبّر عن هذه السياسة -التي تواصل في الواقع توجهات الأسرة الحسينية الحاكمة منذ عهد حمودة باشا (1782-1814) على الأقل- بالعديد من الإجراءات الرمزية والعملية، مثل اعتماد اللغة العربية بدل العثمانية، وإقامة علاقة مباشرة مع الدول الأوروبية (توجت بأوّل زيارة يقوم بها حاكم عربي إلى فرنسا سنة 1846)، والتهرّب من دفع الإتاوات السنويّة للآستانة.

لكن أحمد باي كان حريصا على ألاّ يفهم من رفضه للتنظيمات التركية على أنه رفض لفكرة التنظيمات في ذاتها؛ لأن غايته ألا يطبّق الإصلاحات باسم السلطان بل باسمه وباسم أسرته الحاكمة، لا سيما وأن الإصلاحية التونسية قد بدأت منذ حمودة باشا وقبل التنظيمات التركية، وأن أحمد باي نفسه قد بدأ حركته الإصلاحية قبل صدور خطي شريف كلخانة، كما يشهد على ذلك مثلا إنشاء المدرسة الحربية بباردو سنة 1838، وقد ضمّت النواة الأولى للإصلاحيين. فلم يكتف أحمد باي برفض تطبيق التنظيمات العثمانية بل بادر بتسريع وتيرة الإصلاحات، وكأنه يريد أن يثبت أنه الأكثر قدرة عليها، لذلك سبق عاصمة الخلافة في العديد من المبادرات ومنها إعلان الدستور.

وقد قام أحمد بن أبي الضياف ثم خير الدين باشا بدور مهمّ في تجنّب الأزمة والقطيعة بين حاكم تونس والباب العالي، واستفاد الرجلان من حاجة أحمد باي إليهما في هذه المهمة الدقيقة لدفعه إلى المضي في طريق الإصلاح السياسي. 

ولقد مهّد أحمد باي للدستور التونسي من خلال رفضه تطبيق "خط شريف كلخانة"، وسعيه لقيادة إصلاحات تونسية تنافس الإصلاحات التركية، وتقتبس مباشرة من التجارب الأوروبية بدل المرور بواسطة الآستانة. وفي حين كانت الإصلاحات التركية متفاعلة مع "النصائح" التي تقدمها إنجلترا إلى السلطان العثماني فإن الإصلاحات التونسية كانت أكثر تفاعلا مع "النصائح" التي تقدمها فرنسا إلى الباي، دون أن ينفي ذلك وجود تأثيرات إنجليزية وإيطالية أيضا؛ بيد أن أحمد باي كان قد عزم سنة 1846 على زيارة فرنسا وإنجلترا، وكانت هذه الخطوة تتنزّل في نفس السياق الذي أشرنا إليه، وهو دعم استقلالية الإيالة التونسية عن الخلافة دون قطع معها، وقد احتجّ الباب العالي آنذاك؛ لأنه كان يعد حاكم تونس واليا عثمانيا لا يحقّ له ممارسة السياسة الخارجية، وبما أن إنجلترا كانت الحليف القوي للسلطان العثماني فقد استجابت لضغوط الآستانة، ورفضت زيارة باي تونس إليها، في حين رحّبت فرنسا بالزيارة وشجعت عليها. فاصطحبت أحمد باي العديد من الوجوه البارزة التي اضطلعت لاحقا بأدوار مهمة في الإصلاح، مثل المؤرخ أحمد بن أبي الضياف والوزير خير الدين باشا. وبادر أحمد باي بإصلاحات مهمة مثل إلغاء العبودية سنة 1846؛ ليثبت أنه أكثر تحمسا للإصلاح من الخليفة العثماني. ثم خلفه محمد باي (1855-1859) فواصل السياسة نفسها؛ إذ طلبت منه السلطات العثمانية أن يطبق التنظيمات، وأرسلت وفدا رفيعا يعرض عليه "خط همايون" ويطالبه بتطبيقه، فاتخذ موقف سلفه نفسه، وسارع بالإعلان عن وثيقة إصلاحية موازية هي التي عرفت بعهد الأمان، وقد مهدت لوثيقة الدستور التونسي. 

والواقع أننا إذا حللنا مضمون "عهد الأمان" نجده يستعيد الموجود في "خط همايون" العثماني؛ لكن الفارق أن "عهد الأمان" يعلن باسم باي (حاكم) تونسي وليس باسم الخليفة العثماني، وهذا هو مربط الرهان، كما أنّه مكتوب باللغة العربية وليس باللغة العثمانية، تأكيدا للاستقلالية النسبية للباي عن الخليفة. ما عدا ذلك، فإن مضمون "عهد الأمان" والتنظيمات العثمانية هو مضمون واحد تقريبا. وقد حرّره أحمد بن أبي الضياف على وجه السرعة؛ لأن الباي قد أقرّه تحت ضغط الإنجليز والفرنسيين وفي سباق مع السلطان العثماني. ونظم موكب رسمي في العشرين من محرم سنة 1274هـ/ 9 سبتمبر 1857 حضره الباي وأهل المجلس الشرعي وأعيان الدولة وممثلو الأقليات الدينية وقناصل الدول الأجنبية، وتلي نص "عهد الأمان" في ذلك الموكب. ونجد أنه يدور أساسا على مفهوم "العدل"، ويؤكد أنه قانون سياسي لا ديني؛ لكنه لا يتعارض مع الشريعة ("...وشرعنا في فصوله السياسية بما لا يصدم إن شاء الله القواعد الشرعية...")، وقد سمي "عهد الأمان"؛ لأن الفصل الأوّل منه -وهو الفصل الأهمّ- يعلن على لسان الباي "تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان، في أبدانهم المكرّمة وأموالهم المحرّمة وأعراضهم المحترمة".

أما الفصول الأخرى فهي تضع القواعد التالية: المساواة بين السكان في كيفية احتساب الضرائب (القاعدة الثانية)، المساواة بين المسلم وغير المسلم في استحقاق الإنصاف؛ "لأن استحقاقه لذلك بوصف الإنسانية لا بغيره من الأوصاف" (القاعدة الثالثة)، المحافظة على كل حقوق أهل الذمة (القاعدة الرابعة)، تنظيم أمر العسكر وضبط مدة الخدمة العسكرية (القاعدة الخامسة)، تمتيع أهل الذمة بحق اصطحاب أحد أعيانهم إذا ما مثلوا أمام المحاكم (القاعدة السادسة)، إنشاء محكمة تجارية (مجلس للتجارة) تفصل في القضايا التجارية بين سكان تونس والتجّار الأجانب (القاعدة السابعة)، المساواة في القوانين بين المسلمين وغير المسلمين عدا الأحكام الدينية (القاعدة الثامنة)، امتناع الدولة عن ممارسة التجارة وتحرير التجارة أمام الجميع (القاعدة التاسعة)، السماح للأجانب بإنشاء مشاريع اقتصادية ومعاملتهم في ذلك معاملة أبناء البلد (القاعدة العاشرة)، والسماح للأجانب بامتلاك الأراضي (القاعدة الحادية عشر).

ومن الواضح أن مضمون هذا العهد كان يراعي مصالح القوى الأوروبية التي كانت تمارس على الباي ضغطا مباشرا؛ لكننا إذا قارنّا بين مضمون هذا العهد ومضمون الدستور المترتب عليه، نرى أن الامتيازات التي منحت للأجانب ستراجع؛ إذ قيّد الدستور إمكانيات ملكية الأجانب للأراضي. بالمقابل، نجد أن الدستور يتقدّم خطوة جديدة في اتجاه المساواة بين أهل البلد، وذلك من خلال التخلّي التامّ عن عبارة "أهل الذمّة" وحقوق الذميين، وإعلانه الصريح عن المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الانتماء الديني، وبذلك يكون دستور 1861 قد أصلح الخلط الذي نجده في "عهد الأمان" بين الأجنبي بمعنى غير المسلم والأجنبي بمعنى الوافد على المملكة من بلد آخر. وفي تقديرنا، لا تتصل القضية بتغيّر الظرف السياسي فحسب؛ وإنما تتصل أيضا بتطور المفاهيم المستعملة لدى النخبة الإصلاحية، فهذه النخبة كانت تتدرج شيئا فشيئا نحو مفهوم المواطنة وإن لم تبلغها ولم تستعمل كلمة "مواطن" في "عهد الأمان" ولا في دستور 1861؛ بيد أن التطوّر واضح في الاقتراب من هذا المفهوم إذا قارنّا بين النصين اللذين لا يفصل بينهما إلا حوالي أربع سنوات.

ولا بدّ أن نشير أيضا إلى أن الباي لم يكن صادقا في التزامه بعهد الأمان الذي أعلنه باسمه، وأن القضية كانت من وجهة نظره مناورة للتخلص من الضغط العثماني والأوروبي بتطبيق التنظيمات الخيرية، وقد سجّل كاتبه ابن أبي الضياف ذلك بقوله: "وبقي الباي بعد هذا العهد يحكم بمحكمته ويقضي في النوازل بمشيئته، جريا على عادته... وظن الباي أنّ المراد بعهد الأمان قد تمّ بوجود حروفه في الصحف المنشرة، والأمر وراء ذلك"(13).

لكن تواصل ضغوط القناصل هو الذي أجبر الباي على تفعيل "عهد الأمان" والبدء في تحويله إلى وثيقة دستورية ملزمة، فكون لجنة من أعيان الدولة وكبار رجال الشرع للإشراف على إنجاز النصوص القانونية الجديدة المقتبسة من "عهد الأمان"، وأمرهم بالاجتماع مرتين في الأسبوع لتحقيق هذا الغرض، ومن الأعيان الذين عينوا في اللجنة أحمد بن أبي الضياف محرّر "عهد الأمان" والمصلح خير الدين باشا، وعيّن أربعة من كبار علماء الشرع، وهم شيخ الإسلام الحنفي وكبير مفتي المالكية والمفتي الحنفي والمفتي المالكي. لكن رجال الشرع فضلوا بعد ذلك النأي بأنفسهم عن هذه المهمّة، فيما كان المصلحون يراهنون على سلطتهم المعنوية لإلزام الباي بالقوانين الجديدة، وهذا ما يفسّر عبارات اللوم التي سجلها المصلحون في حقّ هؤلاء. فابن أبي الضياف مثلا يكتب في "الإتحاف" ما يلي:

"ثم طلب الفقهاء المذكورون الاستعفاء من الحضور بهذا المجلس، وإذا توقّف بقية المجلس في أمر يتعلّق بهم من الفقه يسألهم ويجيبون بالكتابة، وكان الظن بهم تقديم هذه الطاعة المتعدية على غيرها من الطاعات القاصرة، وتعلّلوا بأن منصبهم الشرعي لا يناسبه مباشرة الأمور السياسية، إلى غير ذلك من المعاذير التي لو لم نَرها بقلمهم ما نقلتها(...). وكيف يروج تعللهم وهم الأعلام السابقون في ميدان العلوم المعقولة، فوا أسفا على العالم الصالح إبراهيم الرياحي، لو كان حيّا وجاءته نعمة الله هذه أتراه يبدلها بما يناسب المنصب وما لا يناسب؟ أقول هذا (...) لأنهم ضيّعوا بذلك فرصة نفاق سوق العلم وتقدّم أهله، وزادوا أهله بعدا عن بعد، ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كلّه"(14).

أما السبب الثاني الذي عطّل المسار فهو عقلية التملّق التي ظلت راسخة في عقول الكثيرين من الأعيان، وهنا أيضا نجد في تاريخ "الإتحاف" العديد من الوقائع المعبّرة، منها التالية، يقول: "ولما أتممنا شرح القاعدة الأولى [من عهد الأمان] وهي قاعدة كل القواعد، وقرأناها على الباي في ذلك المجلس، بدرت من بعضهم بادرة يغفر الله له فيها، وهي أن قال: أي شيء بقي لسيدنا؟ ووافقه على ذلك بعض المتزلفين، والباي ساكت(...) فوجمنا لهذه البادرة الباردة، فتكلم الوزير خير الدين وكان أثبت القوم جَنانا وإن شئت قلت: وأقواهم إيمانا، وقال له: نعم، يبقى لسيدنا ما بقي للسلطان عبد الحميد وما بقي لسلطان فرنسة وسلطانة بريطانيا وغيرهم من السلاطين بالقانون"(15).

وقد قدمت لجنة شرح قواعد الأمان وثيقة تتضمن أربعة أركان: أمان الدين- أمان النفس- أمان المال- أمان العرض. ولعلّ هذه الطريقة في شرح "عهد الأمان" تذكّر بالمقاصد التي عرضها قديما الفقيه المالكي أبو إسحاق الشاطبي.

فأما الأمان في الدين فقد حدّدته باحترام حرية غير المسلمين في اعتناق أديانهم أو الانتقال إلى دين آخر، دون إجبار على شيء، أما قضية انتقال المسلم إلى دين آخر فلم يرد ذكرها طبعا؛ لكن الحرية الدينية بالنسبة للمسلم معتبرة بحقّه في تقليد الإمام الذي تعوّد عليه، مع العلم أنّ الأسرة الحاكمة وكبار الأعيان كانوا من أصل عثماني يتبعون مذهب الإمام أبي حنيفة؛ بينما كان الجزء الأعظم من سكان تونس على المذهب المالكي. ويلاحظ أن وضع الأقلية اليهودية -وقد كان عدد أفرادها مرتفعا- وضع سيّء آنذاك، فقد ذكر ابن ابي الضياف أنه لم يسمح لهم بلبس الشاشية الحمراء (غطاء الرأس الذي اشتهر به أهل تونس) وشراء الأراضي والمباني إلا بعد صدور "عهد الأمان"، وقال: "كان اليهود في إيالة تونس، بل وفي المغرب كله، على حالة من المذلة والامتهان والإذاية"(16).

وأما الأمان في النفس فهو قائم على أن الإنسان مكرّم بما هو إنسان قبل أي اعتبار آخر، فنفسه مصانة مهما كان دينه ووضعه الاجتماعي، ولا تطبق عليه العقوبات الجنائية إلا بمقتضى محاكمة عادلة، كما تضمّن أمان النفس ضبط قواعد الخدمة العسكرية.

وأما الأمان في المال فقد اعتبر شرط تطوّر العمران، وهو يشمل الجميع مهما اختلفت دياناتهم، فلا يحقّ الغصب والإتلاف والجبر على البيع أو الشراء وفرض إتاوات غير ما هو معلوم وموظف بالعدل على الجميع، ويتضمن أيضا إبطال عادة التسخير وتعني أن تكلف الدولة أشخاصا بالعمل لصالحها دون مقابل.

وأما الأمان على العرض فهو أيضا لا يختلف باختلاف الأديان والناس جميعا بين يدي الحكام سواء.

أول دستور عربي 1861

ثمّ لمّا توفي محمد باي وخلفه الصادق باي (1859-1882)، واصل الأخير في النصف الأول من عهده سياسة سابقيْه، وعيّن خير الدين رئيسا للمجلس الأكبر، وقد كان أيضا عضوا في لجنة شرح قواعد "عهد الأمان" التي كانت تعدّ للدستور والتشريعات الجديدة، ويمكن أن يعد خير الدين بذلك أبا الدستور التونسي المعلن في 1861.

كما عيّن الباي أعضاء المجلس الأكبر، من الأعيان ورجال الدولة، ليتولّى هذا المجلس وظيفته في الإشراف على سنّ القوانين الجديدة، ومنها الدستور. ويبدو أن علماء الشرع ظلّوا رافضين المشاركة في هذا المسار، فوقع تعيين البعض ممن لا ينتمون إلى المناصب العليا، وفي مقدمتهم الشيخ سالم بوحاجب، الصديق المقرّب من خير الدين باشا والذي يرجّح أنه قد أعانه على تحرير كتابه المشهور "أقوم المسالك في معرفة أصول الممالك".

وتمّ ختم صياغة الدستور في آخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني1860، وأعلن بالكيفية التي أعلن بها عهد الأمان سابقا، أي في موكب رسمي حضره أعضاء المجلس الأكبر والمجلس الشرعي ومجالس القضاء وقناصل الدول الأجنبية، ثم دخل حيّز التنفيذ بتجديد بيعة الباي على مقتضاه، في 26 إبريل 1861 (1277 هجري).

وقبل ذلك، كانت اللجنة قد أقرت بعض القوانين الإصلاحية، منها القوانين المتعلق بالخدمة العسكرية، وقد كانت في السابق غير مقيدة بقانون، ومن واجب الباي أن يرسل الجنود إلى عاصمة الخلافة لمعاضدتها في حروبها، وكانت حروب العثمانيين كثيرة تحصل في مناطق بعيدة عن تونس، فكان الشباب من المزارعين يرسلون إلى تلك الحروب ويبقون مددا طويلة وقد لا يعودون بعدها ولا تعلم مصائرهم، فتتضرّر الزراعة بحرمانها من سواعد الشباب، وتبقى الأسر دون عائل، فجاء قانون 1860 يحدّ المدة القصوى للخدمة العسكرية بثمانية أعوام، ويجعل التعيين حاصلا بالقرعة التي يشرف عليها الثقات.

ومن القوانين الأخرى التي سبقت الدستور القانون الذي ينظم تركيبة الحكومة وأعمالها، وقد صدر في شهر فبراير 1860 ويتضمن خمسة عشر فصلا، ولأوّل مرّة وقع ضبط تشكيلة الحكومة في "وزير أكبر"(رئيس وزراء) و"وزير العمالة" (وزير داخلية) و"وزير الأمور الخارجية" و"وزير المال".

ولم تكن كلمة "دستور" متداولة في تونس سنة 1861، لذلك أطلق على الوثيقة القانونية تسمية "قانون الدولة التونسية". وقد عطّل العمل بهذا الدستور بعد فترة قصيرة من إعلانه، وتحديدا سنة 1864. فقد تذرّع الصادق باي (1859-1882) بقيام الاحتجاجات الاجتماعية الضخمة التي عرفت بثورة "علي بن غذاهم" ليعلق العمل بدستور كان هو الذي أصدره، مثلما سيفعل بعده السلطان عبد الحميد الثاني في تركيا. وكانت "ثورة بن غذاهم" قد تواصلت من 1864 إلى 1866 وانتهت بقمع عنيف للمزارعين الذين انتفضوا احتجاجا على مضاعفة "المجبى"(الضريبة على الأرض). ولم يستأنف الباي العمل بالدستور بعد القمع الوحشي لثورة الفلاحين، كما أن سلطات الحماية الفرنسية التي احتلت تونس سنة 1881 لم تسع بدورها إلى تفعيل هذا الدستور والعمل به، مع أنه كان مستوحى من القانون الدستوري الفرنسي ومستلهما بعض مبادئ الثورة الفرنسية.

ومما لا شك فيه أن دستور 1861 كان يتضمن سيئة كبرى تمثلت في منح الأجانب فُرصَ تملك الأراضي والصناعات في تونس، وهذا منحى قد سبق إليه "عهد الأمان" أيضا، لكن من الخطأ الكبير ألا نرى في هذه الوثيقة إلا هذا الجانب السلبي. إن العديد من القناصل الأوروبيين قد أسهموا في الضغط على الباي ليصدر هذا الدستور، ثم استغلّوا إسهامهم ليطالبوا بمواد في الدستور تخدم مصالح دولهم ومواطنيهم. ثم إنّ المبدأ الليبرالي "دعه يمرّ دعه يعمل" كان منتشرا في ذلك العصر ويبدو جزءًا من الحداثة والإصلاح. فيصحّ على الدستور التونسي ما يصحّ قبله على "عهد الأمان"(1957) و"حظي همايون"(1956) و"حظي شريف كلخانة"(1839) وغيرها من الإعلانات التنظيمية لذلك العصر، وهو منحه الأجانب مصالح اقتصادية جديدة في البلدان الإسلامية وفتح هذه البلدان للرأسمالية الأوروبية الصاعدة.

لكنّ الدستور التونسي كانت له إيجابيات أخرى كبيرة، وقد مثّل تحوّلا مهما في العلاقة بين الحاكم والمحكومين؛ لأنه أرسى -نظريّا على الأقلّ- مبدأ الانتقال من الحكم المطلق إلى الحكم المقيّد، ونظّم عملية انتقال السلطة بعد وفاة الحاكم، وهذه المسألة كثيرا ما تسبّبت في قيام الحروب الأهلية. وقد تكرّرت فيه كلمة "قانون" بمعنى التشريع المدني الذي ينظم العلاقة بين السلط، وبينها وبين المحكومين، وأقرّ في شكل كتابي وملزم بأن عقد البيعة منحلّ إذا خالف الحاكم قواعد الدستور، وأرسى مبدأ الشورى ولو بصفة محدودة، وضبط مسؤوليات الوزراء، ووضع آليات تظلّم لفائدة "الرعية". وعلى العموم، لقد أرسى دستور 1861 نظام الملكية الدستورية بعد قرون من الحكم المطلق.

تضمّن دستور 1861 ثلاثة عشر بابا أولها في تنظيم البيت الحسيني المالك، فأقرّ في الفصل الأوّل مبدأ تقدّم كبير البيت للحكم عند موت سلفه، ويصبح المتولّي هو صاحب القرار في البيت الحسيني وفي الدولة، وهو الذي يحكم في نزاعاتهم أو شكاوى الرعية منهم. ويستفتح الباب الثاني المخصص لحقوق الملك وواجباته بفصل جريء بمقاييس ذلك العصر، يرد فيه ما يلي: "على الملك عند ولايته أن يحلف بالله وعهده وميثاقه ألا يخالف شيئا من قواعد عهد الأمان، ولا شيئا من القوانين الناشئة منه، وأن يحفظ حدود المملكة، وتكون يمينه جهرا بمحضر أهل الحلّ والعقد وهم أهل المجلس الأكبر وأهل المجلس الشرعي، وبعد اليمين يقبل البيعة، ولا يتمّ له أمر دون هذا اليمين، وإن خالف القانون بعد الولاية عمدا فعقدة بيعته منحلّة"(الفصل التاسع). ويرد في الفصل11: "الملك مسؤول في تصرفاته للمجلس الأكبر إن خالف القانون". فالمنحى واضح في جعل الحكم ملكيا دستوريّا مقيّدا.

ثم يتضمّن الباب الرابع تنظيم السلط، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام كبرى: الوزارة (الحكومة) والمجلس الأكبر(مجلس شبه برلماني) ومجالس الحكم (محاكم جنائية ومحكمة تجارية ومحكمة عسكرية)، وتخرج عنها مجالس القضاء الشرعي في الأحوال الشخصية (زواج، الخ). وفي سبيل تعزيز ما ندعوه اليوم باستقلالية القضاء، أشار الفصل 28 إلى أن أعضاء المحاكم بكل أنواعها لا يعزلون إلا لذنب يقتضي العزل. وخصص الباب الرابع لما سمي "دخل الدولة" (الموازنة المالية) الذي لم يبق تحت التصرف الشخصي للحاكم، فالأخير يتمتع بجزء محدّد سلفا لرعاية شؤونه وشؤون آل بيته، حسب مقادير مذكورة، أما الباقي فيكون تحت تصرّف الوزراء ليصرف في المصالح العامة، وكل وزير مسؤول عن تصرفه المالي وهو مطالب بتوثيق كل نفقاته.

وقد تضمن دستور 1861 قرارا مهمّا بتشكيل "مجلس أكبر" يكون بمثابة البرلمان؛ بيد أن أعضاءه لا ينتخبون، وعددهم ستّون عضوا، الثلث منهم يعيّن من أعوان الدولة، والثلثان من أعيان الأهالي، وتتواصل العضوية لمدّة خمس سنوات، ويعيّن الملك رئيسا للمجلس، ولا يمكن له عزل الأعضاء إلا لذنب وبموافقة المجلس.

ويتمتّع المجلس الأكبر بالعديد من الصلاحيات باعتباره الحامي لحقوق جميع السكان والمانع من وقوع ما يخالف أو يضعف "أصول القوانين"؛ أي أنه يضطلع بدور المراقبة لتصرفات الوزراء والواسطة بين الحاكم والمحكومين. وهو يستقبل شكاوى المواطنين، ولا يمكن سنّ أي قانون إلا بعد عرضه عليه وموافقة أغلبية أعضائه عليه. ويتولّى المجلس مناقشة التصرف المالي للوزراء في نهاية كل سنة، ويتولّى محاكمة رجال الدولة إذا رفعت ضدّهم شكاوى أو إذا ما اقترفوا جناية.

ومن أهمّ ما يلفت الانتباه في هذا الدستور أنّه يبطل -نظريا على الأقلّ- التراتبية الاجتماعية التي كانت تقضى بأن يحتكر أبناء الأسر ذات الأصول التركية مناصب الخدمة في الدولة، فقد أقرّ الفصل 78 ما يلي: "كل واحد من أهل المملكة التونسية لم تصدر عنه جناية تشين عرضه أو تنقص مروءته الإنسانية وحكم عليه بسببها من المجلس بالسجن؛ له الحقّ في سائر منافع الوطن والدولة من الخطط والخدم إذا كان أهلا". ويسمح الفصل الموالي للأجانب بأن يعتمدوا في الوظائف العامة؛ بيد أن هذا الإجراء كان معمولا به في كل الإمبراطورية العثمانية. ويمنح الدستور مجموعة من الضمانات والحقوق للأشخاص الذين يخدمون الدولة، منها الحصول على مرتّب تقاعد بعد ثلاثين سنة من الخدمة، وبذلك يسهم الدستور في تكوين ما ندعوه اليوم بالوظيفة العمومية وتخصيص أفراد لهذا الغرض، وهذا أمر مهمّ في استقرار الدولة وتطورها.

ولا يتضمن الدستور مفهوم المواطنة تضمينا صريحا؛ لكنّه يستعمل كلمات "سكان" أو "أهل" أو "رعية" أو "تونسي"، ويخصّص الباب الثاني عشر لبيان حقوق "أهل المملكة التونسية" وواجباتهم. ويعرّف هؤلاء بأنهم كلّ من "ولد بالحاضرة (أي العاصمة) أو غيرها من البلدان (المقصود: المدن) والقرى ونواجع العربان على اختلاف الأديان". وهذا التعريف كما نرى، لا يبتعد كثيرا عن فكرة المواطنة. ويشدّد الدستور على أن اختلاف الأديان لا أثر له في الحقوق والواجبات والوضع أمام القانون، وللجميع الحقّ على قدم المساواة في التملك وممارسة الأنشطة الاقتصادية والزراعية وحفظ النفوس والأموال، ولا يجبر أحدهم على شيء إلا أداء الخدمة العسكرية أو الضريبة، ولا تقع عليه عقوبة إلا بقرار من المحكمة. فالظاهر من هذه الفصول أن المواطنة وإن لم تكن مذكورة باللفظ فهي قائمة على أساس الولادة في البلد، مع شيء من الغموض والاضطراب في هذا المجال يعكسه استعمال ألفاظ عديدة وغياب التدقيق في التعريف؛ بيد أن الدستور يميّز بوضوح بين أهل البلد والمقيمين فيه، بما أنه يخصص الفصل الرابع عشر لبيان أحكام الصنف الأوّل ثمّ يخصص الفصل الخامس عشر لبيان أحكام الصنف الثاني. ويطلق على أصحاب الصنف الثاني "رعايا الدول الأحباب" فيقرّر لهم مجموعة من الحقوق، منها الحرية الدينية، والأمان على النفس والمال والعرض، وحقّ تعاطي المهن المختلفة حسب القانون الجاري به العمل، وملكية الريع والعقار مع مراعاة بعض الشروط، ويحاكم هؤلاء لدى محاكم الدولة لكنهم يتمتعون بمساعدة قناصل دولهم عند الطلب.

هكذا نرى أن دستور 1861 كان دستورا رائدا في محاولة نقل نظام السلطة من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية المقيدة، وقد سبق الدستور العثماني في أغلب المواد والقرارات، وقد أحدثت لجان لصياغة قوانين للدولة تنسجم مع مقتضيات هذا الدستور.

وسعيا لتفسير فكرة الدستور لعامة الشعب، أصدر الباي في فبراير 1861 وثيقة في "حقوق الراعي والرعية" تشرح قواعد "عهد الأمان"، ويضيف إلى ذلك المؤسسات التي أحدثت لضمان تطبيق تلك القواعد، وهي المجلس الأكبر ومجالس القضاء والمحكمة العسكرية، وقد نشرت هذه الوثيقة في كل التراب التونسي ليطلع عليها الجميع وتكون لهم حجة للدفاع عن حقوقهم، لذلك تنتهي كما يلي: "هذا مضمون أصول القانون جلوناه لكم، لتكونوا على بصيرة به، فاجتمعوا جمع الله شملكم في مجمع يحضره أهل المملكة على اختلاف الأديان لقراءته ومدارسته، والقانون (يقصد الدستور) قادم لكم في إثره، وانشروا علمه للخاص والعام؛ لأنّه من حقوق السكان، ومن أراد أخذ نسخة منه فله ذلك، والقانون في نفسه ضروريّ للعمران وأساس أمان السكّان وردع أهل العدوان".

ومن الملاحظ أن النخبة الإصلاحية التي كانت وراء إعلان الدستور قد قامت بجهد واضح لتهيئة الرأي العام لقبوله، وأنها عندما أرادت التوجّه إلى العدد الأكبر من الناس استعملت العبارة التراثية المشهورة "حقوق الراعي والرعية".

ثم بعد نشر النص الرسمي للدستور، اتخذ فيه الإجراء نفسه الذي اتخذ سابقا مع "عهد الأمان"؛ إذ طلب من المجلس الأكبر أن يقوم بشرحه، وقد تكون فكرة الشرح هذه مرتبطة بما تعوّدت عليه الثقافة السائدة آنذاك من وجود متون وشروح عليها، كما أن "الشرح" كان فرصة لأعضاء المجلس لمناقشة المضمون وتوضيح ما قد يعتريه من غموض. ومن مواطن الغموض على ما يبدو من مضامين الشرح، تنازع الصلاحيات أحيانا بين القضاء الشرعي والقضاء المدني، أو بين الباي والمجلس الأكبر.

وعلى الإجمال، فإن الفترة الممتدة من صدور "عهد الأمان" إلى صدور الدستور قد شهدت قيام جهد تشريعي تجديدي غير مسبوق، لم يخل من الهنات والسلبيات؛ لكنه كان يؤشر لتحوّل الخطابات والمشاغل الإصلاحية من التنظير إلى التطبيق.

بيد أنّ الوضع الاقتصادي في البلد كان سيئا، والانتقال السريع من اقتصاد ريعي إلى منافسة رأسمالية قضى على الاستقرار، والظروف المناخية (الجفاف) زادت الطين بلّة. فانطلقت حركات احتجاج اجتماعي سرعان ما عمّت كل البلد، واقتنص الجناح المحافظ هذه الفرصة ليحمّل الدستور والتنظيمات مسؤولية هذا الوضع، فتمّ تعليق العمل بالدستور وبالمجلس الأكبر. ويبدو أن الآستانة لم تكن مرتاحة لهذا التقدّم السريع الذي حصل في تونس، فكافأت الباي على قرار التعليق بتأكيد توارث الحكم في أسرته، مقابل التزامه بالبقاء تحت مظلة الخلافة العثمانية؛ بيد أنّ هذه الخطوة لم تفد تونس عندما قدم الفرنسيون لاحتلالها سنة 1881، مثلما لم تفد الجزائر سنة 1830عندما احتلها الفرنسيون مع أنها أيضا ولاية عثمانية. وهكذا خسرت تونس الاستقلال والدستور في آن واحد. 

الدستور التونسي والدستور العثماني:

بالمقارنة بالدستور العثماني الأول الصادر في 24/12/1876، والذي كان يحمل عنوان "القانون الأساسي العثماني"، نجد العديد من نقاط التلاقي والاختلاف بين الوثيقتين. فالأسرة المالكة تحظى في الدستورين بامتيازات كبرى، لكن هذه الامتيازات محدّدة في مبالغها المالية في الدستور التونسي، الذي لا نجد فيه أيضا ما يقابل المادة الخامسة من الدستور العثماني التي تنصّ على "أن نفس ذات الحضرة السلطانية هي مقدسة وغير مسؤولة". ويقحم الدستور العثماني مفهوم "العثمانية" ويحدّده بوضوح في المادة الثامنة كما يلي: "يطلق اسم عثماني بدون استثناء على كافة أفراد التبعية العثمانية، من أي دين ومذهب كانوا"، فيلتقي بذلك مع تحديد الدستور التونسي لأهل المملكة دون تمييز بينهم على أساس الدين. لكن الدستور التونسي أشار إلى الحرية الدينية دون أن يحدّد دين الدولة في الإسلام، مع أن الأمر مفهوم ضمنيا؛ بينما تضمنت المادة الحادية عشر من الدستور العثماني أنّ دين الدولة العثمانية هو دين الإسلام، مع التنصيص على حرية جميع الأديان المعروفة في الممالك العثمانية بشرط "ألا تخلّ براحة الخلق ولا بالآداب العمومية". ويتفق الدستوران في تعليق المساواة بعدم معارضة الأحكام الشرعية، لكن المادة السابعة عشرة من الدستور العثماني أكثر وضوحا في البيان؛ إذ تنصّ على أن "يكون كافة العثمانيين متساوين أمام القانون وفي حقوق المملكة ووظائفها فيما عدا الأحوال المذهبية والدينية". 

ويتجنب الدستور التونسي التنصيص أيضا على لغة رسمية، رغم أن العربية استعملت لغة المراسلات الرسمية منذ عهد أحمد باي، كما ذكرنا، أما الدستور العثماني فينصّ في المادة الثامنة عشر على التركية لغة رسمية، وقد أثارت هذه المادة احتجاجات العديد من الأطراف ومنهم النوّاب العرب.

وينص الدستور العثماني على وجود حكومة تدعى "مجلس الوكلاء" يعيّنها السلطان، وأعضاؤها مسؤولون أمامه، ويرأسها الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، ومجلس يدعى "هيئة المبعوثان" يتقدم بطلباته وشكاواه للوكلاء (الوزراء)، وتكوّن هيئة المبعوثان وهيئة الأعيان ما يدعى "المجلس العمومي"(مثل البرلمان الذي يضمّ في العديد من الدول مجلس نوّاب الأمة ومجلس شيوخ أو مستشارين). ويمكن للسلطان أن يحلّ المجلسين إذا رأى ضرورة لذلك. ولا يسنّ قانون من قوانين الدولة إلا بعد عرضه على المجلس العمومي بهيئتيه. وعضوية هيئة الأعيان باقية مدى الحياة، والسلطان هو الذي يتولّى التعيين، أما أعضاء هيئة المبعوثان فينتخبون على أساس نائب لكل خمسين ألف ساكن من الذكور (حق الانتخاب والترشّح محصور في الذكور دون الإناث)، ومدة النيابة أربع سنوات ويشترط في النواب عدة شروط منها المعرفة باللغة التركية، ويتمتعون بالحصانة مدة ممارسة مهامهم.

وينظم الدستور المحاكم وينصّ على أن تكون علنية، ولا يجوز عزل القضاة إلا بسبب، ويُقسّم المحاكم إلى شرعية ونظامية ويدخل مهنة المحامي في الدورة القضائية.

وينصّ الدستور العثماني على إنشاء "الديوان العالي" الذي يتركب من ثلاثين عضوا ثلثهم من هيئة الأعيان والثلث الآخر من مجلس شورى الدولة والثلث المتبقي من القضاة ويتولّى وظيفة الاتهام أو ما يعرف اليوم بالنيابة العمومية. 

ويفرض الدستور على الدولة أن تكون لها "ميزانية" سنوية ويطلق عليها "بودجه" (من الكلمة الفرنسية: Budget)، ويضع عدة قواعد للتصرف فيها. 

وكما يوجد مجلس عمومي للدولة فإن على الولايات أيضا أن تنشئ مجالس عمومية داخلها لضبط أمورها. ويمكن للدولة حلّها إذا ترتب عليها الخلل.

فالواضح من هاتين الوثيقتين الدستوريتين الأوليين في العالم الإسلامي أنهما قد أدخلتا بعض النظام في آليات التسيير والحكم، فأنشأتا المجالس والمحاكم وضبطتا المسؤوليات. وتميّز الدستور العثماني بإدخال آليات الانتخاب لأوّل مرّة في العالم الإسلامي؛ بينما تميّز الدستور التونسي بالحدّ الواضح من صلاحيات الحاكم وتقييد تصرفاته بموافقة النواب خاصة الإشارة إلى الحقّ في عزله إذا خالف الدستور، وذلك لأوّل مرّة في وثيقة قانونية مفصّلة. والدستور التونسي كان أكثر جرأة في تقييد سلطة الحاكم وسنّ نظام الملكية المقيّدة، في حين طغى على الدستور العثماني البحث عن نظام ناجع لدولة مترامية الأطراف متعدّدة الأعراق والملل، تمثل طموحها الأساسي في التحوّل إلى نظام الدولة المركزية، بما اقتضاه ذلك من فرض ديانة رسمية ولغة رسمية للدولة.

خاتمة:

لئن أبطل العمل بالدستور التونسي بعد فترة من إعلانه، مثلما أبطل لاحقا العمل بالدستور العثماني، فقد ظلت الفكرة الدستورية قوية في الوعي الوطني التونسي.

فلئن تراجعت الفكرة الدستورية في تونس مع الحماية، فإنها عادت بقوّة مع نشأة الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار، واختارت هذه الحركة عند تأسيسها الأوّل سنة 1920 أن تحمل تسمية "الحزب الحرّ الدستوري التونسي"، جاعلة قضية الحرية والدستور عماديها ومطلبيها، ثم بعد التأسيس الثاني سنة 1934، تطوّرت بأكثر وضوح قضية الدستور، وبرزت مثلا في لائحة أعلنت يوم 10/06/1949 تتضمن 15 مبدأ دستوريا، أهمها المبدأ الأوّل الذي يدعو لـ "دولة ملكية دستورية ديمقراطية"، وإقرار مفهوم المواطنة في شكل حديث وصريح (المبدأ الثالث: كل شخص له الجنسية التونسية يعدّ مواطنا بالدولة التونسية...) وإقرار مفهوم التحديد الجغرافي للوطن (المبدأ الرابع: التراب التونسي له حدوده الأصلية وهو وحدة لا يتجزأ...)، وإقرار مبدأ المساواة (المبدأ السابع: كل المواطنين أمام القانون سواء وعليهم بدون استثناء احترامه)، ومبدأ علوية الدستور على كل القوانين (المبدأ الخامس عشر: لا يمكن سنّ أي قانون يخالف الدستور). وكما نرى، فإن هذه الوثيقة تحدّد بالضبط كل القواعد الدستورية بالمعنى الحديث. وقبل الإعلان الرسمي عن استقلال تونس ببضعة أشهر، أعلن عن تشكيلة "مجلس قومي تأسيسي" لصياغة دستور تونس المستقلة، وبما أن الحزب الدستوري كان يمثل الأغلبية في المجلس فقد طبق تلك المبادئ، باستثناء المحافظة على الملكية، فأبطلت الملكية وأعلنت الجمهورية سنة 1957، ثم أعلن الدستور الجديد في جوان 1959. وفي الفترة نفسها، كانت أغلب البلدان العربية التي تحرّرت من الاستعمار قد صاغت لنفسها دساتير حديثة تؤكد استقلالها، لكن الأزمات السياسية التي عانتها دول ما بعد الاستعمار جعلت فكرة الدستور تظل فكرة نخبوية، يقع التشكيك فيها تارة باسم الدين، وتارة باسم القومية العربية، وقد تغيرت طبيعة النقاشات تغيرا كبيرا بالمقارنة بما كان مطروحا في العصر الإصلاحي والحركة الدستورية للقرن التاسع عشر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

1) خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تحقيق: منصف الشنوفي، تونس، الدار العربية للكتاب، 1998 (ط1: 1972). المقدمة، ص210.

2) المرجع السابق، ص220.

3) المرجع السابق، ص90.

4) المرجع السابق، ص154وهذا التعريف مقتبس من كتاب ابن قيم الجوزية "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية"، راجع: ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، بيروت، دار ابن قوم، 2008، ص15. وينقل صاحب الكتاب عن ابن عقيل ما يلي: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي. فإن أردت بقولك ما وافق الشرع أي: لم يخالف ما نطق به الشرع، فصحيح. وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، فغلط وتغليط للصحابة.

5) أحمد بن أبي الضياف: إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تونس، الدار العربية للكتاب، 2001، ج1، ص6.

6) المرجع السابق، ص8.

7) المرجع السابق، ص9.

8) المرجع السابق، ص11.

9) المرجع السابق، ص15.

10) المرجع السابق، ص32. 

11) المرجع السابق، ص51.

12) المرجع السابق، ص57.

13) الإتحاف، م2، الباب السابع، ص246.

14) المرجع السابق، ص248.

15) المرجع السابق، ص249.

16) المرجع السابق، ص259-260.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/9/188

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك