آفة النّسيان وتحوّلات العلم مقالة في العلم الّذي لا يحتاج إليه

بقلم: العادل خضر  

“(...) لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ شَأْنَ الحِسِّ أَنْ يُورِثَ المَلاَلَ وَالكَلاَلَ، وَيَحْمِلَ عَلَى الضَّجَرِ وَالانْقِطَاعِ، وَعَلَى السَّآمَةِ وَالارْتِدَاعِ. وَهَذَا مِنْهُ فِي ذَوِي الإِحْسَاسِ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ، وَقَائِمٌ مَوْجُودٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الأَمْرُ فِي المَعَادِ إِذَا فُرِضَ مِنْ جِهَةِ العَقْلِ، لِأَنَّ العَقْلَ، لاَ يَعْتَرِيهِ المَلَلُ، وَلاَ تُصِيبُهُ الكُلْفَةُ، وَلاَ يَمَسُّهُ اللُّغُوبُ ، وَلاَ يَنَالُهُ الصَّمْتُ، وَلاَ يَتَحَيَّفُهُ الضَّجَرُ.” 

التّوحيدي، المقابسات، المقابسة 35
*
“وقال أبو الدَّرداء: إنِّي لأُجمُّ نفسي ببَعْض الباطل، كراهةَ أنْ أحمِل عليها من الحقّ ما يملُّها.” 
الجاحظ، الحيوان، ج3، ص7.

*
“(...) فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق، إذا بعبد أسود قد استقبله، بين عينيه تراب من أثر السّجود في شَمْلَةٍ قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى عليه السّلام بنور الله عزّ وجلّ. فسلّم عليه، وقال له: ما اسمك؟ فقال: اسمي برخ قال فأنت طلبتنا منذ حين، اُخرج فاستسق لنا. فخرج، فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك، وما الّذي بدا لك؟ أَنَقُصَتْ عليك عُيونُك أم عاندت الرّياح عن طاعتك أم نفد ما عندك أم اشتدّ غضبك على المذنبين؟ ألست كنت غفّارا قبل خلق الخطّائين؟ خلقت الرّحمة وأمرت بالعطف أم ترينا أنّك ممتنع أم تخشى الفوت فتعجّل بالعقوبة؟ قال فما برح حتّى اخضلّت بنو إسرائيل بالقطر ، وأنبت الله تعالى العشب في نصف يوم حتّى بلغ الرّكب. قال: فرجع برخ، فاستقبله موسى عليه السّلام، فقال: كيف رأيت حين خاصمت ربّي كيف أنصفني؟ فهمّ موسى عليه السلام به، فأوحى الله تعالى إليه: إنّ برخا يضحكني كلّ يوم ثلاث مرات”
أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج4، ص341

 

*

1 - آفة العلم النّسيان

 

 

“الآفة: العاهة... عرَض مفسد لما أصاب من شيء. ويقال آفة الظّرف الصّلف، وآفة العلم النّسيان، وطعام مؤوف أصابته آفة.”، و“العاهة، أي الآفة الّتي تصيب الزّرع والثّمار فتفسدها... العاهة البلايا والآفات...” لسان العرب
إذا انطلقنا من العبارة الشّائعة الّتي تقول: “آفة العلم النّسيان”، واعتبرنا الآفة عاهة، أي هي تشوّه أو عطب أو تعطّل، أو “عَرَضٌ مُفْسِد” يصيب الجسم فيجعله عليلا، أو يعصف بالعقل فيجعله هائما “مُسْتَبَاهًا” (1) لا يعقل، فإنّ العلم إذا ما أصابته آفة النّسيان تغيّر شكله ومحتواه، بنقصان في كمّه يفضي إلى تغيّر جذريّ في كُنْهِه وكَيْفه. فعلم بصمه النّسيان إنّما هو علم قد أصابته “آفة النّسيان”، فنقص بعد تمام، أو تغيّر بزيادة مفرطة، أو مُحِيَ رسمُه. وعندما يتغيّر العلمُ على هذا النّحو بسبب “آفة النّسيان” نكون أمام حال مَرَضِيَّةٍun état pathologique ، لأنّ المَرَضِيَّ le pathologique يتحدّد بكونه تحويرا في الكمّ والكيف، يطرأ على الحال السّويّة un état normal (2). هذا التّصوّر للمرضيّ الّذي ينطلق من الحال السّويّة ليعتبر كلّ ما يطرأ عليها من تغيّر مَرَضِيًّا، إنّما يعتبر المَرَضِيَّ حالا غير سويّة، والمرضَ شيئا كالخسران أو الافتقار الّذي يحرم ما كان سويّا من نعمة السّلامة والصّحّة. وعلى هذا المنوال نُظر إلى النّسيان. فهو آفة كالمرض، أو عاهة تُفسد الجسد، فتعوق عضوا منه، أو تُبطل الفعل، أو تُذهب العقل، أو تُعطّل النّشاط والإنتاج... فالنّسيان يشتغل، في الوعي اللّغويّ على الأقلّ، على شاكلة قوّة من قُوى الفساد، تُدخل الضَّيم على اللّسان والعقل والعمل، فتفسد القوى المُنْتِجة، فتأتي على البيان، وتقضي على العلم، وتُجْهِزُ على الفعل، فلا معنى ينشئه بيان، ولا فكر يبدعه علم، ولا بضاعة ينتجها فعل. وعلى هذا الأساس كان النّسيانُ نقيضَ العلم، فهو الآفة الّتي تفسده، وتجعله نسيا منسيّا. ولعلّه لأجل ذلك كانت مقاومة النّسيان ممكنة لأنّ العقّار الّذي يقاوم الآفة هو نشاط المُذاكرة. فالعلمُ الّذي يُذاكر لا تصيبه الآفات. فالتّكرارُ اليوميّ للعلم وتفقّدُه بالمراجعة والتّعهّد، إنّما هي أعمال مقاومة. وهي تشتغل كما يشتغل جهاز المناعة، تحمي العلم وتصونه حتّى يستمرّ في الزّمان ويدوم، وتُحافظ عليه حتّى يظلّ سويّا، هذا إذا سلّمنا بأنّ السَّوِيَّ يتحدّد بقواعد أو بالنّاموس nomos الّذي تحدّده الصّناعة، أو أهل الصّناعة في علم من العلوم، أو فنّ من الفنون. وإذا استحضرنا في هذا السّياق المفهوميّ أنّ لفظ anomalie إنّما هو لفظ وصفيّ يستخدم لتعيين واقعة من الوقائع موسومة بالاضطراب والتّوعّر وعدم الانتظام، فابتعدت من جرّاء فوضاها désordre عن الغالبيّة العظمى من الوقائع الّتي يمكن أن تقارن بها، وأنّ لفظ anormal (اللاّسويّ) إنّما هو لفظ معياريّ يتضمّن إحالة على قيمة مّا، جاز لنا أن نرى في عبارة “آفة العلم النّسيان” حكما معياريّا على حال من أحوال العلم المضطربة تطرأ عليه حين يشعر طالب العلم بالكلل والملل، فتحمله على ترك العلم وإهماله. هذه الحال إذا طال أمدها واستفحلت أصابت من العلم ما تصيبه آفة النّسيان. وهذا يحملنا على أن نتصوّر آفات العلم بمثابة قوى تمنع من تحصيله والمحافظة عليه أو صيانته. وهي تعمل، وإن اختلفت أسماؤها، كما تعمل آفة العلم، وهي النّسيان، بوصفها قوى محو وتحريف وقتل (بالمعنى الفرويديّ للكلمة)، تجعل أسباب تحصيل العلم وتنميته وحفظه غير ممكنة.
إنّ ما يقترحه الجاحظ، في بعض ما ورد من تأمّلات في كتابي “البخلاء” و“الحيوان” تخصّ سياسة الملل، لا يتمثّل في مقاومة هذه القوى، وإن كان يعتبر هذه المقاومة بالإقصاء حلاّ ممكنا، وإنّما يتمثّل في إقحام هذه القوى في صلب العلم، وإدماجه في حدثان تحصيله. فإذا كلّت النّفس من طلب العلم وسئمت من الازدياد منه وجب أن تُنشّط بتقديم معرفة من نوع آخر، وجعلها تُقبل عليه لتستريح من كدّ العلم وقراءة الكتب. فالآفة الّتي كانت تشوّه العلم فتحمله على إنتاج معرفة غير سويّة، لا تخضع للمعيار العلميّ الّذي تفرضه مؤسّسات العلم ولا تلتزم بشرائطه، إنّما هي قوى مضادّة للعلم يدعونا الجاحظ إلى مراعاتها والانصياع لها حتّى تستعيد النّفس نشاطها الأوّل، فتعود إلى سالف عهدها، أو حالها السّويّة. ما الّذي يمكن أن ينجرّ عن هذا التّصوّر؟
ينبغي أن نميّز بين العمل الّذي يقصي هذه القوى ليصون العلم من التّلف، وبين العمل الّذي يدمج تلك القوى لأنّها جزء من حدثان تحصيل العلم. للعمل الأوّل صلة بالأخلاق، فما يقصيه إنّما هي قوى الشّرّ Le Mal الّتي هي بالضّرورة قوى نقصان مقترنة بالألم والخطيئة والقبح. فالإقصاء هو ترجمة لـ“ما يجب أن يكون” «Devoir-être». أمّا العمل الّذي يدمج فهو ترجمان القوى السّلبيّة، بل هي ترجمان ما يسمّيه الفيلسوف، فرنسوا جوليان François Julien ، “السّلبيّ” le négatif (3). فـ“السّلبيّ” هو القوى الّتي تندمج في قلب العمل الّذي به تحصّل المعرفة. وإقصاؤها بنكرانها أو التّعفّف من ذكرها، يؤكّد وجودها وحضورها الملحّ. وقد ترجم الجاحظ وغيره من الأدباء حضور “السّلبيّ” بوصفه قوى إدماج بألفاظ مختلفة.
يسمّي الجاحظ هذا “السّلبيّ” بألفاظ مختلفة، تدور على معنى “العلم الّذي [لا] يُحتاج إليه”. وما “لا يُحتاج إليه” هو علم “يُحتاج إليه” لتحصيل “العلم الّذي يُحتاج إليه”. وقد صاغ الجاحظ هذا التّصوّر على نحو صريح في بعض في جاء في كتاب الحيوان. يقول: “وهذا كتابُ موعظةٍ وتعريفٍ وتفقُّهٍ وتنبيه، وأراكَ قد عِبتَه قبل أن تقفَ على حُدودِه، وتتفكَّرَ في فصوله، وتَعتبِرَ آخَره بأوله، ومَصَادِرَه بموارده، وقد غلّطَك فيه بعضُ ما رأيتَ في أثنائه من مزحٍ لا تعرف معناه، ومن بَطالةٍ لم تطّلِعْ على غَورها؛ ولم تدرِ لم اجتُلِبت، ولا لأَيِّ عِلِّة تُكُلِّفت، وأيّ شيءٍ أُرِيغَ بها، ولأيِّ جِدٍّ احتُمِل ذلك الهزل، ولأيِّ رياضةٍ تُجُشِّمتْ تلك البَطالة؛ ولم تَدْرِ أَنَّ المزاحَ جِدٌّ إذا اجتُلِب ليكون علَّةً للجِدِّ، وَأَنَّ البَطالة وَقارٌ ورَزانة، إذا تُكُلِّفت لتلك العافية، ولمَّا قال الخليلُ بن أحمد: لا يصل أحدٌ من علم النحو إلى ما يحتاجُ إليه، حتَّى يتعلَّم ما لا يحتاج إليه، قال أَبو شمر: إذا كان لا يُتوصَّل إلى ما يُحتاج إليه إلاّ بما لا يُحتاج إليه، فقد صار ما لا يُحتاج إليه يُحتاج إليه، وذلك مثل كتابنا هذا، لأنّه إن حَمَلْنَا جميعَ من يتكلَّف قراءة هذا الكتابِ على مُرِّ الحق، وصُعوبة الجِدّ، وثِقل المؤونة وحِلية الوقار، لم يصبر عليه مع طوله إلاّ من تجرَّدَ للعلم، وفهم معناه، وذاق من ثمرته، واستشعر قلبه من عزِّه، ونال سروره على حسب ما يُورث الطولُ من الكَدّ، والكثرةُ من السآمة. وما أكثر مَن يُقَاد إلى حظِّه بالسّواجير، وبالسَّوْقِ العنيف، وبالإخافة الشّديدة.” (4).
يمثّل “ما لا يُحتاج إليه” قطاعا كاملا من أرشيف الأدب، أُلّفت فيه كتب للّهو ومصنّفات في سياسة الملل. من هذه الكتب ما يتعلّق بـ“الفتحتين” أو الأجوفين، “الفم والفرج”. ففي “كتاب الصّمت وآداب اللّسان” لابن أبي الدّنيا حديث جاء فيه أنّ الرّسول“سئل عن أكثر ما يُدخل النّاس النّارَ؟ قال: الأجوفان، الفم والفرج.” وقال أيضا: “من وقاه الله عزّ وجلّ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنّة.” (5). فهل ألّف ابن أبي الدّنيا ما ألّف ليقيَ المسلم من خطر الأجوفين؟ أم ألّف ليراقب ما ينفتح من الكلام بما ينفلت من الجسد؟ وهل في هذا السّياق أيضا ألّف جلال الدّين السّيوطي كتاب “نزهة النّديم” (6)؟ 
ليس هذا الكتاب في “أدب النّديم” على غرار كتاب كشاجم (7)، وإنّما هو تلخيص لكتاب صنّفه وهب بن سليمان بن وهب كاتب المتوكّل وعامل ديوان البريد وصاحب الضّرطة الشّهيرة في مجلس الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان. ويقول المصنّف إنّه بحث عن كتاب أبي الفضل أحمد بن طيفور في الاعتذار من ضرطة وهب، فلم يعثر على هذا الكتاب. ويقول بعد ذلك: “إلاّ أنّي قرأت رسالة في ذلك منسوبة إلى وهب نفسه، وهي حسنة لطيفة، فأردت أن ألخّصها هنا وأضمّ إليها لطائف من نمطها.” (8). وبعد تلخيص كتاب وهب بن سليمان يذيّل السّيوطي هذه الرّسالة بما جمعه من نوادر وأشعار في الضّرّاط والضّارطين. وقد بدأ الزّيادة، وهي القسم الثّاني من الكتاب، بهذه العبارة “هذا آخر ما لخّصته من رسالة ابن وهب، ومن ها هنا الزّيادة.” (9).
لنذكّر بأنّ السّيوطي قد عُرف بتآليفه الغزيرة في أدب الدّين. فقد نبغ في سبعة من علوم عصره وهي التّفسير والحديث والفقه والنّحو والمعاني والبيان والبديع، بيد أنّه خلّف أيضا كتبا في أدب الدّنيا مازال بعضها مخطوطا، ومعظمها كتب في النّكاح يمكن أن تندرج في ما يمكن تسميته بالإيروسيّة العربيّة الإسلاميّة. ويمكن أن نتساءل ما الذّي حمل رجلا كالسّيوطي يمثّل المؤسّسة الدّينيّة على التّأليف في هذا المجال؟ 
يدعو كتاب نزهة النّديم، على بساطته الظّاهرة وسذاجتـه الخادعة، القارئ إلى التّأمّل فيه. فظاهر العنوان يحيل على صورة من صور الإنسان اللاّهي Homo Ludens هي صورة “النّديم” أو “المنادم”. أمّا مضمونه فيدور على المنفلت من بعض فتحات الإنسان، كريح الضّرطة الخارجة من الأست، وريـح الكلام الخارج من الفم. وإن كانت الرّيح الأولى وجها من وجوه المنفّر Le répugnant وعلامة من علامات الاستقذار، وصورة سلبيّة من النّظيف Le propre بوصفه نسقا من التّنظيمات الرّمزيّة الّتي ينهض عليها كلّ نظام اجتماعيّ، لإقصاء النّجاسة (10)، فإنّ الرّيح الثّانية تشكّل ماهية الأدب بوصفه مؤسّسة تستصفي من الأقاويل الملفوظة ما يقلبها إلى نصوص، أو بضاعة رمزيّة، رائجة أو كاسدة في السّوق الأدبيّ. وإنّنا لنتساءل: ما الّذي يربط النّديم بصفته صـورة لهويّـةLudique بالمنفّر بوصفه كلّ مستقذر مقزّز يستبعد لنجاسته، ويطرح بعيدا لقذارته، ويلقى جانبا أو يرمى لحقارته (11)؟ هل نعتبر تقاطع اللّهويّ والمنفّر شرطا ضروريّا لتأسيس الوظيفة اللّهويّة، بوصفها إحدى وظائف الأدب الكبرى الّتي لم تطرق في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة إلاّ من خلال ثنائيّة الجدّ والهزل، بدل ثنائيّة الجدّ واللّعب؟ أم نعتبر هذا التّقاطع طريقة من الطّرق في تأليف “ما لا يحتاج إليه” من العلم من أجل “ما يحتاج إليه” من العلم (12)؟ 
يترتّب على تأليف “ما لا يحتاج إليه” ما يلي:
أنّ بنية العلم قد تحرّفت تماما، فانتقلت من قطب الجدّ إلى اللّعب. فالعلم في مدار اللّعب، إنّما هو من منظور الأخلاق، علم لا يجدي ولا ينفع ولا يفيد. بل هو من منظور القيمة علم موسوم بالعقم. ولأنّه مبنيّ على ذلك النّحو احتيج إليه لتنشيط النّفس. ذلك أنّ النّفس الّتي أصابها الكلل والملل من جرّاء جدّ العلم ووقاره ستتغيّر حالها بمجرّد إقبالها على هذا “العلم الّذي يُحتاج إليه” وقد انتقل إلى مدار اللّعب. فالعلم المبنيّ على نحو لهويّ هو علم متحوّل عن أصله السّويّ، فهو علم “غير سويّ” لأنّه خرج عن المعيار، وانقلب فلا ينتجه العلماء الأقحاح ممّن يفترض فيهم العلم. فهذا العلم “العليل” يصيب بعدواه كلّ من طلبه. فيصبح طالب العلم في هيئة أخرى مخالفة لسمت العلماء جدّا ووقارا. فتحوّلات العلم تصيب أيضا كينونة العلماء فتفسدها. وهو فساد ضروريّ لمن يريد أن يستعيد العافية. هذه التّحوّلات قد سجّلها لنا الجاحظ في تأمّلاته الّتي تخصّ اقتصاد الكتابة وسياسة الكتاب.

 

2 - الضّحك والشّحم والأوضار... أو سياسة الملل

“- لقد صرت سمينا جدّا!/ - سمين؟/ - أنت أكثر سمنة مرّتين من ذي قبل/ - إنّه عمل الطّبيعة المتعبة، تلك الّتي لم تعد قادرة على صنع أيّ شيء إلاّ الشّحم، حتّى أنّه يمكن قطعه دون أن نصدم الإنسانيّة. الشّحم، ليس الشّحم روحا ولا جسدا، إنّما هو ما نسيته الطّبيعة المتعبة، وهو يمثّل عندي ما يمثّله العشب في المقبرة. (كتب في الغسق).” ، لشتنبرغ، شذرات.
« Vous êtes devenu bien gras !
- Gras ?
- Vous êtes deux fois plus gras qu’autrefois.
- C’est le travail de la nature fatiguée qui n’a plus la force de faire autre chose que de la graisse – que l’on peut d’ailleurs couper sans choquer l’humanité. La graisse, la graisse n’est ni âme ni corps, c’est simplement ce que la nature fatiguée oublie, pour moi aussi bien que pour l’herbe du cimetière (écrit au crépuscule). ». G C Lichtenberg, aphorismes.
يقوم اقتصاد الكتابة عند الجاحظ على التّناسب بين أقدار المعاني وأقدار الألفاظ، بحيث يكون “لكلِّ ضربٍ من الحديث ضَرْبٌ من اللّفظِ، ولكلِّ نوعٍ مِن المعاني نوعٌ من الأسماءِ: فالسَّخيفُ للسّخيفِ، والخَفِيفُ للخفيفِ، والجَزْلُ للجَزلِ، والإفصاحُ في مَوْضِعِ الإفصاحِ، والكِنايةُ في مَوْضِعِ الكنايةِ، والاسترسالُ في مَوْضِعِ الاسترسالِ.” (13). وبحكم قاعدة التّناسب أو التّكافؤ اقتضى السّخيف من المعاني وخفيفها ما يناسبه من سخف الأحاديث وخفيفها (14). فإذا كانت نوادر الكلام جنسا من الأقاويل قد تخفّف من ضغوط الفصاحة والإبانة بالإخطاء في الجواب والإحالة في الكلام والمناقضة في الخبر (15) فإنّ سخيف المعاني ضرب قد تخفّف من صرامة العقل إذا ما أصابته “رقّة” أو “نقصان” أو “ضَعف” (16). 
إنّ التّخفّف من ضغوط البيان وإكراهاته وموازين العقل ومعاييره الصّارمة لا يتحقّق عند الجاحظ إلاّ بوسائل متنوّعة كحرب “الثّقيل والخفيف” أو لعبة “المليء والفارغ”، وجميعها وسائل موظّفة لإيجاد ضرب من التّكافؤ بين الجدّ واللّهو. 
يقترن الجدّ عند الجاحظ بخطّة تأليف الكتاب وقراءته، وطاقة احتمال قارئه وصبره “على مُرِّ الحق، وصُعوبة الجِدّ، وثِقل المؤونة، وحِلية الوقار.”(17). إلاّ أنّه جدّ قلّما يورد صرفا محضا دون أن يمزج بشيء من المزح والمضاحك والهزل (18). فالإكثار من طلب العلم، بمطالعة الكتب أو الاختلاف إلى العلماء، وسماع كلامهم... قد يورث عند بعض القارئين من المتأدّبين المتعلّمين الملال والكلال. فكلّ شيء جاوز المقدار انقلب إلى ضدّه. فالإفراط في طلب العلم يجعل العلم موضوعا باعثا على الملل والكلل. ولا يغدو العلم باعثا على الملل إلاّ إذا كرهت النّفس قربه بالعزوف عن طلبه لأنّها قد امتلأت به، فلا موضع شاغر لاستقبال المزيد منه أو الاستزادة. ولذلك وجب إفراغ النّفس ممّا امتلأت، بإلهائها وتخفيف حملها بالنّظر في مواضيع تُفَرِّط في العلم وتُلهي العقل حتّى لا ينشغل بشيء، ولا يهتمّ بأمر من الأمور على نحو جادّ. فغاية اللّهو هي الانشغال بمواضيع أخرى خارج عناية العقل ومشاغل العلم، أي الاعتكاف على مواضيع خارج حدود الجدّ. ويقتضي هذا الانشغال أن يفرّط العقل في الوسائل الّتي كان يطلب بها العلم للتّمتّع بمعارف من نوع خاصّ، لا تطلب من الكتب، ولا تؤخذ من أفواه العلماء، ولا تسمع في مجالس الأدب، فهي غير معروضة في أفضية العلم والأدب إلاّ نادرا (19)، وإنّما تسمع عرضا على وجه الصّدفة من أفواه العوامّ وما خرج من كلام الجمهور وسقط. فهي نفايات و“أوضار كلام”، ولكن من خصالها أنّها تشحذ النّفس وتنشّطها على طلب العلم بهمّة عالية. 
ينبغي أن نتوقّف قليلا أمام هذه المفارقة، ونعتبر الملل هو هذا الإحساس بأنّ شيئا قد جاوز الحدّ وفاض عن المقدار، ولا يمكن أن نستزيد من العلم إلاّ بالخلاص من هذا الزّائد، أو هذا “الجزء اللّعين” بالتّفريط فيه. ولا يتحقّق هذا التّفريط في العلم من جرّاء الملل والكلل إلاّ “بفراغ البال والأمن”. ولا يفرغ البال إلاّ إذا فقد ذو المروءة عقله وهمّته، وانقلب إلى حال الغباء والغفلة “لأنّ العقل مقرون بالحذر والاهتمام، ولأنّ الغباء مقرون بفراغ البال والأمن.” (20). فإذا انقلب ذو المروءة إلى هذه الحال صار أقرب إلى البهيمة منه إلى العاقل، فنما شحمه لأنّ “الشحم إلى البهيمة أسرع”، و“البهيمة تقنو شحماً في الأيام اليسيرة” (21). فلا شيء يشغل البهيمة، حين لا تتوقّع البلاء بزوال الحذر. فإذا فرغ البال أمكن للمرء أن يضحك وأن يكون مسرورا، فيسارع إليه الشّحم. “لأنّ الضّحك أوّل خير يظهر من الصّبيّ. وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الّذي هو علّة سروره، ومادّة قوّته.” (22). فنبات الشّحم هو علّة السّرور، وعنوان السّرور الضّحك، ولا يكون الضّحك إلاّ بفراغ البال والأمن، وزوال كلّ ما يهمّ العقل ويشغله، والانقلاب إلى حال البهيمة والغبيّ وذي الغفلة. هذا الانقلاب يؤكّد أنّ الملل الّذي يصيب القارئ إنّما هو ملل من عدم حدوث شيء. فالقارئ الملول هو شخص لا يحدث له شيء. وهو يريد أن تحدث له أمور تسترعي الانتباه. وحتّى تحدث هذه الأمور وجب أن ينقلب على نحو لهويّ في مسلاخ بهيمة أو غبيّ أو امرأة فارغة البال أو صبيّ، أو إلى شخص قريب من المهرّج clown أو مضحك الملك bouffon du roi. 
يمكن أن نتساءل لماذا لا يمكن للقارئ الّذي ملّ العلم وسئم قراءة الكتب أن لا يستعيد نشاطه ورغبته في طلب العلم إلاّ بحدوث شيء يقرّبه من حال البهيمة أو المرأة أو الطّفل، بما هي كائنات لهويّة (قد سقط عنها التّكليف بالمعنى الدّيني)، لا تفكّر (كالبهيمة)، فارغة البال (كالمرأة) مسرورة ضاحكة (كالطّفل)، قد خفّ عندها ميزان العقل والبيان، فتسارع إليها الشّحم؟ فالرّجل ذو المروءة أو المرأة ذات العقل والهمّة على سبيل المثال لا يسرع إليهما الشّحم، ولا يقنو ولا ينمو بسرعة. ولكن إذا فرغ البال وزال الحذر والاهتمام وتوقّع البلاء سارع الشّحم إلى الجسم. يكفي أن يترك المرء طلب العلم فيفرغ باله حتّى يسارع الشّحم إليه، تماما كذاك الّذي يترك مذاكرة العلماء وسماع الفصحاء حتّى تتسارع أوضار الكلام إليه فتعلق بلسانه. فالنّجاسة والقذارة والأوضار متى علقت باللّسان خرج الكلام من باب الفصاحة ودخل في باب آخر هو من مكروه البلاغة والدّين أيضا. وقد ذكر الجاحظ سرعة انتشار الأوضار في فقرة من كتاب البيان والتّبيين، يقول فيها: “ثمّ اعلموا أنّ المعنى الحقير الفاسد، والدّنيء السّاقط، يعشّش في القلب ثمّ يبيض ثمّ يفرّخ، فإذا ضرب بجِرانه ومكَّن لعروقه، استفحل الفساد وبَزَلَ، وتمكّن الجهل وقَرَحَ، فعند ذلك يقوى داؤه، ويمتنع دواؤه، لأنّ اللّفظ الهجين الرّديّ والمستكره الغبيّ، أعلق باللّسان، وآلف للسّمع، وأشدّ التحاما بالقلب من اللّفظ النّبيه الشّريف، والمعنى الرّفيع الكريم. ولو جالست الجهّال والنّوكى، والسّخفاء والحمقى، شهرا فقط، لم تنقَ من أوضار كلامهم، وخبال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهرا، لأنّ الفساد أسرعُ إلى النّاس، وأشدّ التحاما بالطّبائع. والإنسان بالتّعلّم والتّكلّف، وبطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكماء، يجود لفظه، ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثرَ من ترك التّعلُّم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التّخيُّرِ.”(23).
إنّ المشترك بين الشّحم وأوضار الكلام والضّحك أيضا هو سرعة الانتشار. فالشّحم سريع الانتشار في الجسم الّذي فرغ باله، والأوضار تعلق باللّسان الّذي ترك المذاكرة وسماع كلام العلماء، والضّحك يتضاعف وينتشر كالعدوى بمشاركة الضّاحكين (24). ولذلك كانت طبيعة الشّحم والأوضار والضّحك انتشاريّة توالديّة تعالقيّة، لا يمكنها أن توجد بذاتها وإنّما بغيرها، أو بوجود غيرها تماما كالطّفيليّات. فما أن يترك المرء طلب العلم ومذاكرة العلماء ويفرغ باله، حتّى يسارع الشّحم إلى جسمه، وأوضار الكلام إلى لسانه، فتنتقض هويّة ذاك الّذي سارع الشّحم إليه فصار أقرب إلى البهيمة والمرأة الغبيّة والصّبيّ وإلى العوامّ و“الجهّال والنّوكى، والسّخفاء والحمقى” إذا دبّ الفساد إلى لسانه (بما هو أوضار الكلام) وتمكّن منه واستفحل، فيفقد فصاحته وبيانه. ولا سبيل إلى الخلاص من هذا الضّرب من الفساد إلاّ بنوع مخصوص من التّطهير أو الكاثرسيس لا يقوم كما يقوم في التّراجيديا على إثارة انفعال المتفرّج، وإنّما ينهض على استعادة نشاط النّفس وقد زالت منها آثار الملل، واسترجاع البيان طاهرا مطهّرا، نقيّا منقّى، بواسطة الإقصاء. فالشّحم والأوضار والضّحك هي ظواهر طفيليّة، أو وجوه من الطّفيليّ لا تتحدّد بموضوع، وإنّما بطرائق الخلاص منها وإقصائها (25). وعلى هذا النّحو يفسّر الجاحظ سرعة انتشار أوضار الكلام، ونموّ الشّحم، وعدوى الضّحك، بالمنوال الوبائيّ، وهو تفسير قائم على ضرب من التّكافؤ بين زوال الملل بسرعة انتشار الشّحم، وزوال فصاحة اللّسان بسرعة انتشار أوضار الكلام، وكلّها ظواهر باعثة على الضّحك والسّرور لأنّها خارج حدود الجدّ وأدخل في حدود اللّهو.
بيد أنّ الجاحظ لا يستعين بهذه الوجوه من الطّفيليّات لإقصائها، وإنّما لسياسة الملل. يقول في بعض مقدّمات كتاب الحيوان: “وإن كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والمرَوَّجة؛ لتكثَّر الخواطر، وتشحَذَ العقول - فإنّا سننشِّطكَ ببعض البَطالات، وبذكر العلل الظَّريفة، والاحتجاجاتِ الغريبة؛ فربَّ شعرٍ يبلُغُ بفَرْطِ غباوةِ صاحبه من السّرور والضّحك والاستطراف، ما لا يبلغه حشدُ أحرِّ النوادر، وأجمَعِ المعاني. وأنا أستظِرفُ أمرَين استظرافاً شديداً: أحدهما استماعُ حديثِ الأعراب، والأمرُ الآخَر احتجاجُ متنازِعَينِ في الكلام، وهما لا يحسنانِ منه شيئاً؛ فإنَّهما يُثيرانِ من غَريبِ الطِّيب ما يُضحِك كلَّ ثَكْلانَ وإن تشدَّد، وكلَّ غضبانَ وإن أحرقَه لَهِيبُ الغضَب، ولو أنَّ ذلك لا يحلّ لكان في باب اللَّهو والضَّحِك والسُّرورِ والبَطالة والتّشاغُل، ما يجوز في كلِّ فنّ. وسنذكر من هذا الشّكل عِللاً، ونُورِدُ عليك من احتجاجات الأغبياءِ حُجَجاً، فإنْ كنتَ ممَّن يستعمِل الملالةَ، وتَعْجَل إليه السآمة، كان هذا البابُ تنشيطاً لقلْبك، وجَماماً لقوَّتك، ولنبتدِئ النَّظرَ في باب الحمام وقد ذهب عنك الكَلالُ وحدَثَ النّشاط. وإن كنْتَ صاحبَ علمٍ وجِدٍّ، وكنت ممرَّناً موقَّحاً، وكنتَ إِلْفَ تفكيرٍ وتنقيرٍ، ودراسةِ كُتُب، وحِلْفَ تبيُّن، وكان ذلك عادة لك لم يُضِرْكَ مكانُه من الكِتاب، وتخَطِّيه إلى ما هو أَوْلَى بك، ضرورة التّنويع في التّأليف وعلى أنِّي قد عزمتُ - واللّهُ المُوَفِّق - أنِّي أوشِّح هذا الكتابَ وأفصِّلُ أبوابَه، بنوادِرَ من ضُروبِ الشِّعر، وضروبِ الأحاديث، ليخرج قارئُ هذا الكتاب من باب إلى باب، ومن شِكْلٍ إلى شِكْلٍ، فإنِّي رأيتُ الأسماعَ تملُّ الأصواتَ المُطْرِبَة والأغانيَّ الحسنة والأوتارَ الفَصيحة، إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلاَّ في طريق الرّاحة، التي إذا طالت أورثت الغفلة. وإذا كانت الأَوائلُ قد سارتْ في صغارِ الكتب هذه السِّيرةَ، كان هذا التَّدبيرُ لِمَا طالَ وكثُر أصلَحَ، وما غايتنا مِن ذلك كلِّه إلاَّ أن تَستَفيدُوا خيراً...” (26). 
إذا اعتبرنا أنّ مأتى الملل هو الجدّ، أي العلم الّذي يشحذ العقول ويكثّر الخواطر، أضحى الملل دليلا على السّأم الّذي يقتضي لتلافيه تنشيط النّفوس والقلوب لإيقاظها. ولكن ما هي السّبيل الّتي ينبغي أن يسلكها المؤلّف لإيقاظ القارئ وتنشيطه؟ هذا الإيقاظ والنّشاط لا يمكن أن يكون بالإكراه وإنّما بإيقاظ ما كان نائما، وجعله يستيقظ على مهل. ولكن ما هو هذا النّائم؟ إنّه العقل الغائب وإن كان صاحبه يقظان (27). فهو من فرط امتلائه لم يعد قادرا على المزيد من العلم. فلا مكان للمزيد والزّيادة إلاّ بجعل النّفس الخاملة تنشط. ولا سبيل إلى نشاطها والخلاص من الملل إلاّ إذا انشغلت ولهت وخرجت من باب الجدّ ودخلت في باب اللّهو. ويقتضي الدّخول في هذا الباب أن يغدو العاقل الّذي “يعقل الحكمة وعاقبة الحكمة” إنسانا لاهيا. فيصبح كائنا متحوّلاun mutant طالما ظلّ لاهيا. وحتّى يكون هذا الإنسان لاهيا وجب أن يخضع لقواعد اللّهو القائمة على قاعدة الفراغ والإفراغ. فسياسة الملل عند الجاحظ تنهض على الخلاص من الملل بفراغ البال من مشاغله، وإفراغ النّفس من همومها. ولا يتحقّق هذا الفراغ وذاك الإفراغ إلاّ بضرب مخصوص من الكلام يمكن تصنيفه ضمن ضرب من الإبانة نسمّيه “البيان الآخر” به تصنع عبارة “ما لا يحتاج إليه” من العلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 جاء في اللّسان: “والمُسْتَباهُ الذّاهبُ العقل”

2 انظر في تحديد “المرضيّ” و“السّويّ” كتاب جورج كانغيلام العمدة، Georges Canguilhem, (1966) Le normal et le pathologique, Paris, Presses Universitaires de France, p 72 الّذي يقول في بعض ما حدّد به الحال السّويّة: “Nous pensons avec Leriche que la santé c’est la vie dans le silence des organes, que par suite le normal biologique n’est, comme nous l’avons déjà dit, révélé que par les infractions à la norme et qu’il n’y a de conscience concrète ou scientifique de la vie que par la maladie.”.
3 انظر في تحديد السّلبيّ كتاب الفيلسوف، François Julien, (2006) Du mal/Du négatif, Paris, Points-Essais, p.p20-27.، وهو مفهوم يقابل عنده الشّرّ mal le، له صله بكلّ ما هو وظيفيّ ومشكليّ وإجرائيّ، وله علاقة بالمجموعة الّتي يشارك فيها ويخدم ويتجلّى. وهو لا يشتغل مثل الشّرّ على نحو ضدّي الّذي يتحدّد على نحو خارجيّ بتعارضه مع الخير، وإنّما يعمل على نحو استقطابيّ بوصفه اختلافا داخليّا في نظام مّا تارة بالتّعارض بين الإيجابيّ والسّلبيّ، وطورا بالتّكامل. وعموما فالفرق بين الشّرّ والسّلبيّ هو كالفرق بين الإقصاء والإدماج.
4 أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، م.م، ج1، ص.ص37-38. والإبراز إبرازنا.
5 أبو بكر بن عبد الله بن محمّد بن عبيد ابن أبي الدنيا، كتاب الصّمت وآداب اللّسان، تحقيق أبي إسحاق الحويني الأثري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطّبعة الأولى، 1990، ص47 وص55.
6 جلال الدّين السّيوطي، نزهة النّديم، تحقيق فرج لحوار، دار سحر للنّشر، تونس، الطّبعة الأولى، 2002.
7 أبو الفتح محمود بن الحسين بن السّندي بن شاهك، كشاجم، أدب النّديم، دراسة وشرح وتحقيق د. النّبوي عبد الواحد شعلان، مطبعة التّقدّم، القاهرة،الطّبعة الأولى،1987.
8 جلال الدّين السّيوطي، نزهة النّديم، م.م، ص25.
9 جلال الدّين السّيوطي، نزهة النّديم، م.م، ص67.
10 انظر، Mary Douglas, (2001) De la souillure, Essai sur les notions de pollution et de tabou, Préface de Luc Heush, Postface de l’auteur, Traduit de l’anglais par Anne Guérin, La Découverte-Poche
11 هل ينبغي أن نعتبر النّديم ممثّلا لصورة الصّديق “الممتع” Agréable وهي نوع من الصّداقة يميّزه أرسطو من نوعين آخرين هما الصّديق “الصّالح” Bon، والصّديق “النّافع” Utile. انظر في هذا السّياق ما كتبه: Paul Ricœur, Soi-même comme un autre, op.cit, p214
12 ثنائية الجدّ واللّعب/ ثنائية الجدّ والهزل. وهي ثنائيّة حاضرة في نصوص الجاحظ، نورد منها النّماذج التّالية: “فأتتْها طَبَّةٌ عالمةٌ ... تخلط الجِدَّ بأصنافِ اللَّعبْ” [الرّمل]، الحيوان، م.م، ج1، ص169، والإبراز إبرازنا.
“ولمّا شهدَ أبو علقمة المُزَنيُّ عند سوّار بنِ عبد الله أو غيره من القضاة و توقَّفَ في قَبول شهادته، قال له أبو علقمة: لم توقَّفتَ في إجازة شهادتي؟ قال: بلغني أنَّك تلعَب بالكِلاب والصُّقور، قال: مَنْ خبَّرك أنِّي ألعب فقد أبْطَل، وإذا بلغك أنِّي أصطادُ بها فقد صدَقَك مَنْ أبلغك، وإنِّي أخبرك أنِّي جادٌّ في الاصطياد بها غيرُ لاعبٍ ولا هازئ، فقد وقَفَ المبلِّغ على فرقِ ما بينَ الجدِّ واللَّعب، قال: ما وقَفَ ولا وقَّفته عليه، فأجازَ شهادتَه”، الحيوان، م.م، ج2، ص187، والإبراز إبرازنا.
“وقال مثنّى بنُ زهير ذاتَ يوم: ما تلَهَّى النّاسُ بشيءٍ مثل الحمام، ولا وجدنا شيئاً مما يتخذه النّاس ويُلعَبُ بِهِ ويُلْهَى بِهِ، يخرج من أبواب الهزل إلى أبواب الجِدّ - كالحمام -” الحيوان، م.م، ج3، ص257، والإبراز إبرازنا.
13 أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، م.م، ج3، ص39.
14 أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، م.م، ج3، ص38، “وقد تسخَّفْنا في هذه الأحاديثِ، واستجَزْنا ذلك بما تقدّم من العذر.”.
15 العادل خضر، صناعة النّادرة، بحث في بلاغة الهزل، (ضمن) مشكل الجنس في الأدب العربي القديم، منشورات كلّية الآداب منّوبة، 1994.
16 جاء في لسان العرب في مادّة [س.خ.ف] “السخْفُ والسَّخْفُ والسَّخافةُ رِقَّةُ العقل سَخُفَ بالضم سَخافةً فهو سَخِيفٌ ورجل سَخِيف العَقلِ بَيِّنُ السَّخْفِ وهذا من سُخْفةِ عَقْلِك والسَّخْفُ ضَعْف العقل وقالوا ما أَسْخَفَه قال سيبويه وقع التعجب فيه ما أَفْعَلَه وإن كان كالخُلُق لأَنه ليس بِلَوْنٍ ولا بِخِلْقةٍ فيه وإنما هو من نُقْصانِ العقل...”.
17 أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، م.م، ج1، ص38.
18 أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، م.م، ج6، ص264، “باب الجِدِّ من أمْر الجِنّ: ليس هذا، حفظك اللّه تعالى، من الباب الذي كُنَّا فيه، ولكنّه كان مُستراحاً وجماماً، وسنقول في باب من ذكر الجنّ، لتنتفع في دِينك أشد الانتفاع، وهو جِدٌّ كلُّه. والكلام الأوّل وما يتلوه من ذكر الحشرات، ليس فيه جِدٌّ إلاّ وفيه خَلْطٌ من هزْل، وليس فيه كلامٌ صحيح إلا وإلى جنبه خرافة، لأن هذا الباب هكذا يقع.” والإبراز إبرازنا. 
19 أبو الفرج الأصبهاني، كتاب الأغاني، م.م، ج23، ص.ص 79-80، حيث أورد هذا الخبر عن أبي العبر “حدّثني عبد العزيز بن أحمد عمّ أبي قال: كان أبو العبر يجلس بسرّ من رأى في مجلس يجتمع عليه فيه المجّان يكتبون عنه. فكان يجلس على سلّم وبين يديه بلاّعة فيها ماء وحمأة، وقد سدّ مجراها، وبين يديه قصبة طويلة، وعلى رأسه خفّ، وفي رجليه قَلَنْسِيَّتَان، ومُسْتَمْليه في جوف بئر، وحوله ثلاثة نفر يدقّون بالهَواوين حتى تكثر الجلبة ويقلّ السّماع، ويصيح مُسْتَمْليه من جوف البئر من يكتب عذّبك الله، ثمّ يملي عليهم، فإن ضحك أحد ممّن حضر قاموا فصبّوا على رأسه من ماء البلاّعة إن كان وضيعا، وإن كان ذا مروءة رُشّش عليه بالقصبة من مائها، ثم يحبس في الكنيف إلى أن ينفضّ المجلس، ولا يخرج منه حتّى يغرم درهمين.”. 
20 عبد الله بن المقفّع، كليلة ودمنة، م.م، ص78، وقد جاء في باب الأسد والثّور ما يلي: “وأمّا الثّور فإنّه خلص من مكانه وانبعث. فلم يزل في مرجٍ مخصبٍ كثير الماء والكلأ؛ فلمّا سمن وأمن جعل يخور ويرفع صوته بالخوار.”، والإبراز إبرازنا.
21 أبو عثمان الجاحظ، البخلاء، م.م، ص5.“(...) وأنّك لو أسمنت بهيمة ورجلاً ذا مروءةً، أو امرأةً ذات عقل وهمّة، وأخرى ذات غباء وغفلة، لكان الشّحم إلى البهيمة أسرع، وعن ذات العقل والهمّة أبطأ. ولأنّ العقل مقرون بالحذر والاهتمام، ولأنّ الغباء مقرون بفراغ البال والأمن، فلذلك البهيمة تقنو شحماً في الأيّام اليسيرة. ولا تجد ذلك لذي الهمّة البعيدة. ومتوقّع البلاء في البلاء وإن سلم منه. والعاقل في الرّجاء إلى أن يدركه البلاء.”.
22 أبو عثمان الجاحظ، البخلاء، م.م، ص6.
23 أبو عثمان الجاحظ، البيان والتّبيين، ج1، ص86. 
24 أبو عثمان الجاحظ، البخلاء، م.م، ص124، “فما ضحكت قطّ كضحكي تلك الليلة. ولقد أكلته جميعاً، فما هضمه إلا الضحك والنشاط والسرور، فيما أظن. ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلم به، لأتى عليّ الضحك، أو لقُضِيَ عَلَيَّ. ولكن ضحك من كان وحده لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب.”.
25 تحدّد Julia Kristeva, (1980) Pouvoirs de l’horreur, Essai sur l’abjection, Paris, Points-Essais, p14. الفرق بين الشّوق désirوأنواع النّجاسات كالمنفّر والمقرف والمرذول... بأنّ للشّوق موضوعاobjet de désir بينما لا تتحدّد النّجاسات بموضوع وإنّما بالإقصاء المتجسّم في مظاهر عديدة كالطّهارة والنّفور والتّقزّز... 
26 أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، م.م، ج3، ص.ص5-7، ونجد نظيرا لهذا الكلام في، البخلاء، م.م، ص.ص1-7، حيث يقول الجاحظ في المقدّمة: “(...) وقلت: اذكر لي نوادر البخلاء، واحتجاج الأشحاء، وما يجوز من ذلك في باب الهزل، وما يجوز منه في باب الجد،لأجعل الهزل مستراحا،والراحة جماما؛ فإن للجد كدا يمنع من معاودته، ولا بد لمن التمس نفعه من مراجعته. (...) ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبين حجة طريفة، أو تعرف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة. وأنت في ضحك منه إذا شئت، وفي لهو إذا مللت الجد (...) وللمزح موضع، وله مقدار، متى جازها أحد، وقصر عنهما أحد، صار الفاضل خطلاً، والتقصير نقصاً. فالناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر، ولم يعيبوا المزح إلا بقدر. ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي له جعل الضحك، صار المزح جداً، والضحك وقاراً.”.
27 انظر، Martin Heidegger, (1983-1992) Les concepts fondamentaux de la métaphysique, Monde-finitude-solitude, Texte établi par Friedrich-Wihelm von Hermann, Traduit de l’allemand par Daniel Panis,Paris, nrf Éditions Gallimard.

المصدر: http://www.alawan.org/article14116.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك