نظرية السيادة، والحقوق الفردية في الدولة الحديثة

إمام عبد الفتاح إمام

القسم الأول: نظرية السيادة

تمهيد:

كان أرسطو -أول فلاسفة السياسة في التاريخ - قد ذهب إلى أن الإنسان مدني بالطبع، وأنه يُقبل على الحياة في جماعة سياسية منظمة بفطرته(1). وظلت هذه الفكرة سائدة في التراث الغربي والشرقي على السواء إلى أن جاء الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبزHobbes (1558-1679) فعارضها، وذهب إلى أن الحالة الطبيعية هي حالة الفوضى في حياة الإنسان، في حين أن المجتمع المنظم هو مجتمع مصنوع خلقه الإنسان بإرادته، ومن ثم فهذا الإنسان الذي يتحدث عنه أرسطو لا هو حيوان سياسي بفطرته، ولا هو يميل بطبعه إلى الجماعة المنظَّمة. لكن التربية بمعناها الواسع -أي التنشئة الاجتماعيةSocialization - هي التي تشكل شخصيته؛ بحيث يصبح صالحاً للحياة في المجتمع السياسي؛ ذلك لأن "الحالة الطبيعية" -وهي فطرة الإنسان- هي حالة الفوضى التي يحاول كل فرد فيها المحافظة على حياته بقواه الخاصة، ولما كان يتساوى مع غيره في هذه القوى -جسدية كانت أو ذهنية- فإن الصراع يصبح عنيفاً؛ كل فرد يتربص بغيره ليفتك به قبل أن ينال الآخر منه، وهكذا يصبح كل إنسان ذئبًا لأخيه الإنسان Homo Homini Lupus، وهي الحالة التي أطلق عليها هوبز تسميته الشهيرة: "حرب الكل ضد الكل Bellum Omnium Contra Omnes.، وهي حياة فقيرة عقيمة كريهة موحشة قصيرة الأمد ولا تستقيم مع حياة الجماعة السياسية. ولهذا فهي لا تنتج حضارة ولا علماً ولا فناً ولا ثقافة(2).

 

الحاجة إلى السلطة:

 

وهناك إجماع على أن هذه الحياة الطبيعة لا تنتج شيئاً، فكما يقول جاك بوسيةJ.Bousset "عندما يستطيع الكل فعل ما يشاءون، فإن ذلك يعني ألا أحد يستطيع فعل ما يشاء، وعندما لا يكون هناك سيد، فإن الكل سيد، وحيث الكل سيد، فالكل عبيد". ويضرب لنا هوبز مثالاً آخر من الحضارات القديمة يكشف عن حاجة المجتمع الإنساني إلى "السلطة" فيقول: "جرت العادة عندما يموت الملك في فارس في العصور القديمة أن يُترك الناس خمسة أيام بغير ملك، وبغير قانون بحيث تعم الفوضى والاضطرابات جميع أنحاء البلاد. وكان الهدف من وراء ذلك هو أنه بنهاية الأيام الخمسة، وبعد أن يصل السلب والنهب والاغتصاب إلى أقصى مدى، فإن مَنْ يبقى منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد، أو تكون التجربة قد علمتهم مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع إذا غابت السلطة السياسية"(3).

وننتهي من ذلك كله إلى أن الحياة الإنسانية لابد لها من قدر من التنظيم إنْ أردنا لها أن تحقق شيئاً ذا قيمة، لا أن تكون مجرّد عبث لا معنى له أو فوضى تقترب من حياة الحيوان؛ لابد لهذا التنظيم من سلطة تخضع لها الجماعة. وكما قال الشاعر الجاهلي:

        لا يَصْلُح الناسُ فوضى لا سَراة لَهم ...       ولا سَراة إذا جهالهم      سادوا(4).

وكان أرسطو أيضاً أول مَنْ تحدث عن السلطة في المجتمع وقسّمها إلى أنواع، منها السلطة السياسية، وهي المتعلقة بشؤون الحكم. والسلطة الأبوية المتمثلة في علاقة الأب بأبنائه وسلطته على زوجته، وأخيراً سلطة السيد على عبيده.. إلخ(5).

ولقد تابع فقهاء القانون ما قاله أرسطو عن السلطة، ولخص بعضهم هذه الأنواع في نوعين فقط هما السلطة السياسية التي توجد في الدولة، والسلطة الاجتماعية التي توجد في المجتمعات الصغيرة الأخرى: كالأسرة، والنقابات والمؤسسات الدينية والتربوية والنوادي الرياضية... إلخ(6).

من السلطة إلى السيادة:

قلنا: إن الجماعة تحتاج إلى سلطة لكي تحيل الفوضى الطبيعية إلى مجتمع منظم؛ أي مجتمع "مصنوع" وليس طبيعياً يخلقه الإنسان وينظمه بإرادته الحرة. وهكذا تصبح السلطة ركناً أساسا من الأركان التي يقوم عليها بناء الدولة، والدولة في ذلك لا تختلف عن الجماعات الاجتماعية الأخرى؛ لأنها جميعاً تحتاج إلى سلطة تنظمها؛ لكن السلطة التي تتمتع بها الدولة لها طابع خاصّ وصفات ذاتية تميّزها عن غيرها من السلطات العامة والخاصة على السواء. ونظراً إلى ما للسلطة السياسية في الدولة من صفات ذاتية خاصة، فقد أطلق عليها الفقيه الفرنسي اسم "السيادة"(7).

وكان جان بودان J.Bodin (1530-1596) المفكر السياسي الفرنسي أول مَنْ نادى بمبدأ السيادة مستهدفاً بذلك إثبات حق الدولة في البقاء، ولهذا قال ب. وأنتريف في كتابه "مفهوم الدول": "مع جان بودان دخلت كلمة "السيادة" في مفردات الحقوق والسياسة، تماماً مثلما فعلت كلمة الدولة مع مكيافيللي(8). وربما كان السبب أن "بودان" عاصر جانباً كبيراً من الصراع الديني الذي نشب في بلاده بسبب الانقلاب الذي قام به مارتن لوثر M. Luther وجون كالفن J.Calvin في النصف الأول من القرن السادس عشر (مثله في ذلك مثل توماس هوبز الذي عاصر هو أيضا جانباً كبيراً من الحرب الأهلية في إنجلترا بين البرلمان والملك شارل الأول، وانتهت بانتصار البرلمان وإعدام الملك)، وكذلك ترتب على الصراعات والحروب الداخلية في فرنسا تمزق أواصر الوحدة الوطنية التي كان يفضلها بودان كثيراً، ولا سيما إذا كانت مصحوبة بالتسامح الديني. وفي سبيل تحقيق ذلك وضع بودان نظريته في السيادة التي رأى أنها يجب أن تتركز في يد الملك دون سواه. ومع ذلك فقد كان ينادي بالتسامح الديني الذي يجب في رأيه أن ينشره النظام الملكي الفرنسي في جميع أنحاء أوربا مبيناً أخطاء الحروب الأهلية وما ينشأ عنها من أضرار فادحة(9).

والمهم في ذلك كله أن السلطة الدينية كانت تهدد السيادة الخارجية لفرنسا عندما استهدفت زعزعة سيادة الدولة على أرضها، ومن هنا قيل: إن فكرة السيادة بدأت من مفهوم سلبي هو تأكيد حق الملوك والأباطرة ضد القوى الخارجية التي كانت تطمع في التدخل في شؤون بلادهم(10) .

وهكذا كان "بودان" أول مفكر سياسي يهتم بمبدأ السيادة، وكان هذا الاهتمام ينبع من محاولته إيجاد قاعدة للسلام في عصر مزقته الحروب الدينية؛ والحروب الأهلية، وفي معرض بحثه عن العلاج وجد الحل كامناً في فكرة السيادة وتوظيفها؛ لحل النزاع القائم بين السلطتين الدينية والزمنية، وربما اتضحت الفكرة أكثر إذا ما تذكرنا قسمة السيادة إلى نوعين: سيادة داخلية وسيادة خارجية، وسوف نعود إلى هذه الفكرة لأهميتها فيما بعد. ولكن ما يهمنا إبرازه الآن أنه إذا كانت سلطات المجتمع كثيرة، فإن السلطة ذات السيادة هي العلامة التي تميز الدولة عن جميع التجمعات الأخرى في الدولة. وانطلاقاً من تحديده لصفة المواطن بلّور بودان نظريته في السيادة التي هي أساس نظريته السياسية، وقد عرَّفها بأنها السلطة العليا التي يخضع لها جميع المواطنين والرعايا ولا يحد منها القانون.

ومن تحليل هذا التعريف للسلطة العليا يحاول "بودان" أن يستخلص أهمية السيادة للجماعة السياسية، فالسيادة بالنسبة لبودان هي قوة تماسك الجماعة السياسية وقوة اتحادها، ودون هذه القوة تتفكك هذه الجماعة. وهو يشبه الدولة بلا سلطة ذات سيادة - كما سبق أن ذكرنا- بالباخرة التي تتحول إلى مجموعة متناثرة من الخشب؛ فكما أن الباخرة لا تكون أكثر من كتل من الخشب ليس لها شكل المركب عندما تنزع عنها المرساة التي تقوم بتثبيت جانبيها، والمقدمة والمؤخرة، فإن لك أن تقول ذلك بالنسبة للدولة التي لا سلطة مطلقة لها، فسوف تصبح جميع أجزائها مبعثرة وأعضائها ممزقة.."(11).

وللسيادة عند جان بودان ثلاث خصائص هامة هي:

الخاصية الأولى: الدوام والاستمرار، فليس ثمة سيادة مؤقته، فالأمير صاحب السيادة لابد أن يمارسها بلا انقطاع، وهذا يعني أن السلطة المؤقتة لا توصف بالسيادة.

الخاصية الثانية: أن تكون مطلقة فهي لا يمكن أن تكون نسبية؛ لأن صاحب السيادة لا يخضع لأية إرادة أخرى، فهو الذي يلزم الآخرين بالخضوع للقوانين.

الخاصية الثالثة: سلطة لا تقبل النقض. ومن علامات السيادة البارزة أن صاحب السيادة قادر على سن القوانين لكل أمر من الأمور، ودون أن يضطر للحصول على الموافقة من شخص أرفع منه؛ لأنه لو كان هناك مَنْ هو أرفع منه لأصبح واحداً من الرعية ولا تكون سلطته مطلقة.

ولصاحب السيادة صفات أخرى مثل القدرة على إعلان الحرب، وتوقيع معاهدات السلام، وتعيين المسؤولين في أجهزة الدول.

وقد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال وجيه هو:

ألا يمكن أن تكون هناك قيود على السيادة عند بودان؟

ويجيب بعض المؤرخين السياسيين، لقد أوضحت كتاباته أن هناك خمسة قيود هي:

القانون الطبيعي - الدستور- قدسية الملكية الفردية- وضع العائلة- المعاهدات والتحالفات.

والواقع أن تلك القيود التي وضعها "بودان" تتعارض مع تعريفه للسيادة بوصفها السلطة العليا التي تضع القانون وتنفذه وتفسره، وبهذا فقد افتقرت كتاباته عن السيادة - رغم خصوبتها- إلى الترابط المنطقي، فقد كان يعتقد أن قانون الطبيعة فوق القانون الوضعي، وأنه يضع معايير للحق غير قابلة للتغيير، لكن ليس هناك وسائل قانونية لمحاسبة الملك إذا انتهك ذلك القانون الطبيعي(12).

وعلى الرغم من أن جان جاك روسو (1712-1778) لم يكن أول مَنْ كتب عن العقد الاجتماعي فقد سبقه إليه "توماس هوبز" و"جون لوك" - إلا أنه كان أشد منهما اهتماماً بفكرة السيادة، فقد كتب عنها في الكتاب الأول من "العقد الاجتماعي" والفصل السابع" عن صاحب السيادة، ثم كتب بعد ذلك في الكتاب الثاني ثلاثة فصول: الأول بعنوان "السيادة لا تقبل التنازل". والثاني بعنوان: "السيادة لا تتجزأ". وأخيراً: "حدود السيادة". وسوف نحاول تلخيص فكرته العامة عن السيادة من خلال ما كتبه في "العقد الاجتماعي"؛ لكي نعود إلى الفقه الفرنسي وتصوره في الحقبة المعاصرة للسيادة وأنواعها.

يذهب روسو إلى أن "العقد الاجتماعي" ينطوي على التزام متبادل من كل أفراد الشعب، فكل فرد وكأنه يتعاقد مع نفسه، وينشأ عن هذا التعاقد الاجتماعي أن يضع كل فرد إرادته الخاصة تحت تصرف الإرادة العامة، وأن يقبل الجميع كل عضو كجزء لا يتجزأ من الكل. وهذا يعني أن كل عضو يتنازل عن نفسه وعن حقوقه كاملة للجماعة. ويتكون نتيجة لارتباط الفرد بالكل جسم سياسي أو مجتمع يكون كل عضو فيه بمثابة الحاكم والمحكوم، حاكم لأنه عضو في الجسم السياسي الذي يتصف بكونه صاحب الإرادة العامة. والإرادة العامة من اختصاص صاحب السيادة وهو الشعب(13).

وللسيادة عند روسو مجموعة من الصفات المهمة منها:

1-       السيادة لا يمكن التعبير عنها.

2-       السيادة لا يمكن التنازل عنها.

3-       السيادة غير قابلة للتقسيم؛ أي أنها لا تتجزأ.

4-       السيادة لا تخطئ كما أنها مطلقة.

5-       لما كان التشريع من حق صاحب السيادة -أي الشعب- فإن القانون لا يمكن أن يكون جائرًا، ولا يمكن لأي حاكم أن يضع نفسه فوق القانون: "وأهم النتائج المترتبة على هذه المبادئ (في رأي روسو) أن الإرادة العامة قادرة وحدها على توجيه قوى الدولة.. وفق الغاية من إنشائها وهي الصالح العام.."(14).

وفي الفصل الرابع من الكتاب الثاني من العقد الاجتماعي، بعنوان "حدود سلطة السيادة" يقول "روسو": كما أن الطبيعة منحت كل إنسان سلطة مطلقة على جميع أعضائه؛ فإن ميثاق العقد الاجتماعي يمنح الهيبة السياسية السلطة باسم السيادة كما سبق أن ذكرنا.."(15).

*     *        *

تلك كانت عُجالة سريعة عن تطور مفهوم السيادة عند بعض فلاسفة العصر الحديث تصل بنا إلى الثورة الفرنسية، ثم اختلف فقهاء القانون بعد ذلك -خصوصاً في فرنسا وألمانيا- في تحديد هذا المفهوم، فذهب بعضهم إلى أنه ينقسم إلى نوعين هما سيادة خارجية External Sovereignty، وسيادة داخلية Internal Sovereignty أما السيادة الخارجية فيقصد بها عدم خضوع الدولة لدولة أجنبية، وذلك فيما عدا ما تعقده الدولة من اتفاقيات دولية، وتعدّ هذه الاتفاقيات مظهراً من مظاهر سيادة الدولة(16). ومن الأمور المتفق عليها أن السيادة ليست مطلقة؛ وإنما هي مقيدة بما تعقده الدولة من هذه الاتفاقيات.

ومن ثم فالسيادة الخارجية مرادفة للاستقلال، والدولة التي تتمتع بالسيادة الخارجية ليست في المجال الدولي سلطة عليا؛ ولكنها دولة مستقلة تقف على قدم المساواة مع غيرها من الدولة ذات السيادة.

ومن ذلك يظهر أن دور السيادة الخارجية سلبي محض؛ لأن استقلال الدولة وعدم خضوعها لغيرها من الدول لا يعطيها الحق في اتخاذ أي إجراء إيجابي يمس استقلال دولة أخرى، والسيادة الخارجية بهذا المعنى السلبي لا تتنافى مع إمكان تقييد الدولة بالتزامات دولية وارتباطها بمعاهدات مع الدولة الأخرى(17).

أما السيادة الداخلية فيقصد بها أن للدولة سلطة لا تعلوها سلطة أخرى في ميدان نشاطها داخل الدولة؛ أي في علاقتها بالأفراد أو الجماعات التي تقطن أرض الدولة(18). ومن هنا نجد أن للسيادة الداخلية معنى إيجابيا مضمونه أن الدولة تتمتع بسلطة عليا مع جميع الأفراد والهيئات الموجودة على أرضها، وأن إرادتها تسمو على إرادتهم جميعاً، ومن ثم فسيادة الدولة الكاملة تعني استقلالها الخارجي وسمو سلطانها في الداخل.

استكمالاً لهذه الفكرة بشـأن "السيادة" بقي سؤالان علينا أن نجيب عنهما بإيجاز:

الأول: ماذا يعني فقهاء القانون بقولهم: إن هناك سيادة كاملة Perfect Sovereigntyوسيادة ناقصة Imperfect Sovereignty..؟

والثاني: لمن تكون السيادة؟ بمعنى أوضح: إذا كانت الدولة تقوم على وجود سلطة سياسية ذات سيادة فلمن تكون هذه السلطة؟

أما بالنسبة للسؤال الأول فإن فقهاء القانون يقصدون بالدولة ذات السيادة الكاملة أن تكون مطلقة الحرية في وضع دستورها، وفي تعديله، وفي اختيار نظام الحكم الذي تريده. وما دامت مثل هذه الدولة تحترم تعهداتها الدولية، فإن اختصاصها الدستوري يكون كاملاً، ولا سلطان لدولة أخرى عليها؛ بل إن تدخل الدول في شؤون الدولة المستقلة -مهما كان نظام الحكم فيها، وأيَّا ما كانت سياستها- يعدّ انتهاكاً للسيادة Infringement of the Sovereignty، وهذا ما تقضي به قواعد القانون الدولي العام، والكثرة الغالبة من الدول الموجودة الآن تتمتع بصفة السيادة الكاملة(19).

أما الدولة ناقصة السيادة فهي التي لا تتمتع بالاختصاصات الأساسية للدولة، وذلك نتيجة خضوعها لدولة أجنبية أو تبعيتها لهيئة دولية تقوم بمشاطرتها بعض الاختصاصات. وتوصف الدولة الخاضعة لنفوذ أجنبي بأنها ناقصة الأهلية، وغالباً ما تكون مقيدة الحرية في شؤونها الدستورية، وشؤونها الداخلية بصفة عامة.

ومن أمثلة هذه الدول ناقصة السيادة الدول التي توضع تحت الحماية، والدول التابعة لغيرها، والدول التي توضع تحت الانتداب أو الوصاية، والدول المستعمَرة.. إلخ(20).

أما السؤال الثاني: لمن تكون السيادة؟ أتكون للدولة؟ (فنحن نقول دولة ذات سيادة) لكن الدولة شخص معنوي مجرد! هل نشكل مجلساً للسيادة Souvereignty Council، وهل في هذه الحالة تتحقق السيادة القومية National أي سيادة الشعب Souvereignty of People، وسيادة الدولة Souvereignty of State..؟! أم تكون السيادة للملك أو الإمبراطور كما ذهب الفيلسوف الفرنسي جان بودان J.Bodin الذي وصفه فقهاء القانون بأنه خلط بين السيادة والسلطة مستعملاً التعبيرين على أنهما مترادفان. ولهذا ذهب أساتذة القانون إلى أنك لن تجد فكرة أثارت الجدل في فقه القانون العام مثل ما أثارته فكرة السيادة ولمنْ تكون؟ وعندما قامت الثورة الفرنسية وتأكد الفصل بين الملك والسلطة السياسية، وأصبحت الجماعة هي صاحبة السلطة ظلت فكرة السيادة قائمة بما لها من صفات الإطلاق والسمو؛ لكن بدلاً من نسبتها إلى الملك أصبحت السيادة ملكاً للأمة، وإن كان ذلك يؤدي في نهاية الأمر إلى أن الدولة هي صاحبة السيادة رغم ما لها من شخصية معنوية مجردة. وهكذا لا يزال الموضوع في تفصيلاته وما يثيره من مشكلات في غاية التعقيد!(21)

القسم الثاني: الحقوق الفردية في الدولة الحديثة

لم يعرف اليونان قديماً شيئاً لا عن الفرد ولا عن حقوقه؛ لأن المدينة اليونانية كانت تدمج الفرد بداخلها بحيث لا يكون له وجود خارجها، كما كان على الأم أن تسير في تربية الطفل على نظام تنصح به الدولة، فلا تكثر من اللفائف والأغطية التي تقيد حركته، كما كان عليها أن تقسو في معاملته وأن تمنعه من البكاء ولا تستجيب لمطالبه(22).

ويقول روسّو: "لقد فَقَد المواطن الأسبراطي هويته تماماً حتَّى أنه لم يعد يعاني من أي صراع داخلي، وأصبحت الفضيلة الوطنية تأتيه على نحو طبيعي.."(23). فالأم الأسبرطية التي كان لها خمسة أبناء في الجيش خرجت تستطلع أنباء المعارك عندما التقت بعبد سألته -وهي ترتجف- عن الأخبار، فأجابها: "أبناؤك الخمسة قُتلوا"؛ لكنها ردت عليه بحنق: "وهل سألتك عن ذلك أيها العبد الحقير؟"، فعاد يقول: "إنْ كنت تسألين عن الحرب فقد انتصرنا"، عندئذ أسرعت الأم إلى المعبد لتقدم الشكر إلى الآلهة(24)، وتقول الأم -وهي تدفن ولدها-: "إنه لمصير عظيم حقاً، ألستُ أدفنه لأنه مات من أجل أسبرطة؟"(25)(**).

وهكذا سارت شخصية الفرد في العصور الوسطى بغير حقوق، فهي مطموسة تماماً بفضل الكنيسة أو الدولة أو هما معاً، فلا قيمة لهذا الفرد ولا شخصية ولا حتَّى آدمية في الشرق والغرب على السواء. وعلينا أن نسوق أمثلة بسيطة من هنا وهناك؛ فالملك لويس الرابع عشر في فرنسا (1638-1715) الملقب "بالملك الشمس Le Roi Soleil.. كان يقول عن نفسه: "أنا الدولة L' Etat estmoi" في الوقت الذي كان فيه المنصور في الشرق يقول: "أنا ظل الله على الأرض"، وعلينا أن نستمع إلى الوليد بن عبد الملك ينصح شعبه في أول خطبة له: "أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإن الشيطانمع الفرد، أيها الناس مَنْ أبدى ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومَنْ سكت مات بدائه.."(26). ولخص الحجاج طاعة الدواب التي ينبغي أن يسير عليها المواطن في قوله:

"والله لا آمر أحداً أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربتُ عنقه..!"(27).

والخلاصة أن مفهوم الحقوق الفردية أو حقوق الإنسان بصفة عامة لم تر النور إلا في العصر الحديث، فقد بدأ يطل برأسه في القرن الثالث عشر في إنجلترا في عهد الملك جون أو يوحنا (1167 - 1216)، عندما ثار عليه النبلاء لتفرده بفرض الضرائب دون أن يأخذ رأيهم، فأعدَّ كل منهما جيشاً والتقى الجمعان، فهزم النبلاء الملك وقبضوا عليه وأجبروه على إقرار الوثيقة العظمى أو الميثاق الأعظم Magna Carta، وبذلك شكلوا مجلساً هو في الواقع نواة مجلس اللوردات الذي تشكل رسمياً في القرن التالي (القرن الرابع عشر) وبذلك حّدوا من سلطات الملك المطلقة(28).

وراح الشعب عن طريق البرلمان ينتزع اختصاصات الملك شيئاً فشيئاً، ثم تأتي المواجهة الحاسمة بين الملك والبرلمان في عهد الملك شارل الأول (1600-1649)، ويصل الصراع إلى مداه بعد أن فشل الملك في القبض على قيادة البرلمان، وقامت الحرب الأهلية بينهما، وهي التي انتهت بإعدام الملك شارل الأول عام 1649, وتمَّ تنصيب أورانج الثالث (1650-1702) ملكاً على إنجلترا في عام 1688 مما أدى إلى خضوع الملك لمطالب البرلمان الذي أتى به، فأصدر في العام التالي (13 فبراير سنة 1689) ما يسمَّى "بقانون الحقوق" أو وثيقة الحقوق The Bill of Rights(29)، وهو قانون يعلن حقوق وحريات الرعّية.

ثم جاءت الثورة الأمريكية وإعلان الاستقلال في الرابع من شهر يوليو 1776 ومولد الولايات المتحدة الأمريكية وإعلان أهم وثائق التاريخ الأمريكي الذي صاغه "توماس جيفرسون" (1743 - 1826)، الذي جاءت فيه كلمات رائعة: "إننا نؤمن بأن هذه الحقائق واضحة بذاتها، وهي أن الناس جميعاً قد خُلقوا سواسية، وأن خالقهم قدم لهمحقوقاً معينة هي جزء لا يتجزأ من طبائعهم، منها "حق الحياة".. و"حق الحرية" و"البحث عن السعادة" وأنه لكي يظفر الناس بهذه الحقوق أقيمت فيهم الحكومات تستمد سلطتها العادلة من رضى المحكومين.."(30). وكان الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 - 1704) هو مصدر التفكير السياسي الذي ساد الولايات المتحدة إبان ثورتها، فهو المعين الذي استقى منه قادة الثورة الأمريكية مبادئهم بطريقة مباشرة. ولقد جاءت هذه الوثيقة معبّرة عن روح الثورة الأمريكية، وهي تحتوي على الكثير من المبادئ الهامة التي تستوقف النظر؛ لأنها سوف تتكرر بعد ذلك في الثورة الفرنسية لا سيما عندما نادى الكونتادي ميرابو Conte de Mirabea (1749-1791) خطيب الثورة الفرنسية بإلغاء الرق؛ لأنه يتعارض مع مبادئ الثورة الفرنسية، وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الأمم المتحدة في 10 ديسمبر عام 1948 في ثلاثين مادة تندرج في ثلاث فئات على النحو التالي(31):

جانب من حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة 10 ديسمبر 1948

في ثلاثين مادة تندرج في ثلاث فئات على النحو التالي:

 

 

الحقوق الشخصية

 

حقوق فئات خاصة

 

حقوق جماعية

 

1- الحق في الحياة.

 

1- حقوق الأطفال والمسنين.

 

1- حق تقرير المصير.

 

2- الحق في الحرية (تحريم الرق).

 

2- حقوق المعوقين.

 

2- حق التنمية والسلام.

 

3- الحق في الكرامة والحرمة الشخصية.

 

3- حقوق اللاجئين وعديمي الجنسية.

 

3- القضاء على الجوع وسوء التغذية.

 

4- حرية الرأي والتدين والتعبير.

 

4- حماية نمو الطفل العقلي والبدني والخلقي والروحي.

 

4- القضاء على الفقر.

 

5- الحق في التجمع السلمي.

 

5- أن يتمتع بالضمان الاجتماعي.

 

5- القضاء على الأمية ورفع المستوى العام.

 

6- الحق في التقاضي أمام محاكم نزيهة.

 

 

 

6- تحريم قتل أعضاء الجماعة.

 

7- الحق في المساواة وحظر كل صور التميز.

 

 

 

7- عدم إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.

 

8- الحق في الملكية والعمل.

 

 

 

 

 

9- الحق في التعليم والثقافة.

 

 

 

 

 

10- لكل شخص الحق في المشاركة في إدارة شؤون بلاده.

 

 

 

 

نوعان من الحقوق:

ويقال بصفة عامة: إن للإنسان نوعين من الحقوق الأول: حقوق طبيعية، والثاني حقوق وضعية.

الأولى تفرضها الطبيعة البشرية للإنسان بوصفه إنساناً كحقه في الحياة، والعيش الكريم، وحقه في أن يعمل ويكسب، وأن يكون له مسكن، وحقه في التدين وحرية العبادة وحرية التعبير، وحقه في التعليم والمساواة أمام القانون، وحرية التنقل، والاجتماع السلمي، والتقاضي أمام محاكم محايدة ونزيهة إلى آخر هذه الحقوق التي نص عليها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، وهو الوثيقة التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقبلها بزمن طويل إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وهو من وثائق حقوق الإنسان التي تبنتها الجمعية الوطنية الفرنسية في 20 /26 أغسطس من عام 1789 قوامها سبع عشرة مادة اشتملت على المبادئ الأساسية التي استلهمتها الثورة الفرنسية، وأهم ما ورد فيها في هذه الوثيقة أن جميع الناس أحرار ومتساوون في الحقوق، وتوكيدها على احترام الملكية الشخصية، وحرية العبادة وحرية التعبير، وعلى حق المواطن في مقاومة الظلم والقهر والاضطهاد، وعلى عدم جواز اعتقاله إلا بأمر قضائي(32).

وهذه المبادئ الإنسانية عن الحقوق الطبيعية قد تكونت من قبل، فقد سبق أن صادق عليها دستور الولايات المتحدة الأمريكية على نحو ما ظهر في إعلان فرجينيا عام 1776(33).

أما المجموعة الثانية من الحقوق فهي ما يسمَّى بالحقوق الوضعية Positive Rightsوهي الحقوق التي سنتها السلطة السياسية للأفراد والمجتمع ككل. على اعتبار أن هذه السلطة السياسية هي المعّبرة عن إرادة المجتمع والأمة، وكثيراً ما تسمَّى هذه الحقوق الوضعية "بالحقوق المدنية" على اعتبار أن التشريعات المدنية هي التي تحددها.

وتقوم التفرقة بين الحقوق الطبيعية والحقوق الوضعية على أساس التفرقة بين الطبيعة والقانون؛ ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بواسطة الحقوق الطبيعية كما هي فحسب؛ إذ لابد من تنظيمها وتقنينها، والانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة القانونية، وهو يعني انتقالاً من دور البربرية والوحشية إلى دور الحضارة والمدنية التي ينظمها الناس عن طريق القوانين.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1)      ذكر أرسطو هذه العبارة في كتابه "الأخلاق إلى نيقوما خوس"، وظلت سائدة في تاريخ الفكر السياسي طوال العصر القديم والوسيط وحتى عصر النهضة راجع:

- Aristotle the complete works ed. By Barnes Vol. 2 P1734

2)      إمام عبد الفتاح إمام: "توماس هوبز: "فيلسوف العقلانية" ط2، دار التنوير بيروت، ص336. وقارن أيضاً كتابنا "الطاغية دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي" دار نهضة مصر، ط4، ص46.

3)       روي هذه القصة سكستوس أمبريقوس Sextus Emipiricus ونقلها عنه توماس هوبز انظر:

J.W.N. Watkins: Hobbes in Western Political Philosophers P8 Edited by Maurice Cranston.

4)      الشاعر هو الأفوه الأودي (وسراة الشيء أعلاه) انظر "الأحكام السلطانية" للماوردي. وكتابنا "الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي" دار نهضة مصر، ط4، ص46.

5)      قارن ما يقوله أرسطو في الكتاب الأول "من السياسة" 253 (في المجلد الثاني من الأعمال الكاملة السالفة الذكر، ص987 - 988).

6)      روبرت ماكيفر: "تكوين الدولة" ترجمة د.حسن صعب، ص108 - 109 دار العلم للملايين بيروت 1966. وأيضاً عبدلله إبراهيم ناصف "السلطة السياسية ضرورتها وطبيعتها" ص3 وما بعدها، دار النهضة العربية بالقاهرة، 1983.

7)      اقتبسه جان جاك شيفاليه في "تاريخ الفكر السياسي" ترجمة محمد صاجلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط1 1985، ص283.

8)      الدكتور إبراهيم دسوقي أباظة والدكتور عبد العزيز الغنام: "تاريخ الفكر السياسي"، دار النجاح، بيروت 1973، ص186 - 187.

9)      محمد فاروق النبهان "نظام الحكم في الإسلام"، مطبوعات جامعة الكويت، 1987 ص25.

10)  اقتبسه مهدي محفوظ في كتابه "اتجاهات الفكر السياسي في العصر الحديث"، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1990، ص55 وما بعدها. وأيضاً جان جاك شوفالية، مرجع سابق، ص289 

11)  محمد محمود ربيع، "الفكر السياسي الغربي"، مطبوعات جامعة الكويت 1994، ص194 وما بعدها.

12)  إبراهيم دسوقي أباظة وعبد العزيز الغّنام، "تاريخ الفكر السياسي"، دار النجاح، بيروت 1973، ص244 .

13)   J.J. Rousseau, the Social Contract, Penguin Books, 1968 P69.

14)   Ibid,p74

15)   Macmillan Dictionry for Political Thought, Brd Ed. R.Scvution, P655.

16)  ثروت بدوي، "النظم السياسية"، دار النهضة العربية، 1989، ص42.

17)  سعاد الشرقاوي، "النظم السياسية في العالم المعاصر"، الطبعة الثالثة، 1988، دار النهضة العربية، ص76، وأيضاً عبد الحميد متولي "القانون الدستوري والأنظمة السياسية"، منشأة المعارف، 1975، ص33.

18)  محمد كامل ليلة، "النظم السياسية: الدولة والحكومة"، دار الفكر العربي، 1971، ص161 - 162.

19)  المرجع نفسه، ص194.

20)  راجع مثلاً: النظم السياسية للدكتور ثروت بدوي، دار النهضة العربية، 1989، ص42 - 43.

21)  اقتبسه ول ديورانت، "قصة الحضارة"، مجلد6، ص158 - 159.

22)   J.J. Rousseau, Emile, P8, Everyman's Liberary Eng, Trans, by Barba Foxley, N. 518.

23)   J.J. Rousseau, Ibid.

24)   Donaldson, James, Women: her Position and Infleunce inAncient Greece and Rome and Among Early Christians, "Press N.Y.U, 1973.

**) واتساقاً مع فكرة هوية الفرد مع الدولة لم يستطع سقراط أن يتقبل فكرة الفرار من السجن بعد أن حكم عليه بالإعدام التي عرضها عليه تلميذه "أقريطون" بعد رشوة السجان، وهي التي عرضها أفلاطون في محاورة " أقريطون Crito P47.

25)  ابن كثير، "البداية والنهاية"، ج9، ص75، وكتابنا "الطاغية دراسة فلسفة لصور من الاستبداد السياسي، "دار نهضة مصر بالقاهرة، ط4، ص22.

26)  كتابنا: الطاغية، ص215.

27)  إمام عبد الفتاح إمام، "الأخلاق والسياسة: دراسة في فلسفة الحكم"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص313.

28)  راجع موجزًا لهذه الوثيقة الهامة: "النظم السياسية في العالم المعاصر للدكتورة سعاد الشرقاوي، ص481، وكتابنا السابق "الأخلاق والسياسة"، ص313.

29)  جون ديوي، "الحرية والثقافة"، ترجمة أمين مرسي قنديل، مكتبة الأنجلو المصرية، ص228 - 229 وأيضا: زكي نجيب محمود، "حياة الفكر في العالم الجديد"، دار الشروق بمصر 1982، ص12 وكتابنا "الأخلاق والسياسة"، ص334.

30)  نقلنا هذا الجدول عن كتابنا: الديمقراطية والوعي السياسي"، دار نهضة مصر بالقاهرة، يناير 2006، ص116.

31)  راجع في ذلك كله:

- Dictionary of Ideas, ed by Philip Pwiener.

- Fontane Dictionary of Modern Thought, P 395 .

وانظر أيضاً: الموسوعة السياسية بإشراف عبد الوهاب الكيالي، ط4، ص2, 5، 7.

32)   Roger Scruton, Dictionary of Political Thought, Pan Books and Macmillan Press P908.

-The Black Well Encyclopedia of Political Thought, ed. By David Miller, 1987, P222 -3.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/9/185

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك